أطفالنا واستثمار المستقبل

 أطفالنا واستثمار المستقبل
        

          عددان من مجلة (العربي) يفصل بينهما عام كامل وكان الموضوع الرئيسي فيهما الاهتمام بمستقبل الطفل العربي حيث طرح رئيس التحرير الدكتور سليمان العسكري:

          1 - (الطفل العربي ومأزق المستقبل) العدد (521 - أبريل 2002م).

          2 - كتاب الطفل وكتابة المستقبل العدد (533 - أبريل 2003م) وجاءت مداخلة ثرية بالعدد نفسه من الدكتورة أمل المخزومي في مقالها (حتى لا تضيق مساحة الإبداع أمام أطفالنا).

          وهذا ما يذكرنا بوصية سيدنا عمر بن الخطاب والتي صدرت منذ خمسة عشر قرناً كأول صيحة لتطوير المناهج (.. إنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم).

          إن أهداف تربية المسلم تختلف اختلافاً أساسياً عن سائر النظم الأخرى, ومن هذا المنطلق يتضح لنا أن الإسلام يعد أبناءه منذ الصغر ويربيهم ليكونوا قادرين على أداء الرسالة وعلى قيادة الإنسانية كلها وإخراجها من الظلمات إلى النور.

          لذا, نسعى لوضع مبادئ إصلاح الغرض منها هو الطفل في نهاية الأمر: شخصيته وكرامته. إن تربية الطفل لا يمكن تصورها بمعزل عن التعاون المتبادل بين الأسرة والمؤسسات التربوية, وذلك لجمع المعلومات التي تلقي الضوء على الطفل وتنظيمها في مراتب وأولويات وليكون المناسب إعداد استبيان كأداة يمكن بواسطتها تدبير الأمر.

          إن هناك تسابقاً يجري في العالم اليوم للعناية بالأطفال وأسلوب إعدادهم بشرط أن تكون البداية من الطفولة المبكرة, هذه العناية ليست مجرد رعاية طفل بل إعداد للمجتمع وتكوين لسلاح المستقبل, ولا يمكن أن يأتي من فراغ أو صدفة, أو ارتجالا,ً إنما وليد دراسات وإعداد طويل محسوب ومكفول له الإمكانات والضمانات التي تصل إلى الغاية المنشودة.

          فلم يعد الاهتمام بالطفولة مجرد اهتمام بقطاع من المجتمع بل هو اهتمام بالمجتمع ولابد من مضاعفة الإنجازات بالأطفال حتى نملأ أبصارنا كل عام بصورة جديرة بالطفل العربي الذي يمثل جيل المستقبل.

          إن الطفولة عندنا تلقى اهتماما اقل صحياً وتعليمياً وتربوياً ويكفي أن الأم لا تتلقى أي معلومات تفيدها في ممارسة مهنة الأمومة, فكم مر من الوقت منذ أن خصصنا عاماً? وماذا فعلنا من أجل أطفالنا? وكم خصصنا لهم من ميزانية الدولة?

قدرات خلاقة

          إن الحكومات مسئولة عن أشياء قد لا تبدو للعين الآن ولكن نتائجها وآثارها ستظهر حتماً مستقبلاً, أي أن هناك أشياء يجب أن نهتم بها في وقت مبكر لحاجة البلاد إليها في وقت متأخر, وفي مقدمتها الاهتمام بالأطفال الذين هم الأساس لبناء مجتمع متكامل, وهذا بالضرورة يلزمنا أن نضع نصب أعيننا تغذية وصحة الأم والطفل.

          إن استثمار الجهد والمال والرعاية الكاملة للأطفال هو استثمار لمستقبل أي مجتمع, لأن التنمية تقوم على الإنسان القادر الصحيح المتمتع بقدرات خلاقة وتفكير منظم سليم وهذه الصفات لا تُكتسب في الكبر.

          إن البعد عن تدريس التربية الريفية هو الفشل في إثارة رغبة التلاميذ لمعرفة البيئة فوجود حديقة المدرسة والمشتل ميدان خصيب لذلك إذ يستطيعون الاعتناء بزهورهما الجميلة وتنسيقها وإضافة مفردات جديدة لحصيلتهم اللغوية بالتعرف على أسماء النباتات, ومدارسنا مبان متراصة مساحاتها واسعة, الخضرة فيها لا تبصرها العين والمفروض أن تكون حديقة زاهرة.

          ويأتي الطفل إلى المدرسة ليبدأ تكوينه العقلي والحضاري والإنساني, لذلك ينبغي أن تكون المدرسة قطعة من الجمال والنظافة والتنسيق لأن الطفل الذي تستقبله هذه المدارس يتعلم بعينيه ثم يتعلم بأذنيه.

          عند زيارة الرئيس الصيني ماوتسي تونج لإحدى مدارس بكين العاصمة كان الدرس عن زراعة أحد المحاصيل المهمة, ولاحظ الزعيم الصيني كثرة أسئلة التلاميذ, ولاحظ أيضاً حيرة المعلم في الإجابة فطلب ماو أن يصحب المعلم تلاميذه إلى الحقول وفي الطريق قال الرئيس للمعلم:

          (اصحب تلاميذك إلى المواقع الطبيعية فيكفوا عن الأسئلة واصحبهم أيضاً إلى المتاحف فتلتصق المعلومات بأذهانهم أكثر) إن التعليم ليس حشو معلومات بل استنباطها بالرؤية. في غياب الصورة الإيضاحية تغيب المعلومات وتتبخر وتبقى المشاهدة والممارسة.

          إن المعلم الذي لا يهيئ لتلاميذه فرصة لدراسة البيئة يكون أغفل ميلاً مهماً من ميول الأطفال, وإذا كنا نهدف إلى احترام أطفالنا وتقديرهم فعلينا أن نهيئ لهم جواً تظهر فيه نفسياتهم على طبيعتها فتتضح لنا أفكارهم وعواطفهم واتجاهاتهم فنحاول أن ننمي مواهبهم ونسمو بها.

جهود شعبية

          هذا ما نادت به التربية العربية وعملت به منذ أكثر من نصف قرن ولكن بعض طرق تدريب المعلمين هذه الأيام أغفلت هذا الجانب الحيوي الذي ينمي قوة الملاحظة أثناء العمل اليدوي الذي يغرس فيهم كل الصفات الحميدة ويسير جنباً إلى جنب مع العلوم لأخرى. يقول أبو يحيى الأنصاري: (على كل صبي أن يعرف طرقا من العلوم الضرورية في الحياة كالقراءة والكتابة والحساب ثم عليه بعد ذلك أن يتجه إلى العلم أو الحرف على حسب استعداده وتكوينه. إذ ليس أحد يصلح لتعلم العلوم فإذا اتجه إلى العلم فليقصد العلم الذي يطلبه طبعه فما كل من يصلح لتعلم العلوم يصلح لجمعها).

          وحدد أبو يحيى فترة الطفولة لبدء التعليم وتعلم الحرف أي اكتساب مهارة بالعمل اليدوي, وحرصت منتسوري على ذلك بالاستفادة من استعداد الطفل العقلي لتقبل المعلومات حتى لا نضيع مستقبل الطفل فهي تقول: (يمر الطفل بلحظات نفسية يكون استعداده العقلي فيه لتقبل المعلومات قويا فإذا ما تركنا هذه اللحظات تمر هباء فمن العبث أن نحاول إعادتها إذ يكون الوقت المناسب قد مضى).

          هذه اللحظات هي فترة مرحلة التعليم الأولى التي يجب أن يصاحب فيها تدريس العلوم العمل اليدوي, وجاء من ضمن استراتيجية التعليم عام 1978م. (إدخال المواد العملية كالتربية الريفية والفنون الصناعية والاقتصاد المنزلي في المرحلتين, ولقد كفلت استراتيجية التربية فرصا للتربية شبه النظامية بالتوسع في برنامج التدريب الحرفي لمن يكملون هذه المرحلة ولا يتم استيعابهم بالمرحلة التالية) أي التدريب الحرفي منذ صغره ورعايته قبل أن يلتقطه الشارع لضيق مجال القبول.

          إن تكلفة تدريب هؤلاء التلاميذ المرتفعة أدت إلى إحجام الجهد الشعبي عن ارتياد هذا المجال الحيوي ولذا اقتصر ذلك على الجهد الرسمي الذي لم يوفر ما يقوم بذلك ولذا كان السير متعسراً تعترضه العقبات التي لم تجد من يذللها حتى يستمر هذا العمل والاستمرار يمثل العنصر الرابع من عناصر التنمية والتي هي مزج للعناصر واستغلال أمثلها. وعناصر الإنتاج ومقوماتها تتفاوت فيها البلدان بسبب ما لديها من هذه العناصر, ففي البعض منها موارد طبيعية هائلة, وفي بعضها الآخر أموال لا يستهان بها, والبقية الباقية تتوافر لديها الأيدي العاملة بأعداد كبيرة (وهذا ما نتميز به) بالاضافة إلى الكفاءة العلمية وحظ البلد من التكنولوجيا.

          العنصر الثالث مؤثر وموجه لعمليات التنمية وله آثار إيجابية وسلبية على عجلة التنمية بحكم حظ الدولة من التعليم وبإعداده إعداداً سليماً ليلعب دوره بفعالية واقتدار, وهذا الإعداد يغرس الروح الوطنية وهذا لا بد له أن يخلص في كل ما يعمل لذا يكون حريصا ومحافظا على إمكانات بلده فلا يبددها فيما لا يفيد. حب الوطن لا يأتي من فراغ, إنه يأتي من التربية الوطنية السليمة منذ الصغر. والذي ربيw هذه التربية يحب وطنه ويضحي من أجله وسيبذل الجهد ليحقق مزيداً من الإنتاج وهو الوصول إلى الهدف الأول من التنمية.

بناء الإنسان

          إن هدف التعليم الأساسي هو الإنسان وإذا كان الإنسان عاملاً واحداً بين العوامل الضرورية للتنمية الشاملة المستمرة فهو في الوقت نفسه هدفها الأول وهو العامل الحاسم فمن دونه لا يمكن استغلال الموارد.

          ومن هنا لا بد من ربط مشروعات التنمية بخطط الموارد البشرية وتطوير الطاقات الإنسانية وهذا بدوره يؤدي إلى تطوير برنامج التعليم وربطها بخطط التنمية ومتطلباتها.

          والتنمية تعني المزيد من الاستثمار وتطوير القوى البشرية والإمكانات الاقتصادية على أن مستوى التنمية وسرعة نموها يتوقفان على الجهد البشري المبذول فيها. ويتوقف هذا الجهد على كثير من العوامل في مقدمتها المستوى العلمي التكنولوجي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي للإنسان المنتج.

          فالتعليم إذا كان يتأثر بهذه العوامل فإنه يؤثر فيها, فالعملية التعليمية جزء من كل, وفرع من أصل: هو البيئة الاجتماعية الشاملة هدفها التعبئة الشاملة للموارد والطاقات البشرية والاقتصادية. هدفها بناء مجتمع قادر على مواجهة التحديات وإنجاز مهام التقويم. فلا بد من استراتيجية شاملة للتنمية في كل المجالات.

          قضية التعلم هي التجديد المستمر ليس في المناهج والمقررات فقط بل في عمليات واكتساب المهارات ليستفيد منها التلاميذ بعد التخرج. المهم أن يحصل على التدريب الكافي الذي يؤهله لاكتساب مهارات جديدة تحقق له أكبر عائد خاصة أن ما أعطيناه من تعليم لا يتيح له القدر القليل من المال والذي يضعه والكفاف في مرتبة واحدة.

 

قريب الله العاقب   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات