(أبو عبيدة)... وصناعة تاريخ الأمة

 (أبو عبيدة)... وصناعة تاريخ الأمة
        

على الرغم من وجوده في قلب الحدث الساخن, قائدا لجيوش الشام, فإنه لم يحط نفسه بهالة صانعي التاريخ, لكنه في كل الأحوال ظل في الذاكرة العربية...حاضرا... وأشد سطوعا.

          في ذلك القرن السابق على الإسلام, يتوقف المؤرخ أمام أحداث غاية في الأهمية, فقد اجتاح الأحباش اليمن, وتقدموا شمالا نحو الحجاز, وهدفهم حينذاك الاتصال بحلفائهم البيزنطيين (الروم) في الشام,

          ولكن ارتدادهم عن أبواب مكة, أخذ بحركة التاريخ إلى وجهة أخرى, رهصت بالتحولات العاصفة, من ولادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في العام نفسه (570م), إلى احتلال الفرس للشام بعيد ذلك, من دون أن ينجح البيزنطيون على الرغم من استعادتهم للأخيرة, في التغلب على نتائجه السلبية التي هزت نفوذهم في المنطقة. وكانت مكة حينئذ المستفيدة من هذه المتغيرات, متصدرة بزعامة قريش حواضر شبه الجزيرة وقبائلها, فيما شهدت خطوط التجارة الشرقية تحوّلا إلى المحيط الهندي, ثم صعودا نحو الشمال, عبر مكة, إلى أسواق الشام وموانئ بحر الروم (المتوسط). ولكن الحاضرة الحجازية لم تكن مدينة فقط لموقعها الجغرافي, بقدر ما كان لعنصرين من الأهمية في صدارتها حينذاك: العنصر الديني, مستمدا من وجود الكعبة فيها, ومن كونها مركزا لعبادات القبائل العربية, والعنصر الاقتصادي مجسّدا بمنظومة (الإيلاف) في وجهيها الاجتماعي (التكافلي) على صعيد المجتمع المكي, والخارجي (العلائقي) الذي عبّرت عنه العهود والاتفاقات مع دول المرحلة والقبائل المقيمة على خطوط القوافل أو بالقرب منها. ودائما قريش كانت المحرّكة لهذا الدور الذي تطورت في ظله مكة, من سوق محلية تفد عليها القبائل في المواسم الدينية, منصرفة بعد ذلك إلى المتاجرة, فيما شعراؤها يبحثون عن الشهرة في منتدياتها الساطعة, إلى أن تصبح - أي مكة - حلقة أساسية في تجارة الشرق في ذلك الحين.

          وكانت قريش بعشائرها المقيمة في الداخل, أو ما يعرف بقريش (البطاح), وراء هذه الحركة تنظيما ودينامية ووظائف متناسبة مع النفوذ الاقتصادي لكل عشيرة منها. أما قريش الأخرى (الظواهر), فكان لها على الأرجح دور دفاعي, ولم تحظ بالشراكة الفعلية مع (البطاح), لاسيما عشائر نوفل وهاشم وأمية التي شغلت الوظائف الأساسية للكعبة عشية الإسلام. ومن (الظواهر) هؤلاء, تحدّرت عشيرة بني هلال بن أهيب, رهط أبي عبيدة بن الجراح, محترفة الغزو والإغارة, حسب الرواية التاريخية, مما يعني أنها - كنمط إنتاجي - كانت أقرب إلى البداوة من التحضّر الذي سارت مكة شوطا كبيرا فيه.

          ولأن (الظواهر) ظلوا بعيدا عن الضوء الذي استأثرت به (البطاح) فإن الغموض شاب أخبارهم في مرحلة ما قبل الإسلام, بما فيها أخبار أبي عبيدة الذي يغيب كليا - سوى إشارات نادرة - عن المرويات التاريخية, ومنها ما يذكر عن وجوده على رأس بني فهر في حرب (الفجار) التي تألب فيها بعض فروع قيس على قريش, المسيطرة على التجارة وخطوط مواصلاتها. ويبدو أن صلة أبي عبيدة بمحمد الذي شارك أيضا في هذه الحرب, وهو في نحو العشرين من عمره, تعود إلى ذلك الوقت, مما أسهم في تحوّله المبكر إلى الإسلام, والذي جعله متساويا في الموقع الاجتماعي مع الروّاد من قريش البطاح, ممن سيعرفون بالمهاجرين.

سرايا وغزوات

          هو أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح من فهر, القبيلة التي ارتبط اسمها بالفتوحات الأموية على جهة إفريقيا, حيث لمع عقبة بن نافع شخصية جهادية فذّة, كما برز الضحّاك واحدا من أبرز رجالات الشام في عهدي معاوية ويزيد, عدا شخصيات قيادية أخرى عرفتها الجبهة الغربية امتدادا إلى الأندلس. ولكن أبا عبيدة ظل متميزا كصحابي قريب من الرسول الذي أطلق عليه لقب (الأمين), لصدقيته وإخلاصه وتفانيه في الإسلام. وقد رُوي أنه شارك في جميع غزواته, وكان أول لواء يُعقد له بعد سبعة شهور على الهجرة, حين اعترض المسلمون قافلة لقريش يقودها أبو جهل المخزومي. وما برح (المهاجرون) حينذاك مادة الغزوات والسرايا, وبينهم أبو عبيدة الذي انتُدب قائدا لسرية (ذي القصة) سنة ست, وسرية (الخبط) سنة ثمان للهجرة, كما وجّهه الرسول صلى الله عليه سلم في أواخر عهده إلى نجران, حيث قام بتعليم القبائل في هذه المنطقة قواعد الإسلام.

          ولكن المرويات لا تذهب في التفاصيل عن أبي عبيدة ودوره في تلك المرحلة, التي كانت شخصية الرسول حاضرة فيها بشكل أساسي, بينما تناثرت الأخبار, بصورة متفاوتة, عن أصحابه المهاجرين والأنصار الذين تنافسوا تحت رايته على الجهاد, وكانوا الأنموذج في نكران الذات والتضحية دفاعا عن قضية الإسلام. وبعد غياب الرسول صلى الله عليه سلم, تقدم الصحابة المهاجرون إلى دائرة الضوء, مواجهين أصعب المواقف في تحديين كبيرين: الخلافة وارتداد القبائل في شبه الجزيرة. وكان أبو عبيدة أحد ثلاثة (إلى جانب أبي بكر وعمر بن الخطاب) في الموقع القيادي للمرحلة, مؤثرا بهدوئه وحكمته في التوازنات التي جعلت المدينة وحدة صلبة أمام الأخطار المحدقة بها, ومؤهلا بالتالي لمواجهة التحدي الثالث, قائدا لجيوش المسلمين المستنفرة لفتح الشام.

          ونقترب أكثر من شخصية أبي عبيدة في هذا السياق, فيبدو لنا, على الرغم من الصلة الوثيقة بحركة السلطة, عازفا عن الانخراط المباشر فيها, زاهدا بالمناصب القيادية, ومستعفيا من الإمارة على الجيوش حسب رواية البلاذري. وفي رواية أبي مخنف, أن أبا بكر قال للأمراء (إن اجتمعتم على قتال فأميركم أبو عبيدة بن الجراح, وإلا فيزيد بن أبي سفيان), مما يعني أن الخليفة شكك بقبوله هذه المهمة, بيد أن الإمارة, وإن حُسم أمرها حينئذ لأبي عبيدة, فإنه سرعان ما تخلى عنها لخالد بن الوليد, بعد ظهوره في بُصرى قادما من العراق, حيث اجتمع بقادة الألوية الذين أمّروه عليهم, كما جاء في رواية البلاذري. وانطلاقا من (بُصرى) توجه خالد ومعه أبو عبيدة ويزيد إلى (أجنادين), أحد المعسكرات البيزنطية, فانضم إليهم عمرو بن العاص الذي اتخذ محور عملياته في تلك الجهات من فلسطين. وقد أسفر ذلك عن أول الانتصارات الكبيرة التي دفعت بالقوات البيزنطية إلى التراجع شمالا, تاركة وراءها المواقع والمدن مكشوفة أمام المسلمين.

دور حاسم

          وليس ثمة شك في أن هذه التجربة كانت بالغة الأهمية للمسلمين, الذين اكتسبوا, ليس الخبرة فحسب, بل القوة المعنوية في مواجهة أنظمة عريقة, وإلحاق الهزيمة بجيوشها المتفوقة عددا وسلاحا, مما سيكون له تأثير واضح على مسار حركة الفتوح في المنطقة. وإذ افتقد المسلمون أبا بكر بعيد المعركة, فقد استمرت هذه الحركة متوهجة مع خليفته, الذي استبدل بخالد, أبا عبيدة أميرا لجيوش المسلمين في الشام, ولكن دون إعفاء الأول من دوره العسكري الذي بقي فاعلا ومؤثرا في القرارات الحاسمة.

          وكانت دمشق حينذاك, الهدف المباشر للمسلمين بعد انتصارهم في معركة (مرج الصفر) التي مهّدت الطريق إليها (14هـ/635م), فحاصروها من جهات عدة, حيث أقام أبو عبيدة معسكره على باب الجابية, وخالد على الباب الشرقي, ويزيد على الباب الصغير, وشرحبيل على باب الفراديس, وسرعان ما تمّ الاستيلاء على باب الجابية بعد قتال شديد, والتقى أبو عبيدة خالدا في (البريص) في ضاحية المدينة. وقد روى البلاذري, مشيرا في هذا السياق إلى الثقة المطلقة والتنسيق التام بين أبي عبيدة وخالد أثناء الحصار, إذ عقد الثاني صلحا مع الأسقف الذي فتح له الباب الشرقي, فلقي ذلك طعنا من المسلمين, مالبث أن بدّده أبوعبيدة بأن (أجاز صلحه وأمضاه).

          ولكن دمشق, وقد انهارت مقاومتها, رأت قيادة المسلمين التوغّل شمالا وغربا, لمنع البيزنطيين من إعادة تنظيم قواتهم وشنّ حرب جديدة في الشام. ففي الوقت الذي سار يزيد بن أبي سفيان, فاتحا مدن الساحل الشمالي (ساحل دمشق) وشرحبيل بن حسنة فاتحا مدن الساحل الجنوبي (ساحل الأردن), سار أبو عبيدة إلى حمص, عبر بعلبك, حيث عقد صلحا معهما, وتابع طريقه إلى حماة, ثم انعطف غربا إلى جبله وطرطوس وصولا إلى اللاذقية, فيما كان خالد يفرض سيطرته على المدن الداخلية حتى حلب التي خضعت بدورها للمسلمين. ولم يبق خارج السيطرة في الشام سوى أنطاكية التي شهدت حينذاك ما توقّعه أبو عبيدة, حشدا كبيرا للقوات البيزنطية تأهبت لدحر المسلمين من الشام.

          وفي ضوء هذا التحول في الموقف العسكري, أدرك أبو عبيدة خطورة المواجهة, لاسيما أن المسلمين المنتشرين على جبهات عدة من الشام, كان يصعب تعبئتهم على نحو من السرعة لإيقاف الزحف البيزنطي. فاتخذ قراره بالانسحاب. متيحاً الفرصة أمام قواته لإعادة تنظيم أنفسهم واعتماد الخطة الملائمة بالتشاور مع قادته. وفي خضم هذه التداعيات يتراءى لنا أبو عبيدة, فيما يتعدى أمير الجيوش ونائب الخليفة في الشام, إلى القائد السياسي اللمّاح, والمعبّر عن مشروع الإسلام ورسالته وقيمه, ولعل عهود الصلح التي أجراها مع المدن المفتوحة, ما يؤكد على هذا النهج المفعم بروح الإسلام للصحابي الكبير, فقد جاء في نص المعاهدة مع بعلبك, أن أهلها آمنون (على أنفسهم داخل المدينة وخارجها... وأموالهم وكنائسهم ودورهم), وللروم أن يسيروا إلى حيث شاءوا, ومن أسلم منهم فله ما لنا وعليه ما علينا, ولتجارهم أن يسافروا (إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها) حسب رواية البلاذري.

الذمة والحماية

          وعلى غرار بعلبك, جرت عهود مع حمص والمدن الأخرى, أرست لأول مرة قوانين لم تعرفها من قبل الأنظمة القديمة, حين أعطت حرية الاختيار للبلدان المفتوحة بالتحوّل إلى الإسلام, أو دفع الجزية, أو الحرب في حال الامتناع عن الشرطين السالفين. وثمة ما يجب توضيحه في هذا السياق, وهو أن الجزية لم تحمل معنى سلبيا مرادفا للخضوع, بقدر ما كان لها مضمونها الإيجابي المطابق لحرية الاختيار, لاسيما نحو أهل الكتاب (في المصطلح القرآني), أو أهل الذمة (في المصطلح الديواني), بأن هؤلاء أصبحوا في ذمة المسلمين, تلتزم الخلافة حمايتهم مقابل هذه الجزية. وكان أبو عبيدة الذي واكب مبكرا الإسلام, واكتنه فكره وتعاليمه, يعي جيدا هذه التفاصيل, فلم يحد عنها, أو يتعلل بموانع أو ظروف تحول دون التمكن من تطبيقها. وقد جاء في كتاب الخراج لأبي يوسف, أن أبا عبيدة, إبان انسحابه من اللاذقية كتب (إلى كل وال ممن خلّفه في المدن التي صالح أهلها, يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج, وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جُمع لنا من الجموع, وأنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك, وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم, ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم).

          وما لبثت الفرق الإسلامية المتراجعة أن تجمعت في (وادي الرقّاد), حيث يجري نهر اليرموك أحد روافد الأردن, مناقشةً خطة المواجهة مع البيزنطيين المندفعين في قوات كثيرة. وقد أخذ التهيّب بفريق من المسلمين, فآثر التراجع إلى الحجاز وعدم المجازفة في حرب بدت لهم خاسرة أمام التفوّق البيزنطي عددا وعتادا, إلا أن فريقا آخر, على رأسه القائد أبو عبيدة, ومعه خالد بن الوليد, تبنّى قرار الحرب, حفاظا على النصر وما تحقق من انجازات مهمة في الشام, ولم يجد في تفوّق الأعداء سببا موضوعيا للتراجع, إذ سبق للمسلمين الانتصار في معارك مماثلة, بدءا من بدر حتى أجنادين.

          وهكذا تغلب قرار الحرب, واشتبك المسلمون في معركة طاحنة مع الجيش البيزنطي الكبير, ما لبثت أن حُسمت لمصلحتهم في (الياقوصة) صيف 15هـ/636م, وتتوّجت بانتصار تاريخي مازال موضع اهتمام المدارس العسكرية الحديثة, خططا واستراتيجية وفنون قتال. ولعل من أبرز مقوّمات الانجاز العظيم, أن المسلمين, أو النخب القيادية على الأقل, خاضوا الحرب بعقول متوهجة وقلوب يغمرها الإيمان, فقاتلوا من أجل قضية, وما انفكت الشهادة مطلبا لديهم, حين تخونهم السبل إلى تحقيق النصر. وعلى الضفة الأخرى من الحرب, لم يكن التفوّق العددي عنصر قوة, بقدر ما كان الترهّل عائقا دون المواجهة الصعبة مع قوات ألفت المناخ وطبيعة المكان.

          وقد شهد بذلك عدد من مؤرخي الغرب, لاسيما (كلود كاهن) الذي توقف عند هذه المسألة, رابطا بين قوات ثقيلة حافلة بالمرتزقة لدى البيزنطيين, ونظام سياسي كان لايزال منطويا على أزمات داخلية معقدة, الأمر الذي جعل الهزيمة, برأيه, حتمية ومرتقبة.

          ولم يعد مجال للشك بأن معركة اليرموك أنهت الحكم البيزنطي في الشام, خصوصا بعد إقرار هرقل بالهزيمة متراجعا من أنطاكية إلى القسطنطينية. وكانت جبهة العراق حينئذ تواجه صعوبات بعد تحرك القوات الفارسية لاستعادة المواقع التي سبق للمسلمين أن سيطروا عليها, فلم يتردد الخليفة عمر في الكتابة إلى أبي عبيدة, بأن يوجّه قوات من الشام إلى العراق, لتنضم إلى حملة سعد بن أبي وقاص. وفي الوقت عينه تابع المسلمون انتشارهم في الشام, مسيطرين على المدن الجنوبية التي ستمهّد لاحقا للتوسّع نحو مصر, وكان أمر هذه العمليات معقودا لعمرو بن العاص, الذي فتح اللد وعمواس وبيت جبرين ورفح وغيرها, قبل موافاة أبي عبيدة له وهو محاصر إيلياء (بيت المقدس). وقد جاء في (فتوح) البلاذري, أن أهل هذه المدينة (طلبوا من أبي عبيدة الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام من أداء الجزية والخراج, والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم, على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر بن الخطاب نفسه).

تحصين المنجزات

          ولأن بيت المقدس أثيرة لدى المسلمين, إذ أسري إليها الرسول صلى الله عليه سلم, وكانت قبلتهم الأولى لنحو عام ونصف قبل أن تتحول إلى الكعبة في مكة, فقد استجاب الخليفة لطلب بطريرك المدينة وشرطه الذي فاوض أبا عبيدة عليه. وما لبث عمر أن قدم إلى الشام, متوقفا في الجابية - وهي إحدى حواضر الغساسنة وربما تحوّلت بعد انتصار هرقل على الفرس إلى معسكر بيزنطي - حيث عقد اجتماعا مع أمراء الأجناد المسلمين, مناقشا معهم متغيرات المرحلة وآفاقها, وما تفترضه من خطط لتحصين المنجزات العسكرية. وفي ضوء ذلك اتخذ قرارا باستئناف عمليات الفتوح على جبهتين: الأولى في الجزيرة, وقد عهد أمرها إلى عياض بن غنم الفهري (من عشيرة أبي عبيدة), والثانية في مصر التي تولى شأنها عمرو بن العاص, حيث باتت على تخومها بعد انتشار قواته في فلسطين حتى غزة. ثم سار الخليفة بعد ذلك إلى بيت المقدس, وعقد صلحا مع البطريرك, منح فيه أهل المدينة الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم, فيما خرج الرافضون للصلح, وعلى رأسهم حاكمها (أرطبون) إلى مصر, ملتحقا بالبيزنطيين فيها, وكان ذلك في العام السابع عشر للهجرة (638م).

          كان أبو عبيدة شاهدا على الصلح في بيت المقدس, أميرا لجيوش المسلمين وحاكما على بلاد الشام, مما أكسبه دورا مؤثرا, لا في ولايته فحسب, بل في القرار السياسي للخليفة الذي وجد فيه الحليف الأقرب إليه من الصحابة الكبار. وعلى الرغم من الهالة التي كانت له, وهي مما ضاق به عمر إزاء قادة آخرين, على نحو ما جرى مع خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة الشيباني وسعد بن أبي وقاص, منتقدا بعض ممارساتهم, وحائلا دون اتخاذهم, لاسيما القادة العسكريين, مراكز نفوذ على حساب السلطة المركزية, فإن صاحبه الأثير عامل الشام, لم يترك في نفسه ما يريب بصدقيته ورصانة أسلوبه وسلامة رؤيته. وفي ضوء ذلك, حقق أبو عبيدة نجاحا كبيرا في مهمته بالشام, مؤسسا إدارتها, ومحصنا ثغورها, ومرسّخا وحدة القبائل فيها, وعاملا على صهر المجتمع في إطار الإسلام وأحكامه. كما أعطت سياسته الاقتصادية ثمارها, معززة الاستقرار في هذه الولاية التي نمت بسرعة وباتت الأكثر غنى بين ولايات الخلافة الراشدية. وفي هذا السياق يروي الطبري أن مجاعة أصابت المدينة, (فكتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم, فكان أول من قدم عليه أبوعبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة من طعام, فولاّه قسمتها فيمن حول المدينة, فقسّمها وانصرف إلى عمله).

طاعون عمواس

          وكان ذلك آخر العهد بأبي عبيدة, حيث تربّص به الموت إثر عودته إلى الشام التي شهدت رحيلا جماعيا لغالبية قادة الفتوح, بعد أن عصف بهم طاعون عمواس الشهير (18هـ/639م), وكان له من العمر ثمان وخمسون سنة. وقد ترك رحيلهم حزنا عميقا لدى عمر الذي افتقد على الخصوص في أبي عبيدة شريكا في الحكم, وكان يرى فيه الخليفة من بعده, مفصحا عن ذلك بعد سنوات خمس في معرض الرد على أحد الذين أشاروا عليه بأن يستخلف على نحو ما فعل أبو بكر, فقال: (لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول إنه أمين هذه الأمة).

          ويبقى أن موضوعة أبي عبيدة بن الجراح, ليست مما يسهل على المؤرخ الخوض فيها, لافتقاده التفاصيل التي تأخذ به إلى قراءة تتكافأ مع دور بن الجراح في حركة الإسلام وانتشارها في المنطقة الشامية, حيث كانت هذه في أولويات سياسة الرسول صلى الله عليه سلم, واجدا فيها المدى الاستراتيجي الحيوي لدولته. ولعل هذا الحضور الخافت لأبي عبيدة في الروايات التاريخية, إنما يعود إلى طبيعة شخصيته النازعة إلى الحوار, بعيدا عن الصراعات التي طالما استهوت الإخباريين وخاضوا في تفاصيلها. كما أنه وعلى الرغم من وجوده في صميم الحدث الساخن, قائدا لجيوش الشام, فإنه لم يحط نفسه بهالة صانعي التاريخ, بقدر ما كانت القضية متغلبة على النوازع في نفسه, وفي كل الأحوال فهو حاضر في الذاكرة العربية, وبسطوع أكثر مما حملته المرويات التاريخية في ثناياها عنه.

 

إبراهيم بيضون   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات