إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

حديقة حيوان الكتب!  

          روى أحد الناشرين المصريين أن رجلاً ذهب لزيارة صديق له فلم يجده في بيته, فسأل زوجته عن المكان الذي قصده, فقالت له, وهي القروية القادمة من الريف إلى القاهرة: (لقد اصطحب الأولاد في نزهة إلى حديقة حيوان الكتب)... لم يفهم الرجل. فهو يعرف أن حديقة الحيوان الواقعة في شارع مراد بالقاهرة لا تتضمن كتباً, فهل هناك حديقة أخرى في القاهرة لم يسمع عنها سابقاً تحمل هذا الاسم? وأين تقع? ولم تتبدد أسئلة هذا الرجل إلا عندما اتصل بصديقه في ضحى اليوم التالي ليخبره هذا الصديق أنه أخذ الأولاد في نزهة إلى معرض الكتاب بمدينة نصر. وهو ما أوقع الزوجة في التباس, إذ ظنت أنه أخذ الأولاد - كعادته بين وقت وآخر - إلى حديقة الحيوان, ولكن لأنه لفظ أمامها عبارة (معرض الكتاب) ظنت أنه حديقة أخرى في القاهرة تحمل الاسم الذي ذكرته.

          والواقع أن معارض الكتاب العربية - سواء في القاهرة أو في سواها من العواصم العربية - باتت شبه مجهولة لا من أبناء الريف وحدهم, بل من أبناء المدن أيضاً. فهم لا يعرفون عن هذه المعارض الكثير, وإذا سمعوا بأن معرضا للكتاب يقام في هذا المكان أو في ذاك, فإن الخبر لا يعني لهم شيئا. ولكن قسماً آخر ينتفع بموسم المعرض هذا فيزوره, ولكن زيارة سياحة لا أكثر. يمرّ بين (أرفف) الكتب المعروضة مرّ المجانب, فلا يلتفت إليها لا يميناً ولا شمالاً, بل يتابع سيره كأنما هو يسجّل ساعة أو نصف ساعة طبية من المشي الذي سمع أنه مفيد صحياً. أما الالتفاتة إلى هذا الكتاب, أو ذاك, أو التوقف في هذا الجناح أو سواه, والعودة إلى بيته ومعه مجموعة كتب شائقة حديثة تنعش فيه القلب والعقل والوجدان, فأمور لا تدور في باله.

          ويبدو أن زيارة معارض الكتب العربية تُلحق مع الوقت بباب السياحة الداخلية, كما تُلحق بباب الحدائق العامة التي يقصدها الكثيرون ومعهم أولادهم لشمّ النسيم أو للتعرض لأشعة الشمس. فمَن منا يزور معارض الكتب ولا يجد مقاهيها أو مطاعمها عامرة بمثل هؤلاء النزلاء, ولا يلفته وجود كثيرين يعرف عندما يلتفت إليهم أنهم لا علاقة لهم لا من قريب ولا من بعيد بالكتب وعالم الكتب? وتأسيسا على ذلك, علينا أن نشكك بتلك الدعايات الساذجة التي ترافق عادة معارض الكتب التي تُوزّع يومياً على الصحف قائلة إن عدد روّاد المعرض بلغ في اليوم السابق خمسين ألف زائر, وإن عدد زوار المعرض من يوم افتتاحه إلى اختتامه بلغ أربعة ملايين, تماماً كما يتعين علينا أن نشكك بأن عناوين المعرض الجديدة بلغت مائتين وسبعين ألف عنوان جديد.

          هذا إذا اتفقنا على أن معارض الكتب العربية هذه هي معارض كتب فعلاً, ذلك أنها أقرب إلى (الأسواق) منها إلى (المعارض) بالمعنى الذي يُعطى لهذه الكلمة في البلدان الراقية. ففي هذه البلدان يقتصر المعروض من الكتب على ما صدر في خلال السنة الحالية, أو السنتين السابقتين على الأكثر. أما معارضنا العربية فلا تعرف هذا النمط من التنظيم, كما لا تعرف أوليات التنظيم نفسه أحياناً. إنها عبارة عن مكتبات متنقلة يمكنك أن تعثر فيها على ما أنتجته مطبعة بولاق في غابر العصر والأوان, وعلى ما أنتجته مطبعة حديثة, كما يمكنك أن تعثر فيها على أي كتاب آخر سواء صدر عن هذه الدار أو عن تلك.

          ولكن ما لا نعثر عليه في هذه المعارض - إلا نادراً - هو الكتاب الأجنبي, وبخاصة الكتاب الحديث, ثم إن ترجمة هذه الكتب الأجنبية إلى العربية باتت أندر من الكبريت الأحمر, كما كان يقول القدماء. ولم يكن مثل هذا الوضع سائداً في الماضي القريب. قال لي مرة صاحب مكتبة أجنبية تقع في وسط إحدى العواصم العربية: (في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي, كان زبائننا يمرّون بمكتبتنا سائلين عن كتاب إنجليزي أو فرنسي قرأوا عنه في جريدتهم الأجنبية, فإذا لم يكن متوافراً في مكتبتنا, فقد كنا نوفره لهم من باريس أو لندن خلال أسبوع أو عشرة أيام على الأكثر)... مثل هذه الخدمة لم تعد متوافرة الآن في أي عاصمة عربية, فهل بعد ذلك نتحدث عن معرض ومعارض?

 

جهاد فاضل