حالم بفلسطين

حالم بفلسطين
        

فتاة صغيرة تقدم رؤيتها عن عالم الرعب الذي تراه يوميا على شاشة التلفزيون هذه هي فلسطين التي يحولها جنود الاحتلال كل يوم إلى كابوس لا يقظة منه.

          لم تكن الضجة الإعلامية التي صحبت ظهور هذه الرواية من أهم دوافعي لقراءتها, فالضجة الإعلامية قامت ربما بسبب أن الرواية كانت قصة قصيرة لصبية في السابعة عشرة من عمرها حصلت على الجائزة الأولى في مسابقة دولية للقصة القصيرة لجميع الأعمار تقام في إيطاليا, وأن الفتاة صاحبة القصة الفائزة التي نشأت مع أسرتها المصرية في إحدى المدن الإيطالية, كتبت هذه القصة بعد أن شاهدت مثل الملايين على شاشة التلفزيون مقتل الطفل الفلسطيني (محمد الدرة) برصاص جندي إسرائيلي, وسمعت بعد ذلك ما قاله هذا الجندي لمراسل إحدى المحطات الفضائية: (لقد تعمّدت ترك والد الطفل حيّا ليحترق قلبه على ابنه القتيل).

          ثم إن الناشر الإيطالي الذي قرأ القصة القصيرة الفائزة بالجائزة الأولى هو الذي طلب من كاتبتها أن تحوّلها إلى رواية ليمكنه نشرها في كتاب, وقد استجابت الطفلة لطلب الناشر, وقامت بتحويل القصة القصيرة إلى رواية في زمن محدود نسبيا (قالت في بعض تصريحاتها إنه حوالي أربعة شهور).

          وحين صدرت الرواية في كتاب باللغة الإيطالية, أثارت ضجة فور صدورها, فقامت بعض دور النشر الفرنسية بترجمتها إلى اللغة الفرنسية, مما ضاعف من الضجة الإعلامية التي أثارتها الرواية, وفي هذه المرة لم تكن الضجة كلها إعجابا بالرواية, بل كان جزء من هذه الضجة هجوما على الرواية باعتبارها تهاجم اليهود في فلسطين, وتثير التعصب بقدر ما تعبر عنه.

          ثم كان من الطبيعي بعد هذا كله أن يلتفت ناشر عربي هو الأستاذ إبراهيم المعلم (رئيس اتحاد الناشرين العرب) الذي كان يشارك في مهرجان بولونيا السنوي الذي يقام لأدب الطفل في المدينة الإيطالية إلى ما أثارته رواية هذه الفتاة المصرية الأصل من ضجة, فيتخذ قراره بترجمة الرواية إلى اللغة العربية ونشرها ضمن مطبوعات دار الشروق, وكأنه يسترد هذه الموهبة ذات الأصول المصرية إلى ثقافتها وإلى قارئها العربي!

          مع اقتناعي بأنه قد يكون لهذه الضجة ما يبررها, فإن دوافعي للاهتمام بقراءة هذه الرواية كانت تختلف عن دوافع هذه الضجة الإعلامية, فأنا أنتمي إلى جيل حفظ نصيحة (همنجواي) لا تكتب إلا عما تعرف (وكان السؤال الذي توقفت أمامه) كيف تأتى لهذه الفتاة أن تكتب رواية تثير كل هذه الضجة من خلال معرفة بواقع المأساة الفلسطينية هي بكل المقاييس محدودة, بل إنني كنت أتمادى فيما يشبه التأكيد على أن خبرتها بتجربة الحياة الإنسانية ذاتها لابد أن تكون محدودة.

          فالمواهب القوية التي تظهر في سن مبكرة تكاد تنحصر أحيانا في مجالات بعينها مثل الموسيقى أو الرسم أو بعض المهارات الجسدية أما مواهب الكتابة?, وهنا أسجل أنه ربما كان من بعض دوافعي لهذه القراءة هو أن أتأمل الفارق الذي يمكن أن يكون موجودا, بل وأن يكون مدهشا بين أطفال أجيالنا, وأطفال هذا الجيل?! بل وأن أتأمل أيضا كيف يرى الجيل الجديد من أبناء العرب الذين يعيشون في المهجر في عصر الفضائيات قضية فلسطين.

          كان أول ما لاحظته بعد القراءة الأولى لهذه الرواية, هو أن معظم أبطالها وهم مجموعة من الفتيان والفتيات الذين تتراوح أعمارهم حول العشرين, وأغلبهم دونها والذين ينتمون إلى هذا الجيل الذي يعرف بأطفال الحجارة, بما يعني أن عمرهم وعمر خبرتهم بالحياة تقترب من عمر الكاتبة ذاتها.

          الملاحظة الثانية كانت أن الأحداث والوقائع التي دارت حولها هذه الرواية, والتي أثرت في حياة شخصياتها كانت من نوع الأحداث التي كانت تشاهدها على شاشة التلفزيون أو تقرأ عنها فيما أتيح لها من الصحافة اليومية أو الأسبوعية أو الكتب وربما تفسر هاتان الملاحظتان كيف أفلتت الكاتبة من الوقوع في مأزق أن تكتب عمّا لا تعرف, فهي كتبت فقط من خلال ما تعرف, وهذا هو ما يهمنا الآن معرفته, معرفة كيف استقبلته الكاتبة, ماذا رأت فيه وما الذي توقفت عنده مما رأت? وكيف أعادت إنتاجه في شكل أدبي?

بناء الرواية

          تقع هذه الرواية في ثلاثة أجزاء, تتوالى عناوينها كالتالي: (واحد), (اثنان), (ثلاثة), أجزاء هذه الرواية تكاد تشبه أجزاء مقطوعة موسيقية من نوع خاص, الجزء الأول (واحد) يوشك أن يكون افتتاحية لهذه المقطوعة الموسيقية, فهو يقدم لنا بطل الرواية, اسمه إبراهيم, في مشهد واحد شبه ثابت يوجه سؤالاً واحداً بلهجة تهكمية لمجموعة من الشخصيات التي تحيط به والذين سنعرف فيما بعد أنهم بقية شخصيات الرواية.

          يقول لكل واحد منهم في إطار هذا المشهد

          - (هل أبدو لكم عبدا? لماذا أنا? ليس من العدل أن أذهب دائما إلى البئر لأحضر لكم الماء, لماذا لا تذهب أنت يا أحمد... يا وليد يا جهاد... إلخ) هؤلاء الذين كانوا يحيطون به وطبعا كان كل واحد منهم يرد عليه بطريقته بين الجد والمزاح, وهكذا ينتهي الجزء (واحد) من هذه الرواية بهذه الافتتاحية التي تعرّفنا على الأقل بأسماء شخصيات الرواية, ببعض سماتهم, بالجو المشحون الذي يعيشون فيه في إحدى القرى الفلسطينية في العام 1996, وتعرفنا وربما هذا هو الأهم بأن إبراهيم هو الشخصية المحورية التي تدور حولها بقية الشخصيات فهو الذي يحمل لهم الماء من البئر, هو خادم القوم الذي يكون سيدهم على الطريقة العربية, أما الجزء (اثنان) فهو الرواية كلها, تتواصل أحداثها وشخصياتها في تدفق لا يمكن إيقافه, لكن في إيقاع متناوب من التناثر إلى الالتئام وفي وحدات متتابعة تبدأ كل وحدة من التناثر وتنتهي بالالتئام, ثم يأتي الجزء (ثلاثة) كلحن الختام قصيرا مثل الجزء (واحد) الافتتاحية, وفي صورة انفجار فجائي, وإن كان متوقعا في ضوء انفجارات سابقة, ولكنه يضع نهاية مؤلمة كالنذير لهذه الرواية حيث يقضي هذا الانفجار على معظم أبطال الرواية, وكأنه إشارة تحذير لكل حالم بفلسطين! كيف نتوقى هذا المصير? لماذا لا نعود إلى البداية?

          الجزء (اثنان) يبدأ بـ(إبراهيم) بعد وقت من استشهاد والده, كان هذا الوالد هو بداية أسرة أصبح إبراهيم هو كل من تبقى منها, ولم يكن والده قد ترك له ميراثا أغلى من هذه الكلمات التي كان يرددها على الناس في المسجد, والتي كانت سببا في استشهاده, كان يقول للناس (لو جاء شخص واحتل بيتك, وأخذ حجرة نومك, ونام في سريرك وترك لك أنت وأسرتك مكانا صغيرا في صالة البيت, وقال: تعال لنعش في سلام? هل تقبل بذلك? أيّ سلام هذا يتحدث عنه هذا المغتصب? السلام لابد أن يقوم على العدل (حمل إبراهيم هذه الكلمات في مكان من قلبه, ورحل عن قرية عجز كما عجز أهلها عن أن يفعلوا شيئا لإنقاذ والده الذي استُشهد أمام أعينهم لمجرد ترديده لمثل هذه الكلمات في المسجد, وحين التقى في إحدى القرى التي مرّ بها بشاب في مثل سنه اسمه (نضال) لم يكن يدرك بشكل واضح ما الذي جعله يقرر البقاء مع نضال هذا في هذه القرية?! كان نضال هو الآخر بقايا عائلة, كان له أم وأخ يعتني بهما, وكان أبوه قد سافر إلى سوريا ليعمل في المكان الذي يمكن أن يكون فيه للعمل عائد يساعد به أسرته, ربما كان ما اجتذبه إلى نضال هذا أنه كان يبدو شابا يمتلك سلاما داخليا عظيما, وقد وجد إبراهيم - الذي كان قلبه يغلي بالنقمة - في ذلك شيئا غريبا أن يوجد شخص بهذه الرقة, واثق هكذا من دوره في الحياة, في مثل هذه القرية!

          وفي هذه القرية التي لا نعرف لها اسما, تقدم الكاتبة تلك الحادثة التي لا نعرف لها زمنا محددا, وكأنها الحادثة الأولى لما عرف (بثورة أطفال الحجارة), كان ثمة أربعة جنود إسرائيليين مسلحين يصرون على اقتحام أحد المساجد للتحقق من أن أحدا من الإرهابيين لا يختبئ فيه, تحاول جماعة من المصلين منعهم مما يرونه اعتداء على مقدساتهم, لكن الجنود بزهو القوة المتمثلة فيما يحملون من أسلحة يصرّون على اقتحام المسجد, يندفع شاب من قلب مجموعة المصلين لمنعهم, ولكن أحد الجنود كأنما بدافع خوف قديم لا يتردد في إطلاق الرصاص على الشاب الذي اندفع لمنع الجنود من اقتحام المسجد, فيسقط مضرجا في دمائه, ترتمي عجوز على الجسد المسجى لتعرف ماذا حدث لولدها فتنهمر عليها رصاصات الجنود هي الأخرى, كانت أصوات الرصاصات قد اجتذبت العديدين من أهل القرية ومن بينهم (إبراهيم) و(نضال), تتداعى الأحداث كأنما بفعل قدر قاهر لا يمكن لأحد أن يمنعه, فتمتد الأيدي, ومن بينها يدا إبراهيم ونضال إلى ما في الطريق من أحجار, ويتوالى قذف الجنود بالحجارة, تصور الكاتبة هذه الحادثة, كأنما لتعطي انطباعا قويا بأن ثورة الحجارة - ومهما يكن زمانها - بدأت هكذا, بتلقائية مذهلة, لم يخترها أحد, ربما نظمها أحد بعد ذلك, ولكنها لابد بدأت هكذا, وكأنها بذلك تقدم أول صورة رمزية مكبرة لفعل ثورة الحجارة أو صورة مصغرة للانتفاضة الثانية التي بدأت باقتحام (شارون) للمسجد الأقصى!

          وفجرت هذه الحادثة - التي فاجأت الجميع - في داخل إبراهيم ونضال مشاعر ومعاني ومخاوف مرعبة, كانت تلك أول مرة يشاركان في قتل أحد, زادتهما معرفة بما يدور في دواخلهما المظلمة, وبما يدور حولهما من أحداث أكبر من سنوات عمريهما, فعندما تحوّلت الحادثة التي كانا شهودا ومشاركين فيها إلى أخبار في تلفزيونات العالم, لم يقدم منها سوى الرجم الوحشي بالحجارة لمجموعة من الجنود الإسرائيليين, وقتل اثنين منهم, وكأنهما كانا في حال دفاع عن النفس, جاء هذا في تصريح (رابين), لم ترد إشارة إلى الشاب الذي أرداه الجنود, ولا إلى الرصاصات التي مزّقت جثمان أمه حين ارتمت على جثمانه!

          بعد وقت من هذا الحادث, وربما قبل أن يعرف (إبراهيم) و(نضال) حقيقة التغيير الذي بدأ يحدث في داخل كل منهما, وصل إلى القرية التي لا نعرف لها اسما حوالي ثلاثين لاجئا فلسطينيا, فقد كان لزاما عليهم أن يهجروا بيوتهم لأن الإسرائيليين قرروا أن بلدتهم كانت مقرا لجماعة إرهابية, وهكذا هدمت بيوتهم, وصارت بلدتهم قاعدة إسرائيلية, لم يكن لهؤلاء اللاجئين مكان يذهبون إليه, وما من أحد في القرية تردد في استضافة أسرة أو ما تبقى منها, وفق ظروف كل أحد, بدا هذا الفعل وكأنه اعتيادي, استضاف (نضال) مع أمه وأخته (إنجي) أخوين فقدا أبويهما هما (جهاد) و(ريهام), كانت ريهام في الحادية والعشرين من عمرها, وكان جهاد يصغرها بعامين وكان فتى خفيف الظل, دائم الابتسام, وكأنه لا يدرك حقيقة المأساة التي تحيط بالجميع, ومع ذلك فقد نجح أحيانا بما يملك من براءة وحيوية في أن ينسي إبراهيم ونضال - قليلا - بؤس الحرب, قال إبراهيم عنه في نفسه: إما أنه لم ير أهوال الحرب بعد بقدر كاف? وإما أنه واحد من الأشخاص القادرين على النظر إلى الجانب الإيجابي من الأشياء, وكان إبراهيم يفسر تعلق ريهام الشديد بأخيها وخوفها المبالغ فيه عليه بقوله لنضال:

          - حين يضيع منك كل شيء... بيتك... عملك... عائلتك فليس غريبا أن تتشبث بالإنسان الوحيد الذي بقى لك, تغمره بكل الحب الذي وددت لو أنك قادر على أن تمنحه لكل الأشخاص الذين لم يعد لهم وجود?!

          وكان إبراهيم يفسر لنفسه هذه المرة, ما بدأ يلاحظه من اهتمام خاص بين ريهام ونضال, بأنهما يشتركان في ذلك الشعور العميق بالمسئولية الخاصة, (نضال) عن أمه وأخته, و(ريهام) عن أخيها, وأن هذا ربما فقط كل ما كان يجمع بينهما, (ريهام) و(إنجي) أخت نضال أصبحتا صديقتين في وقت قليل! أما إبراهيم فقد بدا وكأنه مسئول عن الجميع بحكم شيء في تكوينه, أما في تلك الليلة التي قام فيها نضال من نومه مفزوعا من حلم كابوسي أطبق عليه, فقد خرج من بيته يلتمس نسمة هواء باردة, ربما يدخن سيجارة, فكانت المفاجأة الجميلة أنه وجد ريهام مستيقظة مثله في تلك الليلة كأنما هجرها النوم, وحدثته مجددا عن خوفها العميق على جهاد, (لا أحتمل فكرة فقدانه, قد يبدو لك هذا سخيفا كانت أمي توصيني به دائما, والآن أرى أمي في أحلامي تقول لي الشيء نفسه), (نضال لو حدث مكروه لجهاد لن أموت ألما فحسب, بل سأنكث بعهدي الذي قطعته لأمي, أنت أيضا تعتبره طفلا يا نضال هذا الحماس الذي يكنّه للحياة... تلك السذاجة!).

          ومع ذلك فلم يجرؤ (نضال) على أن يروي لـ(ريهام) الكابوس الذي أيقظه من النوم: كان ما رآه تلك الليلة شيئا شبيها بما حدث منه ومن الناس ومن إبراهيم يوم أن قذفوا الجنود بالحجارة ولكن ما حدث في الكابوس كان هو الذي أقلقه وأرعبه, فقد استمروا في قذف الجنود بالحجارة لكن ما كان يدعو إلى العجب أنهم كلما رموا حجارة ازداد عدد الجنود حتى يظن المرء أنهم سيتزايدون إلى مالا نهاية. كانوا جميعا بزيهم العسكري, والنظرة المتوعدة في أعينهم, ساعتها أدرك نضال أن الحل الوحيد لوقف تضاعفهم المستمر هو التوقف عن رشق الحجارة, ترك الحجر يسقط من يده, وهرول نحو أبناء شعبه, صارخا, متوسلا أن يتوقفوا لكن بلا جدوى, في تلك الليلة لم يَرْو نضال لريهام شيئا عن الكابوس الذي رآه وربما لم يفكر في سبب ذلك! اعترف فقط بحبه لها في كلمات بسيطة, كانت هي التي قالت له وكأنها تقدم اعتذارا لحبه (هذه الحرب هي مصيبتنا, لاحقت آباءنا, وعذّبتهم, وهي الآن تلاحقنا, وستلاحق أبناءنا, لماذا لا يفعل سائر العالم شيئا?).

منابع الكابوس

          من أي واد سحيق في داخل (نضال) نبعت هذه الفكرة التي تقنعت بهذا الكابوس? (أن يكون الكف عن إلقاء الحجارة هو الطريق لمنع تكاثر الجنود وكأنه بلا نهاية?!

          ربما لم يكن يعرف حقيقة ما بداخله! ربما كان هذا الصبي (جهاد) الذي تخاف عليه أخته لفرط سذاجته وحبه للحياة, هو الذي سمح لهذه الفكرة التي كان نضال يقمعها في داخله بأن تظهر خلال هذا الكابوس!

          كان (جهاد) قد أصبح واحدا منهم, وكان هو - ربما بحكم هذه السذاجة - الأكثر إثارة للجدل فيما كان الناس يتجادلون فيه كل يوم حول أي الطرق أجدى لحل القضية: التفاوض أو العنف أو هما معا?

          كان جهاد يقول: لا يمكننا الاستسلام لفكرة العنف, لقد ضقت ذرعا برؤية الناس يموتون, منذ ولدت وأنا أحيا في حال حرب, أريد أن أموت في بيتي, في التسعين من عمري, أثناء نومي, لا في العشرين بطلقة رصاص, لو توقفنا يوما عن اللجوء إلى العنف ماذا سيفعلون? أسيستمرون في التقدم بالدبابات والرشاشات?

          وكان هو نضال في ساعات اليقظة الذي يقول لجهاد:

          - اسمع يا جهاد كل هذا منتهى النبل, لكنهم لا يفكرون بالمثل, هم لا يتساءلون إذا ما كان ربهم يقبل العنف, لقد قاسوا واضطهدوا, وبدلا من أن يتعلموا من ذلك, بدلا من البحث عن السلام لنا ولهم يأتون لاحتلال أرضنا, ويطلقون النار على ضحاياهم دون حتى النظر إلى وجوههم.

          وكان إبراهيم هو أيضا يقول له:

          - جهاد لقد حاولنا ألف مرة, وألف مرة نقضوا الاتفاقات فعلوا ذلك متحدين العالم كله, أنا أريد الانتصار, لا شيء آخر, أريد أن أعيش في بيتي في هدوء, دون أن أخشى أن يأتي أحدهم من يوم لآخر ليطالب بأرضي ولأنه كما كان يقول أبي: لا سلام دون عدل!

          نعم هذا ما كانا يقولانه لجهاد في اليقظة, ولكن هاهو نضال يكتشف أنه يمكن أن يتكلم وهو نائم لغة أخرى لا يجرؤ أن يصارح بها (ريهام) والتي اكتفى بأن يصارحها بحبه! كان هذا جزءا من حال نضال أما حال إبراهيم. فلم يكن يتوقف كثيرا أمام النتائج القريبة أو الحاسمة التي كان يمكن أن يصل إليها مثل هذا النقاش.

          كان وهو يتكلم ويستمع إلى ذلك النقاش يستمع أيضا إلى أصوات والدة نضال وإنجي وريهام ينبعث صداها سعيدة من المطبخ, وكان ذلك كله يعطيه شعورا بالانتماء لأسرة, إحساسا كان مجهولا تماما بالنسبة له, لم يجربه من قبل, فالأب ليس بأسرة, أب مثل والد إبراهيم لم يكن سوى أب فقط, وليس أسرة, الآن كان جلوسه هناك مع أناس يحبّونه, يسمع أصواتا لها أجراس مختلفة, نبرات متغايرة في كل مرة, يستطيع العيش معهم مدى الحياة! لم يكد في ذلك اليوم يكتمل عنده ذلك الإحساس بأنه قد أصبح أخيرا له أسرة حتى تناهت إلى أسماعه أصوات طلقات الرصاص بعد لحظات من هذا الشعور, في تلك الليلة كان إبراهيم قد أدرك ربما قبل أن يطلع الصباح أن مثل هذا الحلم المتواضع غير مسموح له به, كان الجنود قد عادوا مرة أخرى, وجدوا طريقهم إلى تلك البقعة التي تضم أسرته! ليعود هو وهذه الأسرة مجرد أفراد متناثرين, مجرد شاردين يحاولون عبثا اللحاق بتلك الشاحنات التي تظهر في مثل هذه الأحوال لتلتقط من ينجح في اللحاق بها من أمام رصاصات الجنود.

رؤية من بعيد

          عند هذه النقطة تكون هذه الرواية قد أعطت قارئها واحدا من أهم مفاتيحها, فما سيحدث بعد ذلك قد يختلف في بعض تفصيلاته عما مضى, ولكنه سيمضي متسقا مع ذلك القانون التي بدأت تتضح معالمه من خلال تلك الرؤية عن قرب للوحدة الأولى من هذه الرؤية حيث يظهر واضحا ذلك الإيقاع المتناوب لفعلي التناثر والالتئام, فدائما كان الجنود يأتون دون سابق إنذار من مكان ما, لسبب ما, المعلن غالبا هو تأمين المناطق من الإرهابيين ثم تسمع أصوات الرصاصات فتترك بعض الأسر, أو ما تبقى منها, بيوتهم إلى أماكن قد لا يصل إليها الجنود, ولكن هذه البقايا الشاردة من المذبحة لا تبقى أبدا مجرد بقايا, إنها بطريقة ما تتجمع تلتئم, تصبح أسرة جديدة, أسرة بديلة, قد لا تجري في عروق أفرادها دماء العائلة الواحدة, لكن تجري في عروقهم دماء جديدة هي دماء الصداقة أو الحاجة إلى التكافل والمحبة, هذا الفعل العبقري التلقائي من أفعال الحياة هو ما كانت هذه الرواية تسعى إلى اكتشاف كيف يعمل? إلى اكتشاف قانونه, لو كان له قانون! في مقابل فعل الموت الذي كان يحدث عندما تنطلق رصاصات الجنود, في تلك الليلة توقفت شاحنة يقودها سائق اسمه محمد ليلتقط هؤلاء الذين لم يدركوا الشاحنة السابقة, كان هؤلاء هم أسرة إبراهيم, لم يكن السائق يعرف عنهم شيئا, الخوف الذي رآه في عيونهم هو الذي أجبره على الوقوف ليلحقوا بالشاحنة, مع أنه كان قد أصبح بمن معه من الركاب السابقين في مرمى رصاص الجنود أدرك أن هذا الخوف سيبقى يلاحقه إلى آخر يوم في عمره لو لم يقف ليلحقوا بالشاحنة, جميعهم لحقوا بالشاحنة عدا أم نضال, كانت عجوزا لم تقدر على مواصلة الجري, وربما لم تجد معنى لمغادرة البيت الذي عاشت فيه كل حياتها, وربما أصابتها مثل الآخرين بعض الرصاصات, ولكنهم جميعا كانوا قادرين على اللحاق بالشاحنة بالرغم من الرصاصات التي أصابتهم, ما عداها, طوال الطريق إلى المستشفى الذي يعمل به السائق حمد كان أكثر الركاب يصرخون أو ينزفون أو يساعدون أو يتساءلون عمن ركب ومن لم يركب من ذويهم كانت (أم نضال) هي أول من نقص من الأسرة, أما (إنجي) شقيقة نضال, فقد قضت نحبها في الطريق دون أن يعرف أحد إلى من تنتمي بل دون أن يتأكد أحد من حقيقة موتها, بقية مَن كانوا أسرتها كانوا في حالات متفاوتة من الغيبوبة نتيجة النزيف أو الصدمة, ما حدث بعد ذلك في المستشفى من إنقاذ من أصيبوا, ومن إدراك للحقائق الأليمة, ومن صدمة الإدراك إلى ضرورة التقبل, وبالأخص تقبل تلك النعمة التي لم يدرك أي من أفراد أسرة إبراهيم كيف حدثت إلا بعد أن فتحوا عيونهم ليجدوا أن السائق محمد الذي أنقذهم حين التقطهم بشاحنته هو الذي نقلهم جميعا إلى بيته حين اكتشف أنه لم يكن لأي منهم في هذه البقعة قريب أو بيت. لندع القارئ هنا يتأمل الطريقة التي تصوّر بها الكاتبة الصغيرة عبقرية الحياة في مواصلة مسيرتها - مع من بقي من هذه الأسرة ومن سينضم إليها في وقت لاحق - ضد الموت, لم ترفع شعار الحزب أو الوطن أو الدين, بل كانت تبحث عن نسغ الحياة والإنسانية, كان السائق محمد الذي نقل إلى بيته من تبقى من هذه الأسرة يقول لصديقه الدكتور (رامي) وهو شاب في مقتبل العمر يعمل في المستشفى, ويسكن مع السائق في بيته وهو مسيحي, يقول له: (لقد تعبت من كثرة الدماء التي عليّ أن أغسلها كل يوم من على شاحنتي, تعبت من رؤية الموتى, من رؤية عيونهم الشاخصة من عجزي عن إغلاق كل هذه العيون!

          فيقول له رامي الذي له خبرة طبيب برؤية الموت حتى مع صغر سنه, يقول له: الموت دائما صدمة يا محمد حتى لو رأيناه كل يوم!

          (لندع القارئ يتأمل سلوك (نضال) بعد الزلزال الذي حل به بفقد أمه وأخته, وأصبح وحيدا مع الألم, ماذا ستفعل له صداقة إبراهيم? وحب ريهام? وما الذي يدعوه بالرغم من هذه الصداقة وهذا الحب لأن يتخذ قرارا بأن يغادرهم جميعا? وحين يقول له إبراهيم: حين فقدت والدي كدت أجن من الألم, لكن ذلك كان من العبث, لأننا لا يمكن أن نهرب من الألم لقد ارتكبت خطأ حين...

          فيقول له نضال: حسنا, دعني أرتكب هذا الخطأ أيضا, اسمح لي بعمل ما أحتاج إلى عمله حتى ولو كان خطأ, ومَن يدري ربما أعود لكم شخصا أفضل, ويغادرهم, وجميعهم يتعلق بهذا الأمل الواهي بأنه لابد عائد يوما ما فهل يعود? (لندع للقارئ أن يتأمل ماذا سيحدث للأسرة, للقدامى والجدد حين يتركهم نضال?

          ماذا يحدث لإبراهيم الذي كان لا ينام إلا بعد أن يطمئن على أن كل فرد قد آوى إلى فراشه, أصبح يغيب أحيانا عن البيت ليلة كاملة ثم يأتي في اليوم التالي دون أن يقول لأحد أين قضى ليلته? ولماذا?

          وماذا يحدث لريهام التي تكاد تجن بسبب قلقها على غياب إبراهيم, وحين يعود في اليوم التالي فإنها لا تترك كلمة من كلمات الغضب والاحتجاج والسباب دون أن تقولها له وماذا يكون رد فعل إبراهيم عليها? وعلى أي شيء تدل هذه المشاجرة الفريدة التي يعجز الرفاق الجدد عن فهم ألغازها والتي تختلط فيها الحدود بين الاهتمام والتسلط والمحبة والفضول والغيظ.

          هي خناقة من النوع الذي لم يكن قادرا على فضّها أو فهم ألغازها إلا شخص مثل نضال, لكن أين نضال الآن? أم أن غياب نضال كان في الحقيقة أحد أسبابها? من كان بمقدوره أن يميط اللثام عن ذلك?

          وكيف يمكن أن يصل الأمر إلى حد أن ريهام تقرر هي الأخرى مغادرة العائلة حين بدا لها أن إبراهيم لا يبالي بغضبها بل ولا يحتمله?!

          وماذا يبقى من العائلة حين يضطر جهاد لأن يلحق بأخته لأنه لا ينبغي لها أن تمضي وحدها هكذا إلى المجهول? لم يعرف أحد ماذا يفعل? ولا حتى إبراهيم الذي كان عمله هو حل كل المشكلات حين يصبح هو المشكلة?! لم ينقذ العائلة من هذه المصيبة كالعادة إلا مصيبة من نوع أكبر, جرحى آخرون, في يوم كان فيه محمد السائق يقوم في المستشفى بعمل آخر, وقد ترك شاحنته أمام البيت, ويجد إبراهيم الذي لم يقد في حياته شاحنة مرة واحدة - نفسه مندفعا بقوة لا قبل له بمقاومتها لقيادة الشاحنة ليحمل بعض هؤلاء الجرحى إلى المستشفى, وليعود بعد معالجة سريعة باثنين منهم أحمد وأخته أشجان إلى بيت محمد وكأنه بيته, وكأنه يستكمل العدد الناقص برحيل جهاد وريهام, كان مثل هذا الفعل الاستثنائي هو وحده الذي يمكن أن يجعل محمد ورامي يغفران له ما فعله مع ريهام, حتى وإن لم يفهما أبدا سر ما حدث! في اليوم التالي عادت ريهام وجهاد وحدهما, وعادت الحياة بمن في المنزل سيرتها, وكأنه لم يكن أمام الجميع بديل لذلك, كانت تلك عبقرية قوى الحياة الغامضة التي تعمل في مثل هذه الظروف بمثل هذه التلقائية, على كل واحد أن يمتص جراحه وعلى كل واحد أن يمد للآخر يدا ودون أن يكثر من الأسئلة, كان ذلك هو قانون تلك الأيام الذي لا قانون سواه! إبراهيم يسبق ريهام إلى الاعتذار دون شرح لأي أسباب ويواصل إبداعه لدور الأب في هذه الأسرة, كان قد أدرك في لحظة استبصار خاطفة أن موقفه الحاد من (ريهام) من قلقها الشديد بسبب غيابه هو خوفه الكامن من أن يُحِبّ أو يُحَبّ! كان الدور المطلوب منه دائما أكبر من أن يسمح له بالوقوع في ضعف الحب, أن يكون أسيرا لشخص واحد يخشى عذاب الانفصال عنه, كان عليه أن يبقى مِلْكا للجميع, وهكذا كان إبراهيم جاهزا مرة أخرى لكي يواصل إبداع دور الأب حين يلاحظ الجميع أن تغيرا ما يحدث في سلوك الدكتور رامي, سلوكه يتردد دون منطق واضح بين الحزن المفاجئ والمرح المفاجئ والشرود في كثير من الأحيان, من يقدر على مفاتحته في أمر مثل هذا هو الذي لم يصرح لأحد بشيء, إبراهيم هو الذي يتولى الأمر كله, بخبرة شخص درّبته الحياة طويلا ليقوم بدور الأب, وحين يعرف أن رامي واقع في قصة حب مع فتاة إسرائيلية في إحدى المستوطنات القريبة من مجموعة إسرائيلية من دعاة السلام مع العرب, فماذا يكون من أمر رامي? وماذا يكون من أمر إبراهيم وكيف يسيران معا - دون صدام - على الحدود الفاصلة بين مملكة القلب ومملكة الحرية, ومملكة الصداقة, وهي كلها محاطة بممالك من الخوف والكراهية والشكوك?

          لنترك للقارئ حرية أن يتأمل في ذلك كله قبل أن يقول لنا أحد وهل تركت للقارئ شيئا يا رجل?

          سيكتشف القارئ أنني تركت له الكثير مع عودة نضال فجأة مثلما ذهب فجأة, مع أحمد مدمن القراءة, ومع وليد الذي لا يجد معنى للالتحاق بالمدرسة, ومع جيل الأطفال الذين استبدلوا بملابس الديناميت الحجارة...!

          الجيل الذي يقدم إنذارا لمن يرى أو يسمع في الفصل الأخير (ثلاثة) من الرواية والذي يجعل إبراهيم يقول لنفسه أو للقارئ أو للدنيا

          (ما الألم الذي سيسببونه لنا ثانية?

          ما الذي بقي ليدمّروه?

          مَن الذي بقي ليقتلوه?

          متى سينتهي كل ذلك?

          سيأتي يوم لن يبقى فيه شيء للتدمير

          لن يبقى فيه إنسان للقتل

          وساعتها لاشك سيتوقفون

          وساعتها لاشك سينتهي كل ذلك الألم

          أيمكن أن تكون تلك هي الطريقة الوحيدة لانتهاء كل هذه الآلام?)

          إن هذه الرواية لا تقدم اقتراحات للإجابة عن مثل هذا السؤال, ولكنها تقدم رؤية من بعيد لشابة ربما يكون من المهم أن نتأمل صورتنا في مرآتها.

 

أبوالمعاطي أبو النجا   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات