طائرٌ فِي حَدَائِق الحَضَارةِ الإِسْلامِيَّة

طائرٌ فِي حَدَائِق الحَضَارةِ الإِسْلامِيَّة
        

متحف طارق السيد رجب

          يُجَسِّدُ متحف طارق السيد رجب في الكويت رحْلَة إِنسان عاشق لحضارتِه الإسلامية وثقافته العربية, مثلما هو صُورة حَيَّة لفنان نقل إلينا بمقتنياته قبسًا من الحياة اليومية, وآيات من التواريخ المنسية.

          تجتاز مدخل المتحف فينقلك الدرج إلى مستوى أعمق, كأنك تغوص في قلب التاريخ, وسرعان ما تعيش ألفة مع المكان, كألفة الحديث مع الإنسان, وهو الذي تشبه حجراته شرايين الجسد, ينتقل بها تيارا النور والحياة, من مكان لآخر, ومن زاوية لما عداها. غرف تبدو ـ في صورة أخرى ـ أوراق نبات فوق غصن شجرة الفن. تأملت المقتنيات التي تثري جدران المتحف (والتي تشبه حينا صفحات كتاب مفتوح) وسألت نفسي, كم فنانا شارك في صنعها? وهل يتسع المكان لهم ـ  لو اجتمعوا جميعًا في صورة تذكارية ـ أمام فنون شغلت الذهن, وصاغتها الأيدي?

          الفنان صفة نمنحها للجميع هنا; المرأة البسيطة غازلة الخيوط الصوفية وناسجة الثوب البدوي ومصممة بيت الشعر. الخطاط المجهول أو المجاهر  الذي اكتفى ببث روحه في الحروف عبر آيات القرآن الكريم وسطور الحكمة. صائغ الذهب الذي ابتكر فأضاف للمعدن النفيس قيمًا إضافية. الزجَّاج الذي احتال على تغييب الجسد من الفن الإسلامي فجعل أوانيه الشفافة ومشغولاته الشافة صورة له في الليونة والرشاقة والأناقة, خاصة وهو يبث العطر في قواريره. وناسج الكسوة الشريفة, بخيوط الإيمان والذهب. سابك المعادن الذي جعل الجماد المصمت والمفرغ يحكي. صانع الفخار الذي أعاد تصوير الحياة في طبق  وآنية. كلهم فنانون. وصاحب المتحف, أليس هو الفنان الذي انتخب لنا ذلك كله معًا? إنه طائر في حدائق الحضارة الإسلامية.

قصة باب

          بعد ولوج باب المتحف, تقف العين أمام باب آخر, من ضلفتين عملاقتين متماثلتين تمامًا إلا في النقش المقسوم عليهما في الأعلى والأدنى. الباب مرتكز على الجدار الأيمن لبهو المدخل, وقد نقش على لوحته العلوية: الأيتام والمساكين نصرة الغزاة والمجاهدين.  وكان الفراغ في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وسبعمائة هجرية. أما اللوحة الدنيا, وفيما يشبه التوقيع, فتقرأ: عز لمولانا السلطان الملك الظاهر سيف الدين برقوق.  ويشير التاريخ (الموافق للثاني من شهر أبريل عام 1386) إلى اكتمال مدرسة السلطان والخانقاه (الملجأ), التي تعد عتبة منطقة خان الخليلي في شارع المعز لدين الله الفاطمي. وقد حكم السلطان الملك الظاهر بين عامي 784 و791 هجرية إبان تولي المماليك حكم مصر.

          أما مجيء هذا الباب للمتحف فله قصة مثيرة! إذ مع بداية القرن التاسع عشر, عم الدمار أركان الخانقاه, حتى استحال التفكير في ترميمه. ومن ثم أصبحت المدرسة والملجأ وأبوابهما عرضة للنهب, (ولذلك اختفت من مقدمة الباب وظهره بعض الألواح الفضية المزينة له) ,  وما إن جاء النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى اختفى الباب  تمامًا من الموقع. لكن المعرض العالمي الذي احتفل بمرور 400 سنة على اكتشاف أمريكا واستضافته مدينة شيكاغو في 1892 جعل جناحًا كبيرًا منه مخصصا للحكومة المصرية. وظهر الباب إلى المشهد مقدمًا من فنان اسمه علي الشيشي يعمل على الأشغال المعدنية للمشاركة في المعرض. بل وعرض بيع الباب, باعتباره تقليدًا للباب الأصلي لأحد أبواب مسجد السلطان حسن. وكان المبلغ المطلوب باهظا, حتى أن إدارة المعرض رفضت شراءه. ليبيعه في العام التالي إلى تاجر عاديات من القاهرة, يمتلك متاجر ومخازن في الموسكي.  لكن المستعرب الراحل ماكس فان بيركم عرف حين رآه أصالة ذلك الباب. ثم اشترى الباب بعد ذلك آرشر ميلتون هنتنجتون, مؤسس وأول مدير للجمعية اللاتينية في أمريكا عام 1905. ثم نقل الباب لاحقا إلى نيويورك, إلى مقر الجمعية, حيث عرض لفترة قصيرة. وحيث شكك بعض الباحثين في أصالته مرة أخرى, حتى بيع بعد سنوات من تخزينه إلى متحف طارق السيد رجب. وليصل إلى المتحف في الكويت عام 1993. وأثبت البحث الجاد والمقارنة الأثرية بين ذلك الباب وما بقي من المدرسة أن ذلك الأثر مثل المدخل الرئيسي للخانقاه.

بدايات الرحلة

          أتَاحَتْ سَمَاءُ الحُرُوفيَّةِ العَرَبيَّةِ لطيُور خَيَال الفَنَان المُسْلِم أنْ تُحَلقَ بحٍُريَّةٍ نَافذةٍٍ. وَفتَحَ اسْتخْدَامُ هَذا الحَرْفِ ـ الذي يكتسبُ حَيَاة بَيْنَ أَنَامِل الفنان ويكتسِي بالحبِّ في كل ما يصُوغه منه ـ آفاقا من الإبداع الخَطي الذي نَدُرَ أنْ يوجَدَ في أية أبَجدية سواه. ومن بين الكنوز التي يضمها متحف طارق رجب في الكويت ثروة نفيسة من تلك الجواهر المكتوبة ـ المخطوطات, التي وهبها الفنان من روحه وصبها على وجوه الأوراق ولفائف النسيج وتشكيلات العاج وألواح الخشب ومصنوعات المعدن آياتٍ متجددة للفن.

          وتجسد مجموعات متحف طارق رجب رحلة تمتد إلى نحو نصف القرن. رحلة ضمخ دروبها بعطره ذلك الحب الجارف للمقتنيات الإسلامية الشاهدة على تطور فنون حضارتنا. والبداية كما يُسرُّها صاحب المتحف الفنان طارق السيد رجب في أحد كتبه الموثقة لتلك الكنوز: يسألني زوارٌ كثيرون, ممن تحملهم خطواتُهم إلى المتحف, عن السبب من وراء جمع مقتنياتِه. والإجابة ليست مثل سهولة التساؤل, لأن حسنَ الطالع كان له دور كبيرٌ في مسيرة حياتي ومسار المتحف. فقد نشأت في عائلة شغوفة بالعلم والتعليم, مما شجعني على القراءة في مرحلة مبكرة جدًا. وكم أحببت ـ يستطرد الفنان ـ مجالسة سيدي عمر, لأراقبه ـ وهو عالم وخطاط ـ منكبا على مكتبه يخط كنوزه المكتوبة. وأذكر أن من بين إنجازاته الكثيرة تدوينه لنصوص الكتب التي استخدمت في مدارس دولة الكويت عند افتتاحها للمرة الأولى. كانت متعتي لا توصف وأنا أطالع في مكتبته المصاحف الشريفة للقرآن الكريم بزخارفها القشيبة.

          والإشارة هنا للسيد عمر عاصم, الذي أصبح أول ناظر لأول مدرسة كويتية في العام 1912, خلال حكم الشيخ مبارك الصباح, ويحمل أول علم لدولة الكويت خطه باللون الأبيض على الخلفية الحمراء, كما لا يزال خطه حيا على العلم السعودي الذي حمله الملك عبد العزيز بن سعود حين دخل نجدًا.

          هذه الرحلة التي بدأت بالخط, صاحبها ميل الفنان طارق السيد رجب إلى الجواهر المكتوبة, وتشجيع إخوته الكبار له ليمضي في القراءة. يستحثونه على مناقشة كل شيء معهم, ثم لينطلق هو بعد ذلك إلى المكتبة العامة الوحيدة في الكويت مع مجموعة مخلصة اعتقدوا أنه سيصبح ذات يوم عالم دين, فأخذوا بيده إلى مسالك العلوم الدينية الإسلامية.

          لكن بعثة حكومة الكويت التي نالها لدراسة الفن وتاريخه في بريطانيا كانت نقطة التحول التي رأى عندها ـ وللمرة الأولى ـ ذات الأشياء وجوهرها, بغرض الدراسة والمتعة معًا. وبفضل هؤلاء الأساتذة المهتمين, وبعون الأصدقاء المثقفين في بريطانيا, تعلم طارق رجب الكثير, واكتشف ما هو أكثر, عن جذور ثقافته الإسلامية, ومنابع التراث البديع.

          ولدى عودته إلى الكويت في العام 1958, مع زوجته جيهان, التي شاركته العشق نفسه للفنون, عمل لمدة عام مُعَلمًا للرسم في إحدى مدارس الكويت. ليعين بعد ذلك مشرفا, فمديرا لقسم جديد بالوزارة أنشأته للآثار والمتاحف.

          سنوات رائعة, لكنها مشحونة بالتقلبات. أمضى طارق رجب وزوجته معظم أيامهما في جزيرة فيلكا, مع الحملة الدانمركية التي قَدِمَتْ لإنجاز الحفريات الخاصة بالمواقع اليونانية والبقاع التي تعود للعصر البرونزي. وبمساعدة زوجته, والعدد القليل الذين ضمهم القسم, زار سكان فيلكا في منازلهم, وأقنعهم بأن يبادلوا بعضا من مقتنياتهم القديمة من الأدوات المنزلية والقدور والملابس, وكل ما شابه ذلك.

          شكل عون السكان حافزا كبيرا غلفه الحماس والحب, خاصة عندما علموا بأن متحفا سينشأ ليضم هذه الأغراض. وأن هذا المتحف سيذكر بمشقة العمل في الماضي, مقارنة بالحياة التي يصيبها التغيير بسرعة بالغة.

          بعد ذلك بقليل ـ يتذكر طارق رجب ـ  وبمساعدة سكان الجزيرة, افتُتح متحف صغير وجميل في المنزل الصيفي للشيخ أحمد الجابر. كان المبنى القديم المشيد من الطوب اللبن والمسيج بالنباتات بديع الإنشاء. ولم تفق مشاعرنا سعادة إلا سعادة سكان فيلكا بالحدث. وبكلفة ضئيلة, وبمساعدة من المهتمين, تم بناء ما يمكن تسميته بمحترف آثار, قريبا من المتحف القديم, وأصغر منه, عرضت به الأغراض المهمة التي اكتشفها المنقبون. لكن هذين المبنيين ـ بما ضما من أغراض ـ راحا ضحية التدمير الناجم عن الغزو العراقي, بل وضاع ما كانت تضمه الجزيرة من فخاريات.

          استطاع الفنان طارق السيد رجب خلال السنوات العشر التي عمل خلالها بالوزارة مديرًا لمتحف الكويت, أن ينقذ بيت البدر, وهو الآن جزء من المتحف الوطني, واثنتين من البوابات القديمة لسور الكويت, ذلك السور الذي تهدم في العام 1957. وتشبعت كل هذه التجارب التي عاشها باهتمام لا يفتر  بالفنون, وتضافرت عوامل أخرى قادته هو وزوجته إلى جمع المقتنيات بأقصى ما يستطيعان, ومن كل أنحاء العالم, تلك التي تنتمي للحضارة الإسلامية والتراث العربي.

مخطوطات المتحف: جواهر مكتوبة

          تضم مخطوطات متحف طارق رجب مجموعة مهمة من المصاحف الشريفة للقرآن الكريم. لقد كانت مرحلة التدوين وثيقة الصلة بالإسلام, لأن الحضارة قبله اعتمدت على الشفاهي في توارث المحفوظات من الآثار الأدبية والشعرية. ولكن التدوين الذي خص القرآن في البداية امتد ليشمل كل آيات الحياة. من الأحاديث والأدعية إلى المعلقات الشعرية, ومن الحكم والأمثال إلى الفرمانات والرسائل, ومن كتب الطب والفلك, إلى سواها في العلوم والآداب. وبات الخط علامة على الحياة, مثلما اختزلت الحياة في الخطوط.

          ويضم المتحف مخطوطات قرآنية تعود إلى الأندلس, وتركيا, وإيران, والمغرب, وتونس, وسوريا. وربما يعود أقدم النصوص الذي عثر عليه في الحجاز إلى أحد القرنين الأول أو الثاني الهجريين, وهو عبارة عن ورقة واحدة بها آيات من سورة المائدة, وبعداها: 39 سنتيمترا عرضا ونحو نصف المتر طولا.

          وبالإضافة للنسخ الكاملة من القرآن الكريم, هناك أجزاء منه قد تصل أحيانا إلى آية أو مجموعة من الآيات. وتكشف إحداها وهي مطعمة بالزخارف النباتية عن إحدى الصفات المبكرة للتدوين. إذ أحيانا ما كان يلجأ الخطاط إلى تقسيم الكلمة الواحدة, لتوزع على سطرين, إذا لم يتسع لها صدر السطر الأول, دون أي إشارة لحدوث هذا التقسيم! ويكشف النص نفسه الذي يصور آيات من سورة الحجر أنه كتب في القرن الثامن للهجرة, وأن التوريق (الزخرفة بأوراق النباتات) جاء لاحقا بثلاثة قرون كاملة. لقد عاش النص حيا وأعطاه الفنان روحًا جديدة عندما عاد إليه, رغم أن نهايات الآيات ظلت تعتمد على الذاكرة القرآنية, فلم تكن هناك أي علامات أيضا.

          وكما قلنا فإن الفنان المسلم بعد أن خص القرآن الكريم بإبداعه الخطي, راح يتنقل على شجر الكلام المقدس, واختارت مخطوطة مغربية أن تحتفظ بأسماء الله الحسنى, التسعة والتسعين, ولكل اسم كانت شخصيته التشكيلية المميزة, سواء في صياغتها الحروفية أو في إطارها الزخرفي.  ويبلغ طول ضلع الصفحة المربعة تسعة سنتيمترات, وتحيط جزيرة التشكيل الحرفي بحيرة بيضاء ينساب على وجهها زوارق من الكلمات بخط مغربي متعرج. وتعود صياغة هذه الجوهرة الفنية إلى القرن الثالث عشر الهجري, وتتميز حروفها باستخدام الأصفر المجسد للذهب الخالص فوق لونين أحدهما الأزرق والآخر الأحمر.

          ويحتفظ المتحف أيضا, في فضاء خطوطي آخر, بنص القصيدة الشهيرة التي كتبها الإمام البوصيري في مديح الرسول (عليه الصلاة والسلام), وقد كتبت بخط الثلث البديع, وتعود للعام 1709 ميلادية, عهد الإمبراطورية العثمانية, بتركيا.

          ومن المجموعات التي تمزج التاريخ والفن بوضوح بالغ, تلك الفرمانات التي يحمل أحدها خط الطغراء للسلطان العثماني عبد الحميد الأول (حكم بين عامي 1773 و1789م). ويوثق الفرمان المكتوب الخط الديواني ويعود ليوم الخامس والعشرين من شهر رجب للعام 1200 للهجرة ميراثا للسيدة حسنة خاتون ابنة السيد رفعت, من زوجها الراحل رفعت زاده رفعت أفندي. ويبدو الفرمان المسجل على ورقة طولية واحدة, مثل عمود في بناء تعلوه قبة موشاة بالنباتات وبخط الطغراء المكتوب بالذهب.

          لم تكتب الحروف والكلمات والآيات والجمل على الورق وحده, فنراها على خامة الخزف, وفي المتحف لوحة من السيراميك والكوبالت المزجج لبلاطة تحمل ثلاث كلمات (ليغفر الله لك) تعود للقرن الثالث عشر, ومصدرها إيران. ونرى الحروفية أيضا على النحاس, كما تجسده منضدة مملوكية سداسية الوجوه, وقد صنعت الأصلية منها لماريستان السلطان قلاوون, وصانعها الفنان محمد البغدادي في 728 هجرية.

          لقد سافر الحرف العربي في المخيلة الفنية للخطاط قبل أن يحط الرحال في كل غرض حياتي. كان الفن صنو الحياة, وجسدت المصنوعات اشتهاءات الجمال. وما هذه المجموعة إلا الدليل الناصع على ذلك.

تاريخ ومعادن

          يكتب الباحث الدكتور جيزا فيرفاري في تقديمه للمجموعة الإسلامية للأشغال المعدنية: إن مجموعة المتحف من المشغولات المعدنية الإسلامية تركز على ما قدمته فترة السلاجقة في إيران ووسط آسيا, بين القرنين السادس والثامن الهجريين, ويعود معظم المقتنيات إلى إيران, مع وجود عدد أقل من مصر وسوريا. وتتنوع المشغولات المعدنية الإسلامية التي يضمها المتحف بين أباريق صب الماء, التي تزين جسدها كتابات ونقوش نباتية وهندسية دقيقة, ويحلق فوق رءوس بعضها الطير. أو مباخر يخفي دخان بخورها نوافذ الهيكل البرونزي المزينة بسحر وحروف. أو صحاف  تحمل الطعام في كف عليها حناء من شغل الفنان وبصماته, أو تطحنه بيد الفن. وبها أيضا قنينات للعطور تتجمد على جدران بعضها قطرات المعدن كأنها ندى يعبر العصور. عدا عن مصابيح الزيت التي تعيدك لعصر ألف ليلة وليلة, والمقلمة والمحبرة التي تدرك بالنظر إليها كيف انطوت صفحات التاريخ بينهما. ثم ترجع البصر مرتين فإذا هي مكحلة للعين, أو فوهة لصنبور مياه. وربما تمائم على أشكال الطيور والحيوانات في حديقة المشغولات المعدنية الإسلامية المصنوعة من النحاس والبرونز فما بالكم بما هو مصنوع من الفضة والذهب?

كتب وزيارات إلكترونية!

