منذ زيارتي الأولى للمملكة المغربية عام 1972 إبان تصوير فيلم
(الرسالة) في إحدى قرى عمالة (محافظة) مراكش: المترعة بالأسطورة والسحر, والتاريخ
والعراقة والأصالة والفروسية, وكل الصفات والمناقب والقيم, التي تميزها عن غيرها من
مدن العالم, أقول منذ ذلك الزمن, لاحظت احتفاء الإخوة المغاربة الشديد بالمواسم.
وقد تزامن حضورنا لمدينة مراكش آنذاك احتفاء البلاد والعباد بمولد المصطفى صلى الله
عليه وسلم. وكنت في تلك الزيارة بمعية نفر طيب من الزملاء الأصدقاء الإعلاميين
(عبدالعزيز جعفر وكيل وزارة الإعلام لشئون الإذاعة, عبدالرحمن الحوطي وكيل وزارة
الإعلام للشئون الهندسية بالكويت, والشيخ عيسى بن محمد الخليفة وكيل وزارة الإعلام
بالبحرين والدكتور عبدالعزيز محمد المنصور ومحمد ناصر السنعوسي وكيل وزارة الإعلام
لتلفزيون الكويت), الذي تفضل بدعوتنا لمشاهدة تصوير الفيلم بصفته رئيس مجلس إدارة
الشركة المنتجة للفيلم.
ففي الصباح, فوجئنا بمدينة مراكش تعيش عيداً سعيداً, يرفل فيه الأطفال
بجلابيبهم الجديدة البيضاء, وتتهدج المساجد بالأدعية والأذكار, وتغرد الإذاعات
الوطنية والجهوية بالأناشيد والموشحات, وفنون (الملحون) والأغاني الشعبية المكرسة
للاحتفاء بالمناسبات الشريفة.
لقد كان عيداً بحق يلبس فيه الجميع الملابس البهية الجديدة, ويطعمون
الحلوى الخاصة بالاحتفالية, فضلاً عن (الكسكسي) الطافح بالخضار ولحم الدجاج, والشاي
الأخضر المعطر بالنعناع, واللبن والتمر وشراب اللوز.. وغير ذلك من عادات وطقوس
احتفالية روحية ودنيوية يتزاوج فيهما الدين بالدنيا بأبهى تجلياته ويخلف في الوجدان
آثاراً حميدة شجية لا تنسى أبداً.
لا بد من إميلشيل ولو طال السفر!
من يومها عرفت أن المغرب هي أم المواسم والموالد وأولياء الله
الصالحين! حسبك أن تعرف أن عدد المواسم يعد بالمئات!
وحين كنت أعمل مستشاراً إعلاميا عام 1978 بسفارتنا في العاصمة
المغربية (الرباط), سمعت عن (موسم إميلشيل للخطوبة) للمرة الأولى. فقد شاهدت في
التلفزة المغربية: فيلماً وثائقياً يتمحور حول الموسم, أذكر أنه أثار دهشتي وإعجابي
وفضولي ورغبتي في التعرف عليه عن كثب!
ومن حسن حظي - آنذاك - أن رئيس البعثة الدبلوماسية الكويتية كان هو
السفير الفنان الأستاذ (حمد عيسى الرجيب) - رحمه الله وغفر له - وكان سفيراً
اجتماعياً شعبياً تجده حاضراً في جل الأنشطة الثقافية والفنية وغيرهما. كما كان
منزله في حي السويسي الأرستقراطي الجميل بالرباط صالوناً أدبياً مشرع الأبواب خمس
ليال في الأسبوع, طوال السنة, كما كان هذا دأبه حينما كان سفيرا لدولة الكويت في
قاهرة المعز. وفي صالون (أبي خالد): تعرفت على المهرجان المذكور, من خلال الأدباء
والفنانين المغاربة الذين يرتادون الصالون الأدبي, وتربطهم بسعادة السفير علاقة ود
حميمة.
وحين انفض سامر الصالون وجدته يقول لي: لا بد من (إميلشيل) ولو طال
السفر! سنكون هناك في موسمها المقبل في سبتمبر 1978. إلا أن سعادة السفير - لسوء
الحظ - غادر المملكة المغربية قبل موعد الموسم, ليتم تعيينه - فيما بعد - وزيراً
للشئون الاجتماعية والعمل إذا لم تخني الذاكرة الهرمة! لكنه حين لاحظ شدة اهتمامي
بحضور الموسم المذكور, وعدني بأنه سيكون في المغرب يوم تاريخ عقده, لأحضره بمعيته
لكن الظروف لم تمكنه من ذلك. ومن سنتها وأنا أبحث عن صديق عربي خليجي يشاركني
الاهتمام بهذا النوع من السياحة! إن قرية إميلشيل تابعة لإقليم (الرشيدية) الذي
يبعد عن العاصمة المغربية أزيد من ألف كيلومتر, والسائح العربي الخليجي: لا يحب
الحركة والمغامرة والاكتشاف والترحال والسياحة في أرض الله وعباده! فتراه على
الدوام (رابضا) في النزل, أو المنتجع السياحي الذي يقطنه لا يبرحه البتة! اللهم إلا
للسباحة في (البيسين) الذي يسمونه حمام السباحة, أو يعوم في البحر, إن كان ثمة بحر.
ودائما وأبداً يتربع في المقاهي والمرابع الليلية فقط لا غير! وكاتب السطور - في
هذا السياق - لا يبرئ نفسه البتة!!
ولو فعل ذلك لما استحق شهادة الجنسية الكويتية!!
الشاهد أني لم أحضر موسم الخطوبة الشهير إلا في صيف 2001 شهر سبتمبر.
ولأني جنوبي الهوى فقد اخترت الذهاب إلى الموسم جنوبا من الدار البيضاء
(كازابلانكا) أو (كازا) حاف كما يسميها الإخوة المغاربة, أو إن شئت (كازاماذا) كما
يحلو لي نعتها! ولا تسألني لماذا?! وهكذا تحركنا من (كازا) الى مراكش عاصمة الجنوب.
ومنها إلى مدينة ورزازات.. حتى الرشيدية. إن منطقة إميلشيل تقع في أحضان جبال
الأطلس والطريق ابتداء من مدينة ورزازات جبلي شديد الوعورة والارتفاع والأكواع,
والمنحنيات والمنحدرات الشديدة الخطورة, التي تحتاج إلى سائق ماهر يملك عين الصقر,
وجسارة الأسد, وصبر الجمل. فضلاً عن أن الطريق لا تنفع معه سوى سيارة الجيب القادرة
على طي الجبال (كجلمود صخر حطه السيل من عل).
والطريق مترع بالجمال والسحر والتنوع, فتارة تكون في صحراء يباب جرداء
ليس فيها سوى الحصى, وبعد حين تجد نفسك وسط سهول خضراء مزروعة بالليمون والبرتقال
والزيتون والتمور, وتارة ثالثة تجد نفسك في أعالي الجبال على ارتفاع يزيد على
الألفي متر تحيط بك أشجار الصنوبر وشجيرات العرعر بينما جموع القردة تتقافز هنا
وهناك لاهية عابثة غير عابئة بأحد.
المرأة الأمازيغية
والمغاربة شعب حضاري محب للبيئة والطبيعة والمخلوقات التي تشاركه
الحياة فيها. ومن هنا تجد أن جل طيور الشمال الأوربي, تلوذ بالمغرب إبان الشتاء,
تسكنه بطمأنينة وأمان, كما أن الصيد هناك مقنن, وليس مشاعا كما هو حاله في المشرق
العربي! الأمر الذي أدى إلى القضاء على كل الطيور والحيوانات التي كانت تسرح وتمرح
في صحارى مصر وليبيا والسودان وشبه الجزيرة العربية, التي لم يبق فيها الآن سوى
الخنافس والجعلان فقط لا غير!
صحيح أن هناك ردة صحية لإيجاد محميات طبيعية عامرة بالطيور
والحيوانات, التي كانت حاضرة في المشرق العربي في النصف الأول من القرن العشرين,
لكن البلية تكمن في ذلك النفر من القنّاصة الذين يحبون الرمي والقتل والقنص حبا في
قتل مخلوقات الله الحيوانية بمزاجية لا يغبطون عليها!
وليس جمال الطبيعة الفتّان - وحده - هو الذي يلفت نظر المسافر عبر
جبال الأطلس الأعلى بل الأجمل منه الإنسان الأمازيغي او (البربري), كما ينعته
الغربيون الأوربيون. والبربري تسمية شائعة خاطئة, لأن اسمه الحقيقي هو: الأمازيغي
والشعب هو: الأمازيغ, والأمازيغي - بالمناسبة - تعني الإنسان الحر.
وحين أتحدث عن إعجابي ودهشتي بالإنسان الأمازيغي, فإني أعني بالتحديد
المرأة الأمازيغية, فقد وجدتها ترعى شئون البيت, وتربي العيال, وتفلح وتزرع وتحصد,
وتحمل المحصول على كاهلها, وترعى المواشي وتحلب البقر والنياق, وتبيع الغلة على
الطرقات وبمعيتها عيالها الصغار! ويبدو لي أن الرجل الأمازيغي مكرّس وقته للحرب
والحب.. حب خلفة الذراري من البنين والبنات!
ولعله من فضول القول التنويه بأني طوال الطريق الذي زاد على الألف
كيلومتر, لم أجد سياحاً عرباً يوحدون الله سبحانه, فكل السيّاح من الأجانب, ولن
أذكر الزوار المغاربة, لكون حضورهم من تحصيل الحاصل, ولا يستوجب الإشارة
والتنويه.
ومن هنا كان حضوري مثار دهشة و(فرجة) النظارة من الإخوة المغاربة,
وجموع السيّاح على حد سواء! سيما أني كنت ألبس الزي العربي الخليجي, الذي بات
معروفا للعامة والخاصة على حد سواء.
موسم الخطوبة
يعد موسم (إميلشيل) للخطوبة الذي تقيمه عمالة (محافظة) (الرشيدية) من
19 إلى 21 سبتمبر قبلة الزّوار والسيّاح الأجانب (غير العرب) والمغاربة, فضلا عن
الباحثين في الفلكلور والأنثروبولوجيا وغيرهما, نظراً لما تنطوي عليه هذه التظاهرة
الشعبية, التي لا مثيل لها في العالم, من طابع أسطوري معجون بالخيال الشعبي لسكان
قبائل (آيت حديدو) القابعة في جبال الأطلس على علو 2000 متر.
يجتمعون في هذه الفترة من السنة المتزامنة مع موسم الحصاد لتخليد
أسطورة بحيرتي (إيسلي) و(تيسليت) وتعني بالأمازيغية: الخطيب والخطيبة. والأسطورة
تتحدث عن حكاية ولد وبنت أحب كل منهما الآخر حباً جماً, لكنهما - لسوء حظهما -
ينتميان إلى قبيلتين متعاديتين, لذا كان من البدهي أن جوبه حبهما بالرفض وعدم
السماح لهما بتتويجه بالزواج, الأمر الذي أدى بهما إلى البكاء المترع بالدموع
الغزيرة المدرارة. فكوّنت دموعهما كلاً من بحيرتي (إيسلي) و(تيسليت). وأسطورة
العاشقين باتت في المخيال الشعبي ترمز إلى التحرر واستقلالية اتخاذ القرار بين سكان
القبيلة. وهذه الحرية ليست مطلقة بل إنها مرهونة بموافقة ذوي الخطيبين.
والموسم في المملكة المغربية يضاهي المولد في مصر المحروسة. وأظن أن
الأخيرة ورثت الموالد من المغرب. سيما أن جل الأولياء الموجودين في مصر هم من
المغاربة! ومهما يكن الأمر فإن المملكة المغربية تعد بحق أم المواسم! فكل عمالة
وحاضرة ومدينة وقرية لها موسمها الخاص! بحيث يمكن لنا القول إن هناك المئات من
المواسم التي تقام على مدار السنة في طول المملكة المغربية وعرضها!
والموسم في المغرب له معان شتى: فهو يحوي السوق والمولد - أي الاحتفاء
بميلاد أحد أولياء الله الصالحين - فضلاً عن كونه المعرض والمهرجان والعرس. وتتضافر
هذه الفعاليات لتخلق فضاءً فريداً تمتزج فيه الأسطورة بالخيال بالتراث الشعبي
والعادات الاجتماعية القبلية المغرقة في القدم.
إن القاعدة الأساسية التي يتكئ عليها زواج عرسان أبناء قبيلة (آيت
حديدو) في (إميلشيل) بإقليم (الرشيدية) هي اخطف عروسك ومن ثم تزوجها فإن لم تفعل
ذلك فأنت يا حضرة البعل المبجل لا تستأهلها!
وهذه الرواية أحكيها على ذمة أحد مشايخ القبيلة. أقول ذلك لكون الخطف
إبان الموسم يتم بصورة احتفالية (درامية) تمثيلية تحاكي الخطف الذي كان سائداً في
الأيام الخوالي من غابر الزمان.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض أبناء القبيلة غير راضين لأن يكون تراثهم
وتقاليدهم فرجة احتفالية للسياح والزوّار! لكن هذا الموقف لم يؤثر على حضور الموسم
وشهرته واستمراره كل سنة منذ عام 1965 متواصلة حتى الآن.
وحين يشاهد المرء طقوس موسم الخطوبة يختلط عليه الأمر.. بحيث لا يدرك
- لأول وهلة - الفرق بين الحقيقة والخيال, أو الأسطورة والواقع الذي يدب على
الأرض!
في الصباح الباكر, بعد شروق الشمس بساعة, يهرع أبناء قبائل (آيت
حديدو) إلى التجمع في ساحة الاحتفال وميدان الموسم. فها هي الخيام المغربية الكبيرة
المساحة والحجم: منصوبة متراصة على شكل دائرة, تزنر الفضاء الاحتفالي بسحر وبهاء,
والموسم في المغرب - في العموم - يتسم بطابع تجاري تسويقي واجتماعي وديني روحاني.
فعادة يتزامن عقده إثر موسم الحصاد, في بداية الخريف, حيث يتمكن القوم من شراء
لوازمهم وحاجاتهم الحياتية لمدة سنة كاملة تقريبا.
فمنطقة إميلشيل تقع في حضن جبال الأطلس الأعلى حيث الشتاء طويل: شديد
القر والبرد غزير الثلج والأمطار. ومن هنا: فإن البيات الشتوي يحتاج إلى مئونة تقيم
الأود, وتقيه القر وتمنحه الدفء, وكل حاجاته الضرورية.
إن المحور الأساسي لموسم الخطوبة في إميلشيل - كما أسلفت - يتكئ على
أسطورة موغلة في عمق التاريخ. وهي تتحدث عن شابين من قبيلتين مختلفتين شغف كل منهما
حبا بالآخر.
الشاب اسمه (موحا) وحبيبته اسمها (حاده), وقد حالت التقاليد دون أن
يتوج حبهما بالزواج,لذا لم يكن بأيديهما من حيلة سوى ندب سوء حظهما, فانتحيا ركناً
قصياً, وشرعا في البكاء المر, فهطلت عيونهما بالدموع الغزيرة التي كونت - كما تقول
الأسطورة - بحيرتي إيسلي: أي العريس. وتسليت: أي العروس وأصبحت بحيرتا (إيسلي
وتسليت) محجا للعشاق, ومزاراً للمحبين, وكعبة للراغبين في الزواج من دون عقبات
ومعوقات!
فما دام الولي الصالح (سيدي أحمد أومغاني) قد بارك حب الشابين (موحا
وحاده) فقد صار في مقدور كل وليفين حبيبين الزواج على سنة الله ورسوله.
إن الراغبين في الزواج يتعارف كل منهما على الآخر - بطبيعة الحال -
قبل الموسم. ويتم عقد قرانهما في الموسم ذاته, حيث يوجد كتّاب العدل الذين يقومون
بإجراءات عقد القران شفاهة وكتابة,وفق التقاليد الإسلامية المألوفة في كل بلاد
المسلمين.
وفي وقت الضحى يزدحم فضاء (إميلشيل) بفرسان القبائل الممتطين خيولهم
المزينة بالسروج البهية, وتتوافد النسوة مثنى وثلاثا ورباعا وهن يرفلن بملابسهن
التقليدية الزاهية, ولا يبرز من العروس منهن سوى عينيها. لأنها تكون ملثمة! ويتحلين
بالحلي والقلائد والأقراط المصنعة محلياً بواسطة صناع الحلي و(مجوهرات) الصناعة
التقليدية المصنوعة غالبا من الفضة.
إن الأزياء تلعب دوراً احتفاليا سحرياً في تمييز العروس العذراء عن
غيرها من النساء المطلقات والأرامل الراغبات في الزواج ثانية.
إن عروس موسم إميلشيل (بنت قبيلة آيت حديدو) تعنى عناية شديدة
بالتزويق (الذي ينعت بالماكياج بالعربي غير الفصيح) فتجدها تضع الكحل في عينيها
الساحرتين وتطرز خدها بنقاط حمراء بدعوى أن اللون الأحمر - وفق اعتقادها - يدرأ
عنها الحسد والشر. أما اللون الأصفر فتضعه حول الحاجبين ليبرز جمالها ورقتها. ولا
تنسى تزيين أذنيها بالأقراط كبيرة الحجم, وتتقلد على صدرها قلادات مرصعة بالأحجار
الصفراء والحمراء المضاهية لمعدن (الكهرب) الذي تصنع منه المسبحة.
والعرس يوجب على الجمع القبلي ارتداء الملابس التقليدية الجديدة -
غالبا - والنظيفة على الدوام. فالشيّاب الرجال يعتمرون العمامة الأمازيغية التي
عادة ما تكون من القماش الفاخر, ويرتدون الجلابيب والبرانس الضاوية بالألوان
الخضراء والبنية البهية.
وفي داخل الخيام وخارجها تباع الصناعات التقليدية الخاصة بالإقليم
نفسه, والأقاليم المجاورة له: فتجد الزرابي مبثوثة على الأرض في كل مكان, ويتعالى
ثغاء الخراف والماعز وكل الأصوات المميزة للبقر والجمال والأحصنة والبغال والحمير
والكلاب والدواجن.
وتشرع النسوة منذ الصباح الباكر في طبخ وتطييب (الطواجن) و(الكسكسي),
بينما الفرق الموسيقية الفلكلورية تهزج بالأغاني الموقعة على إيقاع (البندير)
والدفوف والطيران والربابة المغربية صغيرة الحجم ذات الدويّ الذي لا يتناسب مع
حجمها! والفرق الفلكلورية الغنائية الراقصة تحضر من المدن والقبائل المقيمة في جبال
الأطلس وما جاورها, يقودها ذلك الشيخ الأمازيغي المترع بالفروسية والحيوية
والرشاقة, والملقب في أوساط المواسم والمهرجانات التراثية الفلكلورية بلقب
(المايسترو)! وهو حاضر فيها على الدوام, ويتمتع بجماهيرية وجاذبية و(كاريزما)
شخصية, تمكنه من النفاذ إلى قلوب المشاهدين من دون استئذان! وفي موسم إميلشيل الذي
نحن بصدده: كدت أن أسرق الكاميرا - كما يقولون بلغة السينما - من حضرة (المايسترو)
بجلالة قدره, وعظمة فنه وشدة حضوره. والسبب يكمن في الزي العربي الخليجي الذي كنت
أرتديه بينما كنت أصور المشاهد الاحتفالية بالكاميرا التي كانت بحوزتي. فقد صوّب
السياح كاميراتهم نحوي لتصويري لغرابة زيي!
لكن (المايسترو) استطاع إعادة الاهتمام برقصه وإيقاعه وحضوره الجذاب
في ساحة الرقص والغناء الفلكلوري, كما هو دأبه دوما في كل مهرجان وموسم.
وتجدر الإشارة إلى أن بحيرة (إيسلي) تقع على بعد ستة كيلومترات من
منطقة إميلشيل, ويصل عمقها إلى 37 متراً, بينما تبعد عنها بحيرة (تسليت) باثنى عشر
كيلومتراً, وعمقها يصل إلى 86 متراً. ونظراً للفضاء الطبيعي الجميل الذي يحيط بكل
منهما, فقد أصبحتا منتجعين سياحيين يزورهما السياح من شتى الأقاليم المغربية, وكل
أقطار العالم التي اعتاد مواطنوها السياحة في المغرب.
الأسطورة والحقيقة!
والحق أن زائر الموسم: يخال نفسه يشهد شريطا سينمائيا ذا (سيناريو)
درامي تختلط فيه الأسطورة بالعادات واحتفالية الترويج السياحي الذي يعد بمنزلة
(البزار والبهارات) التي تجذب السياح - كل سنة - لمشاهدة الموسم والاستمتاع به.
إن المشهد الأول في سيناريو الفيلم المتخيل ينطوي على قاعدة (اخطف
العروس تنلها) فإذا لم يتمكن العريس من إتمام عملية الخطف فإنه لا يستأهل العروس
البتة! وتجدر الإشارة هنا: إلى أن عملية الخطف حالياً, يكون متفقا عليها بين عائلتي
العروسين, بعكس الأزمان الغابرة: حين كان الخطف حقيقيا! وهكذا تقول أسطورة الزواج
العشائري.
وعلى الرغم من مسحة الترويج السياحي التي تصبغ الطقوس الاحتفالية
للموسم, فإن أحد أبناء المنطقة العارفين بالموروث الحضاري للزواج في إميلشيل يشير
إلى أهمية المشاعر السامية لمجموعة قبائل (أو ملان) والتي تعني بالعربية الناس
الذين يوفرون الأمان.
ويجدر التنويه إلى أن غطاء رأس المرأة المتزوجة يكون مخروطيا إلى
أعلى, في حين يكون غطاء المرأة العزباء أفقيا (كما توضحه الصور) وحينما تخرج العروس
من بيت ذويها, وتحين ليلة دخلتها يحيط بها أبناء عمومتها الأشدّاء, وقد (تسلحوا)
بجريد النخيل الذي سوف يضرب به البعل المسكين مدة من الزمن, إلى حين تمكنه من
الإمساك بلجام البغلة التي تمتطيها عروسه! إن مغزى هذه العملية المبرّحة هو التدليل
على رباطة جأش العريس وشجاعته, وصبره على تحمل المشاق, وعلى قدرته على القيام
بحماية زوجه من عاديات الزمن وخطوبه!
وإثر إتمام عقد القران: يتقاسم العروسان وأسرتاهما رغيف خبز كبيرا
تتجاوز مساحته المتر المربع, دلالة على الارتباط المقدس بين الأسرتين المتصاهرتين.
أي أن يكون بينهما (عيش وملح) وفق قول وتقاليد عرب المشرق.
وتتوالى مشاهد سيناريو الموسم وتتراءى مثل الفيلم الرومانسي, حيث
يتوجب على العروس الاستحمام بثياب زفافها في مياه بحيرتي (إيسلي وتسليت) جهاراً
نهاراً, وعلى رءوس الأشهاد ومرأى كل الناس الموجودين في فضاء المشهد!
ولا شك في أن السياح الأجانب مفتونون بهذا المشهد الرومانسي, وغيره من
المشاهد التي غابت عن حياتهم اليومية المادية. وكم تثيرهم الملابس الوطنية
التقليدية العريقة المحافظة على أصالتها وحضورها في الحياة الاجتماعية رغم تقادم
السنين والحقب والأزمان: فالملابس بهية بشكلها وألوانها المزركشة, والحلي المصنوعة
من العقيق والأصداف والفضة تزنر الأعناق والمعاصم والصدور والنحور والأقدام.
والمواسم - أي موسم في المغرب - هو عرس واحتفال وسوق تجاري وغناء ورقص
فلكلوري.
يضاف إلى هذه المشاهد: مشهد العريس بزيه الأبيض, وفرسه المطهم, ليضفي
على فضاء الموسم: نفحة أسطورية مفعمة بالسحر والفرح والرومانسية: التي تدغدغ مشاعر
الصبايا الوافدات المنتظرات لعرسان المستقبل.
وتذكر الباحثة (خديجة عزيز) في بحت لها عن موسم الخطوبة في إميلشيل
(مجلة الصحراء العدد 4613 الصادر في 6 سبتمبر 2001), (أن منطقة إميلشيل وجدت في
الأطلس الكبير لتكون رائدة الانفتاح نحو العالم, ويعود ذلك إلى كونها تتمتع بموقع
استراتيجي أهلها لاحتضان بساط تطبيق الحبوب). وتشير الباحثة في موقع آخر من مبحثها
إلى (أن موسم الخطوبة يعد قبلة لكل من يأخذه الحنين لقيم الحب النبيلة).
فالحب عند هؤلاء له توأم لا يكاد يفارقه اسمه الفضيلة: هاته الأخيرة
التي بها يكتمل الحب, ومن خلالها ينمو ويكبر, وينشر الرحمة والتسامح, تلك القيم
النبيلة - إذا صح التعبير - تكاد تفقدها بعض المجتمعات المعاصرة.
طقوس احتفالية
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: يكمن في الكيفية التي تتم
بها مراسم الخطوبة والزواج وفق التقاليد السائدة لقبائل المنطقة.
بداية, يتشكل وفد من عشرة أفراد (خمس نساء وخمسة رجال), حيث يتجه
الوفد صوب منزل العروس, ليقدموا لها الهدايا المكونة من الملابس والحلي وخروف سمين
كامل الدسم لا عيب يشينه, فضلا عن الـ (أبادير) الذي سبق لنا ذكره, وقوامه رغيف
كبير يصل قطره إلى متر, ويتكون من 25 كيلوجراما من طحين القمح ثم يعجن بعشرة لترات
من الماء, بعد أن يضاف إليه القدر المناسب من الملح. وعادة يقوم الرجال بخبزه لا
النساء, وحين ينضج يوزع على أفراد الأسرتين - رمزاً للمودة والتعارف. كما يقدم
للضيوف من قبل أهل العروس التمر والزبد والعسل والحليب.
وتقوم سيدة مسنة بتزويق العروس بالحناء, ومن ثم ترتدي ثوب العرس
الأبيض وتتقلد بالحلي. وقبل خروجها من بيت والديها يقوم والد العروس بوضع (برنسه)
تحت قدميها دلالة على مباركته لهذه الزيجة!
أما الطقوس الأخرى فقد سبق الإشارة إليها آنفاً في موقع آخر من
الاستطلاع.
إن المزية التي تميز موسم إميلشيل عن غيره من المواسم في المملكة
المغربية تكمن في كونه حضناً يضم العشاق والمحبين, الذين يلتقون فيه ويتبادلون
الأحاديث الحميمة, ويتناقشون في الترتيبات المتعلقة بحياتهم المستقبلية. فحين يتم
التفاهم بين الطرفين يذهب الخطيبان إلى المقر الذي يقيم فيه الكتبة العدول, ليعلنا
أمامهم ويشهداهم على رغبتهما في عقد قرانهما ببساطة متناهية تنأى عن الإجراءات
الروتينية المعقدة التي تطبع العديد من الزيجات في المجتمعات الحضرية المدنية.
وأزعم أن هذه البساطة المتناهية في عقد الزواج لا توجد - حسب علمي -
في أرقى المجتمعات العصرية. وحرية اختيار القرين لوليفه وزوجه لا تعني أنها حرية
طائشة نزقة غير مسئولة, ذلك أن الاتفاق بين الحبيبين على الزواج لا قيمة له من دون
موافقة ذويهما ومباركتهم!
والأمر الجدير بالذكر في موسم الخطوبة بإميلشيل هو تضاؤل القيمة
النقدية لصداق الزوجة حين لاحظت بأم عيني أنه لا يتجاوز المائتي درهم المساوية
العشرين دولاراً. فقط لا غير (يا بلاش!).
وحين سألت الأخ الذي يرافقني من وزارة السياحة عن مقدار الصداق أكد لي
ما رأيته. الحق أن المرء انفتحت (شهيته) للزواج, ليس لقلة قيمة الصداق فحسب, بل
الأهم من ذلك كله يكمن في أن الصبايا (سبحان الخالق) فهن يتمتعن بجمال فطري صارخ,
جمال رباني لم تتدخل فيه أنامل (الكوافيرة) ومراكز التجميل والتزويق وعمليات (الشد
والترقيع والشفط) وغيرها الشائع بين أوساط صبايا المجتمع المخملي في المشرق العربي
بعامة, والمجتمعات المخملية الخليجية النفطية بخاصة!!
وبصراحة شديدة, لو كان بي حيل, وينقص عمري الحالي ربع قرن بس, لكنت
انضممت إلى طابور الخاطبين تمتينا للعلاقات الوحدوية العربية بين أبناء الأمة, لكن
(الشجاعة) خانتني في اللحظة الأخيرة حين تذكرت (الذئبة) التي تنتظرني في الوطن
وبمعيتها ما شاء الله (نصف درزن) من الذراري! ما علينا! فالموسم يستمر ثلاثة أيام:
حيث يكرّس اليوم الأول لمراسم الافتتاح التي يدشنها عامل (محافظ) عمالة (الرشيدية)
وبمعيته كبار المسئولين ورؤساء القبائل في الإقليم, فضلاً عن جموع السياح الأجانب
والزوار المغاربة.
وفي يوم الافتتاح تقام عروض غنائية فلكلورية راقصة, أكثرها شهرة
وجاذبية (أحيدوس) التي يقودها الفنان الفلكلوري الأمازيغي العجوز: موحا والحين
والملقب بـ (المايسترو) كما أشرت إلى ذلك آنفا. وقد قرأت خبراً يفيد بأنه اعتزل
الحياة الفنية لكبر سنه, وسلم الراية والقيادة لنجله الكبير لكي يقود فرقة (أحيدوس)
الشهيرة على هدى والده الفنان الفارس الجميل.
ويتضمن يوم الافتتاح - فضلا عن ذلك - المسابقات الثقافية والرياضية,
والقنص والصيد, والسهرات الفلكلورية على ضفاف بحيرة (إيسلي). أما اليوم الثاني من
الموسم: فيخصص لعقد قران عروسي الموسم في أحد قصور المنطقة: يشهد فيه السياح
والزوار كل المظاهر الاحتفالية لعقد القران. أما اليوم الثالث والأخير: فهو خاص
بالزيارات الميدانية لزيارة المناطق السياحية, والمواقع الأثرية, والتي تتم على
ظهور البغال القادرة وحدها على تحمل مشقة الطرق الجبلية الوعرة.
(أم المواسم) والمهرجانات!
والشاهد أن زائر موسم (إميلشيل) سوف يمضي الأيام الثلاثة دون أن يشعر
بالملل البتة: حيث يكون في مقدور الزائر الاستمتاع بمشاهدة الخيام الكبيرة المجسدة
لحياة البدو الرحل, ويمكنه كذلك أن يطعم ويتذوق فنون طبخهم, وبخاصة أنواع الخبز
الكبيرة التي سبق الإشارة إليها في ثنايا هذا الاستطلاع.
وهذا التجوال الذي يمارسه السائح والزائر يتم وسط رقصات (الأحيدوس)
التي يؤديها سكان القبائل حيث يصطف الرجال والنساء متشابكي الأيادي ملعلعين
بالأغاني وإيقاعات (البندير) و(الطار) المتناغمة مع حركات الأقدام وهزات الأكتاف,
المثيرة للطرب والفرح, المحرّضة على (الزفان) والمشاركة في الرقص!
إن المواسم تشغل حيزاً كبيراً في الحياة الاجتماعية المغربية, بحيث
يتراوح عددها من 600 إلى 700 موسم تقام على مدار السنة. صحيح أن هذه المواسم تتفاوت
في درجة أهميتها وجماهيريتها, إلا أن كل موسم فيها, له نكهته الخاصة التي تميزه عن
غيره, وتبرر استمراره وحضوره.
وعلى الرغم مما تتميز به المواسم المغربية من طرافة وسحر وجمال,
وأصالة وجاذبية وتنوع, وكل الصفات (الزينة) التي تنطوي عليها, فإن ما يعيبها هو
تذبذب مواعيدها وعدم ثباتها! فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن مهرجان مراكش للفلكلور
الغنائي الموسيقي الراقص تارة يعقد في يونيو وتارة أخرى في يوليو, مع أن عمره يزيد
على الأربعين عاما.
وهذا التذبذب - بداهة - ليس في صالح الموسم والمهرجان والمعرض الذي
يقام كل سنة.
والعيب الآخر: يكمن في غياب الدعاية والإشهار والإعلام عن الموسم في
الأقطار العربية التي اعتاد مواطنوها زيارة المملكة المغربية في الصيف بخاصة, وفي
أيام العطل بعامة. فلا أذكر أني شهدت إعلانا عن أحد المواسم أو المهرجانات التي تعج
بها المغرب على مدار السنة في وسيلة إعلامية بالمشرق العربي!
ولسنا بحاجة الإشارة إلى أن هذين العيبين يؤثران بشدة في مهمة الترويج
والجذب السياحيين المكرسين لكل المواسم والمهرجانات المغربية.
أقول ذلك كله, لأن جلّ السيّاح العرب الخليجيين لا يعرفون شيئا البتة
عن كل المواسم والمهرجانات المغربية, وأنا أطرح هذا الزعم اعتماداً على خبرتي
الشخصية وذاكرتي الذاتية, فلم أشهد فرداً أو أسرة عربية خليجية في كل المواسم
والمهرجانات المغربية التي شهدتها مراراً وتكراراً.
وقد يكون العيب في العبد لله كاتب هذه السطور لأن نظره ضعيف ولا يعوّل
عليه. ولذا لزم التنويه!!.