حوار الحضارات في كتاب مجهول

حوار الحضارات في كتاب مجهول
        

في مواجهة صيحات (صراع الحضارات) يقدم هذا المقال صفحة مضيئة من خلال تراثنا لحوار الحضارات من خلال كتاب مجهول هو (مختار الحكم ومحاسن الكلم).

          عندما بدأ الغرب في القرن الثالث عشر الميلادي يعود إلى نفسه, يحاول أن يكتشف ذاته ويفكر فيها ويصقلها, جعل من التراث اليوناني وسيلته إلى تحقيق غاياته, يبحث عنه, وينشر روائع مخطوطاته, ويترجمها إلى اللغة اللاتينية, ثم إلى اللغات الأوربية الحديثة فيما بعد, ومع هذه الخطوة سقطت العصور الوسطى, ومعها سيطرة الكنيسة وسيادتها, وأصبح الطريق إلى عصر النهضة مفتوحا أمام أوربا الجديدة. وكان طريقها إلى التراث اليوناني يمر عبر بوابة اللغة العربية فهي التي احتفظت به مترجما إليها, ولم تكتف بالترجمة, وإنما شرحته, وعلقت عليه, في وقت لم تكن أوربا تعرف عنه غير عناوين الكتب, وأسماء المؤلفين, فقد عاشت طوال العصر الوسيط حالة من الجهل والهمجية, نسيت معها اللغة الإغريقية, واقتصرت ثقافتها على قليل من كتب الوعظ الديني, وتواريخ القديسين, ومجموعات لاتينية من أواخر العصر القديم, لا تعكس غير صورة شاحبة لمجد العلم الحقيقي الذي كان, مضافا إليه حصيلة وافرة من أخطاء النسخ والفهم والشرح, واستقرت كلها في الأديرة النائية التي اتخذت مكانها بعيدا عن الطرق التي تسلكها الجيوش العابرة, أو حيث يتمتع رجال الدين بنفوذ زمني قوي. في ذلك الوقت قام العرب بدور مهم في التعرف إلى التراث اليوناني, وفهمه وشرحه وحفظه وترجمته إلى لغتهم, على حين ضاعت أصوله في أوربا.

مدرسة الإسكندرية

          في مصر تم أول لقاء بين المسلمين والفكر اليوناني, عندما فتح المسلمون مصر, لأن مدرسة الإسكندرية كانت قائمة, ولعلها المدرسة الوحيدة التي كان يجري فيها التعليم باللغة اليونانية في البلاد التي فتحها المسلمون في طلائعهم الأولى, وقامت بدور مهم في نقل العلوم اليونانية إلى المسلمين, غير أننا نفتقد الدليل المباشر على طريقة الانتقال هذه, لأن معلوماتنا عن الحياة العقلية في مدينة الإسكندرية, عاصمة مصر في القرن الخامس الميلادي وما بعده ضئيلة للغاية, خاصة في أيام الإسلام الأولى في مصر, وظل دور الأكاديميات العلمية مجهولا, ووقف المؤرخون العرب بحديثهم عند الأطباء للحاجة العملية إلى مؤلفاتهم, وذكروا منها 28 مؤلفا لجالينوس, و12 مؤلفا لأبقراط, كُتبت كلها في مدينة الإسكندرية, قام جماعة من الإسكندريين بجمعها وتفسيرها واختصارها, وعملوا جوامع لها, زعموا أنها تغني عن متون المؤلفات, وبعضها جاء في شكل أسئلة والرد عليها, ودل حسن اختصارهم لها على تمكنهم منها, ومعرفتهم بجوامع الكلم, وإتقانهم صناعة الطب, مما يشي بأن درس الطب وتدريسه كان قويا ونشيطا في القرن السابع الميلادي, أي قبيل الفتح الإسلامي بقليل. يقول القفطي: (الإسكندريون هم الذين رتبوا بالإسكندرية دار العلم, ومجالس الدرس الطبي, وكانوا يقرأون كتب جالينوس, ويرتبونها على الشكل الذي تُقرأ فيه اليوم, وعملوا لها تفاسير وجوامع تختصر معانيها, ليسهل على القارئ حفظها وحملها في الأسفار).