          يعد الكتاب سفير المتحف, وصورته وصوته, إذا عزت إليه الزيارة, وصعب معه الحديث. ومجموعة الكتب التي قدمها المتحف لمقتنياته, ولا يزال, لا تعد مجرد ألبوم مصور خلو من المعلومات, بل وثيقة شارحة. وإذ بث طارق رجب وزوجته جيهان رجب الحب لهذه المقتنيات على صفحات بعض الكتب التي ألفاها, فقد أتاحا أيضا البعض الآخر ليسطر مؤرخون وباحثون متخصصون عنها الكثير. ونقدم إيجازًا لبعض هذه الكتب مع طموح بتقديمها  بترجمة إلى العربية, لأن إحياء الذاكرة العربية الإسلامية يبدأ من استذكارها بلغة الأبناء.

          نبدأ مع الكتاب الأساس في المتحف وهو دليله: متحف طارق, الذي تحتل صفحة غلافه صورة لمنحوتة أسد واقف من البرونز, ويعود للفترة الفاطمية في مصر, بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وتميز الأسد زخارف وأشغال نحتية تجمع بين الخط العربي, في الصدر المواجه لمشاهده, فيما تعبر لحظة التجسيد عن تأهب مشمول بالقوة و لايبقى مختفيا غير الزئير الذي يعبر عنه فم مفتوح, وذيل مرفوع. ويضم الكتاب في أكثر من 170 صفحة مقدمة لتاريخ فن الخط العربي, وعرضا لأشغال السيراميك والزجاج في العصور الإسلامية, فيما يخصص قسم كامل للمجوهرات التقليدية العربية والإسلامية الذهبية والفضية.

          وفي قسم النسيج تعرض المؤلفة جيهان  رجب صورة للسدو أو النسج البدوي في الكويت, وعرض لمقتنيات  نسيجية لأزياء عربية وإسلامية. فضلا عن قسم للآلات الموسيقية. وأعمال المستشرقين من الرسامين, والأدوات المعدنية المنتمية للحضارة الإسلامية, والأسلحة وإشارات لباقي الأقسام في المتحف.

          كما نقلب كتاب Firearms of the Islamic world in the TSR Museum, Kuwait وهو يستعرض صفحات الماضي مع تاريخ تطور هذه الأسلحة النارية في العالم الإسلامي عبر ثلاثة عشر فصلا, ومن خلال 129 قطعة سلاح أثرية مما يضمه المتحف, ومنها قطع إسبانية صنعت في بواكير القرن الرابع عشر, مرورا بالمماليك في مصر وسوريا, مع إشارات إلى الأسلحة السيلانية والجنوب شرق آسيوية, تشرحها أكثر من 200 لوحة. المقدمة لهوارد إل بلاكمور, النائب الأسبق  لمقتنيات الأسلحة في متحف برج لندن, والمؤلف, روبرت إلجوود, المتخصص في التاريخ الإسلامي.

          كتاب آخر لباحث مجري هو البروفوسور جيزا فيرفاني أستاذ الفن الإسلامي والعمارة في جامعة لندن الذي انضم بعد تركه العمل الدبلوماسي في 1995 كسفير لبلاده إلى دولة الكويت, ليكون مسئولا عن نشاط ومقتنيات متحف طارق السيد رجب. وفي هذا الكتاب Pottery of the Islamic World يضيء المؤلف السيرة الذاتية لنحو مائة أثر إسلامي من الفخار, يقدمها كلها بالألوان, وموزعة على عشرة فصول.

          وإذا كنا ندرك كيف لعبت النسيجيات والتطريزات دورا مهماً في الحياة الفلسطينية لقرون عديدة, باعتبارها الأرض التي جعلها الله نقطة التقاء لثقافات عديدة, ووطنا لتطور عدد هائل من الأساليب, فإن جيهان رجب تقدم في كتابها Palestinian Costume نظرة فاحصة إلى الأزياء التي ترتديها ثلاث مجموعات هي أبناء المدن, بكل ما يتميز به مجتمعهم من انفتاح على الآخر, عبر التجارة, ثم مجموعة المزارعين, أو القرويين, الذين أنتجوا أفضل النسق الزخرفية في التطريز, وأخيرا البدو الذين تأثرت ملابسهم بالتصميمات القروية, لكنهم طوروها لتصبح خاصتهم. كما تفصِّل المؤلفة في كتابها لأعمال الإبرة التي جاء أكثرها من رام الله, وبيت لحم, وحيفا. وفي الكتاب تفصيل للوحدات الزخرفية النسيجية فضلا عن التقنيات التي تستخدمها المرأة الفلسطينية في التطريز, مما يجعل منه خزنة ملابس ومعلومات موثقة.

          وقد أعادتني  جيهان رجب مع كتابها   Silver Jewellery of Oman إلى السنوات التي عشتها في سلطنة عُمان, حيث أحيت فيه صورًا من المخيلة الفنية لصائغي الفضة العمانيين على مر العصور, بفضل الزخم الحضاري المتجدد. ورغم ما قد يتبدى من تشابه فى الوهلة الأولى بين مفردات هذه الحلي, فإن الثراء والتنوع صفتان واضحتان, خاصة في فئتي التعاويذ (الطلاسم), والاحجبة (الأحراز), اللتين ورثتهما السلطنة باعتبارها ملتقى حضارات, عبرتها أو استوطنتها, سواء تلك التي ازدهرت شرقا عبر تجارة طريق الحرير الذي وصلها بالصين, أو تلك التي ازدهرت غربا مبحرة مع رياح الكسكازي الموسمية من عمان وحتى موزمبيق على الساحل الإفريقي الشرقي مرورا بزنجبار ولامو وممباسا وغيرها.  وتعود أقدم الموجودات الفضية إلى الألف الرابعة قبل الميلاد, آنذاك, كان لخصائص الفضة من سلاسة التشكيل وبياض اللون ومقاومتها للأكسدة دور في أن تصبح عنصرا أساسيا للزينة ومقوما رئيسيا للنظام النقدي في معظم الثقافات فيما بعد, وحتى الآن. وقد استخدمت في تصنيع الفضة على مر العصور كل تقنيات صياغة المعادن مثل السبك والطرق والطلاء والحفر والصهر وغيرها.

          أما كتاب   AScandalous Life  لمؤلفته ماري إس لوفيل فهو سيرة ذاتية مثيرة  لحياة جين ديجبي, الرحالة الجميلة التي عاشت في القرن التاسع عشر, وتزوجت شيخ تدمر (بالميرا) مجول المصرب, فكانت تمضي شهور الشتاء بكنف القبيلة في الصحراء المحيطة ببالميرا,  فيما تلجأ أيام الصيف إلى منزلها الدمشقي. ويضم المتحف صورتها المرسومة من الواقع, وسمات الحياة البدوية آنذاك. أما بورتريهات جين ديجبي وزوجها (1859م) فهي بريشة الرسام الاستشراقي كارل هاج.

          نظرات على الماضي القريب Glimpses of the Recent Past 1960-1965 يلقيها مؤلف الكتاب ومترجمه وصاحب المتحف طارق السيد رجب لفترة التكوين التي عاشتها دولة الكويت بين عامي 1960 و1965 للعمارة والبيوت التي اندثر معظمها, مما يجعل من هذا المجلد الضخم (300 صفحة) أثرًا وثائقيا في حد ذاته, خاصة أن نصفه بالألوان.  وفي السياق نفسه نرى سجلا مصورا آخر توثقه بين غلافين جيهان رجب هو كتاب  Failaka ~ The Ikaros of the Arabian Gulf الذي يعرض لجزيرة فيلكا (على بعد عشرين ميلا من الكويت) والتي يعود تاريخها إلى ألفي سنة قبل الميلاد. 

          ومن الجميل أنه عبر سجل الزيارات الموجود بموقع  المتحف على الإنترنت http://www.trmkt.com   حرص  كثيرون ممن لديهم مواقع في تاريخ الفن ونقده على تدوين عناوين هذه البوابات التي تفتح على فضاء أكثر رحابة, مما يجعل من الموقع الإلكتروني للمتحف بوابة كبرى للفنون  في العالم. لكن الغريب أن من بين زوار الموقع من عرض بيع آثار (عربية) لأعلى سعر!! الزوار عديدون في الكم والكيف مما أدهش توماس إيه جيرالدي (الولايات المتحدة) وتمنى أن تتاح له فرصة زيارة المتحف مرة في العمر. وكتبت ليلى حكيم (كندا) تتمنى زيارة المتحف يومًا بعد أن دلها إليه مقال عن دولة الكويت نشرته جريدة كندا ناشيونال بوست.

          أما طالب الفن بول بنسون (بريطانيا) فقد أعجبه الموقع وأفاده مرجع أصدره  المتحف ـ ووجده  في مكتبة محلية  هناك ـ في التعرف على أواني العالم الإسلامي. القدر نفسه من الاهتمام والتقدير بثته مئات الرسائل القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وتركيا والهند وإسبانيا وإيطاليا وكوستاريكا وأيرلندا وبولندا وجنوب إفريقيا والنمسا وأستراليا والبرتغال والمجر  وإيران وهولندا وإندونيسيا وماليزيا,...... ومن دول عربية : الكويت ولبنان والامارات العربية المتحدة والبحرين والأردن والجزائر ومصر وفلسطين..... ويكتب ناصر العتيبي (الكويت) الله يعطيكم العافية على هذا العمل الرائع, جدا, وفي الحقيقة لم أعلم به إلا عن طريق الإنترنت. وتكتب مصممة الجواهر الفلسطينية هيفاء الشوا المصري من نابلس: لقد كانت مجموعتكم للجواهر الفلسطينية لا غنى عنها, وأفادتني كثيرا, سواء في أبحاثي أو تصميماتي.

          الموقع الإلكتروني الذي قال كثيرون إنهم يزورونه مرات ومرات يفتتح بوابته الإلكترونية بعرض لأقسامه, مع وجود دروب فرعية تقودك إلى الإصدارات, والخزفيات, والأزياء, والمجوهرات, والمخطوطات, والأشغال المعدنية, وأعمال الاستشراق الفنية, وأخبار عن فعاليات المتحف, وخريطة له, ومعرض لصوره وسجل لزواره.

          قبل أن ننهي في المتحف جولتنا, تأملنا الآلات الموسيقية التي عُلقت وراء الواجهة الزجاجية بين سماء المتحف وأرضه. كان جُلها حديثا نسبيا, مصنوعا بين القرنين التاسع عشر والعشرين. دف وقانون سوري وتركي. طبلة وقيثارة هندية وإفريقية. ناي مغربي وفارسي وعود مصري وعراقي. منشد وراقص. جميعها مثل لحن يحلق انطلق منذ القرن الثامن في بغداد, وعبر الحدود ما بين بيزنطة والأندلس, حتى القرن الخامس عشر. وكانت المعزوفة ـ في الخيال ـ  يتردد صداها عبر خريطة إسلامية وعربية ممتدة من شرق العالم إلى غربه. ويراودني الحلم بعودة العازف إلى مسرح الحياة.

 

أشرف أبو اليزيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




متحف طارق السيد رجب





 





باب يخفي وراءه تاريخ أكثر من ستة قرون





السيد عمر عاصم أول ناظر لأول مدرسة كويتية





 





كُتب النص في القرن الثامن للهجرة. وجاء التوريق بعد ذلك بثلاثة قرون





الحرف العربي يزين كسوة الكعبة المشرفة وهي من أندر مقتنيات المتحف





آنية تحتفظ بصلابة المعدن وليونة الجسد الانساني





 





من إصدارات المتحف





أزياء فلسطينية, فضيات عمانية في زوايا زينة النساء بالمتحف





إحدى لوحات الرسام والمصور طارق رجب صاحب المتحف