حرب الأفيون وليبرالية التجارة رمزي زكي

هل يمكن أن تستخدم المدافع والبوارج الحربية والجيوش الجراره لفرض حرية التجارة على بلد ما؟! وهل يمكن أن نتصور، أن بلدا يقوم بحظر استيراد المخدرات، نظرا لخطورتها الجسدية والعقلية على المواطنين، فتقوم الدول المصدرة لتلك المخدرات بمعاقبة هذا البلد وتشن عليه حربا ضروسا لكي يفتح أبوابه لاستيراد تلك السموم تحت شعارات حرية التجارة والسوق؟!

قد يظن القارئ، أن تلك أسئلة لا معنى لها على الإطلاق، لأنها لا تستند إلى المنطق، ولا يمكن تصور طرحها أصلا. بيد أن هذا هو بالضبط ما حدث في حرب الأفيون (1839- 1842) ضد الصين في الفترة التي كانت الرأسمالية الأوربية قد أنهت ثورتها الصناعية الأولى في أوربا وارتفعت فيها شعارات الليبرالية الاقتصادية: دعه يعمل.. ودعه يمر.

لقد كانت حرب الأفيون نموذجا صارخ الدلالة على الوحشية التي مارسها الأوربيون وهم يطبقون سياستهم الليبرالية على الصعيد العالمي، وكان من نتيجتها إجبار الصين بالقوة على فتح أبوابها على الرأسمالية العالمية وإفقارها، وتحويلها من بلد كان يتمتع دوما بميزان تجاري فائض ويشتهر بمنسوجاته الحريرية الراقية وبالمجوهرات والخزف والصيني والتحف والشاي، إلى بلد فقير يستورد معظم حاجياته من الخارج ويعاني من عجز ضخم في معاملاته الخارجية، ويكابد معظم سكانه من إدمان الأفيون. وحرب الأفيون برهنت، بشكل بالغ الدلالة، عن كيف توظف شعارات الليبرالية بشكل ديماجوجي لصالح طرف يزداد غنى وقوة، وعلى حساب طرف آخر يزداد فقرا وضعفا.

إمبراطورية مركزية

قبل مجيء فاسكو دي جاما إلى المحيط الهندي تشير حقائق التاريخ إلى أن الصين استطاعت، من خلال ما كانت تتمتع به من قوة سكانية كبيرة وفن نظام إمبراطوري مركزي ومن تواصل زمني مستمر لحضارتها العريقة، استطاعت أن تكون قوة عظمى في المحيط الهندي. وكانت سفنها الشهيرة بمصطلح ال Junks تمثل أسطولا بحريا شديد البأس، حيث كانت تلك السفن من حيث دقة الصنع والتكنولوجيا والسرعة أفضل بكثير من السفن العربية والإسلامية والأوربية في ذلك الوقت. ولهذا لم يكن مصادفة أن استطاع الصينيون قيادة أكبر الحملات البحرية وأخطرها تأثيرا في المحيط الهندي خلال الفترة 1405- 1433. إذ رست تلك السفن عند مداخل الخليج العربي والبحر الأحمر ووصلت إلى السواحل الشرقية لإفريقيا. ثم توقفت فجأة هذه الحملات بأمر إمبراطوري في عام 1433 لأسباب غامضة وغير معروفة - على وجه اليقين- حتى الآن. ولم يكن الهدف الرئيسي من تلك الحملات هو الاتجار وجني الأرباح- وهي في ذلك تختلف عن هدف الحملات التي كانت تقودها الشركات التجارية الكبرى التي ظهرت فيما بعد مثل شركة جزر الهند الشرقية البريطانية وشركة جزر الهند الشرقية الهولندية، حيث كان الربح هو الدافع الرئيسي لها - بل كان هدف هذه الحملات هو تأمين الاعتراف بسلطة الإمبراطور الصيني. وقد تمكن الصينيون من أن يجعلوا مناطق شاسعة في آسيا (مثل الهند الصينية وبورما وكوريا..) تدين بالولاء للإمبراطور الصيني. وكانت السفن الصينية وهي في رحلة العودة تحمل الهدايا والتحف اللازمة لرفاهية البلاط الإمبراطوري أكثر مما تحمل من سلع لتباع في السوق المحلي.

وعلى أية حال، فإنه منذ مجيء الأوربيين إلى المحيط الهندي بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، تطلعت الدول الأوربية إلى الاتجار مع الصين ومحاولة احتوائها بعد أن تبين أن بها كما هائلا من المنتجات الصناعية والزراعية التي كثر الطلب عليها في دول القارة الأوربية، مثل الشاي والمنسوجات الحريرية والأواني الخزفية الراقية والمنتجات الخشبية الفنية والمنتجات الجلدية.. إلى آخره. وكان البرتغاليون هم أول من وصلوا إلى ميناء كانتون بالصين عام 1513، واستطاعوا في عام 1557 أن يحصلوا على حق إقامة محطة تجارية في مدينة ماكاو. وكان البرتغاليون يستوردون السلع الصينية ويدفعون مقابلها سلعا هندية، مثل العقاقير والأصباغ وخشب الصندل والقرفة والفلفل. ولم يكن لدى البرتغاليين سلع أوربية ذات بال يمكن أن تكون محل طلب صيني. ثم جاء الإسبان إلى الصين، قادمين من الفيليبين التي احتلوها عام 1571، ثم جاء بعدهم الهولنديون في عام 1622 وحاولوا طرد البرتغاليين من ماكاو، ولكنهم فشلوا في ذلك، فأبحروا إلى تايوان وأنشأوا قلعة تجارية للاتجار مع الصين واليابان. ومكث الهولنديون في تايوان من عام 1624 إلى 1662 إلى أن تمكن الإمبراطور الصيني تشينج كونج من طردهم. وسعت بريطانيا إلى الصين وحاولت إقامة علاقات تجارية ودبلوماسية معها. ففي عام 1685 حصلت شركة جزر الهند الشرقية البريطانية التي كانت تحتكر تجارة بريطانيا في المحيط الهندي، على ترخيص بإقامة محطة تجارية في كانتون تحت إشراف لعبه تجار هونج. وكان الشاي الصيني قد عرف طريقة إلى أذواق البريطانيين وأصبح مشروبا يوميا. ولهذا كان استيراد الشاي الصيني من أهم وأكبر السلع الحي استوردتها بريطانيا من الصين. ولم تكن هناك- حتى ذاك الوقت- منتجات بريطانية صناعية يمكن أن تدفع بها بريطانيا ثمن مشترياتها من الشاي. ولهذا كانت بريطانيا تدفع بالمعادن النفيسة. وفي عام 1793 حاول البريطانيون إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين، فأرسل جورج الثالث ملك بريطانيا رسالة إلى الإمبراطور الصيني يطلب فيها إقامة هذه العلاقات. لكن إمبراطور الصين رفض ذلك.. وهو رفض ينم عما كان الصينيون يتمتعون به من اكتفاء ذاتي وتعال على المنتجات الأوربية.

وهكذا تمكن الصينيون من المحافظة على سيادة بلادهم طيلة ثلاثة قرون بعد مجيء الأوربيين إلى المحيط الهندي. وفي ضوء سعيهم للمحافظة على هذه السيادة، فقد حصروا علاقاتهم التجارية الخارجية في عدد محدود من الموانئ الصينية حتى يسهل مراقبتها وإحكام السيطرة عليها وعلى ما يأتي أو يخرج منها من بضائع.

أفول شمس الاستعمار البرتغالي

وبعد أفول شمس الهمينة البرتغالية في المحيط الهندي، استطاعت بريطانيا أن تفرض سيطرتها على شبه القارة الهندية عام 1818 من خلال النشاط الأخطبوطي لشركة الهند الشرقية البريطانية. فقد كانت بريطانيا بحاجة مستمرة إلى أسواق متنامية لتصريف فائض إنتاجها (حدثت أول أزمة إفراط إنتاج في بريطانيا عام 1825). كما كانت في احتياط لتامين تدفق المواد الخام والسلع الغذائية لضمان ديمومة تراكم رأس المال. ومنذ أن احتلت بريطانيا الهند، تحولت الأخيرة إلى سوق لتصريف البضائع البريطانية، فانهارت الحرف والصناعات الهندية، وأجبرت الهند على التحول لزراعة القطن والجوت والنيلة وبذور الزيوت لتشحن إلى بريطانيا. ونظرا للأهمية البالغة للهند بالنسبة للاقتصاد البريطاني فقد اعتبرت لؤلؤة التاج البريطاني.

واستمرت بريطانيا في استيراد الشاي والحرير الخام والعقاقير من الصين بكميات كبيرة، وبخاصة الشاي. لكن المشكلة التي واجهت بريطانيا، هي أن السوق الصيني مازال مغلقا أمام البضائع البريطانية. ولهذا كان الميزان التجاري لعلاقة الصين مع بريطانيا يحقق فائضا لصالح الأولى، الأمر الذي استدعى استمرار تدفق المعادن النفيسة من بريطانيا إلى الصين وهو أمر كان مزعجا للحكومة البريطانية. ولذلك ظل فتح سوق الصين هدفا عزيزا لدى بريطانيا. على أنه تجدر الإشارة، إلى أن ضيق السوق الصيني أمام المنتجات البريطانية، لم يكن راجعا إلى سياسة تعسفية اتبعتها الحكومة الصينية في مواجهة الرأسمالية البريطانية، بلا كان ذلك راجعا، في المحل الأول، إلى طبيعة الاقتصاد الصيني وخصائصه آنذاك. فقد غلب على هذا الاقتصاد طابع الإقطاع الشرقي الذي يعتمد على الاقتصاد الطبيعي والإنتاج من أجل الاستهلاك، واستيلاء ملاك الأراضي ورجال البلاط والإدارة على الفائض الزراعي واستغلال الفلاحين أبشع استغلال.

ومع ذلك لم تيأس بريطانيا من فتح سوق الصين ومن تغيير حالة الميزان التجاري غير الملائم مع الصين. واكتشفت أن أفضل وسيلة لذلك هي مادة الأفيون، وذلك من خلال خلق سوق رائجة لها داخل السوق الصينية. وكان الأفيون الذي تنتجه الهند يستهلك بكميات محدودة داخل الصين من قبل كبار ملاك الأراضي والطبقة الأرستقراطية ورجال البلاط والتجار الأغنياء ورجال الإدارة الحكومية. لكن الحكومة الصينية كانت تسمح باستيراده، أساسا، باعتباره عقارا طبيا. وقد تبنت بريطانيا سياسة إغراق الصين بالأفيون ابتداء من عام 1773 حيث كانت شركة الهند الشرقية البريطانية تقوم بتهريب الأفيون من الهند إلى الصين عن طريق تفريغ شحناته بالقرب من المياه الإقليمية للصين، ثم يقوم المهربون بنقله وبيعه بالداخل. ثم قامت الحكومة البريطانية في عام 1797 بمنح هذه الشركة حق احتكار تصنيع وتجارة هذه المادة وقصرها عليها فقط. وأجبرت الشركة الهنود على زراعة الخشخاش (النبات الذي يستخلص منه الأفيون)، كما قامت ببناء مصنع لها في مدينة كاليكوت لتنقية وتصنيع هذه المادة. وأصبحت الشركة تبيع الأفيون بالمزاد العلني للتجار الذين يتولون بعد ذلك تهريبه للصين.

أنهار من الأفيون

وبدأت أنهار ضخمة من الأفيون تتدفق على الصين، يكفي أن نعلم، أنه في عام 1767 لم يتجاوز ما استوردته الصين من الأفيون 205 صندوق (الصندوق حوالي 100 كيلو جرام) وفي عام 1800 وصلت هذه الكمية إلى 2000 صندوق. فقد كانت أرباح هذه التجارة خيالية سواء للتجار البريطانيين أو للحكومة البريطانية أو للذين يقومون بتهريبه. فتكلفة الصندوق الواحد من الأفيون، ذي النوعية العالية، كانت لا الهند بحدود 237 روبية. لكن سعره في المزاد العلني كان يصل إلى 2428 روبية (عشرة أضعاف) وكان متوسط حجم الربح الذي يحققه التاجر بعد تهريبه يصل إلى 100 دولار عن الصندوق الواحد. ولهذا استطاع عدد من تجار الأفيون الإنجليز أن يتحولوا إلى- أثرياء ويدخلوا دائرة علية القوم في بريطانيا. وكانت الضريبة التي تفرضها حكومة الهند البريطانية الاستعمارية تصل إلى 300% على قيمة الأفيون المصدر. ولهذا أصبحت حصيلة هذه الضريبة موردا أساسيا للدخل الحكومي. أضف إلى ذلك حقيقة أخرى، وهي أن الرواج الذي خلقته زراعة وتصنيع الأفيون بالهند قد أدى إلى زيادة القدرة الشرائية للهنود على شراء المنتجات البريطانية المصنعة، وفي مقدمتها المنسوجات الإنجليزية.

وهكذا استطاعت شركة الهند الشرقية البريطانية أن تحل مشكلة الميزان التجاري غير الموافق لبريطانيا مع الصين من خلال هذه التجارة الحقيرة. فبعد أن كانت الشركة تضطر لدفع كميات هائلة من الدولارات الفضية للصين لتمويل واردات الشاي والحرير الخام منها، وأصبحت بعد حصولها على حق احتكار تصنيع وتجارة الأفيون في الهند أن تمول الشطر الأعظم من وارداتها من الصين من خلال إيرادات بيع وتصدير الأفيون للصين. وآنذاك، نشأ مثلث عجيب للتعامل: إذ أصبح ثمن الشاي والحرير الذي تشتريه بريطانيا من الصين يدفع من خلال صادرات الهند من الأفيون إلى الصين. بل وتمكنت بريطانيا من خلال هذا المثلث الجهنمي للتعامل، أن تحول عجزها التجاري مع الصين إلى فائض.

كان تزايد تصدير الأفيون الهندي إلى الصين مرتبطا بالطبع بتزايد عدد المدمنين. فلم يعد إدمان هذا المخدر مقصورا على الأغنياء ورجال البلاط والإدارة، وإنما اتسع الأمر ليشمل أقساما كبيرة من عامة الشعب. وما أن جاء عام 1835 حتى وصل عدد مدمني الأفيون إلى أكثر من مليوني فرد صيني. وارتفع حجم الاستيراد السنوي من 5000 صندوق في عام 1821 إلى أكثر من 10000 صندوق في عام 1831. وقد ترتب على ذلك نتائج مدمرة للصين وشعبها.

فمن ناحية أولى، ومع تعاظم استيراد الأفيون، انقلب حال الميزان التجاري مع بريطانيا، إذ لم تعد قيمة ما تصدره الصين إلى بريطانيا من الشاي والحرير الخام والعقاقير يكفي لدفع كلفة الأفيون المستورد. وهكذا تحول الميزان التجاري لصالح بريطانيا. وأخذت الفضة تنساب بكميات كبيرة من الصين إلى بريطانيا. وبدأت الصين تعاني من شحة في النقود الفضية التي ارتفعت أسعارها بشكل كبير بالمقارنة معي النقود النحاسية. وفقدت الصين ما قيمته 25,2 مليون دولار فضي خلال الفترة 1823- 1834، وهو ما يوازي استنزاف عشر الدخل السنوي الإجمالي لحكومة الصين خلال هذه الفترة. وليس يخفى ما أدى إليه ذلك من استنزاف الخزانة الصينية واحتياطياتها من المعادن النفيسة.

ومن ناحية ثانية، علينا أن نتخيل حجم الدمار والتدمير الجسماني والعقلي والنفسي الذي لحق بشعب الصين من جراء إدمانه لهذه المادة المخدرة، وأثر ذلك على عاداته وقيمة وسلوكه وعائلاته وإنتاجيته. كما كان لتوغل إدمان الأفيون بين الجنود وكبار الضباط ورجال الإدارة الصينية تأثير تدميري على الجيش وعلى الإدارة الحكومية.

ومن ناحية ثالثة، فإنه لكي تتمكن شركة الهند الشرقية البريطانية من تسهيل عمليات تهريب الأفيون للداخل، عمدت إلى إفساد رجال الإدارة الحكومية من خلال الرشوة والهدايا. ومرت بذلك كثير من الصفقات، وأحبطت جهود الحكومة في حظر هذه التجارة.

محاولات لمقاومة الأفيون

ومع تفاقم حجم الكارثة التي لحقت بالصين، ومع استفحال الأزمة المالية التي واجهتها حكومة تشينج بسبب استنزاف الاحتياطي النقدي وتناقص مصادر الدخل، بالإضافة إلى حالة التدهور الجسدي والنفسي والعقلي الذي لحق بالشعب الصيني، وفي غمار الحركة الشعبية المعادية للأفيون التي نشأت بسبب تفاقم الأوضاع المعيشية، قامت السلطات الصينية بحظر هذه التجارة في عام 1838. فقام لين تشه شيوه، أحد- رجال الإدارة الصينية وبناء على أوامر من الإمبراطور الصيني بزيارة لميناء قوانغتشو في مارس 1838 ترافقه قوة مسلحه للقبض على تجار الأفيون، وأمر بإتلاف طرود الأفيون وسط احتفال شعبي مؤيد. وأعلن بكل حزم عن تصميمه على محاربة هذه التجارة. وأغلق متاجر الأفيون ودمر المخازن التي يخزن فيها، كما أمر بتعزيز قوة السواحل وتشديد نقاط المراقبة لإفشال محاولات التهريب. كما طالب قبطان كل سفينة تجارية تدخل/ ميناء قوانغتشو بتوقع تعهد بعدم إحضار الأفيون للصين مرة أخرى وأنه في حالة خرق هذا التعهد تصادر الحمولة وتوقع عقوبة الإعدام.

كان حظر تجارة الأفيون، والإجراءات التي اتخذتها الصين في سبيل ذلك، حقا سياديا وطبيعيا ومشروعا مات جانب دولة دمرتها هذه المادة السامة المخدرة.

بيد أنه- ويا للدهشة- لما كانت تجارة الأفيون مصدر أرباح خيالية للتجار والمهربين ومصدر دخل هائل للحكومة البريطانية، فقد رفضت بريطانيا هذا الحظر وما ترتب عليه من إجراءات، ونظرت إليه على أنه يتعارض مع حرية التجارة، تلك الحرية التي كانت قد تصاعدت مع نمو البورجوازية الصناعية، ونظر إليها على أنها بمثابة حق مقدس تستطيع بمقتضاه بريطانيا أن تتاجر في أي شيء ومع أي بقعة من بقاع المعمورة. ولهذا فقد رفض تشارلز أليوت ممثل الحكومة البريطانية والمدير الأعلى للتجارة لدى الصين هذا الحظر، وطالب قباطنة السفن بألا يوقعوا على التعهد الذي قرره لين تشه شيوه لكنه في ضوء تصاعد هذه الأزمة أمر التجار البريطانيين بتسليم ما لديهم من أفيون ووعدهم بالتعويض عن ذلك، وطلب منهم مغادرة ميناء قوانغتشو.

وفي صدد تصعيد بريطانيا للقضية وتصويرها على أنها انتهاك من جانب الصين لحرية التجارة سارع تشارلز إليوت بالاتصال بالتجار والمهربين الأمريكيين الذين دخلوا حلبة هذه التجارة للحصول على تأييدهم ومؤازرتهم. كما حث حكومة بريطانيا على أن تشن حربا على الصين. واستجابت الحكومة لذلك، وقامت فئات كبيرة من البرجوازية الصناعية والتجارية والمالية بحملة لجمع الأموال لتمويل العمليات العسكرية، ولإشعال الرأي العام وحث الحكومة البريطانية على توجيه عدوانها العسكري للصين. واتخذ مجلس الوزراء البريطاني في أوائل أكتوبر 1845 قرار الحرب. وعبأت الحكومة قوة عسكرية بقيادة جورج إليوت، وكان قوامها 16 سفينة حربية ضخمة، عليها 540 مدفعا و20 سفينة نقل و 4 سفن بخارية مسلحة وأربعة آلاف مقاتل. ود أوائل يونيو 1840 وصلت القوة إلى عرض البحر قبالة سواحل الصين (ساحل قوانغدونج).

هزيمة الصين

وتمخضت العمليات العسكرية التي تمت بعد ذلك عن هزيمة واضحة للصين رغم المقاومة البطولية التي أبداها الشعب الصيني ضد هذا العدوان الأجنبي. واستولى الإنجليز على كثير من الموانئ والمواقع والمدن المهمة، مثل شنغهاي، وهونج كونج التي طالبوا بتنازل الصين عنها. كانت الهزيمة دليل تفسخ وفساد النظام الإمبراطوري وعدم قدرته على حماية أمن البلاد في ظل حكومة تشنج التي أثبتت عجزها وعدم استعدادها للحرب رغم الأموال الهائلة التي ابتزتها من الشعب الصيني. وقد أعمل الإنجليز كل صنوف القرصنة والسلب في الأماكن والمدن التي احتلوها، فأخذوا يسرقون المنازل والمعابد. كما أجبروا الشعب على دفع تعويضات باهظة عن الحرب على نحو ما جاء في اتفاقية قوانغتشو للسلام التي وقعت في مايو 1840.

ومع تزايد توافد المزيد من التعزيزات الحربية البريطانية التي وصلت إلى الصين في أغسطس 1842، وسعت بريطانيا من نطاق عملياتها العسكرية داخل الأراضي الصينية. وبعد أن تمكنت بريطانيا من الاستيلاء على المزيد من المواقع والمدن والموانئ، استجابت أخيرا لمطلب حكومة تشنج بالاستسلام بدون شروط. ووقعت في 29 أغسطس 1842 (على ظهر السفينة الحربية البريطانية كورفوولز) شروط اتفاقية نانكينج التي سلبت الصين جانبا كبير من سيادتها وألحقت بها ضررا شديدا. وها هي أهم بنود هذه المعاهدة:

1 - أن تحتل بريطانيا جزيرة هونج كونج.

2 - أن تدفع الذين تعويضات مالية كبيرة لبريطانيا على النحو التالي:

  • 6 ملايين دولار فضي تعويضا عن الأفيون البريطاني المصادر.
  • 12 مليونا لتعويض نفقات الحرب.
  • 3 ملايين دولار فضي ديونا مستحقة للرعايا البريطانيين على بعض التجار الصينيين.

3 - أن تفتح الصين خمسة موانئ أمام التجارة البريطانية، وهي الموانئ المهمة التي تعتبر كمنافذ لجميع المقاطعات الساحلية في جنوب شرق الصين والسماح للبريطانيين بالإقامة مع عائلاتهم في هذه الموانئ في مناطق سميت بمناطق الامتيازات الأجنبية، على أن تكون مستقلة عن النظام الإداري والقانوني الصيني.

4 - تخفيض التعريفة الجمركية (في حدود 5%) على تجارة الاستيراد والتصدير، ولا يجوز تعديل التعريفة إلا بالاتفاق بين الطرفين. وبذلك فقدت حكومة الصين موردا ماليا مهما، وفقدت حقها في حماية إنتاجها الصناعي والزراعي والحرفي المحلي.

5 - وضع نظام للحماية الأجنبية يتسنى بمقتضاه عدم خضوع البريطانيين للقوانين والمحاكم الصينية، وبذلك انتهكت سلطة الصين القضائية، وسمحت للبريطانيين بارتكاب أفظع الجرائم والأعمال دون محاسبة من الجانب الصيني.

6 - منح بريطانيا شرط الدولة الأولى بالرعاية.

أما عن الأفيون الذي أشعل حظر استيراده هذه الحرب العدوانية فلم يرد ذكره في المعاهدة. ولكن المحصلة الحتمية لبنود هذه المعاهدة أفضت إلى أن تصيح تجارة الأفيون تجارة مشروعة. واضطرت الصين أن تعلن أنها لن تستجوب أية سفينة تجارية بشأن ما تحمله من سلع. وازدهرت تجارة الأفيون في الصين بعد ذلك ازدهارا عجيبا. ووصل متوسط الاستيراد إلى 70 ألف صندوق في خمسينيات القرن الماضي، ووصلت قيمة الأفيون الذي استوردته الصين في السنوات العشر التي تلت حرب الأفيون إلى مبلغ يتراوح ما بين 300- 450 مليون دولار فضي. وزاد، نتيجة لذلك، نزح المعادن النفيسة من الصين.

كما تمخضت سياسة حرية التجارة (أو الباب المفتوح) التي فرضت بقوة السلاح، عن فتح أسواق الصين للمنتجات الصناعية الأجنبية، فتدهورت أحوال صناعة الغزل والنسيج وبدأ اقتصاد الصين القائم على الاكتفاء الذاتي يتجه بشدة نحو التدهور. وزاد إفقار الفلاحين واستغلالهم لكي يمولوا مدفوعات تعويضات الحرب، وتفشى تعاطي الأفيون بينهم.

معاهدة جائرة

كانت معاهدة نانكينج نموذجا صارخا للمعاهدات الجائرة بين القوى غير المتكافئة، وتمخضت عنها مغانم كثيرة لبريطانيا. ولهذا فقد أذكت هذه المعاهدة شهية الدول الاستعمارية الأخرى للحصول على نفس الامتيازات والمغانم التي حصلت عليها بريطانيا. وهذا ما تحقق لفرنسا التي شنت بمؤازرة بريطانيا حرب الأفيون الثانية (1856- 1860) ضد الصين. وتلا ذلك سيل من المعاهدات والامتيازات لكثير من الدول الغربية، مثل ألمانيا وإيطاليا وهولندا والنمسا وبلجيكا والولايات المتحدة والدانمارك والمجر.. إلى آخره. وزاد التدخل الأجنبي في شئون الصين، وأصبح للأجانب حق التنقل داخل الصين، وعدم خضوعهم للقوانين المحلية، وفتح المزيد من الموانئ أمام السفن الأجنبية.. إلى آخره. وترتب على ذلك بروز شريحة كومبورادورية محلية، ارتبطت مصالحها ونفوذها بالتعاون مع الشركات الأجنبية والتجار الأجانب، ووضعت نفسها في خدمة الرأسمالية الأجنبية الغازية. وخلال ذلك أصبح الشعب الصيني يعاني من مرارة استغلال مزدوج الاستغلال الإقطاعي القديم والاستغلال الرأسمالي الأجنبي الجديد. وآنئذ تتحول الصين من مجتمع إقطاعي مستقل، إلى مجتمع شبه مستعمر وشبه إقطاعي.. وتنتقل الصين إلى مرحلة مليئة بالتناقضات الحادة التي أفضت إلى إشعال العديد من الانتفاضات والحركات الثورية، والتي ستفضي في النهاية إلى انتصار الثورة الاشتراكية في الصين في عام 1948.

وهكذا، كانت حرب الأفيون ونتائجها المدمرة للصين، درسا قاسيا مبكرا في ليبرالية التجارة حينما تتم بالقوة وبين طرفين غير متكافئين.