ليلةٌ غيرُ دافِئة

كانت ليلة ممطرة، هو لم يكن عاشقًا لليل ولا للمطر في الليل، لهذا لم يكن سعيدًا في طريقه نحو منزلها، كان مسرورًا، سيلتقي بها في منزلها، سيكون المنزل دافئًا وستكون هي دافئة، لم يكن متأكدًا من ذلك، يعرفها منذ أشهر، أما منزلها فهو يتخيّله عشًا أو لنقل منزلاً أرضه مغطّاة بأبسطة وسجاد عجمي، والحيطان مغطاة بلوحات ورسوم قديمة، قدمها يزيد الجو سحرًا، وفي زوايا المنزل تماثيل هندية، ومنحوتات خشبية من بلدان مختلفة، وأشياء غيرها.

 

مازال الطقس ممطرًا والليل مظلمًا إلا من بعض نوافذ بيوت الحي حيث تخرج منها أنوار.

كبس على الزّر، فُتح الباب، أهلاً، لم يرد، صعد السلم والماء يذرف من شعر رأسه ومن ثوبه. لا بأس، لقد وصل إلى الدفء، إلى دفء «سناء» ودفء بيتها، سيمضي وقتًا لن ينساه، هو وهي، هذا ما كان يحلم به، وهو صاعد إليها مبللاً بماء المطر، كان يعلم أن كل ما حلم به سيتحقق. أهلا وسهلاً، آسفة لهذه الليلة الممطرة. كان ينتظر أن تستقبله بقبلة، ولكن لا قبلة ولا يحزنون، ساعدته على أن يخلع معطفه.. شكرها. قرّبت كرسيًا قرب مدفأة كهربائية ودعته ليجلس عليه. جلس على الكرسي، أرض الغرفة مغطّى نصفها ببساط لا لون له لقِدمه، والجدران لا لوحات ولا رسوم عليها. أخفى مفاجأته لما رأى وحلم به. وراح يبتسم ثم يضحك، وشاركته سناء بالضحك: عال.. أنا مسرورة بمجيئك، لم نلتق إلا في المقاهي، اعتبر حالك أنك في بيتك، شكرًا لكن بيتي يختلف عن بيتك.. هو.. أولاً سيعجبك جدًا بالسجاد العجمي الذي يغطي أرضه وباللوحات الفنية التي تزيّنه، والتماثيل الهندية في كل زاوية، سيعجبك.. متى ستدعوني لزيارة هذا المتحف؟! متى تريدين، قال لها. غدًا؟ لا أستطيع، عندي موعد مهم مع شركائي اليابانيين، إذا أردت بعد غد، عال. أجابت، بعد غد. أمضى سهرة مع سناء لا بأس بها، حتى أنه تخيّل أنه في منزل ثري تتزاحم فيه الآثار الثمينة، برفقة صديقة ربّما ستصير يومًا حبيبة، هكذا كان، متفائلاً ويأمل دومًا بتغيّر الحال، حتى أنه يعتبر نفسه من الأثرياء، وهو ليس سوى أستاذ في إحدى مدارس الدولة، وهذا ما كان يخفيه عن سناء منذ أن تعرّفا على بعضهما في محاضرة عن الأدب، وصادف أن كانت بقربه، وتبادلا بعض الكلمات وتطوّرت هذه الكلمات في مقهى دعاها إليه لشرب فنجان قهوة، وهذه كانت البداية، أما النهاية.. فسنصل إليها بعد قليل.

***

النهاية عادية، لكن الشيء المثير أنه وهو عائد إلى بيته وقد صفا الجو حتى أن القمر ظهر بين غيوم كثيفة، سار ببطء وقد اعتقد أن منزله منزل فخم ثري بمحتوياته ومفروشاته. بالاختصار، بيت يشبه بيوت الأثرياء الجدد في لبنان. بقي يسير ببطء وهو يحلم، يحلم بالسعادة وهو حائر بين سعادة عاطفية أم سعادة مادية، لكنه رأى أن يمزج العاطفة بالمادة وهذا أغنى، وهكذا كان، مرّ من أمام منزله، لم يدخله، تابع سيره، وصل إلى ساحة الشهداء وهو ينظر إلى الأبنية الحديثة ويتخيّل كيف كانت من قبل، طبعًا بيروت القديمة كانت مدينته. بيروت اليوم هو غريب فيها، ولكن ليس سائحًا غريبًا، بل بيروتيًا طفران، لكنه غني بأفكاره وخياله وآماله، ثم رأى أن ليس كل أفكاره صالحة، وخياله لا يبقى على حاله، وآماله تبقى آمالاً، إلى أن وصل إلى كورنيش البحر، وقف يتأمل الأمواج ويستمع إلى أصواتها وأحاديثها الآتية من بعيد، من شواطئ بلدان يحلم بزيارتها، ولكن كيف؟ هل يسرق مال جاره أم مال الدكان بقرب منزله أم يستولي على مصرف.. أم ماذا؟ هذه لم تكن آمالاً بل أفكارًا تخوّله السفر من حيث تأتي الأمواج وهذه أمنيات، لكنها لا تكفي، فكّر قليلاً بسناء، تمنّى أن تكون بمعيّته الآن، هل يعود إليها الآن ويوقظها من نومها ويطلب منها أن تخرج بثوب نومها الأبيض؟ وصل إلى هذه الفكرة ثم عاد إلى الأمواج ورسائلها وأغانيها التي تتردّد طوال الأيام والسنين والنهارات والليالي، بعد هنيهة عاد يسير ببطء، لاح الفجر، ظهر بعض العمّال في الشارع، وأخذ يصحو من أحلامه، قبل أن يصل إلى الحي حيث يسكن، قال لنفسه سأدعو سناء غدًا لزيارتي، مَن يدري ماذا سيحصل؟ ربما الأحلام تتحقق.
-----------------------------------
* فنان تشكيلي من لبنان.

----------------------------

أنتِ يا مَنْ تَغْسلُ الدُّنْيا

رُؤَاهَا

وكَفَاهَا

ظِلُّهَا الرَّيّانُ

عَنْ وَهْجِ الدَّرَارِي

أَنتِ يا مَنْ لا تُدَارِي

لا تُضَامْ

لا تُدَانيهَا

كوابيسُ الظَّلاَمْ

والضَّوَارِي

تَرتَوي في ظلِّهَا الريَّانِ

مِنْ طِيبِ الصِّيَامْ

خليل حاوي