واحة العربي
واحة العربي
الغَمْز أي لغة في العالم- قديما وحديثاً - في حاجة بالغة للغمز, حيث تضطر -هذه اللغة - إلى أن تستعين خارج حروفها المنطوقة بغمزة عين أو جفن أو حاجب أو إصبع, لتشير إلى تأكيد المعنى, أو لزلزلة المعنى, أو نقضه تماماً, أو التشكيك فيه, أو التعبير المسبب للحرج حتى لا يقع النص المنطوق تحت طائلة القانون, والقوانين العقابية الحديثة تدرك ذلك لكنها - ونادراً - ما تستطيع توثيقه, لأن الغمز فن بالغ المهارة, يمكن لي - إن أجدته - أن أدس في إشاراته المنطلقة بعيداً عن لغة اللسان ما أعجز عن نطقه أو كتابته. ومع ذلك فإن اللغة ذاتها لها غمزها الخاص, مثل تلك التقارير التي تبدو بريئة لصالح موظف يميل رئيسه إلى ترقيته, حيث يصفه بصفات عديدة من الأمانة والإخلاص والمواظبة على الحضور إلى العمل - حتى في أيام العطلات والإجازات الرسمية, وعندما تطفو هذه المواظبة خارج أيام العمل تبدأ الأسئلة المندهشة من لجنة الترقية التي تعلم أن المؤسسة تغلق أبوابها ونوافذها في غير أوقات العمل, وتبدأ علامات الاندهاش في سحب أنواع من الغمز الشائك حول سلوكه, وحول امتلاكه لمقر إقامة خارج المؤسسة, حيث تبدأ عيون اللجنة في ممارسة غمزها الخاص الذي - وفي هدوء - يسحب الموظف المشار إليه من المنطقة العليا في قائمة الترشيح. وكل صنوف الإبداع - أدباً أو فنّاً تشكيليا أو رقصاً بأنواعه - تميل إلى الغمز, وهو ما يصفه النقاد ببلاغة التعبير, كيف?? انظر إلى غمز صبري موسى في روايته القصيرة (حادث نصف المتر) عندما اصطحب صديقته إلى شقة زميل له ففتحت الباب امرأة تشبه الأمهات, ثم انظر إلى ابتسامة الموناليزا في لوحة ليوناردو دافنشي الشهيرة وقد تسربت من عينيها إشعاعات غمز تشي بما لم يرد في الابتسامة واليدين المسترخيتين على الصدر, وعليك ألا تهمل الوقوف تحت سطوة تصاعد الموسيقى المصاحبة لصوت أم كلثوم انفعالاً بحال الهوى المفعم بشجن الرغبة في التواصل, حينما تشير بذراعها, فتوقف الموسيقى, وتنفتح عيونها على صوتها المتصاعد منفردا, والمهتز حتى تصل إلى أوج الغناء, لتسرع الموسيقى خلف الصوت الذي لا يلبث أن يبدأ في النزول إلى درجة الهمس - أقصد: الغمز, حينذاك سوف يكون مناسبا أن تتذكر كل جسد جميل راقص يتماوج ويتحرك في سلاسة, فهل تستطيع أن تتخلص من العيون الراقصة لحساب الإمعان في الجسد فقط? غمز العيون - بالتأكيد - مختلف عن بلاغة الجسد, وهو ما لم ينتبه إليه شاعرنا العربي الكبير: عمرو بن كلثوم حينما هتف في فخر:
إلاّ أن الغمز الأكثر خطورة من فنون الرسم والشعر والغناء, هو ذلك الذي نحس به - ونراه بشكل واضح, في البيانات السياسية, سواء من يلقيها أو يشير إليها, فالغمز يخرج من منطقة العين والجفن والحاجب إلى اهتزاز واضح في الصوت, أو انقطاع الوصل بين جملتين متماسكتين, وهو ما يخرج - أصلاً - من التعبيرات المبكرة للأحياء قبل أن نصل إلى مرحلة النطق, أي عندما كان الغمز يرتبط بالدابة (عليك أن تتذكر أي نوع يعجبك من الدواب دون أن أغمز لك), حينما كانت تميل برجلها - غمزاً, في خطوة أو خطوتين تشبهان حالة العرج, ثم لم يلبث الغمز أن دخل دائرة الأخلاق: غمز بفلان أي سعى به شراً, وغمز على فلان: طعن فيه (لاحظ التغيير الذي طرأ على حرف الجر في الجملتين), وغمز بيده الكبش أو النعجة: جسّها ليعرف مدى سمنتها أو هزالها, وغمز الفاكهة ليعرف مدى نضجها, وغمز النص الأدبي ليدرك أغواره والكامن من تعبيرات داخله, أما إذا جاء الغمز مرتبطا بالجرس, أي زرّ الجرس, فإنه يعني: ضغط عليه بإصبعه ليصلصل أو يدق أو يندفع رنينه, الأخيرة جاءت حديثا في معجم لغوي عصري, دون أن ننتبه جميعا أن الغَمزَ - حينما تصبح حروفه كلها مفتوحة دون سكون الميم - فإنه يعني الرجل الضعيف, ورديء المال, لكن هذا الغمز إذا عاد إلى سكون الميم فإنه يدخلنا إلى عالم الغمز الواسع ذي الغمازات حين وقوع السمكة في الشص, أو تحريك الأصابع فتحاً وإغلاقاً لثقوب الناي والمزمار أثناء الاستعمال الموسيقي, أو الغمازة الأخطر, إنها صفة للفتاة حسنة الغمز باللغة أو اليد أو اللسان.. أو الصمت أيضا.. لقد نجحنا في الكتابة عن الغمز دون ربطه باللمز, من باب التظاهر بالأخلاق الكريمة, حتى لا نستدرج إلى غمازة الخدود الجميلة, علينا أن نصمت الآن.. كلمات لها معنى
|