توجهات الإدارة الاقتصادية في الكويت عامر ذياب التميمي

 منذ بداية عصر النفط

على مدى أكثر من أربعين عاما، منذ تصدير أول شحنة نفط من الكويت، لم يتضح للعديد من المراقبين الاقتصاديين هوية التوجهات الاقتصادية الرسمية في البلاد. ويذكر البعض بأن تلك التوجهات لا تتسم بصفات أيديولوجية واضحة، ولكنها تخضع لمعايير تخلقها الظروف الاقتصادية والسياسية. لكن هناك سمة واضحة في تلك التوجهات وهي أن يكون الإنفاق العام المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي في البلاد.

منذ أواخر الأربعينيات أصبح الإنفاق العام هو الأداة الاقتصادية الأساسية في تحريك النشاط الاقتصادي. لذلك تتسارع وتيرة ذلك النشاط كلما ارتفع حجم الإنفاق العام، ويتراجع الأداء عند انخفاض حجم الإنفاق. والإنفاق العام مرتبط ارتباطا "وثيقا" بحجم إيرادات الدولة من عائدات النفط. لقد تزايدت تلك الإيرادات النفطية بشكل مطرد، ووصلت ذروتها في السنوات الأولى من عقد الثمانينيات، ولكنها أخذت في التراجع بعد تراجع مبيعات النفط وتراخي الأسعار. لكن ذلك التراجع في الإيرادات لم يؤد إلى تراجع أساسي في الإنفاق، بل استمر الإنفاق بحجم مهم، وإن كان ذلك مقابل ثمن باهظ وهو استخدام آلية العجز في الموازنة، حيث تم دفع الفرق في البداية من الاحتياط العام، ثم أخذ يمول من خلال إصدار سندات وأذونات الخزانة التي قنن استخدامها عام 1987. ولقد حدد حجم الدين

العام في بداية الأمر ب 1400 مليون دينار، ثم تجاوز ذلك السقف من خلال تعديل القانون ليصبح 3000 مليون دينار كويتي. إن عدم التمكن من تخفيض الإنفاق ليواكب انخفاض الإيرادات النفطية. يؤكد أن الإدارة الاقتصادية في البلاد تعي تماما ما يعني انخفاض الإنفاق على مستوى المعيشة، وعلى الأداء الاقتصادي بشكل عام، حيث لم تتمكن الكويت منذ اكتشاف النفط من خلق أنشطة اقتصادية بديلة، تستطيع أن تكون ندا للنشاط في القطاع النفطي، وتوفر موارد سيادية بديلة للحكومة تمكنها من تمويل الإنفاق العام. يضاف إلى ذلك عدم وجود أدوات الضريبة التي تمكن الدولة من تحصيل موارد مالية من المؤسسات والأفراد على اختلاف أنشطتهم.

استمرار مستوى الدخل.. هدف التنمية

إذا عدنا للوراء وراجعنا " خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الخمسية الأولى 67/ 1968 -71/ 1972 " والتي لم تنفذ، نجد أن تلك الخطة أشارت إلى " أن الهدف الأساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في الكويت لن يختلف عن أهداف المجتمعات الأخرى، ألا وهو العمل على المحافظة على استمرار المستوى المرتفع نسبيا من الدخل الذي حصل عليه أفراد المجتمع الكويتي والسعي إلى جعل هذا المستوى يطرد زيادة وارتفاعا. أي أنه لا يكفي القناعة بالمحافظة على المستوى الحالي للدخل الفردي، بل لابد من استهداف زيادة هذا الدخل ورفع مستواه. وبذلك يكون الهدف الأول العام من أهداف التنمية في المجتمع الكويتي، المحافظة على استمرار مستوى الدخل الفردي الحالي، والسعى لزيادة هذا الدخل ورفع مستواه.. ".

وبذلك فإن محور التوجه في الخطة الخمسية الأولى- كما رآه المصممون آنذاك- هو زيادة مستوى المعيشة وتحسينه. لكن ذلك هدف عام، وهو هدف تنفذه سائر المجتمعات البشرية كما ذكرت تلك الخطة نفسها، لكن ماذا عن بقية الأهداف التي حرصت الإدارة الاقتصادية في الكويت على تحقيقها طيلة السنوات المنصرمة؟ إن التطورات اللاحقة التي أدت فعلا إلى زيادة دخل الفرد، والتحسين الفعلي لمستواه، لم تأت نتيجة مجهود بشري محلي نتج عن ارتفاع مستوى فعالية النشاط الإنتاجي بين أفراد المجتمع من الكويتيين، ولم تتأت أيضا من تحسن أداء القطاعات الاقتصادية غير النفطية، بحيث يمكن أن نذكر بأن تلك القطاعات تمكنت الإدارة الاقتصادية من تطوير أدائها، مما زاد من مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي.

إن الذي أدى إلى تحسين مستوى المعيشة ونوعية الحياة، وزيادة ثروة المجتمع هو ذلك الارتفاع الذي حدث للإيرادات النفطية، والناتج عن زيادة أسعار النفط في الأسواق العالمية، نتيجة لزيادة الطلب على النفط منذ مطلع السبعينيات، وتمكن منظمة الأوبك من تحسين مقدرتها التفاوضية، وعوامل أخرى لها علاقة أيضا بسياسات شركات النفط الكبرى..

يضاف إلى ذلك دور المفاوضات التي أدت إلى زيادة الهيمنة الوطنية على مقدرات الصناعة في البلاد، والتي تكللت بالسيطرة الشاملة على تلك الصناعة!

تطور السياسة الاقتصادية في الكويت

بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية في عام 1945 استؤنفت عمليات استكشاف واستخراج النفط التي توقفت في مطلع عام 1942.. وقد كانت تلك العمليات قد تم تنفيذها بموجب الاتفاق الذي وقع بين المغفور له الشيخ أحمد الجابر الصباح أمير الكويت آنذاك وشركة نفط الكويت المحدودة والمملوكة مناصفة من شركة البترول البريطانية وشركة الخليج للتنقيب الأمريكية بتاريخ 23/ 12/ 1934..

وعلى أثر استئناف تلك العمليات تمكنت الكويت من تصدير أول شحنة نفط في عام 1946، وبذلك يمكن أن نقول إنه على أثر تلك الشحنة، فإن الكويت تكون قد دشنت عهدا اقتصاديا جديدا. وعلى أثر ذلك فقد تميزت فترة أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات باستكمال مؤسسات الدولة فتم خلق أربعة مجالس للتربية والتعليم والصحة والشئون البلدية والأوقاف.. وفي عام 1950 تقرر تنظيم مدينة الكويت وإعادة بنائها على أسس عصرية فتم وضع مخطط لتطوير المدينة والمناطق المجاورة لها. كذلك وضع مخطط الخدمات العامة والمراكز الصناعية والميناء ومناطق السكن.

خلال فترة الخمسينيات منحت الحكومة الكويتية امتيازا جديدا لشركة النفط الأمريكية المستقلة للتنقيب و المنطقة المحايدة بين الكويت والمملكة العربية السعودية. وقد كانت شروط ذلك الامتياز أفضل من الشروط التي سبق الاتفاق عليها مع شركة نفط الكويت عام 1934، من حيث المردود المالي للحكومة، أو حقوق التملك في الشركة التابعة الحي أنشأتها هذه الشركة الأمريكية، حيث منحت الحكومة حقوق تملك 15% من أسهم الشركة الفرعية.

