التكنولوجيا الخادعة وانتصار العبث!

   التكنولوجيا الخادعة وانتصار العبث!
        

في العالم العربي هناك رؤية خادعة تعتقد أننا قد امتلكنا التكنولوجيا مادمنا نستعمل أدواتها. ولكن في حقيقة الأمر لا نعرف غير إطاعة الأوامر التي تصدرها لنا. لا ندرك وجهها الآخر الذي تفرضه علينا من خلال التحديات والمخاطر والرهانات التي علينا أن نواجهها إذا أردنا حقا أن ندخل عالم التكنولوجيا.

  • امتلكنا لعبة التكنولوجيا ولم نحصل من البائع على (الكاتلوج) الأخلاقي والعلمي الذي ينظم حياتنا
  • لاتزال (البيروقراطية) هي العائق الأساسي أمام تحقيق الحلم!
  • زيف التقديرات هو أولى خدع التكنولجيا، حيث لا يقين في العلم

          لا يكاد يمر يوم دون أن تفاجئنا التكنولوجيا بجديد, فالذرة التي كان اكتشافها ثورة في القرن العشرين, أصبح الحديث عن جزئياتها مثل الحديث عن كائنات حية تحب وتكره, وتتجاذب وتتنافر, وننتظر أخبارها كما ينتظر عشاق المباريات الكروية نتائجها المفاجئة. والحاسب الآلي الذي دخل كل بيت, دون استئذان, أو استعمله أحد أفراد كل أسرة تعتريه طفرات من التقدم لا تقف عند حد, وانتكاسات من الفيروسات لا تعترف بالأدواء وتتمرّد عليها كل دقيقة. والفضاء الذي يقاوم العلماء الذين ظنوا أنهم مالكوه, فإذا به يثور ويتمرّد, فيعبث بالتكنولوجيا المطمئنة إلى تفوقها الخادع, وهيمنتها المتغطرسة.

          أما الليزر, ذلك الاكتشاف السحري, الذي بدأ في الصناعة العسكرية ثم دخل الحياة المدنية ولم يقف عند تخوم الطب, يعاد اكتشافه من جديد في الموسيقى والفلك والفضاء وسواها. والهندسة الوراثية التي بدأت بمحاكاة الريح في تخصيب الزهور, انتهت إلى مماحكات تفوق الخيال, وتعادي الطبيعة البشرية وتعتدي على الحقوق والواجبات البشرية وترج القيم الدينية. والواضح أن هذا التقدم يعمل وفق قانون صاغه قبل 52 عاماً الباحث (جاك إلول), فالتقنيات تعمل وفق متوالية هندسية, مما يعني أن ما كان يلزمه سنوات حتى يتحقق يكاد اليوم يحدث في شهر أو أقل, وربما لن يمر وقت طويل لنراه يحدث كل يوم.

          واليوم نعتقد في عالمنا العربي أننا امتلكنا هذه التكنولوجيا! ألم يمسك الجميع بالهواتف الجوالة, ألم نشتر الحواسب الآلية المكتبية والمحمولة في الجيب? ألم نقم المحطات الفضائية وصراخنا على شاشاتها يرج المكان ليراه العالم, أو لنضحك على أنفسنا? ألم نطلق أقمارنا الصناعية التي نبث ونصرخ بواسطتها بفلوسنا?!! ألم نشتر الأسلحة المتطورة ومنها أسلحة الدمار الشامل?

          ألف سؤال وسؤال والإجابة واحدة: لقد امتلكنا اللعبة ولم نحصل من البائع على (الكاتلوج) الأخلاقي والعلمي الذي ينظم حياتنا تحت خيمة التكنولوجيا التي نصبناها في صحراء العقل المأسور بها.

          يعود جاك إلول اليوم إلينا بكتاب جديد يحاول فيه أن يضع أيدينا على ما أسماه بخدعة التكنولوجيا, لنرى الوجه الآخر للحقيقة التكنولوجية (الناصعة) عبر ثلاثية: التحديات والمخاطر والرهانات. فتحت شمس التكنولوجيا يرى الغرب اليابان تحديا, والعالم الثالث, عالم الجنوب الفقير, خطراً وهو نفسه, العالم الثالث, تحت مظلة الرهان على تنميته والتحدي المعادل لقدرته على النمو. وإذا كان الرهان يعني إدراك المخاطر والاستعداد الكلي للتحلي بالجرأة, فإن كل (لعبة) تكنولوجية أو مجتمعية أو اقتصادية لها هذان الوجهان معا.

          لكننا نتساءل مع المؤلف: أي الرهانات أجدر بارتقاء سلم الأولويات في مجتمعاتنا العربية? هل نراهن على التقنية ذاتها والبنى التحتية لاتزال تفتقر إلى الكثير رغم حلمنا بأن يصبح في وطننا العربي وادي سيليكون تقني يستخدم مواردنا البشرية والمادية بما يبني مستقبلنا? لقد طرحت سؤالا على العالم الدكتور أحمد زويل في لقاء جمعنا في يناير الماضي عن حلمه بإنشاء الجامعة التقنية الذي راودنا وراوده بعيد فوزه بجائزة نوبل في العلوم, أين أصبح ذلك الحلم, وكانت إجابته أن (البيروقراطية) لاتزال هي العائق الأساسي أمام تحقيق هذا الحلم!

          والأسئلة تتكرر أمام ما نراه مختلاً في مجتمعاتنا, فهل نراهن على التعليم? أم على الطاقة? أم على الديمقراطية? التكنولوجيا لها حلولها في ذلك كله, ومخاطرة الثقافة التقنية مخاطرة كبرى, فالرهان على الحاسب الآلي في التعليم يفترض أن يحل كل مشكلاتها, ولكن هل ندرك مخاطر ذلك, وهل لدينا الجرأة الكافية?

          من المثير هنا أن أشير إلى كتاب آخر لعالم صارم هو (جوليان سيمون) يحمل عنوان (الملاذ الأخير), وكنت أظن قبله أن العالم يمر بأزمة بسبب زيادة سكانه ونقص موارده, كما تقول الإحصاءات, وتندد الدراسات, وتثير المقالات (العلمية) التي تشتعل في رءوس عناوين الصحافة من يوم لآخر. لكن سيمون يرى أنه ليست هناك مشكلة غذاء في العالم, وهناك أراض زراعية جديدة, وستتوسع الزراعة تبعا للحاجة, والموارد الطبيعية غير محدودة, والطاقة مستقبلها باهر, ولا وجود للتلوث! فالماء والهواء الآن أكثر نقاء مما كانا عليه في عام 1850م!!

          والخديعة التي يحاول أن يفندها (جوليان سيمون) ويذكرها (جاك إلول) هو أن كل التقديرات المحتملة للبترول والنحاس والصلب والفحم وغيرها هي تقديرات, خاطئة, كما أن حدود التقديرات فكرة زائفة, فما هي حدود التلوث? وما هي حدود احتياطات النحاس? وإذا قسنا احتياطي بئر نفطية, فذلك لا يجعلنا قادرين على قياس عدد الآبار في العالم كله, والأمر مماثل في الطاقة النووية (التي لا تنضب), بل ويستطرد فيذكر مصادر الطاقة الموجودة على كواكب أخرى.

          ونرى أن هذه هي أولى خدع التكنولوجيا, وهي تبحث عن اليقين, حيث لا يقين في العلم, فإذا كان سيمون يلمح إلى هبوط سعر الحبوب باطراد خلال القرن العشرين ما يؤكد أن المعروض من الحبوب في وفرة مستمرة. فهل يعني ذلك أن المجاعات في تناقص? وأن الذين يموتون من الجوع أمامنا كل يوم سيجد ورثتهم غدا ما يسد الرمق?!

          أما الخديعة الأخرى فهي ازدواجية التقنيات, ربما لأن كل أشكال التقدم التقني لها ثمنها الباهظ, وإذا كنا نواجه في كثير من أقطارنا العربية فناء موارد أصيلة كالسكر والصوف والقطن والمعادن والنفط, فإن إحلال موارد صناعية بديلة لها قد يهدد إن لم يُفن اقتصاديات هذه الأقطار. ألم تقض قوافل الشاحنات العملاقة التي تعبر الصحراء الإفريقية على الجزء الأكبر من اقتصاديات قوافل قبائل جنوب الصحراء? والطائرات العملاقة ألم تقض على اقتصاديات السفن الخشبية التي تنقل البضائع والمواد الغذائية في أغلب خلجان العالم وموانئ الدول الفقيرة?!

          وتستمر الخدع مع المشكلات التي يثيرها التقدم التقني, وهي ربما أعظم من المشكلات التي يحلها! ونحن لا ننادي بالعودة إلى الماضي ولا نعادي العلم وتطوره, ومَن يتصور تلك العودة إلى الماضي? لكن القاعدة التقنية تجعلنا نقبل بنمو المشكلات, لأن الآثار الضارة للتقنية لا يمكن فصلها عن الآثار المفيدة. فالقنبلة الذرية محصلة للبحث في مجال الذرة, وهو بحث كان يمكن أن يدوم سلميا لو لم تنزع الطبيعة البشرية لاستخدام الشر بديلا عن الخير, كما أن تحسن الصحة العامة وتصفية الاستعمار القديم والاكتشافات الطبية المتسارعة كلها آثار جيدة صاحبها التضخم السكاني وفقدان الموارد وانتشار البطالة في العالم.

          في أحد المصانع الفرنسية الأكثر تلوثا أصبحت المنطقة المحيطة به من أخطر المناطق على المراعي مما أدى لنفوق الأبقار بها, ووجد المسئولون أن تعويض أصحابها أقل تكلفة من إقامة نظام أكثر تعقيدا للتخلص من التلوث! إن مشكلات التقنية التي تنشأ لا يراها إلا الخبراء, ولذلك لا يتأثر الرأي العام سلبيا بها, الكل يبحث عن الوجه المضيء وحسب.

          لكننا نرى أن أخطر ما يقدم لنا في عسل التكنولوجيا هو سم العبث. وإذا كان العبث في الأدب والفن, كما عرضته أعمال مثل البير كامي وجان بول سارتر ويوجين يونسكو وصموئيل بيكيت, يمثل ردة فعل (إنسانية) لعالم ما بعد الحروب, وما بعد الفلسفات, وما بعد الأشكال التقليدية بعد أن مهد المناخ السياسي لذلك في ظل احتلال نازي, وجستابو مهيمن, وعجز المقاومة, مما يفسر فلسفة العبث آنذاك, والتي لم تجد حتى في التحرر شفاءها بعد أن فقدت العقل والمنطق والنظام خلف أسلاك معسكرات الاعتقال ومات نور العقل في ظلام زنازينه, فإن العبث التكنولوجي اليوم شيء مختلف تماماً. هل نصفه بأنه تقنين للفوضى? إنه يُطول كل شيء ويترك الأبواب مفتوحة لكل أمر, ونحن لا نملك حريتنا في مواجهتنا للتقنية, ولا نستطيع - أحراراً - أن نقول لا لسبر أغوار الفضاء, حتى لو زادت أخطاره, وتحطمت مراكبه, ولا نملك أن نقول لا للهندسة الوراثية حتى لو كانت ضد الأعراف والقيم, ولذلك نشعر باليأس - نحن البشر - من هذا العجز والقنوط لأن لدينا وعياً - ولو مبهماً - بأخطار ذلك كله.

          إن العالم التكنولوجي المتقدم الذي يقطنه ثلاثون في المائة من سكان العالم يمتلك خمسة وتسعين في المائة من الثروات العالمية, ولذلك فإن عالمنا الجنوبي المتخلف لا يحظى سوى بتنامي البؤس الذي يمثله نمو سكاني فائق السرعة, وزيادة الفقر واتساع الهوّة التقنية بين دوله وذلك العالم المتقدم. ولم تفلح المساعدات السياسية والعسكرية والمادية في علاج الخلل ورأب الصدع, بل كانت كما نلمح في أكثر من وجه مقدمات لخلل أكبر قادم, ودمار أكثر ودَيْن أخطر.

          ولكن من ينتبه لما يحدث في عالمنا الثالث هذا يكاد لا يجد مبرراً لكل أشكال الظاهرة الاستهلاكية المستشرية في شرايين مجتمعاته. والسؤال هو: لماذا لم نجد ذواتنا إلا في هذا العالم المملوء بأدوات ولعب وحيل تكنولوجية لا فائدة منها, ويمكن الاستغناء عنها). يتساءل (جاك إلول): بعد اختراع الكونكورد, (توقفت أخيراً لتضخم تكاليف تشغيلها وتناقص مستخدميها) التي وفرت من ساعات الرحلة عبر الأطلنطي أربع ساعات طيران كاملة, ماذا يفعل الناس بتلك الساعات المتوافرة? هل كانوا يفكرون في تجربة كيميائية جديدة? هل كانوا يبدأون العمل على تأليف سيمفونية? أم أنهم - وهذا أقرب للحقيقة - يتمتعون الآن بحرية السير دون أي هدف بفضل هذه الساعات المتوافرة?

          إن ما يتوافر من وقت لا يمثل قيما حقيقية إلا إذا كان لإنقاذ شخص مصاب, أو اللحاق بصديق عزيز, أو حضور اجتماع حاسم, وهي مرات قليلة, ونادرة.

          لقد أصبح الإسراع في حد ذاته هو القيمة الأساسية, ونسي الناس السبب وراء السرعة, الحياة الحديثة تدفعنا لنلهث وراء الطائرة وخلف المحطات وعلى سماعات الهاتف, وكل الآلات التي أصبحت الحياة بفضلها ضاغطة, والمؤلف لا ينكر التقدم, ولكنه ينكر أن يسمي هذا تقدماً!

          لم تعد الحاجات الطبيعية هي الهدف (مثل الحاجة إلى الطعام لسد الجوع), وإنما نشأت - بفضل التكنولوجيا الخادعة - حاجات جديدة, ويسعى الانفجار التقني إلى خلق هذه الحاجات دون توقف, ليبرر وجوده, ويؤكد حضوره, ويمول مستقبله. والاحتياجات الجديدة تتضاعف, بعضها للتعويض عن تدمير النظم التقليدية, مثل الإنفاق على الطبيعة, والاتصالات, والمواصلات, وأوقات الفراغ. والأخطر هي تلك الاحتياجات التي تشعلها رغبات السعادة, مثل الرغبة في إطالة العمر, والرغبة في استمرار المتع الجسدية بلا نهاية!

          والرغبة في الإنجاب عبر الوسائل الاصطناعية والرغبة في نقل السينما إلى البيت عبر الشاشات العملاقة, وغير ذلك كثير مما نشاهده كل يوم.

          وهي حاجات جديدة يزعم الجميع أنها كانت كامنة في المخيلة البشرية, وأنها تجد مع التكنولوجيا حلول مشكلاتها!

          إن ساعات الكوارتز التي لا تتعطل وتدلنا على الوقت بدقة ولا يتغير أداؤها إلا بمقدار ثوان كل مائة عام, لا تجعلنا نذهب إلى الاجتماعات في الوقت المحدد, ولا تسهل قيامنا مبكرين, ولا جدوى لها إلا عند البحارة الذين يقيسون بها مواقعهم. لكنها تأتي ومعها (إكسسوارات) واستعمالات إضافية للتسويق: نغمة ساحرة نستطيع أن نبدلها, وآلة حاسبة حينا, وجدول ميقاتي لحساب يوم الميلاد, وعداد لحساب الأيام منذ الميلاد, فمن منا يعتقد في أن كل ذلك ذو أهمية حقيقية?

          وانظروا إلى التلفزيون ذي الشاشة المسطحة, التي تمنع التشوش الطفيف الناتج عن انحناء الشاشة التقليدية, ويسأل المؤلف: هل نحن على هذه الدرجة من الولع بالفنون? وهذا القدر من الاهتمام بالجماليات بحيث لا يمكن أن نتساهل مع أي تشوش بسيط للصورة? والأمر نفسه مع الاسطوانات الرقمية الجديدة (CD) التي دعتنا إلى رمي الاسطوانات القديمة, وأهدت إلينا عالما استهلاكياً جديداً لا ينضب, وبالطبع له - مثل كل حيل التكنولوجيا الخادعة - كلفته الباهظة.

          والآن لدينا أطباق استقبال لأقمار صناعية من دول الشرق والغرب, ودول نكاد لا نعرف مكانها على الخريطة أو لغتها, لكن لها قنواتها, فهل نحتاج بالفعل إلى مشاهدة برامجها? ثم إن هناك أجهزة الفيديو التي تسمح لك بمشاهدة ما فاتك,دون أن يعني ذلك أنك ستستغني عن الساعات المحددة للمشاهدة.

          والأمر (العبثي) نفسه مع السيارات, التي تبرهن الإحصائيات على أن السرعة سبب الحوادث والموت, وأن عدد الضحايا يزيد بمعدل 6% كل ستة أميال إضافية من السرعة في الساعة, لكن التكنولوجيا الخادعة سائرة في غيها تخترع سرعات إضافية كل عام, وتقنيات تساعد على الانطلاق إلى الحتف بسيارة بها آلة لكشف النوع! وتسجيل ضغط الإطارات, ومسبار لبيان عبور السيارات الأخرى, ومفاتيح إلكترونية, وإضاءة حساسة وذاكرة إلكترونية لأوضاع مقعد السائق ومن جانبه وعداد مقارنة بين سرعاتنا من يوم إلى يوم, ومع ذلك لا تحمي قائدنا المفتون بالسرعة من الموت المحقق.

          إن هذا الإفراط التقني يؤدي إلى الإسراف والتبديد, إننا لا نتحدث عن هوى شخصي, وموقف فردي,قدر حديثنا عن مصير مجتمع ومستقبل أمة. فتبديد العامل الواقف على آلة النسخ الضوئية بعمل عشر نسخ من ورقة لا يحتاج إلا إلى نسخة واحدة منها, لا يمثل هذا نزعة فردية قدر كونه بداية لاستهلاك يفوق الطاقة, ويتخطى الموارد, والسبب أن التكنولوجيا وفرت له ناسخة تعطيه مئات النسخ في وقت وجيز بضغطة زر! ولكن الفلسفة التي تقضي بألا يستخدم هذه التقنية إلا فيما يفيد هي العبث التقني عينه.

          كنا قبل سنوات مضت, لا نحتاج إلا إلى هاتف منزلي بخط أو خطين, والآن بات بحوزة كل فرد من أفراد الأسرة - وحتى العاملين لديهم من الخدم - هاتفه الخاص في جيبه! وأضيفت إلى البيت العربي ميزانيات (اتصالات) تكاد لا تصدق, فقط لأن التكنولوجيا يسَّرت هذه الخدمة, الخدعة!

          وتنافست الشركات لطرح الأجهزة المتجولة/ الخلوية التي تتجدد كل بضعة أسابيع لترسل رسائل إلكترونية وصوراً وأغاني.. ولم يعد هدف الهاتف كما كان قبل عشرين عاما, لقد أصبح إحدى اللعب التكنولوجية الخادعة, اللعبة التي يمارسها الصغار والكبار على حد سواء, ويجدون في (العبث) بها قمة التكنولوجيا, وهم يعتقدون أنهم يتحكمون في التقنية ويستخدمونها وفقا لرغباتهم ومصالحهم!

          وإذا كنا نتحدث بهذه الحدة عن معنى ذلك في عالمنا فلا يقارن أحد ما لدينا بما لدى اليابان. صحيح أن القاعدة في اليابان هي الاستخدام الواسع للأجهزة الأحدث, وصحيح أن لدى اليابانيين عدداً لا يصدق من الروبوتات (التي تصنع حياتهم اليومية), وأن عندهم أسرع القطارات في العالم, لكن لا ننسى أن البطالة تكاد لا تكون موجودة في اليابان. ولا ننسى أيضا أن مستوى المعيشة مرتفع, وأنهم رغم رقعتهم الجغرافية الضيقة وكثافتهم السكانية الكبيرة, وجدوا حلولاً تقنية لمعالجة الزحام, لذا لا يصح القياس على نموذج مطلق, علينا أن نرى إيجابياته قبل أن نقلد عاداته التي تصبح عبثا حين تعبر حدوده.

          لدينا الآن - مثلما لدى أي بلد متصل بتكنولوجيا الاتصالات في العالم كله - طوفان من البيانات الواردة عبر الأقمار الاصطناعية, وشبكات المعلومات, وبرقيات وكالات الأنباء. ملايين من البيانات الدقيقة, وهي البيانات التي يوجهها إلينا منتجو المعلومات بغرض التأثير فينا, حتى نستجيب - بأفعال شرائية مثلا - لها. ولكن كم نستخدم من هذه البيانات وكم منها تفيدنا! إن 999 من كل ألف من هذه البيانات كما يقول (جاك إلول) لا علاقة لنا بها أبداً. لكنها تهاجمنا كلما ولينا البصر, فهي تريد التأثير فينا, والتحكم في مشاعرنا, وتحديد رغباتنا, وغزو وعينا, وسكنى خيالنا, بل وأن تعدل من سلوكنا حتى نتبنى مواقف مغايرة لمانشأ عليه واستقر في موروثنا البصري والمعرفي.

          لكن الحقيقة أن هذا الفيض المعلوماتي الذي تفرزه التكنولوجيا بشكل عبثي يمضي دون هدف, لأن عدم ترابط هذه البيانات المتدفقة والمصطنعة التي نتلقاها كل يوم يعوزها المنطق, والترابط بشكل كلي, ولا يكسبنا هذا الغزو المعلوماتي سوى العزوف عن المعلومات نفسها.

          فنحن نرمي في سلة المهملات العادية والإلكترونية ما يصلنا من رسائل إعلانية دون أن تفتح, ويكاد من يفتحها لا يتذكر منها شيئا لأنها عصية على البقاء في الذاكرة بسبب عدم تناسقها وترابطها, وكونها عصية على التذكر يجعلها أسيرة سلة المهملات دائما, مما يقدم لنا العالم في صورة مهمشة وهيئة مشوشة.

          سنتابع على شاشة التلفزيون ما ساهمت التكنولوجيا العصرية في نقله إلينا وعلى الهواء مباشرة: معركة هنا, وانقلابا هناك, ومجاعة في الجنوب وفيضانا بالشمال وزلزالاً يصيب الشرق وحريقا يدمر الغرب والمحصلة النهائية أن التفكير في ذلك كله لا يتم بشكل منطقي. فقد محا الحدث الثاني آثار الحدث الأول, وطمست صور الحدث الثالث ما رآه المشاهد قبله, وغطى الحديث المصور عن الحدث الرابع ما جاء في السياق, وإذا كان حادث نووي في الماضي يدفعنا للتفكير في جدوى البرامج النووية, فإننا اليوم سنكتفي بمتابعة أخبار السحب السوداء الناجمة عن هذه الفوضى النووية, حتى يأتي خبر جديد. وهكذا يسيران - يدا بيد - فيض المعلومات مع ثقافة النسيان, والغثيان.

          ولا توفر هذه المعلومات السخية سوى حياة عمياء وحقائق صماء دون جذور تثبت في الوعي أو الذاكرة. لكن الأخطر في هذا الفيض المعلوماتي كما يأتي من (خدعة التكنولوجيا) أنه يجعل منا مستهلكين قسريين,ولا تكفي هنا إعادة إدانة المجتمع الاستهلاكي!

          والحقيقة أنه لا يوجد إعلام (عبر) التلفزيون, بل إنه التلفزيون وحسب, فالوقائع والأحداث لا تصبح أخبارا إلا إذا نقلها التلفزيون, ويحدث أن يثير حماسنا ولمدة أسابيع متواصلة حدث ما وأنباء منطقة بعينها, تعرض علينا الصور ذاتها مرات ومرات وننفعل بما يحدث لأبنائنا في فلسطين وأشقائنا في الصومال. وإخوتنا في العراق والجزائر, ولكن يختفي ذلك وتسدل عليه ستائر النسيان لتحل صور أخرى وأخبار أخرى, لقد أصبح الأمر مجرد صور, صور تمحو صورا, صور للأخيار وصور للأشرار. وعلى التلفزيون أن يبدلها حتى لا يصبح مملاً, وتنتهي أهمية القضية حين يتوقف التلفزيون عن معالجتها. فالتلفزيون لا يبث المعلومات, وإنما المعلومات تبث التلفزيون. ونحن ناجحون في دور المستهلك, حتى أن أطفالنا المتابعين للتلفزيون, لا يجدون فيه إلا البرامج (المسلية) المليئة بالعنف والإثارة بكل أشكالها المادية المباشرة والخفية الخبيثة, وينفرون منه إذا ظهر - فجأة - برنامج به مسحة التعليمية!

          والواقع - إننا حين نصبح مستهلكين للمعلومات - وهذا ما يحدث - نعجز عن أن نصبح أصحاب القرار, فسكان المناطق النائية والضواحي يضطرون لاستخدام السيارات. لقد أصبح المستهلك دون أي سلطة للاختيار أو اتخاذ القرار, وهو محاط بأنهار من المعلومات, وتحت قدميه محيطات من البيانات, والتكنولوجيا لا تتوقف عن البث الحي والمباشر لهذه المعلومات.

          إن المعلومات تغرق المستهلك حتى يجد أن قشة النجاة الوحيدة هي أن يستجيب لإحداها, وما إن يتبين له خطأ الاختيار حتى تبرز حاجة (تكنولوجية) و(عبثية) جديدة, والواقع أن التكنولوجيا منحتنا الكثير, لكنها أخذت منا المبادرة في التفكير بحاجاتنا وأولوياتنا, وفقدنا معها الطمأنينة والأمان وربما القناعة, وإذا لم يكن لدينا أسلوب لمعالجة ذلك, فسنكون مجرد ضحايا للتكنولوجيا الخادعة.

          ولكن إذا كان رفض التكنولوجيا خدعة, فإن الخدعة الكبرى هي أن نعتقد أننا باستهلاكها صرنا نملكها!

 

سليمان إبراهيم العسكري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات