أرقام

أرقام
        

تحالف الجواسيس!

          كان ذلك في ربيع عام (2003) حين اجتمع وزراء يمثلون الدول الصناعية الثماني الكبرى في باريس, وحينذاك أعلن وزير داخلية بريطانيا - والتي كانت قد استكملت وقتها حربها في العراق - أن هناك حدثا أمنيا مهما سوف يحدث عام (2006), وأن ذلك الحدث - أو ذاك التطور العلمي المتصل بالجهود الشرطية - سوف يساعد على ضبط حركة الحدود الدولية فلا ينفذ منها إرهابي, ولا يستخدم فيها مهرّب مخدرات جواز سفر مزوّرا, ولا يتم عبرها ما أزعج أوربا والولايات المتحدة كثيرا وهي: الهجرة غير الشرعية.

          أما التطور العلمي الذي أشار له الوزير فهو استخدام بصمة العين (القزحية) في جواز السفر, وربما استخدم شيء آخر لا يتكرر بين البشر وهو تحديد المسافات التي تفصل بين قسمات الوجه!!

          ولم يكن إعلان بريطانيا عن ذلك, وهو ما نصحت الآخرين باتباعه, غير حلقة واحدة من حلقات استنفار أمني أعاد العالم (أمنيا, وربما عسكريا) إلى أجواء الحرب الباردة التي تزايدت فيها أعمال التجسس, وزاد خلالها أعداد الجواسيس.

          وكان كل ذلك (أمنا ودفاعا) قد انكمش بعد انتهاء الحرب الباردة, بل انكمشت ميزانيات التسلح التي أثقلت ظهور العالم, لكن ذلك لم يستمر غير حقبة واحدة انفجر بعدها كل شيء, أجواء الحرب, وأجواء الأمن, وأجواء الجاسوسية.

***

          قبلها, كنا نعرف أننا أمام واحدة من أقدم المهن في التاريخ, فلدواعي الحروب والنزاعات البشرية كان التجسس فنا رائجا, وكان النفاذ إلى خطوط العدو مهمة أساسية قبل وأثناء الحرب.

          أيضا, فقد عرفنا, وفي التنظيمات الحديثة أن الاستخبار واستراق السمع وإمعان النظر مهمة أمنية أساسية استخدمتها الدول الكبرى لتنافس أو تقاتل أو تصارع بعضها البعض, ولكن الدول الصغرى أيضا قد دخلت إلى حلبة هذا النشاط من أجل الضبط وأحيانا من أجل القمع الداخلي.

          وبينما كان التجسس على الآخرين ممن يدخلون في عداد الأعداء أمرا مقبولا ولازما, كما هي الحال بين إسرائيل والعرب على سبيل المثال, بينما كان ذلك هو الوضع على الجبهة الخارجية, فإن الأمر كان مختلفا على الجبهة الداخلية والتي تحول فيها التجسس إلى مهنة بغيضة, وإلى رخصة أسيء استخدامها في معظم الأحيان.

          و...هكذا كان الوضع في العالم الثالث, ولكن وبعد سبتمبر (2001) وما جرى في الولايات المتحدة انقلب كل شيء, فبات التجسس على المواطنين مهمة الدول الكبرى, وبات حلف الجواسيس الذين ينتمون لدول مختلفة شيئا مشروعا يجري الحديث عنه ببساطة, ويجري عقد المعاهدات بشأنه دون حساسية من رقابة الرأي العام.

          وفي هذا الإطار جاء الحديث في ربيع (2003) عن عودة الوعي لمهنة التجسس في بريطانيا, وإن لم تكن بريطانيا هي النموذج الأكبر في هذا المجال, فقد كانت الولايات المتحدة هي الرائدة, والقصة معروفة: حدث زلزال سبتمبر, جرى اتهام أجهزة الأمن بالتقصير, جرى وضع الاستراتيجيات للحرب ضد المجهول وغير المنظور, تمت تهيئة الرأي العام لقبول أي شيء دفاعا عن أمن الوطن, والمواطن, أو هكذا قيل.

          في هذه المساحة, وطبقا لما جاء في موقع على شبكة الإنترنت أنشأته وزارة العدل الأمريكية أن هناك خطة لتجنيد (11) مليون مواطن أي بنسبة (4) في المائة من عدد الأمريكيين للعمل كجواسيس ومرشدين.

          الرقم يصدم العين, بل هو علامة في تاريخ أجهزة الأمن بالعالم, لكن الأمر, وكما تقول تقارير صحفية جرى نشرها في سبتمبر (2002) لم يقتصر على ذلك, بل كانت له مقدمات تحمل القدر نفسه من الغرابة.

          كانت مهمة الـ (11) مليون مواطن - والذين جرى التخطيط لتجنيد المليون الأول منهم كمرحلة تمهيدية - كانت المهمة هي التبليغ عن أي أنشطة مثيرة للشبهات لمن يتم تصنيفهم على أنهم إرهابيون, وكان الجمهور المستهدف للعمل مخبرين وعسسا هم قائدي الشاحنات وعمال البريد ومراقبي القطارات وفنيي الغاز الطبيعي والكهرباء, فمن طبيعة عمل هؤلاء الانتشار والاحتكاك بالجمهور, وما عليهم إن لاحظوا شيئا إلا أن يبلغوا عما لاحظوه من خلال خط أمني ساخن يتلقى المعلومات على مدار الساعة!

          قبلها, كان الكونجرس الأمريكي وبعد ستة أسابيع من (11) سبتمبر قد أصدر قانونا يمنح رجال مكتب التحقيقات الفيدرالي الحق في إجراء أي تحريات حول المادة التي يقرؤها المواطن المشتبه فيه, ولأن دائرة الاشتباه عالم بلا حدود, فقد أعطى القانون السلطات المختصة الحق في تفتيش أي مكتب أو محل لبيع الكتب, وبالطبع, فإنه غير مسموح لصاحب المكتبة بأن يعلن أنه تم تفتيشه وهو ما دفع أصحاب المكتبات للتخلص من قوائم الذين يستعيرون الكتب.

          إنه الهوس الأمني الذي أصاب الولايات المتحدة بعد (11) سبتمبر والذي صحبته حملة غسيل مخ للرأي العام ليتقبل ما يفرضه هذا الهوس, ويتقبل أيضا ما جرى تفويض الرئيس الأمريكي به ومن بينه: تفويض بالحرب بعد ثمانية أيام من سبتمبر. ووفقا لنتائج استقصاء أجراه مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية وصندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة, وفقا لنتائج هذا الاستقصاء الذي نشرت نتائجه في أكتوبر (2002), فإن  (91) في المائة من الأمريكيين يرون أن الخطر رقم واحد الذي يهدد الولايات المتحدة ولعشر سنوات تالية هو الإرهاب وأن (66) في المائة من العينة التي تم سؤالها يفضلون أسلوب الاغتيال لمن يجري الاشتباه فيهم, وهو الأمر الذي اعتمدته الإدارة الأمريكية التي كان القانون يقيد حريتها في الاغتيالات فإذا بها - وبعد سبتمبر - تعتمد قائمة لاغتيال (25) شخصية من جنسيات مختلفة قيل إن بوش قد وافق عليها كإجراء ضد تنظيم القاعدة وبتفويض لا تحتاج فيه أجهزة الأمن إلى الرجوع إلى مستوى أعلى أو  إلى الرجوع للدولة التي سوف يجري على أرضها: اغتيال شخص ما!!

          وربما كان ذلك التفويض, أو تلك القائمة هي التي دفعت بإرسال طائرة دون طيار إلى سماء اليمن في أواخر عام (2002). كان المشتبه فيه - كما نشرت الصحف - هو سفيان الحارثي, وكان وجه الاشتباه: الانخراط في تنظيم القاعدة والاشتراك في تفجير المدمّرة الأمريكية (كول) في أكتوبر من عام (2002) . هي (حال اشتباه), لكن القرار قد صدر بالاغتيال وانقضت الطائرة الأمريكية على موقع في شرقي اليمن لتطلق صاروخين على سيارة تقل المشتبه فيه ومعه خمسة آخرون, وبالطبع فقد تم قتل الجميع, وبالطبع أيضا كان ذلك نتيجة نشاط استخباراتي يقول: هنا يوجد سفيان الحارثي, وهذه هي تحرّكاته!!

          (القتل بالاشتباه) أصبح أسلوبا معتمدا, لكن البداية لم تكن على هذا النحو, فقد تقاذفت أجهزة الأمن كرة اللهب بعد سبتمبر, فجاءت الإجراءات التي تطلق يد رئيس الدولة في الجانب الأمني لحدود غير مسبوقة, وجاء (باتريوت آكت) كقانون يعطي صلاحيات أوسع لأجهزة الأمن الأمريكية في التنصت على الاتصالات واختراق شبكة (الإنترنت) والاعتقال دون محاكمة وعقد المحاكم العسكرية.

          ثم جاءت استراتيجية حماية الولايات المتحدة (يوليو 2002) في مائة صفحة لتتحدث عن إنشاء وزارة للأمن الداخلي, وعن سلطات أوسع للرئيس, وعن قوانين جديدة لتبادل المجرمين إضافة لقوانين سرية أخرى لم يعلن عنها!

          حينذاك وحين جرى التحقيق في الكونجرس حول أحداث سبتمبر وما إذا كان هناك تقصير أمني, وقع حادث ذو دلالة بالغة فبعد أن تداولت الجلسات في الأمر طلب مكتب التحقيقات الفيدرالي من (17) نائبا أن يقوموا بتسليم تسجيلاتهم التي تمت أثناء التحقيق وألا يحتفظوا بها لأنفسهم حتى لو كانت تسجيلات شخصية لما أدلوا به!

          كان الطلب غير مسبوق وكان وراءه كما يبدو ما جاء من إشارات حول تقصير أمني سابق على سبتمبر حيث تلقت أجهزة الأمن رسائل حول عمليات سوف تقوم بها (القاعدة) ولم يتم فحصها أو العمل بموجبها!

          وفي هذا المناخ الذي قبل فيه المواطن الأمريكي التجسس على حياته الخاصة واختراق خصوصيته التي طالما تغنى بها, في هذا المناخ بات الحديث عن حقوق الإنسان وما يجري في معتقل (جوانتانامو) ترفا سياسيا, فهي كما قالت وزارة العدل الأمريكية (حالة حرب).

          (حالة الحرب), ذلك هو ما أعلنه بوش بعد ساعات من أحداث سبتمبر, وذلك هو ما سيطر على تحركات الأجهزة الأمنية وأجهزة التجسس في الكثير من دول العالم. وبينما جرت حالة استنفار في الولايات المتحدة وبريطانيا فقد امتد الأمر إلى سائر دول أوربا وإلى الوطن العربي وإلى أطراف كثيرة من وسط وشرق وجنوب آسيا, حتى أن الصين قد وافقت ولأول مرة على فتح مكتب للتحقيقات الفيدرالية في بكين, وحتى أن ما أسموه بالتعاون الأمني بات موضوع (12) معاهدة دولية يتيح بعضها حق المراقبة, والاعتقال, والترحيل, ومصادرة الأموال, وكما جرى تدويل الحرب ضد الإرهاب (هكذا أسمتها واشنطن) فقد جرى تدويل مهنة التجسس, فأرسلت الولايات المتحدة خبراءها واستدعت متدربين من الدول المختلفة وأنشأت - وبمشورة وزارة الدفاع - أضخم قاعدة معلومات في العالم تحفظ في الكمبيوتر الكثير مما يتعلق بالمواطنين والغرباء في أمريكا, وكيف يستخدمون - على سبيل المثال - بطاقاتهم الائتمانية وتذاكر سفرهم.. وربما برامجهم المفضلة في التلفزيون!

          ولأن (الكمبيوتر) وحده لا يفيد, فقد جرى إعلان شعار (العودة إلى البشر), ذلك أن كثيرا من المعلومات لا يمكن الحصول عليها دون جاسوس بشري.

          هل هي عودة للوراء.. أم هو التقدم على طراز القرن الواحد والعشرين, أو القرن الأمريكي كما يقولون?

          (11) مليون مخبر أمريكي مستهدفون, وبصمة للعين وقياس للوجه تدخله بريطانيا في التعرف على هوية الأشخاص عام (2006) أمران يلفتان النظر, لكن الأكثر لفتا للانتباه ما صدر كإعلان مدفوع في صحف (2002): (مطلوب عملاء). إعلان توظف عادي نشرته المخابرات الأمريكية, وكانت الدول المستهدفة دول الشرق الأوسط!

          إنه تحالف الجواسيس.. من كل الجنسيات, والبعث من جديد لمهنة كنا نظن أن الحال قد تقدم بها تحت دعاوى الديمقراطية وحقوق الإنسان!

... ورقـــــم
مهنة الخطر

          يضيق البعض بالكلمات لأنه يضيق بالحقيقة, وتطارد السلطات - وأحيانا العصابات - أهل الرأي فيسقط شهداء لمهنة الصحافة وترتفع أرقام الضحايا كل عام, في ساحات الحرب أحيانا, وفي سجون السلطة, أو في عرض الشارع أحيانا أخرى.

          في المنطقة العربية سقط كثير من الإعلاميين برصاص إسرائيلي أثناء الانتفاضة الفلسطينية, ثم سقط آخرون أثناء حرب العراق, غير أعمال العسف أو الانتقام أو التشديد التي سجلها تقرير سنوي لمنظمة (صحفيون بلا حدود) صادر في أوائل مايو (2003).

          طبقا للمنظمة - وعلى نطاق العالم - فقد سقط قتيلا أثناء ممارسته المهنية (56) صحفيا خلال عامي (2002) و (2003).. وكان نصف هذا العدد قد اغتيل على أيدي السلطات الرسمية أو العصابات المسلحة أو ممثلي المصالح الخاصة المتضررين مما يتم نشره.

          في المقدمة - وخلال العامين المذكورين - كانت قارة آسيا في عدد من تم سقوطه شهيدا لمهنته, وكان المحيط الهادي هو أكثر المناطق التي شهدت اعتداءات على الصحفيين, أما الاعتداءات فهي أشكال وأنواع: القتل, التهديد بالقتل, الملاحقة, الاتهامات الباطلة.. و.. خضع خلال هذه الفترة الكثير من الوسائل الإعلامية للرقابة الحكومية بينما زاد عدد من تم اعتقالهم عام (2002) بنسبة (40) في المائة.

          هي إذن مهنة الخطر, ليس في ساحة الحروب فقط, ولكن في ساحات السياسة والمجتمع, والسبب كلمة منشورة أو كلمة مذاعة.. والنتيجة دائما: المذنبون والمجرمون والقتلة ومغتصبو السلطة يمرحون, والصحفيون يموتون.

          إنها مأساة الكلمة مات من أجلها مفكرون وفلاسفة وأدباء.. منذ فجر التاريخ.

          الصحفيون يموتون, لكن الكلمة لا تموت.

 

محمود المراغي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات