الصورة الشعرية... ذاكرة أم مخيلة?

الصورة الشعرية... ذاكرة أم مخيلة?
        

مازال ناقدنا الكبير يواصل رحلته حول محاولة نقاد وشعراء عصر الإحياء العربي سبر أغوار العملية الشعرية والوصول إلى كنهها, وهاهو اليوم يتتبع تلك الرحلة خلف منابع الخيال في تكوين الصورة الشعرية.

          لم يتوقف واحد من النقاد الإحيائيين كي يحاول الإجابة المباشرة عن السؤال الخاص بتكوين الصور الشعرية إلا محمد الخضر حسين في كتابه (الخيال في الشعر العربي) واستهل إجابته, مستفيدا من ابن سينا, بما انتهى إليه من أن المخيلة تتصرف في صور المحسوسات بالتفصيل والتركيب لتنتزع منها صورا بديعة, وهذا التفصيل والتركيب إنما يصاغ من عناصر (كانت النفس قد تلقّتها عن طريق الحس أو الوجدان, فليس في إمكانها أن تبدع شيئا من عناصر لم يتقدم للمتخيل معرفتها). وأهم ما تعتمد عليه عملية الصياغة التخييلية - من هذا المنظور - قوة التذكر التي تقترن بتداعي المعاني على الذهن بسهولة وبعد أن تستحضر المخيلة الصور بواسطة التذكر تستخلص منها ما يلائم الغرض وتطرح ما زاد على ذلك (فتفصل الخاطرات عن أزمنتها, أو ما يتصل بها, بما لا يتعلق به القصد من التخييل, ثم تتصرف في تلك العناصر بمثل التكبير أو التصغير وتأليف بعضها إلى بعض حتى تظهر في شكل جديد).

          وتقوم المخيلة بعملها على نحوين متمايزين من هذا المنظور, أولهما استحضار الصور من الذاكرة حسب قوانين التداعي المعروفة, وثانيهما تركيب الصور في وحدة جديدة, قد تطابق الواقع الخارجي أو لا تطابقه, ومن ثم ينقسم التخييل إلى نوعين: تخييل تحضيري وتخييل إبداعي أو اختراعي. أما الأول فيتم في حدود عملية انتخاب من معطيات التداعي في فعل التذكر, ويقتصر عمل المخيلة عند هذا الانتخاب على ما يدعو إليه الغرض, فتستحضر بعض العناصر من الصور الذهنية تاركة عناصرها الأخرى. وذلك إلى الدرجة التي يصفها الخضر حسين بقوله إن المخيلة قد تأخذ جسما مقطوعا من بعض الأعضاء التي لا مدخل لها في المعنى, فتتخيل إنسانا بغير عنق كقول ابن هانئ:

كان أرؤسهم والنوم واضعها على المناكب لم تخلق بأعناق


          أما التخييل الإبداعي, فهو مرحلة تعقب الأولى - أي التخييل التحضيري - فبعد (أن تنتخب المخيلة ما يليق بالغرض من العناصر, تتصرف فيها بالتأليف إلى أن ينتظم منها صورة مستطرفة, ويسمى هذا التصرف تخييلا إبداعيا أو اختراعيا. ويجري هذا التخييل في التشبيه والاستعارة وغيرهما).

          وعلى هذا الأساس يضع الخضر حسين ثلاثة أسماء للمخيلة, فهناك المخيلة الآلية, والعلمية, والإبداعية. أما الأولى فهي التي (تنتقل من صورة إلى أخرى من غير قصد إلى غرض ومن غير أن تكون تحت رعاية العقل). وأما الثانية والثالثة فيكون الانتقال فيهما (صادرا عن إرادة, ومحاطا بانتباه, وهذا قد يكون الغرض منه الوصول إلى حقيقة فتسمى مخيلة علمية, وقد يكون الغرض منه الوصول إلى تأليف صور من المعاني جديدة فتسمى مخيلة إبداعية). ولا ينتبه محمد الخضر حسين في هذا التنظير إلى أنه يلغي المراحل اللاواعية من العملية التخيلية في الفن, ولا يضعها في اعتباره, وذلك لأن العملية التخيلية عنده تقوم على (الإرادة والانتباه) أساسا, وهو بهذا متوافق مع التصور العام للفن بوصفه صناعة تقوم على الوعي والجهد الذهني. وهكذا, يمكن أن يتشابه - عنده - الشاعر والعالم والصانع الماهر لأن مخيلة كل منهم (تتوجه بإرادة صاحبها وتعمل تحت مراقبة قواه العاقلة, فتنتقل من صورة إلى أخرى تناسبها, حتى تجتمع في الذهن صور, يحصل من ترتيبها على قانون المنطق إدراك حقيقة كانت خافية).

صورة معنوية وليست مادية

          قد يختلف الشاعر عن شبيهه العالم أو الصانع في أن صوره الناتجة هي صور معنوية بينما ينتهج الآخران أشياء مادية, لكن الجميع يتفقون في ضرورة خضوع مخيلتهم لرعاية العقل وقواعده, الأمر الذي يفسح للصانع المجال في عمل مخيلته (فتنطلق في صور ما شاهده من الأشياء, ويساعده ذوقه على أن ينتقي من تلك الصور ما يركب منه صورة جديدة.

          وكذلك الشاعر يبعث مخيلته فيما عنده من صور الأشياء, ولايزال يقع على صورة بعد أخرى حتى يجتمع عنده ما يمكنه أن يركب منه معنى لا عهد للأذهان به من قبل).

          وسواء أكان التخييل تحضيريا أم إبداعيا, فإنه يقوم أساسا على قوة التذكر وتداعي المعاني عند الخضر حسين الذي يتحدث عن القوانين المختلفة لتداعي المعاني بدراية وفهم يتناسبان مع ثقافته. ولكنه يلح على مبدأ التشابه بوصفه مكوّنا أساسيا للتخيل الشعري, فيرى أنه لا يمكن للشاعر أن يسترجع صور المحسوسات ليجمع بينها وبين المعاني الأصلية إلا إذا كانت توجد بينهما مشابهة أو مماثلة دقيقة, ظاهرة أو خفية, في بعض الوجوه المحسوسة أو المعقولة, وعلى هذا الأساس يقوم فن التشبيه والاستعارة اللذان هما أوسع مضمار تتسابق فيه قرائح الشعراء والكتاب فيما يقول.

أسرار الحرفة الشعرية

          ويمكن بالطبع أن نلاحظ سذاجة مفهوم الخضر حسين عن العملية التخييلية, وكيف تصورها بوصفها عملية متعددة المراحل. ولكن رغم سذاجة التصور المرحلي لعملية التخييل الشعري التي تتسم, عادة, بدينامية فعالة تلغي هذه التقسيمات, ورغم قيامها في مراحلها الأولى على اللاوعي الذي يستبعده الخضر حسين, أقول رغم هذا وذاك, فإن علينا الانتباه إلى أن الرجل لا يبتدع نظرية جديدة حتى نحاسبه عليها, بل يردد بشكل اجتهادي ما قاله عبدالقاهر وابن سينا من قبله ومن أخذ عنهما بعد ذلك. ومهما يكن من القيمة العلمية لهذا الاجتهاد, فإنه يؤكد مجموعة من أهم المبادئ الإحيائية التي تكشف عن كيفية تكوين الشاعر لصوره الشعرية, أو بعبارة أقرب إلى روح العصر تكشف عن أسرار الحرفة الشعرية وخباياها, وأهم هذه المبادئ الذاكرة القوية والعقل الواعي أو ما يسمّونه بقوة الانتباه تارة وبالفهم الثاقب أخرى, وذلك هو المبدأ الذي يؤكده الخضر حسين بقوله: (وتسلسل الأفكار يكون على ما تحتويه الحافظة من صور الأشياء, فالناس يتفاضلون في التخيل على قدر تفاوتهم فيما وقع إلى قواهم الحافظة من الصور, ويتفاضلون في التخيل أيضا من جهة قوة الانتباه لما بين الأشياء من المناسبات, وهو تأكيد يردنا إلى ما سبق أن قاله المرصفي قبله في الوسيلة عن (أن من يريد أن يتصدى لإنشاء الكلام نثرا كان أو نظما يجب أن يكون فيه استعداد طبيعي لأمور اختيارية. وذلك أن يكون ذا حافظة قوية وفهم ثاقب وذاكرة مطيعة, فإن الناس في ذلك ليسوا سواء, فإذا كان الإنسان ذا حافظة قوية واستعملها في حفظ ما اتفق أسلافه ومعلموه على استجادته مهتديا بفهمه إلى معاني محفوظاته ومقاصدها وتمييز كل فريق منها بما له من المحاسن وما لغيره من المساوئ, ثم استخدام ذاكرته في إحضار ما أراد من ذلك متى شاء فهو حينئذ متهيئ لتحصيل تلك الصناعة وبالغ فيها بتوفيق الله منيته ومنتهى مقصوده).

          ولاشك أن الذاكرة هي الجذر الأساسي الذي لا يمكن أن يوجد خلق شعري من غيره, لكن الذاكرة ليست المسئول الأول والأخير عن عملية الخلق الخيالي, فهناك عوامل متعددة تتداخل في العملية ويتفاعل كل منها مع غيره. يضاف إلى ذلك أن الصور التي تأتي من قراءات الشاعر لا تشكل إلا جانبا واحدا من صوره فقط, إذ إن صوره نبع من كل حياته المرهقة منذ طفولته المبكرة. ولكن علينا ملاحظة أن مفهوم الذاكرة عند الإحيائيين - أو الكلاسيين عموما - يختلف اختلافا واسعا عن المفهوم المعاصر لها. الذاكرة عندهم أشبه بمستودع هائل يختزن الشاعر فيه كل ما قرأه على وجه الخصوص, وكما يقوم المستودع بالحفظ فحسب من غير أن يحدث فيما يحفظه أي تأثير, فكذلك الذاكرة لا تتدخل فيما تخزنه, إنها سلبية تماما, وأشبه بالمستودع الذي يستبقي المخزونات كما هي عليه, وعلى النقيض من ذلك, مفهوم الذاكرة في الفهم الحديث, فهي تقوم بوظائف بالغة الفعالية, يشبهها البعض ببئر عميقة تغوص فيها كل جزئيات التجربة, أي كل ما قرأه الشاعر أو سمعه أو شعر به أو لمسه أو تذوقه أو أحسّه, فتتقارب المعطيات وتتدابر وتثرى وتتغير عن طريق بعض العمليات الكيميائية للتداعي والاختيار والتأكيد. والخيال هو الذي يقوم بهذه العمليات الكيميائية بالتأكيد, خصوصا حين يمزج المعطيات ببعضها, ويستخرج منها تركيبات جديدة, ولكن باحثا معاصرا مثل جورج هويلي لا يرى أي سبب لفصل الخيال عن الذاكرة, فالذاكرة حافظة ومنظمة على السواء, وتنظيمها ليس فعلا ظاهرا أو واضحا وإنما هو فعل يحدث في عتمات اللاوعي, ويترتب على ذلك أن الذاكرة لا تخزن الصور فحسب, بل تصهرها وتغير من طبيعتها لتشكل منها أنماطا جديدة فريدة في نوعها.

الذاكرة ومصادر الشعر

          وعندما نعود إلى النقاد والبلاغيين الإحيائيين نجد إلحاحا حادا على الذاكرة وتمييزا للشاعر الحاذق بأنه ذو ذاكرة حادة تمكنه من الاستفادة من تجارب أسلافه. ويقترن هذا الإلحاح بمفهوم الصنعة الشعرية, فحدة التذكر هي جزء من حرفية الشاعر الناجح, ذلك لأن الشاعر المتأخر يقرأ أسلافه ويحفظ معانيهم, فتتكون لديه ذخيرة ثرية من العناصر التي يصوغ منها شعرا جديدا, إما عن طريق تداع آلي, وعندئذ يغدو الخيال تحضيريا - كما يقول الخضر حسين - وإما عن طريق تأمل هذه الصور المتداعية وتحويرها بالزيادة أو النقص والتكبير أو التصغير وما أشبه, فيغدو الخيال إبداعيا أو ابتكاريا أو اختراعيا - وهي كلها مصطلحات تترادف في إشارتها إلى الجهد الواعي الذي يقوم به الشاعر في توليد صوره الجديدة من الصور القديمة المختزنة في ذاكرته, وحتى الماثلة أمامه في دواوين أسلافه من الشعراء القدامى.

          ويعني ذلك أن الذاكرة أهم مصادر الشاعر, في تصور العصر الإحيائي, كما يعني أن العقل هو أهم أدوات الشاعر. ولا شك أن حسين المرصفي هو الرائد الأول الذي أكد هذين المبدأين, وأسهم في تلقينهما للشعراء والنقاد على السواء, فقد كان لا يكف عن الإلحاح على أن الشاعر الحاذق (لا يهدأ من الاطلاع والبحث في كلام أسلافه حتى يصير هلاله بدرا, وهنالك يكمل جماله ويعم الناس فضله وأفضاله). ولا أغالي إذا قلت إن حسين المرصفي شكّل ذوق عصر الإحياء بهذه التعليمات, وأسهم في وسم الشعراء بطابع خاص, جعلهم يرون أن قوة التذكر وغزارة ما تحتويه الذاكرة من شعر قديم أهم مميزات الشاعر الناجح. ولولا ذلك ما ذهب المرصفي إلى أن أهم وسائل الشاعر للابتكار أو الاختراع أو الوصول إلى المعنى البديع ما يسميه بحسن الاتّباع.ولهذا المصطلح تاريخ طويل في كتب البلاغة والنقد القديمة, فقد ارتبط دائما بكيفية استفادة الشاعر المتأخر من الشاعر المتقدم وطرائق هذه الاستفادة التي توصله إلى المعنى البديع, وهذا هو السبب في أنه عُدَّ, عند البلاغيين المتأخرين, قسما من أقسام البديع التي تربو على المائة.

          ويدور المصطلح عند المرصفي في الدائرة القديمة نفسها, إذ يقصد به مسلك الشاعر المتأخر عندما يريد الاستفادة من المتقدم فيعمد إلى معنى سبق به غيره (فيأخذه ليخرجه في صورة أحسن من الصورة التي كان عليها, وتلك هي الطريقة السهلة لصناعة المعنى الجديد. وتحدث هذه الصناعة بوسيلتين, يسمي المرصفي أولاهما بالإغراب أو الندرة, ويسمي الأخرى بالتوليد. أما الإغراب,فهو أن ينهض الشاعر إلى معنى قد ابتذلته الشهرة وكثرة الاستعمال فيبرزه في صورة يتخيلها فتكسوه غرابة, وكأنه لم يكن مستعملا من قبل, كقول أبي الطيب المتنبي في التشبيه بالشمس:

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا إلا بوجه ليس فيه حياء


          أما التوليد فهو لفظي ومعنوي,فاللفظي أن يستحسن الشاعر أو الناثر لفظا من كلام غيره في معنى فيستلبه ويضعه في معنى آخر, وإن كان استعماله إياه أجود, وكان الموضع الذي وضع فيه أليق, انتظم في المقبول المستحسن وإلا عد من المردود أو المسترذل. أما المعنوي فهو أن يجد الشاعر أو الناثر معنى لغيره, فيأخذه ليزيد فيه ويحسن العبارة عنه فيعد بديعا لما فيه من التنبه والنقد الذي يحصل بمثله التعليم والدلالة على الأدب. ومثال ذلك قول أبي الطيب المتنبي:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي


          فإنه توليد من قول ابن المعتز:

لا تلق إلا بليل من تواصله فالشمس نمامة والليل قواد


          وعن طريق الجهد الذهني الذي يبذله الشاعر في توليد المعاني القديمة, أو تلفيقها, يصل الشاعر إلى ما يسميه المرصفي بسلامة الاختراع فيبدع (أمرا شعريا لم يسبقه إليه أحد). ويوضح المرصفي فكرته عن حسن الاتباع بتقديم النماذج الكثيرة التي تثبت العملية في أذهان قارئيه. يتوقف - مثلا - عند تشبيه بشار:

كأن مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه


الشعر والنشاط العقلي

          ولقد حاولت أن أقوم بإحصاء القصائد التي يذكرها المرصفي في كتابه مع تعليقاته عليها, فانتهيت إلى أنه كان يفضل الشعراء المتأخرين. وحسب القارئ أن يطالع الجزء الذي يشرح فيه عروض الشعر العربي وأوزانه وقوافيه, بذكر الأمثلة الشعرية, التي يتعلم طلاب الأدب عن طريق ترديدها وتكرارها قواعد النظم, فيستشهد باثنتي عشرة قصيدة, واحدة منها فقط لأبي نواس, وواحدة للبهاء زهير,وعشر قصائد كاملة لابن النبيه المصري, أي أنه يستشهد بقصيدة واحدة فقط من القرن الثاني الهجري وإحدى عشرة قصيدة من القرن السابع. وإذا كان اختيار الرجل قطعة من ذوقه - كما يقال - فإن ذوق المرصفي يتضح من تركيزه على ابن النبيه بوجه خاص.

          وأتصور أن هذا كله يكشف عن تصور المرصفي للشعر, وكيف كان يراه عملا عقلانيا لا تقوم له قيمة ولا يتفاضل على غيره إلا بمقدار الجهد والتوليد الذي يبذله الشاعر في صنعه وبمقدار البراعة في حرفيته. ولهذا السبب ينصح المرصفي الشاعر الإحيائي بمراجعة شعره وتنقيحه كي (لا يضنّ به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة فيه, فإن الإنسان مفتون بشعره, إذ هو بنات فكره واختراع قريحته). ويدفعه تقديره للجهد الحرفي المبذول في القصيدة إلى أن يوازن بين بيتي امرئ القيس:

له أيطلا ظبي وساقا نعامة وصهوة عير قائم فوق مرقب
 له أيطلا ظبي وساقا نعامة وإرخاء سرحان وتقريب تنفل


          فيرى أن الأول يقل في قيمته عن الثاني لأنه يقوم على ثلاثة تشبيهات, أما الثاني فيقوم على أربعة وهذا منتهى البراعة.ويمضي محمد الخضر حسين مع المقياس نفسه فيقول إن براعة التخييل تعتمد (على ملاحظة أمور متعددة, فالصورة التي يراعى في تأليفها ثلاثة معان مثلا تكون أرجح وزنا وأنفس قيمة من الصورة التي تبنى على رعاية معنيين).

          وأتصور أن تعليمات المرصفي هذه وأفكاره - وهي تعليمات وأفكار لها أصولها القديمة عند قدماء البلاغيين ومصنفي كتب التشبيهات والمعاني - كانت بمنزلة البذور التي أثمرت ثمارها الخاصة عند الشعراء والنقاد اللاحقين, فإذا بعصر الإحياء كله يلح على طلب الاستعارة البديعة والمعنى المخترع والتشبيه النادر, ولا يحتفي إلا بالشاعر الذي يولّد من القدماء تخييلات لم يسبق إليها, فيقول محمد المويلحي - على سبيل المثال - في نقده الباكر للديوان الأول لشوقي:

          ومما نعده من محاسنه ونراه من المعاني المبتكرة قوله:

سَعَتْ لَكَ صورتي وأَتَاكَ شَخْصي وسار الظلُّ نَحْوَكَ والجِهاتُ
لأن الرُّوحَ عندَك وهْي أَصْلٌ وحيثُ الأصلُ تسعى الملحقاتُ

وَهَبْها صورةً مِنْ غير روح

أليس من القبولِ لها حياةُ?


          ويشير الخضر حسين إلى أن بيتي البارودي:

متوشّحٌ بالنَّيِّراتِ كباسلٍ من نَسْل حَام باللُّجين مُدَرَّعِ
حَسِبَ النجومَ تخلّفَتْ عن أمْرِهِ فوحى لَهُنَّ من الهلال بِإُصْبعِ


          وهما بمنزلة توليد من قول الخفاجي:

كَأَنَّ الدُّجى لما تَوَلّتْ نُجُومُه مدير حربٍ قَدْ هَزّمْن له صفا


          لكن البارودي فيما يرى حسين المرصفي قد زاد على الخفاجي ما هو أغرب منه, يعني ظنه أن النجوم تخلفت عن أمره, ثم إشارته إليها بإصبع من الهلال. ويقول مصطفى صادق الرافعي في الاتجاه نفسه: (وأنا حين أكتب عن شاعر لا يكون أكبر همي إلا  البحث عن طريقة ابتداعه لمعانيه, وكيف ألم بها وكيف كان المعنى منبهة له, وهل أبدع أم قلد أم نقله نقلا... وإذا عرضنا شوقي بتلك الطريق رأيناه نابغة من أول أمره, ففيه تلك الموهبة التي أسميها حاسة (الجو) إذ يتملح بها النوابغ معاني ما وراء المنظور, ويستنزلون بها من كل معنى معنى غيره).

          وهذا هو المنهج نفسه الذي درس به أحمد محرم شعراء من أمثال السيد توفيق البكري وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري.

          وليس من الغريب - والأمر كذلك - أن يؤمن النقاد الإحيائيون بأن الشعر (من أعلى طبقات الكلام وأبعدها غاية لما يقتضيه من شرف الألفاظ والنباهة في المعاني وسلامة الذوق والمبالغة في التنقيح والتهذيب) ويصبح أبرع الشعراء من كان خاطره هدفا لكل نادرة, إذ ربما (عرضت للشاعر أحوال مما لا يعني غيره, فإذا علق بها فكره تمخضت عن بدائع من الشعر, فجاءت كالمعجزات... ومن شدّ يده على هذا جاء بالنادر). وتتحدد عبقرية شوقي - عند الجارم - في أنه (يهبط عليك بالتشبيه بَعُدَ مرماه, وبالاستعارة دق معناها, فتحس أنه جاءك ببدع وأوحى إليك بجديد. وهذا هو سر العبقرية ومعنى الابتكار). وهذا هو ما يفسر به الرافعي نفسه قوة الشاعرية عند شوقي, تلك التي يرجعها الرافعي إلى (مجيئها بالمعاني النادرة مستخرجة استخراج الذهب, مصقولة صقل الجواهر, معدلة بالفكر موزونة بالمنطق).

          وليس هذا كله بغريب على عصرآمن بفضل نقاده وشعرائه (أن كل منشئ يستطيع أن يكتب كل ما يطلب منه دون أن يكون معتقدا أو واقفا عند حدود ونواهي كتابته, خصوصا إذا كان عقل سام).

 

جابر عصفور   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات