في ذكراه المئوية... الكواكبي: تجربة التصدي لأعداء الحرية

   في ذكراه المئوية... الكواكبي: تجربة التصدي لأعداء الحرية
        

يظل كتاب (طبائع الاستبداد) ثمرة تجارب عبدالرحمن الكواكبي مع الحكام المستبدين أكثر من مطالعاته لمؤلفات كتاب النهضة, في الوقت الذي تمثل فيه تجربة إصدار (الشهباء) الثمرة الأولى في رحلة مناهضة لأعداء الحرية.

          هناك أمور عدة اختص بها عبدالرحمن الكواكبي عن بعض رواد النهضة ومنهم محمد عبده, فالكواكبي دعا إلى الفصل بين الدين والسياسة, في حين نادى الأستاذ الإمام بدولة دينية متقدمة.

          كما أن الكواكبي الملقب بالسيد الفراتي يختلف عن معظم رواد النهضة, ومنهم جمال الدين الأفغاني بعباراته القصيرة الخالية من المرادفات, في حين كانت مقدمة مقال الأفغاني أكبر من المقال نفسه.

          كذلك يتميز الكواكبي عن قلة من رواد النهضة ومنهم الصحافي اللبناني المتمصّر سليم سركيس, بأنه لم يكن معارضاً للسلطة بصورة مطلقة? فقد كان قاضياً لأعوام قليلة أو بضعة أشهر, وبسبب إصراره على ممارسة العدالة أقيل من منصبه. وسرعان ما بدأ ممارسة المحاماة دفاعاً عن المظلومين ودون مقابل, وحين استبدل والي حلب, عاد إلى وظيفة رفيعة أخرى, ثم أقيل أو استقال, وهكذا حتى لحظة مغادرته بلاد الشام ولجوئه إلى القاهرة في العام 1898.

الشهباء

          وإذا كان الكواكبي قد توسّل الصحافة من أجل بث أفكاره النهضوية أسوة بالعديد من روّاد النهضة ومنهم قدوته سليم البستاني النجل البكر للمعلم بطرس, فهو شذّ عنهم بتدشينه حياته الصحفية في مطبخ تحرير جريدة ولاية حلب الرسمية (فرات) قبل أن يصدر أولى جرائده الثلاث (الشهباء).

          والأسئلة الآن: متى أصدر الكواكبي العدد الأول من الشهباء? هل كانت نصف أسبوعية كما كان حال بعض دوريات بلاد الشام? وهل اتبعت نهج الموالاة, باعتبار أنها صدرت في إحدى ولايات السلطنة? متى احتجبت? وكم بلغت إصداراتها?

          قبل الإجابة عن تلك الأسئلة ومتفرعاتها, لابد من الإجابة العملية عن السؤال التالي: أين هي مجموعة (الشهباء)? ذلك انها غير موجودة في عموم مكتبات العالم العربي, فضلاً عن مكتبة باريس الوطنية والمكتبة البريطانية.

          لقد طرحت السؤال على حفيد صاحب الجريدة وسميّه الوزير السابق الدكتور عبدالرحمن الكواكبي, فتلقيت منه معلومة الدبلوماسي الألماني في سفارة دمشق التي أفضى بها لأخيه هيثم الكواكبي ومفادها أن بعض أعداد (الشهباء) موجودة في مكتبة (هالي) الألمانية, وأن الدبلوماسي اعتمدها موضوعاً لأطروحته الجامعية, وبالفعل, وجدت في تلك المكتبة القديمة المتواضعة التي تبعد عن برلين 300 كيلومتر, تسعة أعداد بدءا من العدد الأول. وما وجدته يكفي للإجابة عن الأسئلة السابقة, لأن الكواكبي لم يتمكن من إصدار أكثر من سبعة عشر عدداً طيلة عامين, كما سيجيء.

          في العاشر من مايو 1877 ظهر العدد الأول من (الشهباء) في حلب الشهباء, وكان مؤلفا من أربع صفحات من حجم صحف التابلويد كالديلي ميرور مثلاً. ومن أغرب ما ورد في الصفحة الأخيرة من العدد الأول والأعداد اللاحقة, اسم هاشم العطار كصاحب الشهباء وغياب اسم صاحبها ورئيس تحريرها الحقيقي - أي الكواكبي -.

صيانة الحقوق

          حدّد الكواكبي في الافتتاحية هويّة (الشهباء) وغايتها, بقوله: (غب الحصول على الإذن الشريف من الباب العالي بادرنا لإيجاد هذه الجريدة العربية والجريدة الأدبية الموضوعة لنشر الحوادث السياسية والوقائع المحلية, مع تحليتها أحياناً ببعض جمل سياسية ونبذ علمية وأدبية, وغير ذلك من الأبحاث والمقالات المفيدة لاتساع دائرة المعارف العمومية واكتساب الآداب المدنية وكشف أسرار الأمور وتنبيه أفكار الجمهور ومساعدة الدولة على انتظام حركات السياسة المحلية وصيانة الحقوق من الشطط بين أركان الهيئة الاجتماعية).

          وعاد الكواكبي في مكان آخر إلى عروبة (الشهباء) ولكن من أجل مد يد المساعدة لصحيفته (ممن يشترك معنا في الحواس من أبناء لغتنا عموما, وأخلاّء وطننا خصوصا, مع ملاحظة التنشيط للقائمين بخدمة عمومية وتمكينهم من الاستمرار على إيفائها كما هو شأن الأمم (الأورباوية) مع أن العرب الموصوفين بالحمية الجنسية والسماحة الفطرية أولى منهم بذلك. كيف لا, وحقوق الأخوة الجنسية والوطنية, بل مطلق حقوق الإنسانية تقضي بمساعدة المتقدم للمتأخر, ولا أقل في ذلك من تنشيط الجرائد الموضوعة لخدمة العموم ونفع الجمهور).

          يمكن التنويه بثلاثة محاور في هوية (الشهباء) وغايتها:

          - محور العروبة: وكلام الكواكبي حول الفضائل العربية, ينسجم تماما مع ما عاد وكرره في كتابيه (طبائع الاستبداد) و(أم القرى).

          - محور الوطن والأمة: حصر الكواكبي, وهو العالم الديني, غاية جريدته بنهضة أبناء الوطن, وكان مبرر تعطيل الصحيفة والتحقيق مع صاحبها خبرا صغيرا, وليس الافتتاحية. ولنقرأ نص الخبر المذيل بتعليق نقدي وهو بيت القصيد: (بلغنا أن ستة أنفار من مسيحيّي عنتاب من طائفة الأرمن القديم أتوا لمحل استكتاب العساكر المتطوعة بقصد أن يكتبوا أنفسهم في جملة المتطوعين, فغبّ السؤال عن أسمائهم, طلب منهم تغييرها بأسماء إسلامية, فأبوا ذلك قائلين: إن قصدنا المحاماة عن دولتنا ووطننا, فإن كان لا سبيل لذلك إلا بتغيير أسمائنا فلا نقبل).

          وعلّق الكواكبي على الحادثة بما يلي: (كلما ألزمتنا ظروف الأحوال بالتشبث بأسباب علاقات الودّ والاتحاد بين سائر التبعة العثمانية, تظهر هكذا حركات تقضي بضدّ ذلك لغايات بعض مآمير لا يكترثون بلوازم الأوقات. فاللازم على أولياء الأمور أن يصدّوا هكذا مأمورين عن غاياتهم).

تعطيل الصحيفة

          ولكن أولياء الأمور بادروا إلى صدّ الكواكبي بدلا من معاقبة المأمور. فعطّلوا الجريدة, واستجوبوا صاحبها من أجل معرفة اسم المخبر الذي نقل إليه تصرّف المأمور إزاء المتطوعين الأرمن. فهل استجاب الكواكبي لطلبهم?

          لقد عطّل الوالي (الشهباء) ستة أشهر, ومن المؤكد أن التعطيل كان تدنى لو أذعن الكواكبي لطلب الوالي. وكان يمكن أن يستمر غياب الجريدة أكثر من 200 يوم لولا (شفاعة الباب العالي).

          وهكذا, تصدّرت العدد الثالث الصادر في ديسمبر 1877 افتتاحية طويلة شرح فيها الكواكبي ظروف التعطيل حيث قال: (من المعلوم أن حب الوطن والغيرة على تقدمه ونجاحه فطرة غريزية في الإنسان تدعو كل فرد منه على أن يبذل شيئاً من همته ومقدرته في سبيل خدمته.

          ومن هذا القبيل, كنا منذ خمس سنين تشبثنا في أن نخدم وطننا العزيز, بإيجاد مطبعة, وإنشاء جريدة وطنية فيه, أملا بأن يكون ذلك عونا لأبناء الوطن على تقدمهم في المعارف والآداب التي كادت أن تكون آفلة الأفلاك في سماء فخارهم وتنشيطا, بل تسهيلا لهم على مراعاة حقوق شرفهم ماديا وأدبيا). أضاف أن أكثرية الحلبيين تلقوا (الشهباء) بالقبول الحسن مستبشرين أنها باكورة تقدم الوطن, غير أنه لابد أن يوجد بعض أصحاب غايات من تابع ومتبوع لا يلائمهم انتشار المعارف. ثم أصدرنا العدد الثاني, وإذا بمتتبعيه قد عثروا فيه على ما تأولوه بذلّة, فأسرعوا في الحين فرحين معرضين عن أن كلم وجه المعارف مما يشين, فأعضدوها وأعرضوها لدولة الوالي رسماً, وبعد المحاكمة في مجلس الإدارة, وامتناعنا عن الإباحة باسم مخبرنا, محافظة على ناموس الجرنال, كان ما كان من أمر تعطيله. و(اعترف) الكواكبي في سياق الافتتاحية أن الخبر الذي نشره كان (هفوة دون قصد). لذلك قبل الوالي (شفاعة الباب العالي). وألغى قرار التعطيل. ولا يخفى على القارئ أن (اعتراف) الكواكبي يشبه كثيراً اعترافات المظلومين في الأنظمة الاستبدادية.

          ولكن, إذا كان الوالي قد عطل الصحيفة بسبب خبر صغير, فهل يتغزّل بكحل عيني الكواكبي إزاء ما ورد في العدد العاشر الصادر في 25 يناير 1877?

          قال الكواكبي في الافتتاحية التي استغرقت كامل الصفحة الأولى والعمود الأول من الصفحة الثانية: (لا جرم أن أحوال الحرب الأخيرة قد أثرت في خواطر الأمة عموما وهيّجت فيهم عناصر الغيظ من سوء الإدارة التي صادفتها الحرب, وفوق ذلك, أن الجمهور قد أصبح ينادي بصوت عال متضجّراً من اختلال الإدارة مترقبا بفروغ صبر الإصلاحات الموعود بها, مؤملاً إدراك غاية قريبة للتخلص من ضيم استيلاء الفساد على سياسة المملكة). أكثر من ذلك, فالكاتب انتقل من التعميم إلى التخصيص, ليشن حملة عنيفة ضد سلاطين بني عثمان الذين صرفوا (أكثر أوقاتهم في معاشرة السراري, فتغلبت على طباعهم خصائص النساء من شدة الحلم وسلامة الصدر والميل إلى المشاحنة والغلو في الزينة الظاهرية والاعتماد على تكريم الناس على شرف المنتسبين إليهم). وإذا أضفت إلى السلاطين (حال الاستبداد) انكشف سرّ (اختلال الإدارة). ذلك أن (من الأمور الطبيعية أن الوزراء وحواشي الملك يتخلّقون بأخلاق ملكهم). والكاتب استثنى, تكتيكياً, السلطان عبدالحميد الذي كان يتربع على عرش قصر (يلدز) خلال ظهور الافتتاحية. وبالطبع لم تنطل الحيلة على السلطان الأحمر. كذلك كان معاونوه في ذروة الغضب, وعلى رأسهم والي حلب, لأن الاستثناء لم يشملهم.

          وليس ذلك كل شيء, فالعدد احتضن رداً  على ما نشره مراسل جريدة (الجنة) البيروتية حول الحادث الذي جرى في (ترسوس) بين بعض أبناء أدلب المجاورة لحلب وعدد من الإيرانيين وعلى رأسهم (شهبندر إيران). وبالرغم من إعجابه بأحد أصحاب (الجنة) سليم البستاني, فقد شنّ حملة عنيفة على فصاحة المراسل (المشوّهة الخلقة) الذي ظن أنها - أي الفصاحة - (تحمل الناس على تصديق قضية كاذبة يشهد بكذبها ما هو معلوم من صفات الإيرانيين الذين لم تحسن لهم سير قط, وإنما العالم أجمع يصف أكثرهم بالشرّ والفساد وغلاظة الطباع).

قصف مدفعي

          فهل صمت السلطان عبدالحميد عمّا كتبه الكواكبي عن أسلافه وأنزلهم في غربال نقده اللاذع? أم أن الصدر الأعظم - رئيس الوزراء - لم يتنبه إلى القصف المدفعي الذي وجّهه الكواكبي نحو إيران مما يثير ردود فعل مذهبية بحيث إن الرجل المريض كان بغنى عنها, خصوصاً في ذلك الوقت الذي انتصرت فيه روسيا القيصرية على السلطنة وكادت تفرض شروطها القاسية عليها لولا مساعدة بريطانيا العظمى?

          صدر العدد الحادي عشر في موعده الأسبوعي, وتحديداً في 31 يناير 1878 ضف إلى ذلك أن العدد الثاني عشر والأعداد التالية غير متوافرة. ولكن الكواكبي نفسه في افتتاحية العدد الأول من جريدته الثانية (اعتدال) يقول إن (الشهباء) (أصيبت باضطهاد الوالي السابق دولتلو كامل باشا فعطّلها ثلاث مرات).

          فإذا تم التعطيل الأول بعد صدور العدد الثاني كما مرّ سابقا, والتعطيل الثالث والأخير بعد العدد السادس عشر, فمن المحتمل أن يكون التعطيل الثاني قد حصل بُعيد ظهور العدد الحادي عشر الذي صدر قبل أن يصدر قرار التعطيل. لم يحدد الكواكبي في (اعتدال) سبب التعطيل ومدته وبدايته, واكتفى بإشارة سريعة, ربما لأنه أورد كل ذلك بالتفصيل في العدد الصادر عند استئناف الصدور. هنا, لابد من العودة إلى الصحف القليلة البيروتية الصادرة آنذاك, حيث يفترض أنها نشرت شيئا عن رصيفتها الحلبية. ورغم أن التعطيل يتعلق بالمكتوبجي (رقيب الصحف) والوالي والسلطان, فإن جريدة (لسان الحال) شذت على قاعدة الصمت ونشرت خبراً في صدر الصفحة الأولى من العدد 69 الصادر في 26 يوليو 1878, أي بعد خمسة أشهر من صدور العدد العاشر من (الشهباء). ولنقرأ النص الكامل للخبر الذي يتضمن أجوبة على عدة تساؤلات, ومنها التساؤل حول تفرّد اللسان بنشر أخبار الشهباء: (رجعت جريدة الشهباء وظهرت بعد أن توقفت ثانية مدة ثلاثة أشهر وحكم عليها بجزاء نقدي, وقد صدّرت عددها الثاني عشر بقطعة بيّنت فيها ما حمل مجلس إدارة الولاية أن يحكم عليها من الأسباب حال كون الحكومة كانت تطلع عليها قبل طبعها وجمع المجلس بين الجزائين وقيامه بصفة مدّع ومحام وحاكم معاً, وأن ذنب هذه الجريدة- الوطنية الجسيم في توقيفها برهة عدم إضافتها لفظة (بعض) إلى لفظة  الإيرانيين في ذكرها حادثة أحدثها بعضهم في ترسوس. هذا, وإنها تظهر من الآن وصاعداً تحت اسم مديرها هاشم أفندي عطار واسم جناب وكيل جريدتنا وخليلنا الأديب ميخائيل أفندي صقّال. ما زالت الشهباء تضيء بنورها فلا تحجبها الغيوم السوداء).

موافقة المكتوبجي

          وهكذا, يفيد الخبر أن الشهباء عُطّلت لمدة ثلاثة أشهر إضافة إلى جزاء نقدي لم تُحدد قيمته, وأن التعطيل جرى بعد صدور العدد الحادي عشر, وأن سبب التعطيل كان النقد الذي وجهّه الكواكبي باتجاه الإيرانيين, وأن مجلس إدارة الولاية عطّل الجريدة - بإيعاز من الوالي طبعاً - رغم أن المكتوبجي قد اطلع ووافق مسبقاً على كل ما نشر في العدد العاشر, وأن الأديب الحلبي ميخائيل الصقال هو الذي كتب الخبر, ليس فقط نتيجة صداقته للكواكبي, بل لأنه أصبح واجهة (الشهباء) التحريرية ربما لربط قرار إلغاء التعطيل بإلغاء دور الكواكبي كمسئول رسمي للتحرير.

          ولكن دور الكواكبي الفعلي استمرّ رئيسياً في (الشهباء), ولم يتراجع قيد أنملة عن نقد أخطاء أهل الحكم في ولاية حلب. لذلك, كان العدد, من (الشهباء) هو الأخير, إذ صدر قرار بتعطيل باكورة صحف الجمهورية السورية بصورة نهائية. وكعادته, لم يصمت الكواكبي على ظلم الوالي كامل باشا, وكان الرد بعد تغيير الوالي وحصول الكواكبي على امتياز جديد لجريدته الثانية (اعتدال) حيث تساءل في مستهل افتتاحية العدد الأول الصادر في 25 يوليو 1879: (ماذا يجيب حضرة الوالي إذا سئل في محكمة الإنسانية  عن سبب مقاومته جهده في صدّ هذا المشروع الخيري ومعارضة القائمين به وإضرارهم ماديا وأدبيا? هل له من جواب يدفع عنه الحكم الحقّ بأن السبب ليس إلا ما في فطرته من عداوة الحرية?).

 

جان داية   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات