الجراحون من عصا الحلاق إلى إدارة المستشفيات

الجراحون من عصا الحلاق إلى إدارة المستشفيات
        

يحفل تاريخ الطب بمنجزات ومدهشات تضيء ما وصلت إليه التطورات الحديثة والمفاهيم الطبية المعاصرة, والجراحة تحتل مكاناً متميزاً في هذا كله.

          بعد أن يجتاز طلبة كلية الطب امتحان السنة الدراسية السادسة, يتوجهون, بعد عطلة قصيرة, إلى المستشفيات الجامعية حيث يتلقون سنة كاملة من التدريب العملي في الأقسام المختلفة التي تضمها المستشفى. سنة يتخلى فيها الطالب عن صفته ليحمل صفة الطبيب لأول مرة, طبيب امتياز.وتنقسم هذه السنة إلى ستة أجزاء بواقع شهرين في كل قسم (شهران في قسم الباطنة العامة, شهران في قسم الجراحة العامة وشهران في قسم الأطفال وشهران في قسم النساء والتوليد وشهران في قسم الحوادث والتخدير ويتبقى شهران يختار الطالب أو طبيب الامتياز, أن يقضيهما في أحد فروع الجراحة الخاصة أو الباطنة الخاصة), ويلاحظ أطباء الامتياز خلال هذه السنة فارقا بين أطباء الأمراض الباطنية من جهة وبين الجراحين من جهة أخرى, فارقا في طريقة الأداء, في التعبير, في السلوك وفي الألفاظ التي يستخدمها كل فريق. فبينما يتحلى أطباء الأمراض الباطنية بالهدوء والتأني وكثرة الأسئلة التي يوجهونها إلى المريض وفحصه ببطء من الرأس إلى القدم. يمتاز الجراحون بالإيقاع السريع والحدة وكثرة الحركة وقلة الكلام وسرعة إصدار الأحكام. وربما يسأل البعض من أين يأتي هذا الاختلاف: هل هذا هو الأثر الذي تتركه طبيعة التخصص على الشخصية أم أن اختلاف الشخصيات من البداية هو الذي يدفع خريجي كلية الطب نحو اختيار التخصص الذي يناسب تكوينهم الشخصي? وبعد أن ينتهي الطلاب من هذه المرحلة يتسلمون شهادة إتمام الدراسة والتدرب في كلية الطب. وربما تلهي الفرحة والخفة الكثيرين منهم عن قراءة السطور قراءة متأنية, والتي قد تحمل مزيدا من الأسئلة, تقول السطور (قررت كلية الطب جامعة... وبعد الاطلاع على نتيجة الامتحان المنعقد في شهر.. منح الطالب.. درجة البكالريوس في الطب والجراحة بتقدير..). الشعار المرسوم في أعلى اللوحة يقول إنها كلية الطب وفقط دون إضافات أخرى والسطور الداخلية تقول إن الشهادة التي تمنحها كلية الطب هذه هي درجة البكالريوس في الطب وفي الجراحة. هل يعني هذا شيئين مختلفين?

          تهدف القصة التي نرويها إلى تفسير اللحظة الراهنة, وتقتضي هذه المهمة العودة إلى الوراء, إلى الماضي حيث تختبئ مفاتيح (الآن) الذي يقف عاجزا عن فتح أبواب المستقبل دون هذه المفاتيح. فقصة الطب والجراحة والجراحين تشكل نموذجا مثاليا لمسيرة الإنسان, الذي يصعب علينا - في سباق الزمن الطويل والذي لم ينته بعد - أن نحدد خط البداية الذي وقف عليه لأول مرة قبل أن ينطلق لاهثا - دون توقف, باحثا - دون كلل, عن إجابات لأحجية الكون غير مدرك - طوال هذا السباق - أنه لا يفتش إلا عن نفسه.

          لم يكن إنسان ما قبل التاريخ بعيدا عن أصول العلم الطبيعي, فعلاقته مع أشياء العالم من حوله أكسبته قدرا من المعرفة المتراكمة أهلته لاكتشاف النار وصناعة الأدوات من الحجر والمعدن يدافع بها عن نفسه, ويؤكد بها أنه سيد هذا الكوكب الغامض, لكن السيادة على الكوكب تقتضي معرفة من نوع آخر, معرفة قادرة على فك الغموض, فجمح الخيال وحلق متجاوزا الواقع الملموس, فسقط في أسر الأساطير والسحر ومن بعدهما الكهانة. هكذا, وفي تلك اللحظة البعيدة برزت معالم الثنائية التي حكمت المسيرة الطويلة للإنسان والمعرفة: العمل اليدوي (جمع الثمار, الصيد, صناعة الأدوات), والتأمل فيما وراء الواقع المباشر (نسج الأساطير, السحر, الكهانة).كان هذا الإنسان الأول نفسه يدخل في معارك شرسة مع الحيوانات المفترسة فيقتل أو يصاب فتعلم كيف يداوي جراحه, وفي الوقت نفسه كانت تتكالب عليه الأمراض فتعلم كيف يعالج نفسه. فإلى من أوكلت مهمة علاج الآخرين من الأمراض ومداواة الجروح. عثر علماء الباليوباثولوجي (علم أمراض ما قبل التاريخ) على جماجم عمرها أكثر من عشرة آلاف سنة وقد أجريت لها عمليات تربنة ناجحة, فمن الذي أجرى هذه العمليات?! وعثر أيضا على عظام بها آثار لكسور التأمت بشكل صحيح, فمن الذي أعاد الاستقامة إلى هذه العظام وقام بتجبيرها?! هل كان هناك متخصص واحد يعالج الأمراض, ويضمد الجروح, ويجبر العظام ويجري عمليات التربنة?! المرجح أن الشامان أو الساحر كان هو المختص بكل ذلك.

الشرق القديم واكتشاف الزراعة

          ظهرت الحضارات الأولى على ضفاف الأنهار مع اكتشاف الزراعة, وحدثت أول ثورة حقيقة في تاريخ الإنسان. فقد ارتبطت الزراعة بمعرفة الفصول والأحوال الجوية وهو ما يستدعي إلماما بالفلك والنجوم ومن هنا ظهرت التقاويم. وتستوجب الزراعة التعامل مع مياه الفيضان التي تغمر الأرض وهو ما دفع نحو إقامة السدود والجسور والمصارف في محاولة للسيطرة على النهر الغاضب, وهكذا ظهرت الهندسة علم حركة السوائل. وتعتمد الزراعة على آلات بسيطة للحرث والحصاد تصنع من الحديد مما يعني ضرورة البحث عن المعادن ومعرفة التعدين. وينتج عن الزراعة فائض غذائي يمكن مقايضته ويصلح جزء منه للحفظ والتخزين أو النقل فيفرض ذلك وجود نظام للقياس والعد والتسجيل فابتكر الإنسان الكتابة والحساب.هكذا ظهر العلم في الشرق القديم, شديد الارتباط بالواقع العملي, بالنفع العام, فظلت العلوم مرتبطة بهذه النظرة العملية النفعية, تسعى إلى تطوير الواقع والسيطرة عليه. وكان هذا الواقع لا يزال محكوما بالكهانة والسحر والأسطورة, فأصبح العلم حكرا على الكهان في المعابد, وأصبحت المعابد مؤسسات للحكم تقبض على الواقع وعلى العلم المرتبط بهذا الواقع.

          ويفرض الواقع العملي أيضا ضرورة الحفاظ على صحة المنتجين, أي الفلاحين فظهر الأطباء كفئة من المتخصصين لها حضورها وهيراركيتها ووضعها المميز في هذا المجتمع الطبقي الجديد. فهل كان كل الأطباء يعالجون كل الأمراض? أم تخصص بعض الأطباء في علاج أمراض عضو محدد من أعضاء الجسم? يقول هيرودوت عن الطب المصري القديم في الفقرة الرابعة والثمانين من الكتاب الثاني (وفن الطب موزع بينهم توزيعا مبنيا على الحكمة, حتى أن كل واحد منهم لا يتعاطى إلا فرعا واحدا من فروع الطب لا أكثر. والأطباء هنا كثيرون جدا, فمنهم طبيب لأمراض العين, وطبيب لأمراض الرأس, ومنهم للأسنان ومنهم لأمراض البطن وما يجاورها من الأحشاء, ومنهم للأمراض الداخلية). يشكك الباحثون في صحة هذه المعلومة التي ينقلها هيرودوت, ومعهم الحق في ذلك, فحتى الآن وفي أكثر الدول تقدما ليس كل الأطباء من المتخصصين فهناك الجراحون وهناك أطباء لأمراض القلب وأطباء لأمراض العين, وهناك الممارس العام الذي يعالج كل الأمراض. لكن ربما يدعم ما نقله هيرودوت أن بعض البرديات الطبية المصرية القديمة والمحفوظة حاليا في متاحف العالم هي برديات متخصصة: فبردية (كاهون) المحفوظة في لندن تختص بالأمراض النسائية دون غيرها من الأمراض, وبردية أدوين سميث المحفوظة في الأكاديمية الطبية بنيويورك تعرض لإصابات الرأس والرقبة والجزء العلوي من الجسم أي الصدر والذراعين دون غيرها من الأمراض. وتحتفظ البرديات المصرية بالسيرة الذاتية لعشرات من الأطباء مع إشارة واضحة لتخصص كل منهم. ويرجح الباحثون أن لقب (كاهن سخمت) يعني الجراح فقد ورد في بردية ادوين سميث (إذا وضع أي طبيب أو كاهن سخمت يده على مؤخرة الرأس...), ووردت العبارة نفسها مع تعديل طفيف في بردية أيبرز. وسخمت هي إله بجسد امرأة ورأس لبؤة تحب الدم وهي قديسة النار, ولأن مشرط الجراح يدمي, ويعالج الجروح بالكي أي بالنار, فربما كانت سخمت هي قديسة الجراحين, فهل كان كهنتها حقا هم الجراحين? أيا كان الأمر, فالتخصص تفرضه الضرورة العملية وليس مجرد الرغبة في التخصص. ولا يذكر لنا تاريخ مصر القديمة ما يشي بتعالي الأطباء على الجراحين أو العكس, ورغم أن التخصص يعني بشكل أو بآخر وجود درجة من التقدم لا ينتقص منها على الإطلاق ذلك المزج القوي بين المادية التجريبية من جهة وبين الممارسات السحرية - الدينية من جهة أخرى. فالحضارة التي لا ترى في الموت نقيضا للحياة بل حياة أخرى لن تتردد في المزج بين المرئي وغير المرئي, ولن تفاضل في روافد العلم والمعرفة بين العمل اليدوي والتأمل.

اليونان واحتقار العمل اليدوي

          ينقسم علم اليونان إلى مرحلتين, الأولى هي الهيلينية إبان سنوات المجد الأثيني المستقل. في تلك المرحلة استفاد الإغريق من علم الشرق القديم وأقاموا منظومة فكريةعلى غير مثال, بعد أن نفضوا عن المعرفة القديمة تعاويذ الساحر وطقوس الكاهن من جهة, وقطعوا صلتها بالتجربة العملية من جهة أخرى, فجاءت الفلسفة اليونانية, أي العقل النظري والعلوم الاستنباطية, التي دأبت على احتقار العمل اليدوي وتقسيم البشر إلى سادة مهمتهم التأمل العقلي الخالص وعبيد, ليسوا من البشر أساسا كما رآهم أرسطو, يمارسون الأعمال الحقيرة مفسحين كل الوقت للسادة الأحرار المتأملين في الكون والإنسان. ويرى البعض أن الطب كان العمل اليدوي الوحيد الذي أفلت من هذا الاحتقار, لكن الصحيح في رأينا أن نظرة هؤلاء إلى الطب تختلف عن نظرة السادة من الإغريق الذين لم يروا في الطب عملا يدويا من الأساس, فالطب الإغريقي نشأ في أحضان الفلسفة, ويقال إن الجهد الأساس لـ (إيبوقراط) مؤسس الطب الغربي تمثل في فصل الطب عن الفلسفة, أي البعد عن التجريد وتمجيد الملاحظة الإكلينيكية. لكن هل نجح إيبوقراط نفسه في الانفصال عن العقل الفلسفي العام? في المقطع الثالث من القسم الشهير المنسوب له والذي ترجم إلى كل اللغات, يقسم إيبوقراط أن (أقضي حياتي ممارسا لمهنتي بكل نقاء وطهارة, وألا أمارس العمليات الجراحية, تاركا إياها للمختصين بها). ليس هنا موضع للالتباس فطب إيبوقراط, أي طب الإغريق, شيء والجراحة شيء آخر. ويبدو واضحا هنا تأثر إيبوقراط بالفيثاغورثيين, الذين يعتقدون أن الروح مستقرها الدم, لذا يجب عدم إسالة الدماء, ولا  توجد جراحة دون إسالة للدماء. ورغم ما ينسب إلى إيبوقراط من كتابات في تصنيف وعلاج كسور الجمجمة, وما يقال عن براعته في تثبيت الكسور وعمل الدعامات اللازمة لذلك, فيبدو أن هذا لم يكن يعد عملا جراحيا!! أما الفعل الجراحي (الفصد وعلاج الجروح وغيرهما من عمليات جراحية بسيطة) فكان وقفا على من يقوم به, ولم يكن هؤلاء من الأطباء المعتمدين بأي حال بل كانوا من العبيد الذين يمارسون الأعمال اليدوية الوضيعة, لكنهم كانوا فئة خاصة من العبيد مهمتها رعاية المصارعين الذين يقومون بمهمة شاقة هي القتال حتى الموت من أجل تسلية السادة المفكرين.

          أما المرحلة الثانية في العلم اليوناني فهي المرحلة الهيلينستية, أي المرحلة التي امتزج فيها علم اليونان بعلم الشرق في الإسكندرية, وشكلت هذه المرحلة محاولة جادة لإحياء العلم.

          ورغم تطور علم التشريح والفسيولوجيا تحديدا خلال هذه الفترة الخصبة فإن هذا العلم الهيلينستي سقط هو الآخر في خضم الصراعات بين المذاهب الفلسفية المختلفة. ولم يستفد لا الأطباء ولا الجراحون من هذه التطورات المذهلة في وقتها. واستمر العلم محصورا في فئة بعينها, لا تفتش عن بديل لسواعد العبيد, ولا تحلم بتغيير أحوال العالم, فعزل العلم عن جذره الاجتماعي وفصل عن عالم التطبيق.

          وبشكل عام كان الأطباء في الدولة الرومانية من العبيد الإغريق الذين اعتقوا فيما بعد. ولم يتطور الطب في الدولة الرومانية إلا بعد وصول العديد من الأطباء الذين تلقوا علمهم في الإسكندرية وظهرت مدرسة للجراحين في بومبي عثر فيها على الكثير من الآلات الجراحية المحفوظة في المتاحف الآن. وهناك العديد من مشاهير الأطباء الذين يحفظ لنا التاريخ أسماءهم وأعمالهم وكتاباتهم التي أثرت الطب في الماضي والحاضر, لكن أكثر هذه الأسماء أهمية هو جالينوس. ولد جالينوس في برجام بآسيا الصغرى وتلقى العلم أولا في بلده ثم في الإسكندرية التي انطلق منها إلى روما. لكن ما يلفت النظر في هذا الاسم الكبير في الطب أنه بدأ حياته أساسا كـ (جراح مصارعين) ويرى البعض فيه (مؤسس الطب الرياضي)!! وعندما أصبح اسما مهما في عالم الطب والأطباء لم يتوان عن إبداء الكثير من الاحتقار للجراحة تلك المهنة التي لم يتعرف عليها إلا من خلال الرعاية المقدمة للمصارعين في سيرك برجام وروما, وللعبيد ضحايا إصابات العمل, وهما مهنتان محتقرتان من قبل معاصريه!!

          يتضح من هذا العرض أن العالم الإغريقي - الروماني كان يفصل فصلا حادا بين الطب باعتباره عملا عقليا خالصا وبين الجراحة باعتبارها عملا يدويا وضيعا. ومازالت اللغة تحمل هذا المعنى, إلى الآن, فكلمة الجراحة في اللغات الأوربية مستمدة من أصل لاتيني هو Chirurgia وهي كلمة مكونة من مقطعين: Cherios وتعني يد, وErgon وتعني عمل, أي أنها (الجراحة) صنعة اليد أو عمل اليد كما ترجمها العرب القدامى!! ولعل أول من استخدم كلمة (جراحة) بدلا من (صناعة اليد) هو الطبيب والجراح العربي ابن القف الكركي (1233 - 1286) في كتابه (العمدة في الجراحة).

في العصور الوسطى

          لم يتغير الوضع كثيرا عشية سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية وقيام الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية), فلم تكن بيزنطة مؤهلة للقيام بمسئولية تطوير العلوم القديمة, وعاش العالم زمنا طويلا في حالة من الفراغ السياسي والعلمي استمرت ما يقرب من الألف عام, تمتد من القرن الخامس الميلادي حتى الرينيسانس (العصور الوسطى), وأصبح العالم مهيأ لاستقبال قوة جديدة, فظهرت الدولة العربية الإسلامية التي تمكنت من السيطرة سياسياً وعقلياً على شرق المتوسط وامتلكت من الطموح ما يؤهلها لوراثة العلوم القديمة وتطويرها.

          ويعد كتاب بول ديوجين (ت: 690 ميلادية) (تلخيص الطب), في سبعة أجزاء, من العلامات البارزة في الطب والجراحة خلال تلك الحقبة الطويلة. قام ديوجين في هذا الكتاب بتصنيف الأمراض الجراحية كما يمارسها جراحو القرن العشرين: الأمراض التي تصيب الأجزاء الرخوة والأمراض التي تصيب العظام. ووصف بدقة بعض العمليات الجراحية مثل شق القصبة الهوائية, واستئصال العقد العصبية, والأورام السطحية, وعلاج تمدد الأوعية الدموية, وشفط واستسقاء البطن واستسقاء كيس الصفن. وأصبح هذا الكتاب هو الأساس الذي قامت عليه الجراحة العربية فيما بعد, وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزه الطب العربي على يد الكثير من الأسماء اللامعة التي نحفظها جميعا فإن العرب ورثوا من اليونان احتقار الجراحة, لذا لن يكون من المدهش أن يعبر ابن سينا (ت: 1037 ميلادية) عن هذا الرأي قائلا: إنها من الصناعات اليدوية ولا تستحق أن ترفع إلى مقام الطب. وفي الوقت نفسه كان أبو القاسم الزهراوي في الأندلس (ت: 1013 ميلادية) يؤسس للجراحة الحديثة مستلهماً بول ديوجين ومبتكرا في نواح عدة. أكد الزهراوي للمرة الأولى أنه لا يوجد فاصل حقيقي بين الطب والجراحة, لأن الجراح الجيد يجب أن يكون على دراية بالاثنين, وهو الشيء الذي ظل منسيا في الغرب والشرق زمنا طويلا. وظل كتاب الزهراوي (الترصيف لمن عجز عن التأليف) المصدر الذي اعتمد عليه جراحو العصور الوسطى في أوربا وعلى رأسهم جي دوشولياك وأمبرواز باريه. يمكننا أن نستنتج من ذلك وجود مدرستين في العلم العربي: مدرسة تعلي من قيمة الطب باعتباره عملا عقليا محترما ونتاجا للفلسفة وبالتالي تحتقر الجراحة باعتبارها صنعة يدوية حقيرة, ومدرسة أخرى لا ترى الرأي نفسه بل تجعل من الجراحة الجناح الآخر الذي لا تستطيع مؤسسات الرعاية الصحية التحليق دونه. فمن أين جاء هذا التعارض? ربما يكون هذا التعارض ناتجا عن كون العلم العربي مرحلة وسطى بين العلم القديم والعلم الحديث. أي بين العلم العقلي الخالص (الفلسفة) والعلم التجريبي الحديث القائم على المزج بين ما تفعله اليد وما يفكر فيه العقل. وعلى الرغم من العقلية التجريبية العملية التي حكمت الفكر العربي وأهدت للبشرية كيمياء ابن حيان وبصريات ابن الهيثم وطب الرازي والقواعد الأولية للمنهج التجريبي, فإن تطور هذا الفكر وهذا العلم كان مرهونا بحماية الخلفاء, أي مرهونا بسياسة الدولة العسكرية الطابع, لذا كان طبيعيا أن ينهار هذا الصرح مع انهيار الدولة.

من الكنيسة وعصا الحلاق إلى النهضة

          في الوقت الذي شهد ذروة العلم العربي (أي القرن الحادي عشر الميلادي, كانت الكنيسة في أوربا تصدر مرسوما يمنع الرهبان من إطلاق اللحى  (1092) فظهر الحلاقون (حلاق بالإنجليزية تعني barber وهي كلمة مشتقة من لحية اللاتينية beard والمعنى الكامل لكلمة barber بالإنجليزية هو beard cutter أي الذي يقوم بحلاقة اللحى). وفي القرن الثاني عشر ظهر في أوربا لأول مرة الأطباء الذين يحملون تصريحا بمزاولة المهنة (1140). أما الجراحون فكانوا مثل غيرهم من أصحاب الحرف ينتظمون في جمعيات نقابية وكانت هذه الجمعيات تجمع بينهم والحلاقين في نقابة واحدة تعرف بـ(barber-surgeon guilds). وقد ظهرت هذه النقابات في أوربا اعتبارا من القرن الثالث عشر. لم يكن الجراحون في هذه المرحلة يتلقون تعليما جامعيا أو مدرسيا بل كانوا جهلة يتدربون على يد جراح نقابي قديم, ثم يصبحون أعضاء في النقابة ويمارسون مهنتهم. وهكذا لم يتردد الحلاقون, الذين يحلقون اللحى ويمارسون الفصد, في شق الدمامل وتجبير الكسور, ثم تخصص البعض منهم في علاج مشاكل محددة, فظهر من بينهم من تخصص في استخراج الحصى من المثانة, ومنهم من تخصص في علاج الفتق الإربي, ومن تخصص في خلع الأسنان وهكذا. ثم بدأوا في تشكيل مجموعات جديدة: أولا الحلاقون المجردون من كل معرفة إلا مهنتهم, ثم الجراحون - الحلاقون من أصحاب المعاطف القصيرة, أي الذين اكتسبوا درجة ما من التدريب, ثم الجراحون من أصحاب المعاطف الطويلة على شاكلة الأطباء, وهؤلاء تلقوا تدريبا على يد جراح خبير, وتم قبولهم في هذه الجماعة الاحترافية بعد حصولهم على شهادة من معلمهم بالإضافة إلى خضوعهم لاختبار عملي. ونجد أن جراحا إيطاليا شهيرا في القرن الرابع عشر اضطر إلى الهرب من إيطاليا ولجأ إلى باريس, وعلى الرغم من كونه جراحا ذائع الصيت في أوربا كلها وعضوا في جماعة سان كوم وسان داميان ذات الأهمية الكبرى في عالم الجراحة في ذلك الوقت, فقد فشل في الالتحاق بالجامعة. أما عصا الجراحين - الحلاقين الملونة فتعود إلى عمليات الفصد التي كانوا يقومون بها. فالفصد يعتمد على عمل ثقب في أحد أوردة الذراع وتركه لينزف. ولكي يجعل الجراح - الحلاق الوريد أكثر بروزا مما يسهل عمل الثقب المطلوب, كان يعطي للمريض عصا يقبض عليها بقوة فتبرز أوردة الذراع. ثم يستخدم وعاء لجمع الدم النازف. وكثيرا ما كان يصاب المريض بالإغماء من مشهد الدم الذي يلون العصا, فتفتق ذهنهم عن تلوين العصا باللون الأحمر. هكذا أخذت العصا ألوانها الأحمر وهو لون الدم والأبيض لون الضماد الذي يلف به الذراع في نهاية عملية الفصد, والأزرق في المنتصف هو لون الوريد, أما الكرة الصغيرة التي توجد في أعلاها فرمز للوعاء الذي يجمع فيه الدم. وعندما انفصل الجراحون عن الحلاقين في القرن السابع عشر تنازل الجراحون للحلاقون عن هذه العصا فصارت لهم شعارا إلى الآن.

          ويرى العديد من الباحثين أنه بينما توقف علاج الأمراض الباطنية (الطب) عن التطور خلال ألف سنة, فإن علاج الأمراض الظاهرية (الجراحة) لم يتوقف خلال الفترة نفسها, حيث قام الجراحون بتطوير تعاليم بول ديوجين التي أغناها الزهراوي من قبل, فقاموا باستئصال الأورام السطحية, وعالجوا الفتق جراحيا دون استئصال الخصية, وكحتوا النواسير واستخرجوا الأجسام الغريبة والشظايا مثلما استخرجوا رءوس السهام وحصى المثانة, وعملوا على إيقاف النزيف بربط الأوعية الدموية النازفة, إضافة إلى بتر الأطراف المغرينة وعلاج المياه البيضاء جراحيا, كما عملوا على تطوير آلات الأسنان وغيرها من الآلات الجراحية. وتعلموا كيف يخففون من آلام المريض بعد الجراحة باستنشاق البخار من قطعة اسفنج مبللة بعصارة الخشخاش. وبناء على هذا التقدم الذي أحرزه أصحاب الحرفة صدر مرسوم من البرلمان الإنجليزي في سنة 1540 يعترف بجمعية الجراحين - الحلاقين, ويفرق في الوقت ذاته بينهما بقصر ممارسة الجراحة على الجراحين ومنع الجراحين من ممارسة الحلاقة. ومع ظهور البارود في القرن الخامس عشر نفسه أصبح الجراحون يواجهون أصنافا جديدة من الجروح في ميادين القتال. كان الجراحون قد اختلفوا في كيفية علاج هذه الجروح الجديدة التي تختلف عن الإصابات بالسيوف القديمة, حتى ظهر أمبرواز باريه, الجراح الفرنسي, (1510-1590)  والذي ابتكر وسيلة جديدة لعلاج هذه الجروح بعيدا عن الكي بالنار أو الزيت المغلي. تحول باريه من جراح - حلاق إلى جراح حرب يصف طرقا مبتكرة لعلاج الجرحى في ميادين القتال وطرقا جديدة للبتر, فأصبح جراحا خاصا لأربعة من ملوك فرنسا. ومثلما طرحت الجروح الناتجة عن المقذوفات النارية أشكالا جديدة من الجروح في ميادين القتال, ساعدت الجراحين على إثبات كفاءتهم, طرح الخط المنحني الذي تسير فيه المقذوفات النارية أسئلة جديدة وضعت نظرية أرسطو في حركة وسقوط الأجسام على الأرض موضع التساؤل, وبدأت الأفكار الخاصة بالجاذبية الأرضية, في الوقت نفسه كان الكون يتسع مع اكتشافات تيخو براهي وكوبرنيكوس الفلكية, ومع اتساعه فقدت الأرض موضعها كمركز للكون. ومع البوصلة التي ابتكرها العرب اتسع كوكب الأرض, واكتشفت البرتغال أرضا جديدة (الأمريكتين) أغرقت أوربا في فائض من الذهب والفضة, فظهرت البنوك التجارية. وتفتت المجتمع الراكد المقسم إلى نبلاء يحاربون من أجل الجميع, وفلاحين يزرعون من أجل الجميع, ورهبان يصلون من أجل الجميع, وانفصل ملك إنجلترا  (هنري الثامن) عن روما, وأعلنت فرنسا الحرب على الإمبراطور الروماني بغية السيطرة على إيطاليا, بينما نجح أساتذة العلوم في إيطاليا في نشر علمانيتهم على امتداد القارة الأوربية. وتراجع دور الجامعات بعد أن انتقلت المحاضرات حول الكشوف العلمية والتقنية الجديدة إلى خارج الكليات الجامعية, وتناقص عدد الطلاب تدريجيا, وخوت القاعات وعلى المقاعد استقرت الأتربة وتسربت الشكوك في عصمة الكتاب المقدس, وترنحت الكنيسة الرومانية, وأسس الراهب الفرنسيسكاني (مرسين) أكاديمية أفلاطونية يرتادها مفكرو أوربا ويتراسلون من خلالها, وأصدر الراهب نفسه في سنة 1634 كتابا وضع فيه ثلاث قواعد للبحث العلمي: ارفض كل سلطة سابقة, اتخذ من الملاحظة المباشرة والتجربة أساسا لنتائج بحثك, ضع أساسا رياضيا لكل ما تفهمه من ظواهر الطبيعة. وبعد هذا الكتاب بثلاث سنوات (1637) أصدر رينيه ديكارت كتابه الشهير (مقال في المنهج) محرضا القارئ على الشك في كل شيء, وبعد ثلاث سنوات أخرى أصدر كتابه الأشهر (مبادئ الفلسفة). في الوقت ذاته (1628) اكتشف وليم هارفي الدورة الدموية وأتت جهود علماء التشريح السابقين أكلها, وتبين أن الدم لا يتكون في الكبد, بل كمية ثابتة تدور بدفع القلب في الشرايين ومنها إلى الأوردة ومنها إلى القلب مرة أخرى وهكذا, وترنحت نظرية العناصر الأربعة الإغريقية البالية التي يتكون منها الجسم (الدم, البلغم, الصفراء, والسوداء), ومع اكتشاف الميكروسكوب اتخذ مفهوم المرض معنى آخر. بالطبع كان الجراحون الذين يعملون بأيديهم أكثر قدرة على ممارسة التشريح من الأطباء أصحاب الياقات المرتفعة. هكذا ارتفعت مكانة الجراحين, وفي سنة 1672 سمح للجراح الفرنسي بيير ديونيس بإلقاء محاضرات في الجراحة والتشريح بحديقة الملك, وفي سنة 1687نجح الجراح الفرنسي شارل فرانسوا فليكس في علاج الملك لويس الرابع عشر من ناسور شرجي مما رفع من مكانة الجراحين وزاد في حظوتهم, ومع بداية القرن الثامن عشر كانت تعقد محاضرات في الجراحة في كلية طب باريس, وفي سنة 1731 صدر قرار ملكي بإنشاء الأكاديمية الملكية الفرنسية للجراحة, وبعد هذا التاريخ بقليل أصدر لويس الخامس عشر مرسوما ملكيا بالفصل نهائيا بين الجراحين والحلاقين (1743) وحدث الانفصال نفسه في لندن بعد هذا التاريخ بعامين (1745). وفي سنة 1768 فقدت الجمعيات النقابية القديمة صلاحيتها ولم تعد شهادتها كافية لكي يعتبر الشخص جراحا. وأصبح لزاما على الجراحين أن يتلقوا تعليما أكاديميا مثل الأطباء. كانت كلية سان كوم في باريس قد بدأت في تدريس الجراحة مع نهاية القرن السابع عشر, لقد عانى الجراحون الحرمان الأكاديمي والتعلم الجامعي لقرون طويلة, وعندما بدأ نجمهم في الصعود لم يتردد الأطباء في إعلان الحرب عليهم, بل ولم يترددوا في التحالف مع الحلاقين ضد شركائهم السابقين, ودارت حرب المنشورات بين الفريقين, بل وجرت بين الفريقين خصومات هزلية وصلت إلى أروقة المحاكم. وفي الوقت نفسه أدرك الجراحون ضرورة صياغة نظرية منهجية تخص الأمراض الظاهرية تنقل الجراحة من وضعية الحرفة اليدوية إلى مرتبة العلم. ومع ظهور القواعد الأساسية للمنهج العلمي التجريبي وتطور الفيزياء وشيوع النظرة المادية الميكانيكية في أوربا, كان الجراحون الأكثر خشونة من الأطباء أقرب إلى قواعد الملاحظة والتجربة نظرا لتمتعهم بكفاءة يدوية لم تكن متاحة للأطباء, لم يكن هناك في ذلك الوقت من الأطباء من يتهور ليجس جسد المريض بيديه ولم يكن المسماع قد ظهر بعد, بينما كان الجراحون يفحصون الأورام بأيديهم ويقدرون حجمها وحركيتها وعلاقاتها بما حولها من الأعضاء إضافة إلى الفحص المهبلي والشرجي, وليس مدهشا أن يعتقد الأطباء, في ذلك الوقت, أن طريقة الفحص هذه طريقة فظة لا تليق بالطبيب المتعلم نظرا لما تنطوي عليه من سوقية وعدم احتشام جدير بمن يعمل بيديه فعلا!!

          لم تكن هذه النجاحات المتوالية التي يحققها الجراحون لتنفصل بأي حال من الأحوال عن النظرة الجديدة التي حملتها النهضة للكون والإنسان والمجتمع. ولا تنفصل بالقدر نفسه عن صعود البرجوازية التجارية الجديدة العصامية والتي لا تحفل بالأصول النبيلة, بل بالجهد الفردي التنافسي الحر, ولم يكن لهذه البرجوازية أن تنجز ثورتها دون تغيير المثل الأعلى وإعادة الاعتبار لقيمة العمل اليدوي باعتباره وسيلة معرفية لا تقل أهمية عن العمل العقلي.

الثورة الفرنسية تشجع الجراحين

          باسم الحرية والمساواة, عطلت الجمعية الوطنية التأسيسية كليات الطب القديمة وألغت الجمعيات العلمية وألقابها وشهادتها. وأعطت إشارة البدء في إصلاح النظام الطبي بالكامل. بعد شهور قليلة من إعدام روبسيير, أعيد إنشاء ثلاث مدارس طبية في باريس ومونبلييه وستراسبورج, وكلف عدد من الأساتذة تدفع لهم الدولة أجورهم بالعمل في هذه المدارس. تم توحيد مناهج التعليم وخضع جميع طلاب الطب لمنهج تعليمي واحد بغض النظر عن تخصص كل منهم فيما بعد, وأصبحوا جميعا يحصلون على شهادة واحدة تطابق شكلا موحدا من التأهيل يربط بين حجرة الدرس النظري والتعليم التطبيقي في قاعات التشريح وأجنحة المستشفيات, وأصبح (طب الملاحظة) كما كان يطلق عليه في ذلك الوقت هو القاعدة. وتأسست الأكاديمية الطبية الفرنسية التي تجمع بين الأطباء والجراحين في عصبة واحدة. لكن الجدير بالذكر هنا أن الأطباء الفرنسيين كانوا يمثلون مجموعة من مجموعات الصفوة في المجتمع القديم, تعمل على خدمة الأرستقراطية, فكان طبيعيا أن يقاسوا على يد اللجان الثورية الفرنسية, التي مالت في الوقت نفسه, إلى تشجيع الجراحين على حساب الأطباء نظرا لما كان يتحلى به الجراحون من روح عملية من جهة ولحاجة جيوش الجمهورية إلى الجراحين في ميادين القتال من جهة أخرى, ولم يخذل الجراحون الثورة بل انطلقوا كقطارات نارية يعلمون الطلاب, فارضين عليهم دروسا إكلينيكية وكتابة تقارير يومية عن المرضى. وظهر الكثير من الجراحين, الذين لمعت أسماؤهم في هذه الفترة, والذين لم يضيعوا فرصة السيطرة على المستشفيات. ومع منتصف القرن التاسع عشر واكتشاف التخدير الجراحي والتعقيم حسمت المعركة نهائيا لصالح الجراحة (العمل اليدوي) وتحدد التاريخ الذي يبدأ عنده ما يعرف الآن بالجراحة الحديثة.

          قبل الثورة الفرنسية بقليل سمح للجراحين بالحصول على دراسات عليا ومنحهم لقب دكتور واعترض الأطباء بشدة على هذه الخطوة وقصروا فرص عمل الجراحين داخل المستشفيات على الفقراء من المرضى, وتفضلت عليهم كلية الطب بنصيحة صريحة: (لتكن المستشفيات مكتبة لكم والجثث كتبكم). وفهم الجراحون النصيحة, بل وانطلقوا في القرى الفقيرة البعيدة عن متناول أطباء المدن, ونتيجة لذلك كان عددهم وقت قيام الثورة يفوق كثيرا عدد الأطباء. ولم تكن الزيادة العددية وحدها العنصر الحاسم في مكانتهم الجديدة, بل كفاءتهم في وقت الحرب وقدرتهم على الاستفادة من المعطيات الجديدة التي تفرضها ميادين القتال.

          وفي سنة 1794 أصبحت المستشفيات الفرنسية ملكا للدولة, ومع بداية القرن التاسع عشر كان عدد الأسرة في مستشفيات باريس وحدها 37 ألف سرير. ومع هذا التطور, أصبح للجراحين في كليات الطب الجديدة دور جديد, تمثل في عدد مقاعد الأساتذة التي شغلوها. فمن بين 22 مقعدا للأساتذة, شغل الجراحون 12 مقعدا, وتضمنت الدراسة في كلية الطب في السنوات الثلاث الأولى تدريب الطلاب على أعمال قيل إنها لم تكن تناسب سوى الجراحين فقط, شملت هذه المناهج كيفية تضميد الجروح وكتابة التقارير اليومية عن المرضى وجمع عينات التشريح وإجراء عمليات بتر بسيطة. وأصبح شعار كلية الطب: اقرأ قليلا, ولاحظ كثيرا, وافعل أكثر. وهو شعار الجراحين إلى اليوم. وقد حقق هذا المدخل الجديد نجاحا فوريا, دلت عليه الإحصاءات حيث كان معدل شفاء المرضى من الحمى على أيدي الأطباء أقل بكثير عن معدل الشفاء بين المرضى الذين عالجهم الجراحون.

          لم تكن المسيرة الطويلة سهلة أبدا, فقد ظل الجراحون يحاولون الإجابة عن سؤال واحد لما يزيد عن 25 قرنا من عمر الإنسان. سؤال يبدو لنا غاية في السذاجة الآن. ما الطريقة المثلى لعلاج الجروح? كان إيبوقراط في القرن الخامس قبل الميلاد يرى ضرورة ترك الجروح مكشوفة لتتقيح حيث يساعد الصديد المتكون على التئام هذه الجروح. وفي القرن الثالث عشر اختلف هنري دو موندفيل وجي دوشولياك وهما من كبار الجراحين في ذلك الوقت على طريقة علاج هذه الجروح, فواحد يرى ضرورة الضماد والحرص على عدم تقيح الجروح, بينما يذهب الآخر مذهب إيبوقراط, وفي القرن العشرين وخلال الحرب العالمية الأولى كان السؤال نفسه لايزال مطروحا!!

          ومازالت اللغة تحمل لنا بقايا العقل القديم الذي لم نبتعد عنه برغم هذا التقدم, سوى مسافة قصيرة جدا, فالطبيب بالإنجليزية مازال (physician) المشتقة من (physics) أي الفيزياء في إشارة واضحة للربط بينهما, ومازال الجراح(surgeon) أي الذي يعمل بيديه.

 

إبراهيم البجلاتي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات