ديرك والكوت الفائز بجائزة نوبل 1992 محمود قاسم

قصيدة واحدة.. بمليون دولار.
هناك مجموعة من الظواهر والسمات العامة المرتبطة بحصول الشاعر ديرك والكوت على جائزة نوبل في الأدب لعام 1992. يهمنا هنا أن نوجزها قبل أن نتوغل في عالم الحائز عليها.

"أولى هذه السمات هي أن الجائزة قد منحت هذه المرة للشعر، رغم أن والكوت كاتب متعدد العطاء والإبداع. ويربو عدد كتبه في مجال المسرح على ما نشره في ميدان الشعر. ولكن تلك القصيدة أو القصائد التي حصلت على مليون دولار ونيف من الآلاف، هي التي نالت هذا التقدير دون بقية أعمال الكاتب، وأيضا دون إبداعاته غير الشعرية.

ولعل هذا يعني أن أكاديمية ستكهولم حريصة دوما على أن تمنح الجائزة بالتبادل بين الروائيين والشعراء. فلو نظرنا إلى أسماء الأدباء الذين حصلوا على الجائزة منذ بداية الثمانينيات وحتى الآن، فسوف نرى أن هناك ستة شعراء قد نالوا الجائزة.

وهؤلاء الشعراء يكتبون المسرحية والرواية والمقال. ومن هؤلاء الشاعر البولندي شيزلاف ميلوش، والتشيكي ياروسلاف سيفيرت. والروسي يوسف برودسكي، والنيجيري وول سونيكا، ثم أوكتافيوباث من المكسيك.

أي أن أكاديمية ستكهولم لم تعترف بعد أن فنون قرض الشعر قد تراجعت مع النصف الثاني من القرن العشرين بشكل ملحوظ. ولم يعد الشعر فن الصدارة.

ولعل هذا يقودنا إلى إجابة عن سؤال يتردد دومًا عن سر منح الجائزة لأدباء مجهولين، وهي أن هذا هو حال الشعر الآن. والذين يحصلون عليها في العالم أغلبهم مجهول الهوية والعطاء. وقد اتضح هذا في الأسماء التي أوردناها آنفا. كما يتضح هذا أيضا عند قراءة قائمة الأدباء الذين ينتظرون الجائزة. فلا شك أن الأكاديمية تجد نفسها في حرج قبل إعلان أو اختيار الفائز الجديد من الشعراء، وذلك بعكس الرواية. إلى أن تجد اسما يمكن لبعض قصائده أن تستحق هذا المبلغ المالي الضخم.

فإذا نظرنا إلى مجال الرواية على سبيل المثال، فسوف نجد أن ماركيث وجولدنج ونجيب محفوظ ونادين جورديمر معروفون على مستوى القارئ العالمي.

أدباء بلا جذور

السمة الثالثة أن جائزة نوبل لا تزال حتى الآن بعيدة عن أوربا. وبالتحديد منذ أكثر من سبع سنوات، بعد أن حصل عليها كلود سيموت عام 1985. وكأن القائمين على الجائزة قد رأوا أن عليهم إثبات أن الجائزة عالمية. ولا تمنح فقط لأبناء قارة الفريد نوبل. فذهبت إلى نيجيريا وروسيا ومصر وجنوب إفريقيا والمكسيك وجزر الهند الغربية، وذلك باستثناء الكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا.

ومع هذا فإن اللغة الإنجليزية لا تزال صاحبة نصيب الأسد في الفوز بالجوائز الأدبية، فأغلب الحائزين على الجائزة منذ عام 1980 وحتى الآن يبدعون باللغة الإنجليزية. والكثيرون منهم يعملون في الجامعات الأمريكية لتدريس آداب بلادهم مثل ميلوش وإلياس كانيتى ويوسف برودسكي وبالطبع ديرك والكوت. فضلا عن أن الإنجليزية هي لغة ويليام جولدنج، كما يكتب بها أيضا كل من نادين جورديمر وأوكتافيوباث.

أما السمة الرابعة فتتعلق بظاهرة الكاتب المتعدد الثقافات والجذور. فمن المعروف أن سكان المنطقة التي يسكنها الشاعر، جزر الأنتيل الصغرى، يعيش فيها أفارقة وهنود، وبعض سكان جامايكا. وهناك عدة ملايين جاءوا إلى هذه الجزر من الهند إلى إفريقيا، ثم إلى جزر الهند الغربية. ولأنهم بلا جذور، فإن الهجرة والانتقال سمة غالبة لديهم، وتبدو واضحة في أدبهم. ولعل هذه السمة بدت أشد وضوحاً لدى الكاتب ف. س. نايبول، أبرز المرشحين فعلا لنيل هذه الجائزة، في روايته "منعطف النهر" التي صدرت في سلسلة روايات الهلال في مارس عام 1992...

السمة الخامسة التي ظهرت هذا العام أن الكتاب الذي حصل على الجائزة حديث الصدور. وتلك سمة لم تتكرر في السنوات الأخيرة إلا في حالة يوسف برودسكي. لكن كتاب "أوميروس" Omeros المنشور لأول مرة عام 1991 قد حصل في العالم التالي لصدوره مباشرة على الجائزة. وهو كتاب ملحمي شعري سبق أن فاز في العام الماضي بجائزة تحمل عنوان: و. هـ. سميث. علما بأن رواية "آلهة الذباب" لويليام جولدنج قد حصلت على الجائزة عام 1983 أي بعد قرابة ثلاثين عاما من صدورها. وحدث هذا أيضا مع رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ. و "عائلة باسكوال دوارته" التي نشرها ثيلا عام 1942.

عائلة مسرحية جدا

تلك بعض النقاط والسمات الأساسية المرتبطة بفوز والكوت بنوبل هذا العام. وهناك سمة أخرى قد لا تكون عامة بالنسبة للفائز بالجائزة، ولكن بالكاتب بشكل عام في العصر الحديث، وهي تعدد مجالات الإبداع والكتابة عند نفس الشخص. فكما سبقت الإشارة، فإن والكوت الذي فاز كشاعر معروف بنشاطه المكثف في عالم المسرح، سواء فيما يتعلق بتأليف المسرحيات أو إخراجها. وهي سمة موجودة لدى الكثيرين من كتاب العصر.

ولاشك أن هذا يعني أن كاتب الإبداع الواحد غير موجود كثيراً وبنفس الدرجة التي قد يتصورها البعض.

فإذا كان ديرك والكوت قد بدأت علاقته بقرض الشعر وهو في الثامنة عشرة، فإنه ابن لعائلة تعمل في المسرح بأغلب أفرادها. فأبوه الذي يحمل الجنسية البريطانية يعمل في المسرح، ويهتم بالديكور المسرحي. أما أمه فهي مؤلفة لعديد من المسرحيات التي لم تلق نجاحا حين عرضت على خشبة المسرح. وأخوه التوأم رودريك أيضا يعمل في نفس المجال..

إذن نحن أمام رجل تشرب فن الدراما قبل أن يولد. تسربت إليه من خلال العشق الجارف الذي ربط بين والديه، اللذين أنجبا ولديهما ديرك ورودريك في الثالث والعشرين من يناير عام 1930، وذلك في جزيرة سنتا لوتشيا.

في سنوات الدراسة في جامعة جامايكا، نشر ديوانه الأول الذي يحمل عنوان " خمس وعشرون قصيدة ". ولكن الديوان لم يأت بصداه المنشود. وتصور الصغير ديرك أن حظه في الشعر مثل حظ أمه في تأليف المسرحيات. لذا عكف على تأليف أولى مسرحياته التي نشرت وهو في العشرين من العمر تحت عنوان "هنرى كريستوف ". ولم يكن حظها سيئا مثل حظ سابقتها.. فبحكم كون بلاده من الكومنولث، فإن السلطات البريطانية سعت لتقديم المسرحية في لندن. وبدت المسرحية غريبة، فهي تعبر عن ثقافة جديدة لم يألفها البريطانيون بعد.

أرق بين الشعر والمسرح

وقد ظل والكوت مؤرقا بين المسرح والشعر. لذا وضع معادلته الصعبة حين صاغ بعض مسرحياته في إطار شعري. مثلما فعل في "هنري درينر" عام 1956. ثم "القلعة الساحرة" عام 1970. و"الرجل الموسوس" عام 1974. و "مملكة التفاح المتألقة" عام 1978. و"آه يابابليون" عام 1978. ثم رائعته الكبرى "أوميروس"..

أما بقية مسرحياته فهي مكتوبة نثراً. وهي أيضا كثيرة العدد. ومنها على سبيل المثال: "ستة تحت المطر" عام 1959. و "في ليلة خضراء".. المنشورة عام 1962. و "حلم قرد الجبال" عام 1971.. ومسرحيات أخرى عديدة.

أما أهم دواوينه الشعرية فتحمل أسماء مثل قصائد - 1948- 1960 المنشور عام 1962. وكما هو واضح فإنه يضم مجموعات القصائد المتناثرة التي نشرها الكاتب في تلك الآونة. أي أن ما نشره والكوت كشاعر في تلك المرحلة لا يقترب كما من إبداعه المسرحي، وربما أيضا نوعاً. فقد لاقت مسرحياته الكثير من القبول سواء عند عرضها في دور المسرح بجزر الهند الغربية. أو في حال تمثيلها في أي مدينة من المدن التابعة لدول الكومنولث.

تقول جريدة "لوموند" في التاسع من أكتوبر 1992: إن إبداع والكوت مثل الأرض التي عاش فوقها، فكلاهما أشبه بأرخبيل متعدد الثقافات واللغات والحضارات، إنه أشبه بقطع الموزاييك. ولاشك أن مثل هذه الثقافة كانت تؤرق الأوربيين كثيرا في بداية عصر النهضة، حيث سعت كل دولة إلى صنع ثقافتها الخاصة. ولعل كل طائفة في جزر الهند الغربية تعيش الآن على أمل أن تكون لها هويتها الثقافية المحددة.

وكما تقول الجريدة أيضا فإن إبداع والكوت لا يعبر سوى عن أدب الأقليات التي تعيش معا. هذه الأقليات دوما "بلا أطلال أو تواريخ أو متاحف". فهناك على سبيل المثال عدة لغات، والكثير من اللهجات. لذا فإن لغة والكوت بالغة الغرابة وغير سهلة، ومن الصعب ترجمتها.

أحسن شاعر.. في هذه الأيام

ظل والكوت مقيماً في بلاده بصفة دائمة كمواطن حتى عام 1984، حين قامت إحدى دور النشر الإنجليزية بطبع أعماله الكاملة. وهنا عرضت عليه جامعة هارفارد الأمريكية أن يقوم بالتدريس لطلبتها. ولم يتردد الكاتب أن ينتقل إلى الولايات المتحدة. وهناك التقى بالشاعر الروسي يوسف برودسكي الذي يقوم بتدريس الأدب الروسي في نفس الجامعة. وعقدت صداقة قوية بين الرجلين لدرجة دفعت برودسكي أن يكتب يوما أن والكوت هو "أحسن شاعر ينطق باللغة الإنجليزية في هذه الأيام".

جاء في حيثيات منح والكوت جائزة نوبل أن شعره ذو إشراق عظيم تعززه رؤية تاريخية، هي محصلة التزام متعدد الثقافات... ولاشك أن هذا التعدد قد أفاد الكاتب، كما سبقت الإشارة. فهو رجل ليس أسيراً لعصر دون آخر، ولا لمكان دون غيره. فهو على سبيل المثال يعشق التاريخ اليوناني القديم. ولكنه يرى هذا التاريخ برؤيته الذاتية، حتى أسماء أبطال الأساطير، فإنه يكتبها كما تجيء لغته. ولذا فإن شعره يجمع بين الكلاسيكية اللاتينية وبن إيقاع أواخر القرن العشرين. وقد بدا هذا واضحا في مسرحيته الشعرية "أوميروس" وتقول جريدة "التايمز" في 9 أكتوبر 1992 إن والكوت قد قرض في هذه المسرحية شعرًا صعبًا به كلمات إغريقية وفرنسية. ويقول الشاعر: "لم أقرأ أعمال هوميروس كاملة. ولعلي لو فعلت ذلك ما قمت بتأليف مسرحيتي أوميروس" ..

وفي هذه المسرحية على سبيل المثال نرى بطلا من الملحمة يغني في إطار من المعاصرة: أغنى من أجل أشيل. ومن أجل ابن أفولاب الذي لم ينزل أبدا من مصعد.
الذي لا يملك جواز سفر.
منذ أن عرفت الأفق مكانا لها.
والمسرحية تتكون من أربع وستين مقطعا، مثلما فعل هوميروس في أوديسته. ولكن الأحداث تدور في البحر الأدرياتيكي بدلا من بحر إيجه. وهناك مسوخ عصرية مثل المسوخ التي قابلت أودسيوس في أثناء عودته من طرواده.

التنبؤ بجائزة نوبل

إلا أننا ما دمنا نتحدث عن شاعر نال الجائزة عن قريضه. فإنه من المهم أن نترجم له إحدى قصائده كما نشرتها جريدة "ليبراسيون" في 9 أكتوبر 1992. وهي تحمل عنوان "بعيداً عن بيزانس" وقد نظمها والكوت عام 1988 حيث يقول:

أعرف هذه الجزر من مونوس إلى ناسو
بحار له رأس الترس وعيون الترسة
يسمونني "شابان" والاسم ملون
أرى بكل الزنوج الحمر "شابان" في داخلي
هؤلاء القادمون من إمبراطورية الفردوس
فلست سوى زنجي يحب البحر
أتلقى التعليم الاستعماري الصلد
في داخلي هولندي، وأسود، وإنجليزي
ورغم ذلك لست شخصا. لعلي قوم.

الجدير بالذكر أن يوسف برودسكي قد استقى من عنوان هذه القصيدة عنوانا آخر لكتابه المنشور عام 1987. وهو نفس العام الذي فاز فيه هذا الأخير بجائزة نوبل وقد تحدث برودسكي في هذا الكتاب عن الصداقة الحميمة التي تربطه بوالكوت. وقد تنبأ فيه بأن صديقه سوف يحصل يوما على جائزة نوبل ليعوضه عما فاته من تقدير.

 

محمود قاسم