          ولم تكن هذه الأكاديميات تدرس الطب فحسب, وإنما كانت تدرس الفلسفة أيضا, لما بين العلمين من ارتباط في القديم. ويذكر المسعودي في كتابه (التنبيه والإشراف) أن الفلسفة الإغريقية ازدهرت في أثينا أول الأمر, ولكن الإمبراطور أغسطس (63ق.م - 14م) حولها عن أثينا إلى الإسكندرية وروما, وأن ثيودو سيوس جاء من بعده فأقفل المدارس في روما, وجعل الإسكندرية مركز العالم الإغريقي. وبدأت تحتل مكان الصدارة في أيام بطليموس, وأصبحت موضع الأهمية العظمى في مجال النشاط العلمي, ومع أن مدارس أثينا بقيت مفتوحة حتى عام 529م, فإنها فقدت صلتها بالتقدم العلمي منذ زمن طويل.

          وانتقلت دراسة الطب والفلسفة, خاصة كتب جالينوس وأبقراط ومنطق أرسطو, من الإسكندرية إلى الإمبراطورية الساسانية قبل ظهور الإسلام بزمن طويل.

          أما بعد الإسلام فانتقلت من الإسكندرية إلى أنطاكية في سوريا, زمن الخليفة عمر بن عبدالعزيز (717 إلى 720م), ومن هذه إلى حرّان, المدينة العريقة في ديار بكر من أرض الروم (تركيا اليوم) أيام الخليفة المتوكل (847 إلى 861م), وكان وراء هذا الانتقال انقطاع العلاقة بين الإسكندرية وبيزنطة من الفتح الإسلامي. وحروب البحر المستمرة من جانب, وصعود دمشق عاصمة للخلافة الإسلامية من جانب آخر, فخطفت الأضواء من الإسكندرية, وبهتت أهمية هذه ثقافيا واقتصاديا. وهو ما يؤكده الفيلسوف الفارابي نصا, يقول: (انتقل التعليم (بعد ظهور الإسلام) من الإسكندرية إلى أنطاكية وبقى بها زمنا طويلا..), ذلك أن أنطاكية كانت مركزا للثقافة العلمية اليونانية, ومنها انتقلت إلى حران, لأن هذه كانت مركز الثقافة اليونانية في المنطقة التي يتكلم أهلها الآرامية الشرقية, إلى جانب أنها نقطة مهمة للتبادل والاتصال بين مختلف الثقافات حتى زمن مروان الثاني آخر الخلفاء الأمويين, الذي كان يتخذ منها مقرا لخلافته أحيانا.

بيت الحكمة

          ومن حران انتقلت إلى بغداد زمن العباسيين, ذلك أن الخليفة المأمون أنشأ قبل عام 215هـ - 830م مدرسة للترجمة في بغداد, سُميّت (بيت الحكمة) ووضع على رأسها يوحنا بن ماسويه, وبدأت الترجمة إلى السريانية ثم إلى العربية, وأخذت في إصلاح الترجمات القديمة, وكان الأغنياء من المسلمين, إلى جانب الدولة, يبذلون لها المال من أجل الحصول على مخطوطاتها, ويجرون الأرزاق على مترجميها,ويتكفلون بمعاشهم, ونفتقد المصادر التي تحدثنا مباشرة عن انتقال تعليم الفلسفة, والمنطق خاصة من الإسكندرية إلى حرّان مروراً بأنطاكية, ما بين عامي 720م و900م والمعلومات التي لدينا يعود أغلبها إلى الفارابي, غير أنه لم يذكر أياً من رؤساء هذه المدارس في الإسكندرية أو أنطاكية.

          لم يحظ اللقاء بين المسلمين والفلسفة اليونانية في الإسكندرية بما حظي به غيره من درس ومتابعة, وجاء الحديث عن دور مصر في هذا الجانب باهتا, رغم الدور الذي قام به الخليفة الفاطمي, الحاكم بأمر الله, فقد أنشأ عام 1005م (دار العلم), أوقف عليها أموالا طائلة, يُنفق منها على نسخ المخطوطات وترميمها, وتضم مكتبة وقاعات درس, ويدرسون فيها الفلك والطب إلى جانب العلوم الإسلامية, وكان الحاكم نفسه مغرما بدراسات النجوم, وازدهر في بلاطه على بن يونس (ت1009) أكبر فلكي عرفته مصر, وابن الهيثم (ت1039) أعظم علماء المسلمين في الطبيعة والرياضيات, وينسبون له ما لا يقل عن مائة مؤلف في الرياضيات والفلك والفلسفة والطب, ضاع معظمها.

          وعرف هذا العصر بعيدا عن الطب والفلك عالما في الفلسفة قلة من المثقفين تعرفه, وأفراد أقل منهم درسوه وقدروا دوره, رغم أهمية ما قام به في التأريخ للفكر اليوناني والتعريف بكبار رجاله, واستقصاء أخبارهم, وأورد لهم نصوصا كثيرة متفرقة, مما يدخل في باب الحكمة والمثل. ومع أن ابن النديم سبق في كتابه (الفهرست) أن عرض لهؤلاء الفلاسفة في فصل خاص بهم عقده لهم, فإنه اقتصر على الموجز من حياتهم, فجاء تعريفه بهم قاصرا, وصرف جهده إلى ذكر مؤلفاتهم, ما شُرح منها وما تُرجم إلى العربية أو السريانية, أما عالمنا هذا الذي سنعرض له, فقد أرّخ لهم بتوسعة, وأورد طائفة من أخبارهم وآرائهم وأفكارهم.

الوفاء.. وزوجة غير وفية

          إنه أبو الوفاء مبشر بن فاتك أصله من دمشق, واستوطن مصر حتى صار يُعد من أعيان أمرائها,وأفاضل علمائها, ومن أدبائها العارفين بالأخبار والتواريخ, والمصنفين فيها, عاش أيام الخليفة الظاهر (1021 - 1035) والخليفة المستنصر (1035 - 1094), ولا تذكر المصادر سنة مولده,ولا سنة وفاته, واكتفى القفطي في كتابه (تاريخ الحكماء) أن يقول إنه كان في المائة الخامسة للهجرة, ولكن بمتابعة تواريخ شيوخه الذين درس عليهم, وطلابه الذين اختلفوا إلى حلقات درسه, يمكن أن نقوله إنه جاء إلى الحياة في الربع الأول من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) وأنه توفي في آخر العقد التاسع منه.

          ويذكر الذين أوردوا عنه بعض الأخبار ممن أرّخوا للفلاسفة والأطباء في عصره, أنه كان كثير الاقتناء للكتب ونسخها, مكبا على الاطلاع عليها, وترك بخطه كتبا كثيرة من تصنيف المتقدمين, ويروي ابن أبي أصيبعة عن ذلك قصة طريفة في كتابة (طبقات الأطباء), ورواها آخرون أيضا, يقول إن زوجه كانت تضيق بانصرافه عنها إلى مطالعة الكتب ونسخها, وكانت ذات قدر ومكانة, فلما توفي نهضت هي وجواريها إلى خزائن كتبه, وقد امتلأت حقدا ونضحت غيظا, فجعلت تندبه, وأثناء ذلك ترمي هي وجواريها بالكتب في بركة ماء كبيرة وسط الدار, ثم رُفعت الكتب بعد ذلك من الماء, وقد غرق أكثرها, وكان ذلك سببا في أن ما وصلنا منها قد تغيّر لونه.

          ولا تعجب فهذا شأن كثير من الزوجات حتى الآن!

مختار الحكم ومحاسن الكلم

          ألّف مبشر كتباً كثيرة في المنطق والطب والوصايا والأمثال والتاريخ, وقد ضاعت كلها, ولم يصلنا منها إلاّ كتابه (مختار الحكم ومحاسن الكلم) وهو الذي نعرض له الآن.

          تتلمذ مبشر على صفوة من علماء عصره, أخذ علوم الرياضة والهيئة عن ابن الهيثم, قمة العلم الرياضي في العصر الوسيط, في العالمين الإسلامي والمسيحي, وأخذ الفلسفة عن ابن الأسدي, وتلقى الطب عن علي بن رضوان, وكان هذا الأخير على خلاف حاد مع معاصريه في منهجه, شديد الزراية بهم, يرى أخذ العلم مكتوبا أفضل من تلقيه مشافهة.

          أما تلاميذه الذين نعرفهم فقلة, ذكر ابن أبي أصيبعة منهم في مجال الطب ابن رحمون اليهودي المصري, وذكرهم القفطي في مجال الفلسفة إجمالا, فقال: (قرأ عليه فضلاء زمانه فسادوا, واستمطروا جوده في علومه فجدوا وجادوا كان المبشر كثير التآليف, ويذكر المؤرخون أنه ألف في علوم الأوائل (الإغريق): البداية في المنطق, والوصايا والأمثال والموجز من محكم الأقوال, وكتاب في الطب, وكتابة سيرة المستنصر في ثلاثة مجلدات, ومختار الحكم ومحاسن الكلم, وكتاب آخر له لم يذكره أحد, ولكنه ورد في ثنايا حديثه في كتابه الأخير عن الإسكندر الأكبر, يقول: (إن هذا كتب خطابا إلى أمه قبيل وفاته, وهو كتاب طويل). ويختم الفقرة: (وقد ذكرته وغيره من كتبه في تأريخي الكبير على التمام). ثم يشير إلى تعليق العلماء والمفكرين والعظماء على موت الإسكندر ورثائه ويقول: (وقد أوردته وباقي أخباره في تأريخي الكبير مستوفى على تمامه).

          كان للمبشر إذن كتاب آخر كبير, أحسب أنه في الفلسفة أيضا, أوسع في مادته من كتاب (مختار الحكم), مما يشي بأن ثقافته في مجال الفلسفة اليونانية كانت واسعة, وعندما يعدد كتب أرسطو التي كانت معروفة على أيامه, وهي كثيرة, يذكر أنها متداولة على أيامه, وأنه اطلع على بعضها. وعلى أي حال, ضاعت مؤلفات المبشر كلها, ولم يصلنا منها إلا كتاب (مختار الحكم) وهو الذي نعرض له هنا.

          يعد كتاب (مختار الحكم) أو فى كتاب في العربية استقصى أقوال الفلاسفة والحكماء اليونانيين, ولم يشر أحد من الذين ترجموا له, ولا نفهم من كلامه, أنه كان يعرف اليونانية, ومن ثم نرجّح أنه رجع مباشرة إلى ترجمات عربية لكتب يونانية, تحدثت عن الفلسفة اليونانية وترجمت لمفكريها, ولم يرجع إلى مؤلفين عرب نقلوا عنها, ولو حاولنا أن نرد ما أورده من أخبار الفلاسفة اليونانيين وحكمهم وأقوالهم إلى مصادر عربية, فلن نجد إلا شذرات قليلة, متناثرة هنا أو هناك, غير ذات أهمية, ولمواجهة هذه الحالة يفترض العالم الجليل الدكتور عبدالرحمن بدوي أنه كان بين يدي المبشر مصادر يونانية مترجمة إلى العربية, كتابا أو اثنين أو ثلاثة, استقى منها مادته الغزيرة هذه, وأن أصولها ضاعت في اليونانية والعربية.

قالب عربي وأريج إسلامي

          ونلحظ أن الحكم والأمثال, وكل النصوص تقريبا, التي أوردها كتاب (مختار الحكم) لكل فيلسوف أو حكيم, ذات ديباجة عربية ناصعة لا تفوح منها رائحة ترجمة, مما يشي بأن قلما عربيا متمكنا, عالي الأسلوب, جرى على الترجمة اليونانية, فصبها في قالب عربي متين مشرق, يعبق بأريج إسلامي نفّاذ, فكأنك تقرأ للحسن البصري. ونجهل الذي قام بهذا, هل هو المبشر نفسه أو مترجمو المصادر التي نقل عنها, لأن كبار الأدباء في العصر العباسي, أمثال الجاحظ وابن قتيبية والتوحيدي وغيرهم, حين ينقلون نصوصا مترجمة إلى العربية كانوا يعيدون صياغتها في أسلوب عربي فخيم, يعجز عنه مترجمو السريان في ذلك العصر, وليس بإمكانهم الترجمة على هذا النحو الرائع الجميل الذي نجده في أسلوب الكتاب.

          في مقدمة الكتاب أوضح لنا المبشر, كعادة علماء عصره, لماذا أقدم على تأليفه يقول: (الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها, ولا يبالي من أي وعاء خرجت. وكنت قد قرأت كتبا فيها أشياء من آداب الحكماء اليونانيين, ومواعظ العلماء المتقدمين, فرأيت فيها وصايا أعجبتني, ومواعظ التاطت بقلبي, وآدابا استحسنتها نفسي.. فيها جذب إلى فعل الخير, وتنبيه على حسن السياسة, وترغيب في التزود إلى الآخرة, فحداني ذلك على أن جمعت منها في كتابي هذا ما رأيته نافعا), ثم أوجز منهجه في الاختيار: (اعتمدت في ذلك على كلام الإلهيين منهم, الموحدين من جملتهم, إذ كانت أقاويلهم شافية ومقاصدهم صحيحة.

          وأتبعتهم باللاحقين منهم في الحكمة, المشهورين بالأفعال الحسنة, ولم يمنعني اختلاف مذاهبهم, وتباين طرقهم, وتقادم عهدهم من أن أستمع أقاويلهم وأتبع أحسنها, وأترك ما سوى ذلك مما خالف حكم الشرع أو العقل).

          ما أروع أن يُكتب هذا, في العصور الوسطى, عن الفلسفة اليونانية, في بلد إسلامي!

          كتب سيرة وافية لمن اشتهروا في مدرسة الإسكندرية, أو بين المصريين, مصلحين أو فلاسفة أو أطباء, ويذكر في ترجمته لهم عدد السنين التي عاشها كل واحد منهم, مما يشي بأنه ينقل عن مؤلفات مكتوبة, ولم تكن مصادره سماعا متفرقا, وتأتي الترجمة تحت عنوان (أخبار) فإذا كانت هذه محدودة قليلة, والتراث النثري هو الأصل, جاء العنوان: (آدب), فإذا طالت السيرة, وامتدت الحِكَم, أعطى كلا منهما عنوانا مستقلا, وقد يجمع بينهما منذ البداية فيصبح العنوان أخباره وآدابه).

          وهو يعرض لأفكارهم تفصيلا, ما اتصل منها بالأخلاق والتربية, والفضائل والرذائل والسلوكيات, دون أن يتعرض لفلسفاتهم المتصلة بالكون وما وراء الطبيعة.

          ترجم المبشر في كتابه لتسعة عشر مفكرا, بين نبي وطبيب وفيلسوف, وهم في جملتهم من اليونانيين الذي عرفوا الشرق أو عاشوا فيه, ويبدؤهم بشيت الابن الثالث لآدم وحواء, طبقا لسفر التكوين, ويسميه اليونانيون أوراني الأول, وهو أول من أخذوا عنه الشريعة والحكمة, ويقفون بتاريخه عند هذا القدرثم يتلوه الحديث عن إدريس النبي, ويأتي بنسبه تفصيلا إلى أن يبلغ به شيت ابن آدم.

          ولم يقع المبشر وهو يترجم للنبي إدريس في الإسرائيليات التي تلف حياة الكثيرين من النبيين, حين يأتي بها القرآن مجملة, فيتولى الخيال تزجيتها بالأفاويه من الحكايات والمبالغات, أو على حد تعبير ابن كثير (701 - 774هـ) في كتابه قصص الأنبياء عند الحديث عن إدريس: (... ويكذبون عليه أشياء كثيرة, كما كذبوا على غيره من الأنبياء والعلماء والحكماء والأولياء).

          وكان إدريس, وهو مصري, يكتب ويقرأ, في ذلك الزمن السحيق, ويذكر عنه المبشر أنه كان على خواتمه فصوص منقوشة (ليته ذكر شيئا عن لغتها!), وجعلته الإسرائيليات أول من خط على الرمل, دون أن تشير أيضا إلى نوع الخط الذي كان يخطه, ويذكر ابن اسحق أنه أول من خط بالقلم, والأولوية هنا, وفي مثل هذا الأمر, لون من التخيل يرفضه العقل والعلم, وعلى أي حال فإن الإسرائيليات تجعله أدرك من حياة آدم ثلاث مائة وثماني سنين, على حين أن مبشرا يجعل عمر إدريس كله ثنتين وثمانين عاما.

هومير.. بعيون عربية

          ويلفت النظر ما قدم لنا المبشر من معلومات عن هومير, وهو ليس فيلسوفا ولا مفكرا, وإنما شاعر, وجاء ترجمته مختصرة, ولكنه عرّف به جيدا, وأحسبه واحدا من قلة نادرة عرفت الشاعر في الأدب العربي, يقول: هو أقدم شعراء اليونان وأرفعهم منزلة عندهم, له حكم كثيرة, وقصائد حسنة, وجميع الشعراء الذين جاءوا بعده احتذوا مثاله, وأخذوا منه وتعلموا, وهو القدوة عندهم, وأنه وقع في الأسر, وأقام في الرق مدة, وعُتق بعد ذلك, وعمّر طويلاً, عاش مائة وثماني سنين, وكان زمنه بعد موسى بخمسمائة سنة وستين. والمؤرخون يحددون مولد موسى في مصر عام 1605 ق.م تقريبا. أما مولد هومير وحياته ففيهما اختلاف كبير. بعضهم يراه في القرن الثاني عشر قبل الميلاد, وآخرون يرونه في القرن التاسع, ويراه المحدثون في القرن السابع قبل الميلاد. وإذا كان الرأي الثاني هو الراجح بينهم, فإن مبشرا أخذ بالرأي الأول, وذلك يعني أنه كان الراجح والشائع في عصره على الأقل.

          كانت المعلومات التي قدّمها لنا أبو الوفاء عن هومير أوفى معلومات قدمها لنا مؤلف عربي من العصر الوسيط, حتى ما اتصل منها بشكله الحسي, فيذكر أنه (كان معتدل القامة, حسن الصورة, أسمر اللون, عظيم الهامة, ضيّق ما بين المنكبين, سريع المشية, كثير التلفّت, بوجهه آثار الجدري, مهذارا, مولعا بالسب لمن تقدمه, مزّاحا, مداخلا للرؤساء).

          ومع أن المبشر تحدث عن هوميروس شاعرا لم يعرف ملحمته الإلياذة فيما يبدو, ولم يشر إليها من قريب أو بعيد, والتفسير عندي أنه حتى ذلك الوقت, لم يكن الرأي قد استقر على أنها له, أو أن اللغة العربية حين صحبت الإسلام إلى مصر, مسحت بأشعارها وبلغاتها أي أدب آخر من ذواكر المصريين, خاصة أن الثقافة المصرية في تلك الفترة كانت قد انحدرت إلى أحط درجاتها.

          وقدم لنا (مختار الحكم) معلومات وفيرة عن أبقراط الحكيم, وهذه الصفة تنصرف عنده إلى الطبيب والفيلسوف, ربما لأن مؤرخي الطب من العرب الذين سبقوه قدموا عنه معلومات لا بأس بها, إلى جانب أن البيئة المصرية كانت تعرف عنه الكثير, إذ كانت مؤلفاته أشهر الكتب تدريسا في مكتبة الإسكندرية, يقول المبشر: (وصنّف كتبا كثيرة في الطب, انتهى إلينا ذكره منها نحو الثلاثين كتابا, وأكثر هذه الثلاثين موجود اليوم. والذي يدرس منها اثنا عشر كتابا, بعد الستة عشر التي صنّفها جالينوس) وهو الذي ابتدأ الطب حرفة, علّمها بنيه من بعده, وأمرهم أن يسكنوا من أرض اليونان وسطها المعمور: رودس وقنيدس وقوّ, وهو نفسه سكن هذه الأخيرة. وألا تخرج صناعة الطب منهم إلى غيرهم, بل يتعلّمها الأبناء من الآباء كي يبقى شرفها ثابتا.

          وكان منهجه في درس الطب قائما على التجربة, إلى أن ظهر مينوس فضم إليها القياس, وقال: إنها من دونه خطر. ثم اختلف تلاميذهم من بعدهم, أخذ بعضهم بالتجربة وحدها, وآخرون بالقياس وحده, وفريق ثالث جمع بينهما, إلى أن ظهر أفلاطون فنظر في آرائهم, فرأى التجربة وحدها خطرا, والقياس وحده لا يصح, فانتحل الرأيين جميعا, وأحرق الكتب المخالفة, وأبقى على ما يتخذ منها هذا الرأي. وجاء الحديث عن آداب أبقراط موجزا, وهي تدور حول الصحة ووسائلها وما يتصل بها, ويؤدي إليها حسا ومعنى.

فيثاغورس

          وعلى هذا النحو من وفرة الأخبار قدم لنا فيثاغورس, ونعرف منه أنه تعلم الآداب واللغة والموسيقا والهندسة والمساحة والنجوم, ولما أجادها سافر إلى بلدان شتى يطلب المزيد, فورد على الكلدانيين والمصريين وغيرهما, ويقدمه لنا مفكرا (يأمر بالتحاب والتأدب بشرح العلوم العلوية, ومجاهدة المعاصي, وعصمة النفوس, وتعلم الجهاد, وإكثار الصيام, والمواظبة على قراءة الكتب, والفصل بين الجنسين في التعليم, فيعلم الرجالُ الرجالَ, والنساءُ النساءَ) وكان يقول ببقاء النفس, وكونها فيما بعد في ثواب وعقاب على رأي الحكماء الإلهيين.

          ونعرف منه أن فيثاغورس (رابط الكهنة بمصر, وتعلم منهم الحكمة, وحذق لغة المصريين بثلاثة أصناف من الخط, خط العامة وما عرف بالديموتيقية, وخط الخاصة, وهو خط الكهنة المختصر, وعرف بالهيروغليفية, وخط الملوك), ولم يشر إلى اسم هذا الأخير, وأحسب أنه الذي كان يتخذ اللغة الإغريقية. وهذا النص بالغ الدلالة والأهمية, لأنه يحدثنا عن مستويات اللغات المتكملة والمكتوبة في مصر من شاهد عيان كما سمعها وعرفها قبل أن يحل شامبليون رموز حجر رشيد بسبعة قرون. ولم يشر فيثاغورس -  ولا المبشر طبعا -إلى اللغة الهيراطيقية, وهي صورة مبسطة من اللغة الهيروغليفية, ولا إلى اللغة القبطية, وهي آخر مراحل تطور اللغة المصرية قبل الفتح الإسلامي, وكانت تكتب في الخط الإغريقي, لأنهما تكونتا بعد وفاة فيثاغورس عام 497ق.م.

          وتحدث (مختار الحكم) عن سقراط, وما كان له أن يغفله, ويدعوه سقراطيس الزاهد, وأورد قصة محاكمته, وتناوله السم تفصيلا, ومن بين تلاميذه كان أفلاطون وحده لم يحضر المحاكمة لمرضه, ويورد معلومة أكدها التاريخ: أن سقراط لم يصنف كتبا, ولا أملي على أحد من تلاميذه شيئا أثبته في قرطاس, وإنما كان يلقنهم علمه تلقينا, وأن تلاميذه كُثر يتجاوزون الآلاف عدداً.

          وأتبع حديث أرسطو بآخر عن تلميذه أفلاطون, ويذكر أن أبويه من أشراف اليونانيين, أخذاه في أول أمره بتعلم الشعر واللغة, فبلغ من ذلك مبلغا عظيما, إلى أن حضريوما درسا لسقراط فرآه يثلب صناعة الشعر كل فضل, فأعجبه ما سمع منه, وزهّده في ما كان قد تعلّمه فيه, ولزم سقراط إلى وفاته, وبعدها سار إلى مصر ليأخذ العلم عن تلاميذ فيثاغورس, ثم رجع إلى أثينا يبث بين قومه علمه وحكمته.

          موقف سقراط وأفلاطون من الشعر يستحق من دارسي النقد الأدبي عامة, والأندلسي خاصة, وقفة متأنية, لأن الفكرة شاعت في الأندلس, وتركت بين مفكريه أثرا عميقا. يقول ابن بسام الشنتريني (ت542هـ - 1147م) في كتابه (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة): (... ومع أن الشعر لم أرضه مركبا, ولا اتخذته مكسبا, ولا ألفته مثوى ولا منقلبا, إنما زرته لماما, ولمحته تهمُّما وسعيا قليلا لا اهتماما, رغبة بعز نفسي عن ذله,وترفيعا لموطئ أخمصي عن محله, فإذا شعشعت راحه, ودأبت أقداحه, لم أذقه إلا شميما, ولا كنت إلا على الحديث نديما, ومالي وله, وإنما أكثره خدعة محتال وخلعة مختال, جِده تمويه وتخييل, وهزله تدليه وتضليل, وحقائق العلوم أولى بنا من أباطيل المنثور والمنظوم).

          وإذا كان أرسطو أشهر تلاميذ أفلاطون, انقطع إليه وهو في السابعة عشرة من عمره, وأقام إلى جواره عشرين عاما يتعلم منه, فقد ألحق المبشر التلميذ بأستاذه, وقدم له ترجمة جيدة وافية, نعرف منها أن أرسطو تعلم الشعروالنحو ودرس البلاغة والعلوم الأخلاقية والسياسية والطبيعية والتعليمية والإلهية, وصنف كتبا كثيرة تبلغ مائة كتاب, ما بلغنا اسمه ستة وثلاثون كتابا, وفيها كُتُب كبار, يتكون الواحد منها من عدة أجزاء, يتصل بعضها ببعض, أربعة أربعة يجمعها غرض واحد.

          وبعد أن ذكر هذا الرقم أشار إلى أنه صنّف غير هذه المائة كتبا أخرى, (منها ما وقفنا عليه (الضمير يعود على المبشر) وهي اليوم موجودة بأيدي الناس, نحو عشرين كتاباً: ثمانية في المنطق, وكتاب الأخلاق, وسياسة المدينة, وكتاب كبير فيما بعد الطبيعيات, وحيل الهندسة, ورسائل, ومنها ما انتهى إلينا منها أسماؤها, ولم نقف عليها وهي كثير).

          وشغل نثر أرسطو المنقول عنه في الكتاب المطبوع خمسين صفحة, توزعتها آدابه ومواعظه ومشوراته, وقد طالت لأنها لم تكن مجرد حكم وأمثال, وإنما تضمنت خطبا كثيرة, ورسائل متعددة, ومن شأن الخطب والرسائل أن تطول.

          وجاءت ترجمة الإسكندر الأكبر تالية لأرسطو لارتباطه به معلما له, ومع أن الإسكندر شُهر عسكريا محاربا, فإن ارتباطه بالمعلم الأول تلميذا, جعل كثيرا من المؤرخين يصفونه بالحكمة, وزاد من اهتمام المؤرخين العرب به أن هناك من يرى أنه ذو القرنين الذي ورد ذكره في القرآن الكريم, وقد تحدث عنه المبشر طويلا, وأعطى تفصيلات وافية عن حياته وحروبه, ورصد غزواته في المغرب واستيلائه عليه وعلى مصر, وبناءّ مدينة الإسكندرية في السنة السابعة من ملكه, على البحر الأخضر (هكذا وصفه), وتحدث عن علاقة أبيه من قبل, وهو من بعده, بدارا بن دارا ملك الفرس, وأنه مات وهو يغزو في المشرق, وعمره ستة وثلاثون عاما, ونقل جثمانه إلى الإسكندرية ليدفن فيها, كما أوصى.

          وبين هذه الكوكبة من فلاسفة الإسكندرية أورد (مختار الحكم) في آخرهم تعريفا بلقمان, وأنه من النوبة, تهذّب ببلاد الشام, ومات فيها, وقُبر في مدينة الرملة من فلسطين, وكان في زمن النبي داود.

          ثم يورد آدابا وحكما لمفكرين آخرين دون أن يعرض لشيء من حياتهم, أوضحهم راهب نصراني اسمه غريغورس, كان مطرانا لأنطاكية, ثم بطريقا لها, وآدابه التي أوردها لا تتجاوز صفحة واحدة, ولا تعكس نبضا مسيحيا.

          ويختم تراجمه بحديث مفصل عن جالينوس, أحد الأطباء الثمانية المقدسين, رءوس الفرق وملعمي المعلمين, ولم يجيء بعده إلا من هو دونه, ويحدد زمنه بأنه دُويْن زمن المسيح, رحل كثيراً يطلب العلم, وجاء إلى مصر, وذهب إلى أسيوط ليرى عقاقيرها, خاصة الأفيون, ومات بمدينة الفرما على حدود مصر الشرقية, وهو في طريقه إلى الشام.

          بعد ذلك أورد بابا جامعا لأقوال جماعة من الحكماء, عُرفت أسماؤهم, ولم يوجد لكل واحد منهم ما يصلح أن يفرد له بابا مستقلا, ثم باب أخير لآداب وحكم وأمثال لا يُعرف قائلها.

          أفاد من كتاب (مختار الحكم) العلماء الذين جاءوا بعده, واهتموا بالتأريخ للعقائد والمذاهب المختلفة, فنقل عنه الشهرستاني (ت548هـ - 1153م) صفحات كثيرة في القسم الخاص بحكماء اليونان من كتابه (الملل والنحل), ونقل عنه الشهر زوزي الصوفي الشهير (ت648هـ - 1250) الفصول الخاصة بالأنبياء والحكماء في كتابه (نزهة الأرواح وروضة الأفراح) بنصها مع إضافات قليلة أحيانا, أما ابن أبي أصيبعة (ت668هـ - 1269م) فقد نقل عنه صفحات مطولة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء), وأشار إلى ذلك صراحة في كل موضع نقل عنه.

          وصلنا كتاب (مختار الحكم) في مخطوطات أربع حتى الآن, استقرت كلها في مكتبات أجنبية, ثلاث منها في مكتبات أوربية: ليدن في هولندا, والمتحف البريطاني في لندن, ومكتبة برلين في ألمانيا, أما الرابعة فتوجد في مكتبة أحمد باشا في استنبول, وهي أقدم النسخ تاريخا, فقد نسخت عام 658هـ, أي بعد وفاة المبشر بنحو قرن ونصف القرن من الزمان.

          كان تأثير الكتاب في أوربا عصر النهضة قويا وعميقا, اتكأت عليه معظم كتب المختارات التي تضم الكثير من الحكم والأمثال والمواعظ, وتستهدف تربية الأمراء وتهذيب الشعب, وتشكل نوعاً من كتب تعليم الأصول السياسية والأخلاقية, وأعجب قراء الكتاب بأسلوبه وعمقه, وما فيه من قصص ذات مغزى فلسفي, إلى جانب الحكايات العربية, وتجلى صداها واضحا في الآداب الأوربية ذات المغزى الديني أو الفلسفي أو الصوفي.

 

الطاهر أحمد مكي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات