عبدالرحمن شكري.. انفتاح مبكر على ثقافات العالم

عبدالرحمن شكري.. انفتاح مبكر على ثقافات العالم
        

إنه واحد من رواد الحركة الشعرية ومجدديها, ولم يقم بذلك على المستوى النظري فقط ولكنه  أسس جمعية (مجلة أبوللو) التي دفعت بالحركة الشعرية العربية إلى الأمام.

          تحتاج الشعوب دائما إلى ما يجدد ذاكرتها الجماعية ووجدانها ويحفظ ملامح ثقافية وحضارية تميزها. وتشتد تلك الحاجة في لحظات التحول التي يخشى فيها على (الخصوصية) والهوية من مخاطر التآكل أو الذوبان, أو التشاكل مع (الآخر). وهنا يصبح تجديد الذاكرة الوطنية واحداً من الدوافع المهمة على استمرار الشعوب ودليل قدرتها على الخلق والإبداع والتطور.

          ويعد التراكم المعرفي رافداً مهماً يدعم فكرة (التواصل) والاستمرار, تلك الفكرة الرئيسية في مجال تأريخ الأدب ونصوص الإبداع على وجه الخصوص. في هذا السياق صدرت الآثار الإبداعية الكاملة للشاعر والناقد عبدالرحمن شكري (1886 ـ 1958) في ثلاثة مجلدات (1794 صفحة) تحوي الكتابات النثرية والشعرية. في الجزأين الأولين (المؤلفات النثرية الكاملة) التي قدم لها وقام بتحريرها د. أحمد إبراهيم الهواري يطمح الرجل في وجود مشروع ثقافي فكري يتجاوز أفق التأريخ البيلوجرافي لفكرة (التدوين) ليرقى بنصوص الإبداع العربي الحديث إلى الدراسة المنهجية التي تفيد من سوسيولوجيا المعرفة وعلم اجتماع الأدب. ويبدأ هنا مع (عبدالرحمن شكري) إذ يضع الهواري أعمال شكري النثرية في مكانها الخاص ـ كقيمة إبداعية ـ من سياق حركة تطور الفكر والإبداع العربي.

الإنتاج المشترك

          وفي تعليقه على كتاب (عبدالرحمن شكري) الذي ألفه د. السكوت ومارسون جونز عام 1980, يشير د. الهواري إلى ما أسمياه (أعمالا مشتركة) جمعت بين شكري والعقاد والمازني وآخرين, فيؤكد أن كتاب (مشاهير شعراء العصر في مصر والعراق ودمشق) الصادر عام 1922, ليس كتاباً مشتركاً, بل هو (مختارات) جمعها, واختارها, (أحمد عبيد) وضمنها نماذج من إنتاج شكري. ومن ناحية أخرى يراجع الهواري الكتاب السابق نفسه في عدد من المسائل التي تخص الموضوعية التاريخية.. منها أن مقال (في الأخلاق) هو خلاصة محاضرة للطالب (محمود عزمي أفندي) وليس لعبدالرحمن شكري, عكس ما ذهب إليه السكوت وجونز في كتابيهما حول (شكري), ذلك الكتاب الذي لم يرد فيه ذكر قصيدة (وصف البحر) وهي منشورة في (الجريدة) 13 أكتوبر 1910, فضلاً عن إدراج مؤلفي الكتاب عدداً من قصائد (شكري) تحت قائمة (المقالات والدراسات). ويعتبر الهواري أن أهمية مراجعته لكتاب السكوت وجونز المشترك حول عبدالرحمن شكري تعود إلى تقديره قيمة الكتاب وأهميته من ناحية, وتتصل بالدقة والموضوعية في عمله الذي يسعى إلى (توثيق) نصوص الأدب والنقد الحديث من ناحية أخرى.

سمات إبداعية

          لا يسع المطلع على أعمال عبدالرحمن شكري بصفة عامة والنثرية بخاصة, إلا أن يقر بسمة تطبع إنتاج شكري على تنوعه, وهي سمة البساطة التي تتجلى في ابتعاده عن اللغة المعجمية المعقدة, وفي ميله إلى الهدوء في طرح الأفكار, أيضا فإن نتاجه النثري بخاصة يؤكد تمتع رؤيته بنفاذ بصيرة, ويكشف عن وعي خاص وخبرة واسعة بالنفس الإنسانية.

          تلك الخبرة التي تتجاوز بنصوصه أفق الزمان والمكان المحددين, لتصلح ـ بما تطرحه من قضايا إنسانية مشتركة ـ أن تكون نصوصا عالمية, ففي (نظرات في النفس والحياة) يتجلى ذلك الحس الخاص في قدرة شكري على الغوص داخل النفس البشرية, واكتشافه مناطق خفية فيها, ذلك في الوقت الذي لا يغفل فيه الخصوصية المعرفية والاجتماعية. إذ إن عدداً غير قليل من النصوص النثرية والمقالات الأدبية تكشف حسه الحي بلغته ووعيه بسياقها المعرفي والحضاري.

          وقد نظر عبدالرحمن شكري مبكراً إلى الإبداع بوصفه (لعبة) فردية لها طقوسيتها, وخصوصيتها, مثل لعبة (الباتيناج) على حد قوله.

          ورأى العقل البشري آلة قد يصيبها الوهن والعطب إذا لم يداوم صاحبه على صيانته من حين إلى آخر, مؤكدا العلاقة الوثيقة التي تربط بين الفكر والإبداع وحيوية الذهن وصفاء الروح.

          ويمكن الوصول إلى (رؤية) لديه حول الشعر بالنظر إلى منظومة منسجمة من آرائه النقدية التي تناثرت هنا وهناك بين أعماله النثرية.

          تلك الكتابات التي يجمع فيها شكري بين السياحة الفكرية الرقيقة والرأي النقدي التقويمي الخالص. فنجد أنه واحد من شعراء المدرسة الرومانسية, يعزف على أوتارها بإتقان وتميز قد لا يكون أنصف في تميزه هذا, بل ربما أثار عليه حفيظة بعض مجايليه وأصدقائه, ومنهم عبدالقادر المازني الذي كتب عن شكري (صنم الألاعيب) والتاريخ يحفظ لشكري أستاذيته للمازني التي اعترف بها, وبفضل شكري عليه بعد وفاة الأخير.

          لقد نظم شكري (رؤيا) في الشعر تخللت عدداً من القصائد, فهو مثلا يقول في (عصفور الجنة):

ألا يا طائر الفردوس إن الشعر وجدانُ

          وفي (أغاريد شاعر) يقول:

وإنما الشعرُ نغمهُ كحنين المزامرِ
يرفعُ النَّفس سحرُهّ عن وهادِ الحقائرِ


          وحول المرجعية الجمالية لعبدالرحمن شكري كواحد من شعراء المدرسة الرومانسية في الشعر العربي الحديث, نجده يرى (الشاعر) هو شاعر القلب الذي يصف العواطف وأطوار النفس, والنفس لديه متقلبة كالطبيعة وعواطف الشاعر كعواطف الوجود.

          إن ما يميز (الشاعر) عن غيره من خلق الله ـ في رأي شكري ـ هو ذلك الشَّرَه العقلي الذي يرغب الشاعر في (أن يفكر كل فكر وأن يحس كل إحساس.. وأن يتذكر أنه لا يكتب للعامة أو للقرية, ولا لأمة. وإنما هو يكتب للعقل البشري ونفس الإنسان أين كان). كانت رؤية شكري صادقة تماما مع نصوصه في تميزها وانفتاحها وجرأتها (انظر: مقدمة الخطوات) 1916), حيث يفرق بين (التخيل) و(التوهم) في تواز بين (الصنعة) و(التصنع), ليقف مع (صنعة) الإحيائيين بوصفها ثورة تعود إلى أزهى ما في القديم لتجدد به الشعر, ويرفض (تصنع) الشعر العربي إبان العصر المملوكي بوصفها إحدى علامات انحداره.

معركة (الجديد والقديم)

          حين أثار (سيد قطب) ـ (الرسالة 1938) قضية (الجديد والقديم) حول العقاد والرافعي, تجسدت في رد عبدالرحمن شكري رؤاه المنفتحة على العالم وثقافاته ومناصرته لكل نزعة تجديدية تمثل تطوراً إبداعياً, إذ كتب: (وما عجبت من شيء عجبي من القوم الذين يريدون أن يجعلوا حدَّا فاصلاً بين آداب الغرب وآداب العرب زاعمين أن هناك خيالاً غربياً وخيالاً عربياً). ولا يمكن فهم طبيعة هذه الرؤى من دون تحليل استراتيجيات الخطاب الثقافي العربي السائد آنذاك وتياراته المختلفة باختلاف مرجعياتها الفكرية والاجتماعية, وهو يسم رؤى شكري بالتطور والتميز هنا.

          لقد ارتبط جدل الجديد والقديم في الفكر العربي في مراحل النهضة والتحول بذلك النوع من الجدل الموازي (الشرق ـ الغرب), وإن وسعنا الدائرة قليلاً, لا يمكننا أن نعزل معركة (الجديد والقديم في الأخلاق والدين) (1938) عن بداياتها عام 1914 عندما أثيرت القضية نفسها مع رسالة (منصور فهمي) لنيل درجة الدكتوراه حول (أوضاع المرأة في الإسلام وتطوراتها).

          أيضا لا يمكن رؤية صراع القديم والجديد في الفكر والإبداع العربي, في بدايات القرن العشرين, دون النظر إلى هاجس التحول الاجتماعي والتعدد السياسي, وغير ذلك من أسئلة الهوية والتراث, والمستقبل, تلك القضايا ـ وثيقة الصلة ـ التي ألحت على أذهان رواد النهضة العربية ومبدعيها ومفكريها, وتبدت في خطاباتهم المتعارضة المهمومة بالإجابة عنها. الأمر الذي يفسره الإلقاء بقضية (الجامعة العربية) وسط معارك أدبية وثقافية, مثل معركة (الشعر الجاهلي) التي أثارها كتاب الدكتور طه حسين, أو قضية (الدعوة إلى العامية).

          لقد كان التنوع والتعدد في طرح عدد من قضايا الفكر والحضارة العربية دلالة إثراء وليبرالية ما, إلا أنه من ناحية أخرى يظهر حالاً من الإعاقة والتأجيل اللذين واجههما (مشروع) النهضة العربية لدى المفكرين والمبدعين إبان بداية القرن العشرين وحتى ما يسميه د. جابر عصفور بجيل 1939 الذي حمل خطابا تنويرياً تم الانقطاع عنه. وهو ما يجعلنا نعيد الآن ـ مع لحظات التحول الكبرى ـ طرح الأسئلة ذاتها.

نظرة إلى التراث

          في دفاعه عن التجديد والتقدم والتطور تمتع شكري برؤية خاصة لا تتلبس الحكمة أو المزايدة والادعاء, بقدر ما كانت رؤية موضوعية لا تنفي التراث بقدر ما ترى التجديد مشروطا بفهم الماضي والوعي بموضوعية ما يمثله التراث من حلقات حضارية وإبداعية إنسانية بالأساس. ولا يمثل الماضي في هذه الرؤية منافساً للحاضر ولا عائقا يقمع التطور ويصادر المستقبل, ومن ثم فهو في حل من الوقوع في إشكالية (التوفيق) أو الوسطية التي يلجأ إليها بعض المبدعين عند اشتداد سؤال الهوية وطرح التحولات ضرورة التطور والتجديد كقرينة على قدرة الشعوب على الاستمرار.

          ظل (الماضي) عند شكري خلقا للحاضر (عن طريق تجاوزه المتدرج لذاته). وما نفي شكري الصراع بين الماضي والحاضر, بين القديم والجديد, إلا تأكيد للمبدأ ذاته الذي يصدر عنه في رأيه حول (الشرق والغرب), حين رفض تقسيم العقل والوجدان الإنساني إلى عقل غربي وآخر عربي. وهو مجمل ما يميز عبدالرحمن شكري ويضعه في مقدمة المبكرين بالدعوة إلى التجديد والتطور. حيث كان طرحه السابق مغايرا لكثير من الرؤى الفكرية والإبداعية في ثلاثينيات القرن الماضي. ذلك الوقت الذي كان البحث فيه عن خصائص معرفية أو ذهنية تخص الشرق وتميزه عن الغرب يعد بحثاً متطورا وخطابا رائجا آنذاك, من حيث علاقته الحية بجوهر المنهج الإنثربولوجي والإثنولوجي الذي هيمن على عدد غير قليل من عقول الفكر والثقافة والإبداع العربي وقتئذ.

          إنه الأفق الفكري الذي تختلف معه رؤية شكري التي سعت أيضا إلى التوحيد بين العقل والنفس في بعدهما الإنساني بعيداً عن التقسيمات الحدية (الشرق ـ الغرب). ويرى شكري أنه لو كان هناك اختلاف يذكر, فلن يعدو كونه أكثر من (اختلاف عقول ونفوس آحاد الأفراد في الأمة الواحدة). ويرجع اختلاف النفوس والعقول البشرية إلى عدد من العوامل الاجتماعية والحضارية والثقافية, لينبيء عن واحدة من أهم ركائز مرجعيته الفكرية في بعدها التاريخي والاجتماعي الواعي بجدل الزمان والمكان, والتي يتجاوز بها كلا من (المركزية الأوربية) و(النظرية الآرية) وغيرهما من النظريات الإثنولوجية التي تحفز نزعة تميز هنا أو دونية هناك والعكس.. وخطر آثار هاتين النزعتين على الإبداع والأدب والحضارة الإنسانية بوجه عام.

المؤثرات الإبداعية والفكرية

          لا ينفصل السؤال النقدي عند (عبدالرحمن شكري) عن السؤال الثقافي الحضاري العام, والبنية النقدية لا تنفصل عن البنية الفكرية الاجتماعية.

          وقد كانت بداية انفتاحه ـ الحقيقي والمؤثر ـ على الثقافة العالمية إبان بعثته العلمية إلى إنجلترا (1909), هو نفسه يعدها موردا (كثير الجداول والعيون). أيضا, فإن دراساته العديدة والمتنوعة في حقول معرفية مختلفة, ساهمت في تكوين تلك الذهنية الموسوعية التي تمتع بها شكري, واستقاها ـ كأديب مبدع وناقد وشاعر ـ من دراسته (جته) وإعجابه الشديد به مرورا بدراسة محبيه من أمثال (كارلايل) و(إمرسون), وكذلك من دروس التاريخ والجغرافيا وعلم السياسة والاقتصاد السياسي, ودراسة النظريات الأدبية والنقدية.

          لقد تميز عبدالرحمن شكري بطموح إلى العرفان وكشف خبايا الحياة, أعانه على ذلك ما التمسه في وصف (شكسبير) و(بروننج) للنفوس البشرية, وما طالعه من وصف للنفس في قصص كبار الأدباء والقصاصين, يقول: (كما التمسته في الخيال الرومانتيكي الطليق). لذلك لا يعتبر نفسه في طريق (إميل زولا) والمذهب الطبيعي في وصف النفس الإنسانية, إنما على طريق (شكسبير) و(بروننج) و(دكنز) و(ثاكري) وبلزاك واناتول فرانس, وغيرهم. فضلا عن دراسته للفنون الإغريقية التي جعلته يعد (الجمال) ثقافة.

 

حسن خضر   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




عبدالرحمن شكري