في بداية الخمسينيات اتصفت السياسة الإنفاقية بسمات أساسية، الأولى الصرف على المشاريع الخدمية ومشاريع البنية الأساسية، والإنفاق من خلال صرف الرواتب والأجور على عدد متزايد من الموظفين في الإدارة الحكومية. هناك سمة أخرى مهمة في سياسة الإنفاق، وهي الإنفاق على الاستملاكات للأراضي والبيوت القديمة وما أطلق عليه منذ ذلك الحين سياسة "التثمين" ولاشك أن أوجه الصرف المذكورة وغيرها أدت إلى انتقال مبالغ مهمة إلى القطاع الخاص وقطاع المستهلكين، مما زاد من تطلعات المجتمع لتحسين ظروف أفراده المعيشية، ومنها اقتناء المنازل أو ترميمها أو شراء سلع الرفاهية التي لم ترد على البال قبل ذلك بسنوات قليلة، مما زاد من فرص المستوردين لتحقيق إيرادات وأرباح معقولة من ظروف السوق الجديدة، لذلك فقد أسهم الإنفاق العام بزيادة فرص الاستثمار في قطاع التجارة وقطاع العقار من خلال زيادة ثروات الأفراد ومؤسسات القطاع الخاص.

افتقاد البعد الإنتاجي

بيد أن المأخذ الأساسي على السياسة الإنفاقية، أنها لم تأخذ بعين الاعتبار تحقيق بعد إنتاجي لهذا الإنفاق، من خلال خلق أنشطة اقتصادية جديدة، تستطيع أن تستوعب العمالة المحلية بعد إعادة تأهيلها.

وقد يكون حجم السكان من المحددات الأساسية لبناء اقتصاد متوازن يستفيد من الثروة التي جنتها البلاد من إنتاج النفط. فلقد كان عدد الكويتيين حسب أول إحصاء رسمي في عام 1957 ما يقارب 115 ألف نسمة.. يضاف إلى ذلك المستوى التعليمي والتدريبي لمعظم السكان، الذي كان متواضعا إلى درجة كبيرة.

لذلك فقد تقرر السماح بجلب عمالة من خارج الحدود. لكن ذلك الانفتاح على العمالة الوافدة لى يكن منظما أو محسوبا حسب الاحتياجات الحقيقية للاقتصاد المحلي.

وقد يكون موضوع العمالة الوافدة مدخلا لمناقشة المبادئ التي تم الاستناد إليها عند فتح الأبواب لدخول هؤلاء العمال من مختلف الجنسيات إلى الكويت. لقد خلقت اقتصاديات النفط في الكويت وتزايد الانفاق العام، وما جلبه "من رواج عناصر جذب للكثير من الباحثين عن فرص عمل، أو أولئك الباحثين عن تحسين ثرواتهم. ولقد كانت هناك دوافع مختلفة لمثل هؤلاء، منها الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تعاني منها العديد من دول المنطقة، ومن ضمنها بعض المناطق في منطقة الخليج. لذلك وفر هؤلاء عمالة رخيصة للكويت، حيث عملوا في مختلف المهن، وأهمها تلك التي تخص قطاع الإنشاءات والبناء، كعمال ومراقبي عمل ومهندسين وغير ذلك من أول. كما عمل عدد كبير من الوافدين في سلك التدريس، وفي أعمال الخدمات الطبية. هناك أيضا من عمل في سلك الشرطة والجيش. بالإضافة إلى هؤلاء هناك من عمل في أعمال تجارة الجملة والمفرق، وكذلك في أعمل الخدمات الصناعية وإلى غير ذلك. وبطبيعة الحال فإن الجهاز الإداري انفتح أمام عدد كبير من الوافدين العرب والأجانب للعمل في مختلف الوظائف الإدارية والفنية..

بطبيعة الحال لم يكن هناك تصور للحدود المفترض أن تقف عندها الهجرة الوافدة، ولم تطرح في حقبة الخمسينيات مسألة التوازن السكاني بين الكويتيين وغيرهم، وتركت الأمور تسير في مجرى غير مقنن. لذلك فإنه سرعان ما أصبح عدد غير الكويتيين بحدود 45% من السكان كما ورد في أول تعداد سكان رسمي عام 1957. لذلك فإن الباحث لا يستطيع أن يعثر على مقياس محدد لسياسة سكانية في عقد الخمسينيات، عند بداية الاستفادة من الثروة النفطية..

وفي إطار السياسة الاقتصادية شكل تزايد الفوائض المالية لدى الحكومة الكويتية تحديا جديدا حيث ارتفعت العوائد في عام 1955 إلى 282 مليون دولار أمريكي. وقد سبق ذلك قيام الكويت بتأسيس مكتب الكويت للاستثمار في لندن للعناية بتوظيف الفوائض التي تزيد على احتياجات الإنفاق المحلية. ولاشك أن هناك معوقات حضارية وإدارية أدت إلى عدم التمكن من الاستفادة من تلك الفوائض لبناء اقتصاد أفضل.

فعندما جاءت الثروة النفطية، لم تكن هناك قواعد اقتصادية ومرتكزات إنتاجية تستطيع استيعاب تلك الثروة في قنوات استثمارية متطورة. ويضاف إلى ذلك أن المقدرة الإدارية لم تكن مهيأة للاستفادة القصوى من الثروة... لذلك فإن البلاد كانت بحاجة لتطوير جميع أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وتطوير نظامها التعليمي والخدمات الصحية والإسكانية، حيث إن البلاد كانت فقيرة في كل النواحي..

الاستعانة بالخبرات العربية والأجنبية

وبالرغم من تواضع الإمكانات البشرية والإدارية، فإن الكويت سرعان ما استطاعت أن تجند العديد من المختصين العرب والأجانب في الشئون الاقتصادية، حيث استعانت بخبرات بريطانية في إدارة استثمارات مكتب الكويت للاستثمار في لندن، كما أن إدارة الشئون المالية والاقتصادية اعتمدت على عدد من الخبراء العرب..

ولقد ساعد هؤلاء على تحسين شروط التعاقد مع شركة نفط الكويت حيث تم التوصل إلى اتفاق مع تلك الشركة يقضي بتنازلها عن 60% من مساحة امتيازها.. وقد تم تأسيس شركة البترول الوطنية عام 1960 والتي وزعت الملكية فيها بين القطاع العام 65% والقطاع الخاص 40% وبعد تنازل شركة نفط الكويت عن 60% من مساحة امتيازها، منحت شركة البترول الوطنية عام 1962 حقوق التنقيب في المساحة المتنازل عنها.

يضاف إلى ما سبق ذكره أن الحكومة الكويتية قامت في عام 1958 بشراء 10% من حقوق الملكية في شركة الزيت العربية (اليابانية). وأصبح هذا المبدأ قابلا للتنفيذ مع أي شركة نفط تمنح امتيازا جديدا..

ومن أهم التطورات في السياسة الاقتصادية توجه الكويت إلى الانضمام لمنظمة البلدان المصدرة للنفط (الأوبك) التي تأسست عام 1961 لتكون أداة للدفاع عن حقوق ومصالح الكويت الفعلية..

بطبيعة الحال فإنه خلال سنوات الخمسينيات والستينيات، ونتيجة لكون السياسة الإنتاجية مرهونة بمصالح الشركة المالكة، كان الإنتاج يخضع لظروف أسواق النفط وليس لمصالح الكويت الفعلية..

مجلس الإنشاء

من الأمور التي تساعد على فهم التوجهات الاقتصادية في الكويت، محاولة التعرف على المؤسسات التي أنيط بها وضع السياسات الاقتصادية. ومن تلك المؤسسات كان مجلس الإنشاء هو المؤسسة الأولى التي أنيط بها وضع مخطط للبنية الأساسية في البلاد. وقد تأسس ذلك المجلس عام 1952 واختير أعضاؤه من المديرين العامين للدوائر الحكومية (أو معظم تلك الدوائر). وقد ظل المجلس يعمل حتى نهاية عام 1960 بذلك التكوين، ثم أدخلت فيه بعض التعديلات، بحيث صار يضم ستة ممثلين عن القطاع الخاص..

من صلاحيات مجلس الإنشاء ما يلي:

1 - القيام بتقويم المشروعات العمرانية واعتمادها.

2 - تعيين المستشارين ومراقبة التنفيذ.

3 - التصديق على توزيع الأراضي للبناء في المناطق الجديدة (قبل أن تنتقل تلك الصلاحيات إلى المجلس البلدي).

هذا وقد وضع مجلس الإنشاء برنامجا استشاريا في عام 1952 حجمه 91,5 مليون دينار لإنجاز مشاريع إنشائية خلال خمس سنوات (1952/ 1953- 1956/ 1957)... لكن ذلك البرنامج الطموح حينئذ لم، يتم إنجازه كما تم تصميمه، لغياب الدعم القانوني، وللتأخير في إعداد المشاريع، وعدم التمكن من تقدير التكاليف بشكل دقيق. ومن المشاريع التي تم اعتمادها خلال ذلك المخطط بناء ألفي مسكن شعبي ومدارس عديدة ومستشفيات ومساجد في جميع أنحاء الكويت، وشبكات طرق وميناء ومسلخ ومطار جديد ومشروع الواجهة البحرية ومحطة التجارب الهندسية..

من أهم منجزات مجلس الإنشاء وضاع مخطط تنظيمي جديد لمدينة الكويت عام 1954 والذي لا يزال معمولا به. وقد كان المقصود من ذلك المخطط إعادة تنظيم المدينة وتوسيعها. وبناء على ذلك المخطط تم رصد مبالغ طائلة أنفقت على استملاك المساكن والأراضي داخل المدينة، ذلك الاستملاك- والذي أشرنا له- بدا أن من بين أهدافه إعادة توزيع الثروة في البلاد، وتحسين ظروف المعيشة للمواطنين.. وقد ساعد ذلك الاستملاك على زيادة ثروة عدد من المواطنين حيث استخدمت في بناء المساكن واقتناء الأراضي داخل وخارج المدينة. كما قام البعض باستثمار جزء من تلك الأموال في الخارج..

خلال حقبة الخمسينيات، كما يتضح من البيانات الرسمية، لم يكن هناك توجه نحو بناء صناعة محلية أو زيادة القدرات الإنتاجية... الأمر الأساسي والواضح هو تحسين المقدره على الاستهلاك لدى المواطنين والمقيمين الجدد الذين جاءوا للعمل في الكويت، وكذلك تحسين كفاءة الخدمات بمختلف أشكالها، وتأسيس بنية تحتية مناسبة. يضاف إلى ذلك أنه ما جاء عام 1965 حتى كان عدد المدارس التي تم إنشاؤها 176 مدرسة حكومية و 32 مدرسة خاصة، في حين بلغ عدد الطلبة والطالبات في المدارس الحكومية 92217 يقابلهم 6488 مدرسا ومدرسة. أما المدارس الخاصة فكانت تضم 9917 طالبا وطالبة، و 394 مدرسا ومدرسة. وقد وفرت حكومة الكويت جميع مستلزمات التعليم من كتب وألبسة وطعام وعلاج ووسائل نقل، بحيث كان الإنفاق على الطالب الواحد يعادل خمسة وثلاثين دينارا في عام 1965.

ولاشك أن ذلك التطور مثل نقلة نوعية في تاريخ الكويت الاجتماعي والاقتصادي، ذلك أن محو الأمية وبناء المواطن المتعلم لبنات مهمة في البناء الاقتصادي..

فلسفة التنمية في الكويت

عندما يحاول المرء أن يتطرق لموضوع التنمية في بلد ما، فلابد أن يتوخى الحرص في دراسته بحيث يستطيع أن يحدد معالم نهج التنمية في مختلف القطاعات الاقتصادية. وفي بلد مثل الكويت والذي شكل النفط - وما زال- أهم قطاع اقتصادي فيه، لابد أن تتركز قضية التنمية على محاولة تطوير إمكانات الصناعة النفطية..

قد يكون مفهوم التنمية في بلد مثل الكويت عسير التحديد، حيث لا يمكن أن نجد قيما اقتصادية واضحة، تحدد التوقعات لمستقبل يمتد عبر عقد أو أكثر من الزمن. لذلك فإن التطورات الاقتصادية- وكما أوضحنا فيما سبق ذكره- تعتمد على المتغيرات الناتجة عن ظروف السوق النفطية ومن ثم حجم الإيرادات المتحصلة للخزينة العامة.. وفي إطار العلاقة بين الحكومة والقطاع الخاص حيث يشير دستور دولة الكويت إلى أن الاقتصاد الكويتي يعتمد على فلسفة الحرية الاقتصادية وأهمية صون الملكية الخاصة كان هناك تأكيد في كل الأطروحات الرسمية على أهمية دعم النشاط الخاص وإطلاق ملكاته في تطوير البنية الاقتصادية في البلاد.. بيد أن تلك العلاقة كانت مرهونة بحجم الموارد والمدخرات التي تملكها الدولة وتلك التي يملكها القطاع الخاص. فقد شجعت السلطات الاقتصادية استثمار أموال القطاع الخاص في عدد من المؤسسات الجديدة في مختلف القطاعات مثل النفط والبنوك والمشروعات الاستثمارية وفي القطاع الصناعي وكذلك في قطاع الخدمات. فمثلا كان للقطاع الخاص دور مهم في بناء بعض المؤسسات العاملة في قطاع الصناعات النفطية مثل شركة البترول الوطنية وكذلك شركة الأسمدة الكيماوية عند تأسيسها في عقد الستينيات.. كذلك ساهم القطاع الخاص في شركة مطاحن الدقيق وشركة المواصلات وعدد من البنوك التجارية بجانب مساهمة الحكومة في تلك المؤسسات الاقتصادية..

لكن الأمور أخذت منحى مختلفا بعد ما طرأ على أسعار النفط في عام 1973 وما تلاه. وبعد الزيادة الكبيرة التي نتجت عن ارتفاع تلك الأسعار والتي وردت لحساب الخزينة العامة..

وبعد أن كانت مدخرات القطاع الخاص تفوق مدخرات الحكومة، وبعد أن كانت الحكومة تؤجل عددا من المشاريع الحيوية مثل المستشفيات حتى أوائل السبعينيات نظرا لقصور في الموارد المالية، تهيأت للحكومة إمكانات مالية ضخمة رأت أن تستخدم جزءا منها لتأكيد ملكيتها التامة للقطاع النفطي، وفي الوقت نفسه اقتناء الأسهم المملوكة من القطاع الخاص بأسعار مغرية.. ولم تكن تلك الخطوة موضع استياء من قبل القطاع الخاص المالك للأسهم في المؤسسات البترولية بل إنه قبل شاكرا وممتنا وحين من قيمة مدخراته وتوافرت له إمكانات مالية غير مسبوقة مكنته من استثمارها في قنوات محلية وخارجية.

ومثلما حدث في قطاع النفط جرى في وقت لاحق في قطاع الخدمات مثل استملاك أسهم مطاحن الكويتية وشركة المواصلات وهكذا...

ولاشك أن هناك من يقول بأن تلك الخطوة التي جرت في أواسط السبعينيات هي لإعادة توزيع الثروة الجديدة التي توافرت للبلاد بعد زيادة أسعار النفط.. بيد أنه من بعد عمليات التملك المذكورة أخذت البلاد تواجه موجة من ارتفاع أسعار الأصول والسلع حيث بدأت أسعار الأراضي والمباني العقارية ترتفع بمعدلات قياسية، كما أنه طرأ تضخم في أسعار السلع والخدمات بشكل أصبحت فيه الرواتب والأجور متدنية قياسا بمستوى المعيشة الجديد... وقد أدت تلك الموجة التضخمية إلى إعادة النظر في سلم الرواتب. والأجور في الحكومة والقطاع العام وزيادتها زيادات كبيرة . وقد تبع ذلك ارتفاع في الرواتب والأجور في القطاع المشترك.

لقد كان للارتفاع المطرد في قيم الأصول العقارية وما تبع ذلك من ارتفاع لا أسعار أسهم الملكية في الشركات المتداولة في سوق الأوراق المالية، تأثير مهم على توزيع الدخل في الكويت نتج عنه زيادة في ثروة أصحاب الأراضي ومالكي الأسهم... وفي الوقت نفسه أصبحت إمكانات تملك الأراضي والمباني السكنية غير متاحة إلا لمن يملك أصولا نقدية مهمة أو تتاح له الفرص للاقتراض من النظام المصرفي. لذلك فقد حرم العديد من الموظفين وأصحاب الدخول المتوسطة والمحدودة من اقتناء الأراضي لغرض السكن الخاص، وأصبح معظمهم إن لم يكن كلهم يعتمدون على تمويلات بنك التسليف والادخار، أو يضطرون للانتظار سنوات طويلة من أجل الحصول على سكن جاهز من قبل الهيئة العامة للإسكان.. ويعتبر هذا التطور مخالفا لما هو مألوف في الأوضاع الاقتصادية التقليدية في البلدان الرأسمالية حيث يتمكن أفراد الطبقات والوسطى من تملك مساكنهم من خلال مواردهم الذاتية أو تلك التي تسمح لهم بتكوين جدارة إئتمانية تمكنهم من الاستدانة من النظام المصرفي..

لقد ساعدت زيادة الموارد المالية الحكومية على زيادة الأنفاق العام وتحسين مستوى الخدمات وتطوير البنية الأساسية في البلاد، ولكن في الوقت ذاته نتج عنها إعادة توزيع الدخل وزيادة تمركزه.. وقد يقول قائل إن زيادة تمركز الثروة في البلاد والناتجة عن التضخم في قيم الأصول يعود لقلة الفرص الاستثمارية ولمحدودية الاستيعاب للأصول التي تدفقت عبر قنوات الإنفاق العام.. ولاشك أن هذا الادعاء صحيح. لكن الذي حدث هو نتيجة لتوجه لم يأخذ بعين الاعتبار النتائج.. فعند ارتفاع أسعار النفط ألم يكن ممكنا قياس النفقات الأساسية الرأسمالية منها، والجارية وتحديد سقف لإنتاج النفط يؤدي إلى تحصيل موارد مالية محدودة ويمنع حدوث تضخم؟

والسؤال حول السياسة الخاصة بإنتاج النفط يثير العديد من المصاعب حيث إنها تثير حساسيات تتعلق بمدى تطابق المصالح الوطنية باحتياجات أسواق المستهلكين بالإضافة إلى قضايا تتعلق بمسائل القيمة الاقتصادية للنفط وهل من الأفضل تحويل الأصول النفطية إلى أصول نقدية واستثمارها بشكل يدر عائدا على البلاد مما يقلل الاعتماد على الإيرادات النفطية.. ولقد تمكنت الكويت خلال السنوات المنصرمة من تكوين فائض كبير قسم دفتريا إلى احتياطين: الاحتياطي العام، أصول محلية وعربية ودولية.. وقدرت قيمة المبالغ العائدة للاحتياطين بثمانين بليون دولار حتى وقت قريب قبل الغزو العراقي البغيض. الآن، ماذا نستطيع أن نقول عن الإمكانات والقدرات الاقتصادية في الكويت؟ لاشك أن نتائج الاحتلال العراقي كانت كارثة على مختلف الأصعدة ولكل القطاعات الاقتصادية. لم تعد الكويت من حيث تركيبتها السكانية وقدراتها المالية والتزاماتها مثلما كانت قبل ذلك اليوم الرهيب الذي أحدث تغيرات مهمة في القيم والمعتقدات السياسية..

إذن المطلوب دراسة منهج جديد في الإدارة الاقتصادية يستفيد من تجارب وأخطاء السنوات الأربعين الماضية ويحدد أهدافا وقيما جديدة تتواكب مع القدرات والإمكانات، وهذا سيكون موضوع مقال مقبل.