فلسطين والدولة ثنائية القومية

  فلسطين والدولة ثنائية القومية
        

          طالعت, بمزيد من الاهتمام, مقال رئيس التحرير د.سليمان العسكري, في (العربي) العدد الصادر في يوليو 2002 الذي يعالج مشكلة العصر المستعصية, وهي الصراع العربي - الإسرائيلي, ولبها قضية الشعب الفلسطيني. وهي مشكلة عصية على الحل طوال أكثر من نصف قرن من الزمان, وكشفت عن فشل العقلية اليهودية في الاهتداء إلى حل لها. ويستهل الكاتب عرضه العلمي والموضوعي لهذا الموضوع الحيوي بتساؤل عما إذا كانت إقامة دولة ثنائية القومية لتلك الأراضي المقدسة فيها الخلاص من دوامة العنف والقتل التي لا تتوقف, أم أن هذه الفكرة مجرد حلم طوباوي آخر يضيع فيه الفلاسفة وقتهم ويرفضه محترفو السياسة?

          لا شك في أن الصراع الدامي الذي تشهده الأرض الفلسطينية في الوقت الراهن, وتاريخ الحروب, والصراع الممتد عبر نصف قرن من الزمان, والذي عانت فيه دولة إسرائيل الأمرين, ومازالت تعاني, وسوف تستمر في جحيم المعاناة إلى ما شاء الله وذلك إذا لم يهتد قادتها إلى حل جذري وعادل وشامل ودائم يتمثل في إقامة دولة مشتركة من مختلف العرقيات التي تسكنها خاصة أن 40% من مجموع سكانها ليسوا من أبناء الشعب اليهودي. ولعل فيما تتكبده إسرائيل من خسائر, على القليل في قواها البشرية محدودة العدد, يكون فيه الاقتناع بعدم جدوى العنف والتدمير والقتل والاجتياح والحصار والإغلاق والتجويع والحرمان, وتبادل الرعب, فلقد برهن الشعب الفلسطيني أنه شعب لا يقهر. والمستقرئ للأحداث يلمس أن إسرائيل لم تنعم باستقرار وجودها ككيان عنصري يهودي خالص, ولم يتحقق لها هدف جزئي أولي وهو الأمن الذي ظلت تنشده عبر سنوات الصراع دون جدوى.

زوال الاحتلال

          ويبدو في الأفق البعيد أن هذا الوضع قد يمتد لأجيال وأجيال قادمة. والمفروض أن يستفيد الإنسان من خبرات الغير, ومن باب أولى أن يستفيد من خبراته الذاتية, فإسرائيل تعيش هذه التجربة المريرة منذ إنشائها معتمدة على القوة الغاشمة والعمياء, وتاريخ البشرية يؤكد حقيقة قاطعة هي أن الاحتلال إلى زوال في كل بقاع الأرض, ولم يعد مقبولاً, في عصرنا الحالي, أن يحكم شعب شعباً آخر, فلقد انتهت عصور الاستعمار إلى غير رجعة. وإذا كانت إسرائيل قد تكبدت, منذ اندفاع انتفاضة الأقصى الكثير من الخسائر البشرية في القتلى والجرحى والمشوهين والمصابين, فإن ذلك مدعاة إلى إعادة الحسابات ومراجعة الفلسفات والأهداف والمناهج وطرائق التفكير. ولعل الخلاص فيما عرضه د.سليمان العسكري من فكرة إقامة دولة مشتركة متعددة الأعراق والثقافات, يشترك في حكمها وإدارة شئونها العرب والإسرائيليون على قدم المساواة, يعيشون في سلام وتصالح على أرض الأجداد, ويُنهي ذلك دوامة الصراع المستعصي منذ أمد بعيد.

          وحتى إقامة دولة عربية إلى جانب الدولة العبرية, وفي ضوء العداء التاريخي والثأر القديم والحديث, وطبيعة الأرض والحياة المشتركة بين الشعبين, فإن ذلك سوف يجعل من الاحتكاك والتشاحن أمراً محتوماً, لا بين الحكومتين, وحسب, وإنما بين آحاد الناس. والعالم كله يشهد مثل هذا المزيج الديموجغرافي الهائل والعيش في وئام وانسجام في الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب إفريقيا وفي لبنان وفي سويسرا وفي مصر والتي ينعم فيها المسلمون والأقباط بالعيش المشترك. وكان اليهود يعيشون منعمين في جميع الأوطان العربية قبل ظهور تلك الفكرة الشريرة, وأعني بها إقامة دولة يهودية عنصرية عدوانية انطوائية في قلب الوطن العربي والإسلامي, ونقول إنها كانت ومازالت فكرة شريرة بالنسبة للشعب اليهودي نفسه بل إنها تمثل نكبة يهودية إذا استمرت فقد تؤدي إلى تصفية الشعب اليهودي في إسرائيل. فلم تنعم إسرائيل بالأمن للحظة واحدة منذ إنشائها وحتى الآن ولم يشعر أهلها بالاطمئان على مستقبل بقائها. ولن تنعم بالأمن أو الهدوء أو الاستقرار أو التعاون مادامت هذه المشكلة قائمة.

نهاية النفق

          ولعل وحشية (شارون) وحمقه لا يمنعان العقلاء من أهل الكيان الصهيوني من التفكير الصائب واستخلاص الحقيقة من حطام الدمار والخراب والقتل وسفك الدماء والخسائر المادية التي تلحق بالاقتصاد الإسرائيلي, ونقول إن هذا الأمل لن يخفت مهما طال الزمن, بل إن تجربة الخسائر البشرية الإسرائيلية في انتفاضة الأقصى فيها الإقناع باللجوء إلى الصلح والتصالح كحل حتمي ونهائي ووحيد لهذا الصراع الدموي. ولعل فكرة التصالح وإقامة الدولة المشتركة (شعاع ضوء ما في نهاية نفق مظلم طويل). ونشعر بما يشعر به د.العسكري من (إننا مقصرون في الإصغاء إلى الصوت الفلسطيني الداخلي والمحاصر خلف خطوط عام 1948). واستمرار الصراع بلا مبرر يجعل البعض يشك في أن أمريكا نفسها تستهدف من ورائه توريط إسرائيل نفسها واستنزاف قواها البشرية والاقتصادية والعسكرية. فعرقلة الحل إضرار بالشعب الإسرائيلي وإخضاع له للإرادة الأمريكية وفيه تعريض لانحلال الكيان الصهيوني والهجرة المرتدة. ولذلك فإن العقلاء من بني إسرائيل مطالبون بإجراء استفتاء شعبي عام حول إقامة دولة مشتركة لإنهاء الصراع إلى الأبد وإقامة الدولة العلمانية المتعددة الأجناس والمقبولة من دول الجوار. ولذا فإن ما يطرحه المقال ليس مجرد ضرب من الإغراق في الخيال أو الوهم, وإنما فكرة واقعية وعملية ومفيدة, ولها ما يؤيدها من كثير من الأمثلة والنماذج في العالم من حولنا, ومن أظهر هذه الأمثلة الولايات الأمريكية نفسها التي تتكون من مئات العرقيات البشرية والتي تتعايش معاً في سلام ووئام.

 

عبدالرحمن محمد العيسوي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات