فرومنتان.. في صحارى الشرق

فرومنتان.. في صحارى الشرق
        

          كان للأديب والفنان الفرنسي الشهير (أوجين فرومنتان) 1820 - 1876 دور بارز في حركة الفن الاستشراقي - في أوج مجدها - في منتصف القرن التاسع عشر.

          تميز فرومنتان بنظرة جمالية جمعت بين الرومانسية والفكر الواقعي.. كان جذابا (مفرط الحساسية) شديد التأثر والانفعال, وقد وصفته الكاتبة الفرنسية الشهيرة (جورج صاند) المعاصرة له, بقولها:

          (إن تكوينه غاية في الرقة) ووجهه يأسر الناظر إليه بكل ما يعكسه من تعبير, وحديثه مثل لوحاته وكتاباته: متألق, حيوي, خصب, بحيث يمكنني أن أنصت إليه طوال حياتي!.. إنه ينعم بتقدير يستحقه, فقد كانت حياته كروحه نموذجا للرقة والذوق الرفيع والتميز).

          تأثر فرومنتان بالمناخ الثقافي والفني الذي كان يسود باريس في ذلك العصر, وتغيرت معالم شخصيته تماماً, عندما أدرك عدم جدوى دراسته, وقد أنهى دراسة الحقوق بجامعة باريس عام 1843, فبدأ يعيد تكوينه الثقافي من جديد, بحضور محاضرات أعلام الفكر: أوجار كينيه, ميشليه, سانت بوف وغيرهم, وبدأ الدراسة الأكاديمية لفن التصوير في أتيليه الفنان (ريمون).. ثم في متحف الفنان (لويس  كابيه) وتوطدت صداقته بالفنان المستشرق (شارل لابيه).

          كان فرومنتان دائم الإشادة بعالم الشرق, وبعظمة شعوبه التي استطاعت الحفاظ على جمال الحياة والعادات والتقاليد الموروثة, وتميزت إبداعات هذا الفنان برهافة الحس, والمعرفة الدقيقة للعنصر الإنساني وللطبيعة ومتغيراتها, وملاحظة أثر المناخ على السلوك ونمط الحياة خاصة في الصحراء, وقد سعى إلى تخليد مناظر الطبيعة الجزائرية, كما خلد ماريلا الطبيعية المصرية..!

دومينيك..!

          بالرغم من أن (دومينيك) هي الرواية الوحيدة لفرومنتان, فإنها تبوأت مكانة خاصة في الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر, وعدها النقاد أحد معالم الرواية الرومانسية, فهي تعتمد على تحليل النفس البشرية وما يختلج بداخلها من مشاعر وانفعالات, وقد عبر فيها فرومنتان عن تجربته العاطفية التي عاشها وهو في الثانية عشرة من عمره, في إطار من التسامي والمثالية. وعن هذه الرواية يقول الناقد (إيميل فاجيه) في كتابه: تاريخ الأدب الفرنسي (.. إن دومينيك من الروائع النادرة في الرواية النفسية, والرواية النفسية تعتبر أسمى أشكال الأدب الروائي, مما يدل على مدى صعوبتها, وفي واقع الأمر, فإن أكبر الأدباء لا يمكنه كتابة أكثر من رواية نفسية واحدة - هي روايته التي عاشها - بشرط أن يكون موهوباً)!

          كان فرومنتان وهو في الثانية عشرة من عمره, قد وقع في غرام (جيني) ابنة الجيران التي تكبره بأربع سنوات, والتي لم تر في غرامه سوى طفولة طائشة!

          وعندما تزوجت جيني, كاد فرومنتان يفقد صوابه, فكان أن أرسلته أسرته إلى باريس ليدرس القانون, وفي كل إجازة يعود إلى مدينة (سان موريس) ليظل بجوار جيني فتاة أحلامه, التي بادلته الحب وتوثقت علاقتهما, حتى توفيت وهي في السابعة عشرة من عمرها أثر عملية جراحية عام 1844, ولحظة دفنها, أقسم فرومنتان أن يخلد ذكراها, فكانت رائعته (دومينيك) التي كتبها بعد وفاتها بخمسة عشر عاما.

صيف في الصحراء..!

          وتلبية لدعوة الفنان (لابيه) قام فرومنتان بزيارة الجزائر سراً عام 1845 حيث كانت أسرة لابيه مستقرة بمدينة (البليدة) وكانت عائلة فرومنتان تعارض اتجاهه للفن, فسافر دون علمهم, واستمرت الرحلة لمدة شهر, أثمرت حصيلة إبداعية هائلة, وكتب لوالده رسالة, أوجز فيها انطباعاته الدافقة:

          (.. قد أكون مخطئاً, غير أن رحلتي هذه, وتوجه أفكاري الجديد, وذلك الدرس الرائع الذي تعلمته في بلاد الضوء الساطع, والألوان الصاخبة, والأشكال الغريبة, يعد تقدماً في عملي, سيغدو ملحوظاً يوماً بعد يوم, وكل هذه المعطيات, تمنحني زخماً جديداً, وتكسبني حماسة وقوة جديدين).

          في صالون باريس 1847, عرض فرومنتان ثلاث لوحات, تعرض مشاهد جزائرية, قدمته بنجاح إلى الجمهور الفرنسي.

          لقد بلورت أرض الجزائر العملية الإبداعية والروحية لهذا الفنان, ودفعته إلى معايشة الحالة الروحية للشرق, وتسجيل كل مظاهر السلوك والعادات والتقاليد, والطقوس الدينية, والحكمة, وحب الأرض وعشق الطبيعة, ووصف حياة القبائل العربية, في كتابيه: (صيف في الجزائر) و(سنة في الساحل), وقد أشار في هذين الكتابين, إلى سعيه الدائب لإكساب الصورة الشرقية: نبل وقدسية الكتاب المقدس وعظمة العصور القديمة, فعلى سبيل المثال, كان يقارن دائما بين نساء الجزائر وصورة (راحيل في الكتاب المقدس) ويقارن الراقصة العربية بالليدي ماكبث!

          إن تعطش الفنان للعثور على شيء ما جديد في الشرق الفني جعله يوغل في عمق الطبيعة الجزائرية ليزور المناطق التي لم يزها أحد من قبله, (الصحراء الجزائرية حيث درجة الحرارة في الظل صيفاً تبلغ 60 درجة مئوية), وبما أن الرومانسيين الأوائل, وفناني الاتجاهات الفنية الأخرى كانوا حتى هذا الوقت قد استنفدوا في أعمالهم الاستشراقية كل ما من شأنه أن يثير الدهشة من مواضيع, وصور وألوان, وأنماط, واستكملوا تقريباً الصورة الرومانسية الاستشراقية. وقاد ذلك فرومنتان إلى تركيز هدفه على الكشف عن (رؤية) جديدة للشرق مغايرة لكل ما سبقها. فقرر أن يعيش بنفسه عالم الشرق الأنقى في (الصحراء), وأن يجرب أثر المناخ على أحاسيسه من (الداخل). ولم تراود الرغبة فرومنتان وحده فقط, بل يكفي أن نتذكر ماريلا, الذي تأثر به فرومنتان من الناحيتين الإبداعية والمعيشية, وكذلك جيراروي نرفال (الذي عاش بين العرب ودرس لغتهم) فكتب يعبر عن رغبته هذه قائلاً: أريد أن أتغلغل عميقا في العالم الأليف لهذا الشعب لإدراك أصالته, وأعتقد بأن بلوغ هذا الهدف ممكن فقط عبر الاقتراب من هذا الشعب أكثر).

          لقد سعى فرومنتان لتخليد مناظر الطبيعة الجزائرية من المنطق نفسه للصبغة المحلية ولعبة الضوء واللون مثل لوحة ذكريات جزائرية, (متحف الفنون الجميلة في الجزائر). فتتراجع فيها أطلال الآثار المعمارية المحلية (بقايا أعمدة وقناطر), إلى خلفية اللوحة, التي تزين مقدمتها بألعاب الفرسان, دون المبالغة بتجسيد التفاصيل المعمارية. ويمكن تفسير هذا التوجه بسبب طبيعة الآثار الجزائرية التي وقعت تحت نظره والتي تخلو من المواصفات التعبيرية وحجم الموضوع المرئي الذي يتبدى في شكل الآثار المصرية. وفضلا عن ذلك فن العمارة لم يدخل في إطار اهتمامه, بقدر الطبيعة, فهو يسعى لرؤية المنظر الطبيعي الشرقي (بمنظار جديد)!

          مما لا شك فيه أن إقامة فرومنتان في الجزائر لفترة طويل مكنته لاحقاً, أي في الخمسينيات, من إيجاد ذاته في لوحات شرقية صميمة تصب في جوهرها في التوجه الرومانسي الغريب, غير أنها تنم عن فكر جمالي نظري منبعه الملاحظة الدقيقة لمتغيرات طبيعة الشرق, وأثر المناخ على السلوك ونمط الحياة وبخاصة في الصحراء. لقد أنجز فرومنتان عدداً من لوحات (الصيد), الفكرة التقليدية الاستشراقية التي تغلغلت في الفن الأوربي منذ القدم (مع تغلغل الموتيف الفرعوني والبابلي والآشوري والفارسي).

          لقد أعاد الفنانون الرومانسيون - من خلال مشاهد الصيد - للشرق ماهيته الفنية الحياتية التقليدية, لاسيما أنهم رأوا فيه تعبيراً عن تعطشهم للغريب والمدهش والغامض!

          أنجز فرومنتان العديد من مشاهد (الصيد) التي ميزته كفنان استشراقي يسعى دائما إلى (التفرد) في رؤيته للشرق التقليدي.

          إن (مشهد (صيد الصقور) يعتبر أحد مشاهد الصيد الشرقية التقليدية والمفضلة لدى العربي في الصحراء, ولدى بحث فرومنتان عن مشاهد معبرة عن (روح الشعب) الصحراوي, رأى في مشهد صيد الصقور, صورة شرقية بحتة لم يصورها قبله أحد من الرومانيين فالصقر طائر الصحراء الجارح, وعملية صيده مفعمة بالبطولة, لأن المعركة بين الإنسان والحيوان لا تدور على الأرض (كما في لوحات سابقيه) بل بين مخلوق الأرض ومخلوق السماء. فتظهر في لوحته (صيد العرب للصقور) صورة الفرسان العرب على صهوات جيادهم الرشيقة يتابعون حركة الصقور في السماء على عدة فرق تتوزع على مساحة مجرى مائي (ساقية, أو نهير) بينما تلف فضاء اللوحة غلالة ضبابية شفافة من انعكاس ضوء المساء الأصفر الباهت على صفحة الماء الفضية, بحيث تشترك السماء والأرض في سيمفونية لونية متناغمة!

          عايش فرومنتان (الصحراء) سنوات طويلة, فأحسها بكل كيانه الروحي والجسدي, حتى ألهمته لوحات متميزة خالدة, ومثلت لوحته (العطش) قمة إبداعاته عن الصحراء, حيث تتجلى الصورة التراجيدية لحياة الإنسان في الصحراء القاسية! كذلك لوحته الشهيرة: (مشهد صحراوي) أو (لصوص الليل) التي جسدت روعة الليل في الصحراء, وصورت مظهراً من مظاهر الحياة البدوية!

          وعقب ثلاث رحلات طويلة إلى الجزائر, نشر فرومنتان كتابه (صيف في الصحراء) عام 1857, ثم كتاب (سنة في الساحل), عام 1859, وقد كتب عنهما الناقد الفرنسي (لويس جونس) في كتابه: (أوجين فرومنتان مصوراً وأديباً) قائلا:

          (إن كتاب الصحراء هو الصيف الإفريقي بعينه, بكل ما فيه من أضواء وألوان صاخبة عنيفة, وهدوء قاتل, وخشونة وشاعرية غريبة, أما كتاب الساحل, فهو الجزائر بذاتها.. الجزائر الضاحكة المخضرة بسمائها المتغيرة وسحبها وألوانها المختلفة وانعكاسات الأضواء, والجبال الشاهقة وآفاق بلا نهاية)!

          وبدعوة من الخديو إسماعيل, شارك فرومنتان في احتفالات افتتاح قناة السويس عام 1869, وقدم صورة صادقة متعددة الألوان عن مصر وكان في أعماقه شاعراً, أكثر منه مصوراً, حتى أنه عندما رحل إلى مصر لم يكن معه أدوات للرسم, وإنما اصطحب معه مفكرة لرصد انطباعاته والتي كانت وبحق أبدع مذكرات سجلها فنان, ومن أشهر لوحاته المصرية (لصوص الخيل في الصحراء) و(الغروب على شاطئ النيل) و(النوبيات على شاطئ النيل), التي أبرزت قدرته الخارقة على التلاعب بالدرجات اللونية, وهذه المقدرة الفنية أتاحت له وصف أدق الفروق اللونية التي تطرأ على مياه النيل, فهي تارة في لون الوحل, عسلية اللون, رمادية, فضية مخضرة أو زرقاء قاتمة.

          وتدل إبداعات فرومنتان على عمق ثقافته وسعة اطلاعه ونزوع إلى الابتكار والتميز, وكان يعشق العزلة ليعيش (خارج الزمان والمكان)..! ووصف نفسه بأنه: (ليس رحالة يصور كل ما تقع عليه عيناه, بل هو فنان يرتحل وراء ما ينبغي تصويره, محاولاً التمييز بين الجميل والغريب).

 

عرفة عبده علي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الصيد بالصقور في الجزائر





فرسان يستعرضون في مهرجان الفروسية - الجزائر





مقابر وأضرحة الخلفاء بالقاهرة





لقاء مشايخ العرب





مصريات أمام باب دارهن





لصوص الصحراء