جمال العربية

جمال العربية
        

من أجل الشعر.. لا الحكم

          هذا شاعر آثر حياة اللهو وفراغ البال واقتناص المتع والملذّات على حياة المُلك وأبهة الخلافة ومسئوليات الحكم.

          أبوه الخليفة الفاطمي ذائع الصيت المعزّ لدين الله الفاطمي, الذي حرمه ولاية العهد من بعده بالرغم من أنه أكبر أبنائه, لعدم ثقته في أنه قادر على القيام بأعباء الخلافة, فآثر عليه أخويه الأصغر منه واحدًا بعد الآخر, الأمر الذي جعله يستسلم - في ختام الأمر - إلى حكمة الله الذي حرمه الملك.

          تقول مقدمة محققي ديوانه إنه (عاش في مصر حياة لهو وترف, ووجد في البيئة المصرية من المتنزهات والديارات ما وافق هواه ومزاجه, فأكثر من الخروج إلى (المختار) بجزيرة الروضة وإلى دير (القصير) بالقرب من قصوره, وشارك المصريين في لهوهم, لا سيما في أيام الأعياد. والأعياد في العصر الفاطمي كانت كثيرة ومتنوعة, منها الأيام الإسلامية والمسيحية والفاطمية والمصرية الخالصة, وكانت الدولة تحتفل بهذه الأعياد مع الشعب, ويكثر فيها اللهو والعبث مع البذخ الشديد والتأنق في كل شيء. وقد وصف الرحالة الكهيني بعض هذه الأعياد المصرية ومشاركة الأمير تميم فيها, بقوله: (ما رأيت أجمل من النوروز والغطاس والميلاد والمهرجان وعيد الشعانين وغير ذلك من أيام اللهو التي كانوا يسخون فيها بأموالهم رغبة في القصف والعزف, ذلك أنه لا يبقى صغير ولا كبير إلا خرج إلى بركة الحبش متنزها, فيضربون عليها المضارب الجليلة, والسرادقات والقباب والشراعات, ويخرجون بالأهل والولد. ومنهم من يخرج بالقينات المسمعات المماليك والمحررات, فيأكلون ويشربون ويسمعون ويتفكهون وينعمون. فإذا جاء الليل أمر الأمير تميم بن المعز مائتي فارس من عبيده بالعسس عليهم في كل ليلة إلى أن يقضوا من اللهو والنزهة أربهم وينصرفوا, ويركب الأمير تميم في عشاريّ (أي مركب نيلية) ويتبعه أربعة زواريق مملوءة فاكهة وطعاما ومشروبا. فإن كانت الليالي مقمرة, وإلا كان معه من الشموع ما يعيد الليل نهاراً, فإذا مرّ على طائفة واستحسن من غنائهم صوتا أمرهم بإعادته, وسألهم عما عزّ عليهم فيأمر لهم به, ويأمر لمن يغني لهم, وينتقل منهم إلى غيرهم بمثل هذا الفعل عامة ليله, ثم ينصرف إلى قصوره وبساتينه التي على هذه البركة, فلا يزال على هذه الحال حتى تنقضي هذه الأيام ويتفرق الناس).

          ولد الأمير الشاعر تميم بن المعز لدين الله الفاطمي سنة 337هـ وتوفي سنة 375هـ عن ثمانية وثلاثين عاما, عاشها مشاركاً أصحاب اللذة واللهو والمجون, بالرغم من أنه ابن خليفة وأخ لخليفة دولة تقوم على مذهب إسلامي هو المذهب الشيعي فما الذي نتوقعه إذن من شعر مثل هذا الشاعر الأمير?

          من الطبيعي أن يكون معظمه في وصف كل هذه المناسبات الحافلة بألوان المتعة واللهو, والتعبير عن مشاركته فيها, وكأن فيها السلوى والعزاء لما حرمه من أمور الحكم وولاية العهد, فأغرق نفسه في صبوات مجونه منشغلا, وفي قصائده ومقطوعاته معبّرا, صاحب لغة تتميز بالسلاسة والتدفق, والقدرة على التصوير, والبراعة في تعقب التفاصيل الصغيرة والأحداث والوقائع, مفتنا في تقديم المشاهد واللوحات البديعة, الناطقة بشاعريته المقتدرة تصفه مقدمة ديوانه المسجوعة بأنه (كان قد وُلِّيَ إمارة ممالك الشعر, وألقي إليه زمام التصرف في أقطار النظم والنثر, وذُلّل لركوب يراعته كلّ صعب من فنون الإتقان, وسُهّل لتسلق براعته كل حزن من ضروب سحر البيان. قد خطب في كل فن من شعبه على منبره, وتحلى في كل نديّ من رتبه بحلتي ردائه ومئزره, وصاول فيها الفحول, وقاوم بها كلّ بازل صئول). ثم تستشهد المقدمة ببيتين من شعر ابن رشيق القيرواني في تميم بن المعز, هما:

أصحُّ وأقوى ما سمعناه في النّدى من الخبر المأثور منذُ قديم
أحاديثُ ترويها السيولُ عن الحيا عن البحر, عن كفّ الأمير تميم


          من بين قصائد الأمير الشاعر, قصيدة تذكرني بوثبات المتنبي شاعر العربية الكبير لغة وبناء وتراكيب, كما تذكرني بنزعته المتأبية, وروحه الممتلئة بالثقة والكبرياء والإحساس العارم بالتفوق والتفرد.. يقول تميم:

يُعدّ وجيع الوجد ما هيّج البعدُ وأوجع منه قربُ مَنْ قُربه الصدُّ
أبى الدمعُ إلا أن تفيض شئونُه فيبدو إذا أبدته ما لم يكن يبدو
وعصيان دمع العين غدرٌ بربّه إذا بان عنه الصبر واحتكم الوجد


          وهذا البيت الأخير فيه الكثير من بيت المتنبي:

فإن دموع العين غدر بربّها إذا كنّ إثْر الغادرين جواريا


          ثم يقول تميم:

وما ينقضي عهد الأسى من مُتيّمٍ إذا لم يدمْ يوماً لمحبوبه عهدُ
آآمرتي بالصبر وهي تحدُّهُ(1) وعاذلتي في السقْم وهي له جندُ
كما لم تجدْ عيناك بُدًّا من الضنى(2) كذا ما لجسمي من ضنًى بهما بدُّ
إذا وعدت هند ثنى جودها الوعدُ وإن سمحت يوما فنائلُها ثَمْدُ(3)
يضيق بها خلخالها وسوارُها ويجذبها من خلْفها كَفلٌ نَهْدُ
وإن هي أَسْرتْ في الدجى نمّ حسنُها(4) عليها, ونمْ الحليُ والمسك والندُّ
لها خلقٌ في كل يومٍ من الجفا طريف له بين الحشا حُرقٌ تُلْدُ(5)
ولم أَرَ مثلي يكره العار خاليا ويُصْبيه سحْرُ الطرْفِ والجيدُ والخدُّ
أراني إذا ما رُمْتُ أمراً, يعوقني من الدهر والأيام عن كونه طَرْدُ(6)

وأصبحُ فَرْدًا في مرامي, ومن يرُمْ

عظيما يقلْ المُسعدون له بْعُد
كذا الشرف العلويُّ ليس ينالهُ من الناس إلا الفذُّ في سعْيه الفرْدُ
أرى محن الأيامِ, ماليَ مذ سطتْ يدٌ ليس يخلو من شباها ولا زنْدُ(7)
خطوبٌ وأحداثٌ إذا ما لقينني تفرّقن والمبيض منّي مُسودّ
وكم سرت لا أبغي سوايَ مُشيّعاً لقلبي, ولا عزمي بغيري يشتدّ
وأقدمتُ إلحاحاً على كلّ مطلب فلم ينفع الإقدامُ إذا لم يكن جَدُّ(8)
وبي فُتَحتْ للناس كلّ غريبةٍ ومحكمةٍ ينشقّ منها الصّفا الجلْدُ(9)
ومن كان ذا علمٍ بأهل زمانه تيقّن أن الناس كُلّهمو وغْدُ
وأنهمو لا يسترقّ حفاظَهم وفاءٌ, ولا يفْنى لهم أبداً حقدُ
إذا فرِقوا أبدوا وداداً وذلّةً(10) وأنفسهم حربٌ وألسنُهم لُدُّ(11)
فلا ترحم الأعداء يوماً, ولاتلمْ حسوداً, فما إن يرتضي ضدّه الضدُّ
وإني ليُبقى بعض جهدي مآربي مخافة ألا ينفع الجاهدَ الجهدُ(12)
وأزهدُ في كلّ الأنام صيانةً(13) لقدري, وأما في المُعزّ فلا زهدُ


          وفي موضع آخر من ديوان تميم بن المعز تطالعنا قصيدة من بدائعه, فيها ظرْفُ صاحبها وشبابه الناهز لفرص اللهو والمتعة والمجون, وفيها أيضا طرائقه في الاستحواذ على قلوب النساء, وإن كان من الصعب على مثله وهو الأمير المقتدر واسع الثراء أن يحب أو أن يتعلق بمحبوبة معينة, فهو يرى في جميع من حوله من النساء جواريَ له وتابعات يتسابقن إلى اكتساب حظوته. لكن يبدو أن التي يخاطبها في قصيدته واسمها (سِحْر) قد احتلت من نفسه منزلة متميزة, فكان من أجلها هذا الشعر المختلف. يقول تميم:

جُرحي بعينيْك ليس يندملُ وصبْوتي فيكِ ليس تنفصلُ
فلا تخافي عليّ عاذلتي شر الهوى ما يُزيله العَذلُ
لم أضْنَ إلا تشبّها بِضناً يشكوه في جفن عينك الكَحلُ
فلا تظني ضنايَ مثل ضنى

عينيْك ذا صحة وذا عللٍ

أيّ السقيمين موجعٌ كمدٌ جسميَ, أم لحْظ عينيكِ الثمِلُ
أما وبيض الثغور لائحةٌ وما اجتنتْ من رُضابها القُبلُ
لولا فتورُ العيون ما قَويتْ ولا غَدتْ دون لحظها الأَسَلُ(14)
والنّجْلُ لو لم يكن بها نَجَلٌ(15) ما تمّ في عاشق لها عمل
يا سِحْرُ إن الذين قد زعموا أنّ المُسمّى سوى اسْمِه جهلوا
قالوا ولو عاينوك كاسْمِكِ ما أصبح في ذاك بينهم جَدلُ
أهواكِ في القرب والبعادِ معاً وخالصُ الحبِّ ليس ينتقلُ
إذا غدا الوصل للهوى ثمنًا طار بذيالك الهوى المَللُ
يُعجبني البُخلُ إن بَخِلْتِ ولا يُعجبني الجودُ منكِ والنّفَلُ(16)
فشَرُّ ما في الرجال بُخْلهمو وخيرُ ما في الكواعِب البَخَلُ


          (يقول شارح الديوان: يحمد البخل من المرأة كما يُذمّ من الرجل, قال ابن نباتة السعديّ:

كسْلى تزور مع الظلامِ, لها طيف, فأعدى طيفها الكَسَلُ
بَخِلت بما جاد الرقادُ به ومن الغواني يحسنُ البُخُلُ)


          ثم يقول تميم بن المعز:

قالت وقد راعها البكاءُ دماً ما بالهُ? قلت: عاشقٌ خبِلُ(17)
قالت: ومن شفَّه وتيّمهُ?(18) قلتُ: التي عن غرامه تسلُ
قالت: أمن نظرةٍ يكونُ هوى?

هذا محبٌ هواهُ مُرْتجَلُ

فقلت: عيناكِ كادتاهُ بما تعجِزُ عن بعض حلِّهِ الحيلُ
ما يفعل الضربُ بالمناصل ما(19) تفعلهُ للواحظِ المُقَلُ
وما لها قدرةٌ تصولُ بها

على الورى غير أنها نُجُلُ(20)

إنّ عيون الملاح واصلةٌ قاطعةٌ حبْلَ كلِّ من يصلُ
ولا تجحدُ السفْكَ للدماء ولا تُنكرُ من ذاك ما هي الفِعَلُ
دمُ المحبّين في ترائبها(21) وفي مبادي خُدودها خَضِلُ(22)

تقتلُ عشاقَها العيونُ,ولا

يحقدهم أنهم بها قُتلوا
يا (سحْرُ) كم أبتغي رضاكِ وكم أغضي على حُرقةٍ وأحتملُ
وكم أعضُّ البَنانَ من غضبٍ كأنه بين أضلعي شُعَلُ
يا (سحْرُ) كم تنثني الحفائظ بي(23) عليْكِ, والانتظارُ والمَهَلُ
يا (سحْرُ) إنّ السلو عنكِ على قلبي حرام, ما أُنسئَ الأَجلُ(24)
أنتِ منى النفس عند خلْوتها وسؤْلها والمرادُ والأملُ
كأنك الشمسُ يوم أسعدها إذا تبدّت وبُرْجُها الحَملُ(25)
مازاد في حُسْنكِ الحُليّ,ولا غيّرهُ قبل حلْيكِ العَطلُ(26)
قضيبُ بانٍ نَدٍ ودِعْصُ نقاً(27) وبدرُ تِمٍّ وفاحمٌ رَجِلُ(28)
أماءُ خدّيك في كئوسك أم ثغرُكِ مسْكٌ يشوبُه عَسَلُ
أم لفظُكِ الدرُّ حين ننثرهُ أم قدُّكِ الغض حين ينفتلُ
لولا اشتغالي بحفْظِ مَعْلُوَتي(29) ما كان لي عنْكِ في الهوى شُغُلُ!


-------------------------------

(1) تحدّه: تمنعه وتبعده. (2) ضنى العينين: فتورهما وانكسار جفونهما. (3) ثمْد: قليل, ولايغني شيئا. (4) نمّ حسنها: ظهر وذاع. (5) تُلْد: جمع تالد وتالدة, أي قديمة. (6) كونه: حدوثه ووقوعه. طرْد: إبعاد وتنحية. (7) شباه: حدّ طرفه. زند: قدْح النار, والعود الأعلى لقدح النار. (8) جَدّ: حظ ورزق. (9) الصفا الجلد: الحجر الأملس القويّ والصخر الأصمّ. (10) فرقوا: خافوا وفزعوا. (11) لُدّ: شديدة العداوة. (12) الجَهد: المشقة. (13) صيانة لقدري: اعتزازاً بمنزلتي. (14) الأسل: الرماح. (15) النّجل: سعة العين وجمالها, يقال عيْن نجلاء. (16) النفل: الزيادة في العطاء والمعروف. (17) خبل: من ذهب عقله. (18) شفه الحب: هزله وأنحل جسمه. (19) المناصل: جمع مُنصل: السيف. (20) نجل: جمع نجلاء: العين الواسعة الجميلة. (21) الترائب: عظام الصدر, أو الترقوتان في أعلى الصدر, وقيل موضع القلادة من الصدر. (22) خضل: نديّ. (23) الحفائظ: جمع حفيظة وهي شدة الغضب لأمر ما. (24) أنسأ: أخّره وأجّله. (25) بُرجها الحمل: أي في فصل الربيع. (26) العطل: الخلوّ من الزينة. (27) دعص نقا: مُجتمَعُ كثيب من الرمال. (28) فاحم رجِلُ: أي شعر مُشذّب غير مُجعد. (29) المَعْلُوة: اكتساب الشرف والمجد وجمعها: المعالي.

 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات