قصائد عبدالناصر


  قصائد عبدالناصر
        

ما أكثر الشعراء الذين كتبوا عن جمال عبدالناصر (1918 - 1970) منذ أن أصبح زعيما عربيا, تتجسد فيه رموز الإرادة الوطنية والاستقلال القومي والتحرر العالمي. وكانت هذه القصائد استجابات إبداعية للوجدان الوطني القومي الذي انطوى عليه هؤلاء الشعراء, والذي رأى في عبدالناصر الزعيم الذي حقق الأحلام, والقائد الذي حمل راية الانتصار, والمخلّص الذي جاء بالعدل إلى المدن العربية التي ظلت محرومة من العدل. ولكني لا أظن أن شاعرا من هؤلاء الشعراء كتب في عبدالناصر ما كتبه الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي, كما وكيفا.

          كانت قصائد حجازي السياسية تدور حول المشروع القومي الناصري أو - إذا شئنا الدقة - تبدأ منه لتعود إليه, قائمة على المحور المركزي الذي ينبني عليه المشروع القومي نفسه, أقصد إلى نقطة المركز التي يحتلها الزعيم القائد على مستوى الرؤية السياسية, ونقطة المركز الموازية التي يحتلها الشاعرالذي يغدو زعيما موازيا على مستوى الرؤية الشعرية, والنتيجة هي قصيدة قومية مركزية في دالها ومدلولها على السواء. أقصد إلى مركزية الدال الذي ينطق شاعرا, ومركزية المدلول المنطوق من حيث إشارته إلى زعيم يبسط هيمنته على كل ما حوله, ويعكس صورته على كل من يتحدث عنه, خصوصا في مجال الإبداع الذي يدور حول ذلك الزعيم, مستعيدا مركزية حضوره, وناسجا منها مركزية حضور إبداعي أحادي القطب.

          هذه الملاحظة تتبعها ملاحظة ثانية مقترنة بها بمعنى من المعاني, وهي تتصل اتصالا مباشرا بمتغيرات العلاقة بين الشاعر والبطل الرمز الذي يتعلق به. وبقدر ما تبدو البداية بهيجة مفرحة مشعة بالأمل كسنوات الثورة الأولى التي تتابعت انتصاراتها, وحققت الكثير من الأحلام للمرتبطين بها أو المنتسبين إليها, بدت النهاية قاتمة مشبعة بالاحباط واليأس وفقدان اليقين, وذلك في تصاعدٍ ذروته كارثة العام السابع والستين التي زرعت بذرة الشك في اليقين القديم, وهي البذرة التي سرعان ما نمت وترعرعت بعد موت عبدالناصر, وتحولات السياسة العربية والعالمية, والدخول في زمن جديد من المعتقدات والمفاهيم والرؤى.

سنوات اليقين

          والبداية الأولى البهيجة ماثلة ما بين الديوان الأول لأحمد حجازي (مدينة بلا قلب) والديوان الثاني (لم يبق إلا الاعتراف), وهي بداية تمتد لسنوات طويلة هي سنوات اليقين في الحلم الناصري. ومطلعها قصيدة (عبدالناصر) التي يؤرخها الشاعر نفسه بتاريخ يوليو 1956, والتي تحمل بدايتها فرحة الأمل على النحو التالي:

فلتكتبوا يا شعراء أنني هنا

أمرُّ تحت قوس نصْر

مع الجماهير التي تعانق السَّنى

تشدُّ شعر الشمس,تلمس السماءْ

كأنها أسراب طيرْ

تفتحت أمامها نوافذ الضياء.

          وهي بداية تحمل من معاني العزة القومية ما يقترن بالمشاعر التي أثارها قرار عبدالناصر تأميم قناة السويس في خطابه التاريخي الذي ألقاه في السادس والعشرين من يوليو بميدان المنشية, وكان للخطاب والقرار أثر السحر في الجماهير العربية التي رأت في تأميم القناة بداية القضاء الفعلي على الاستعمار التقليدي وإرهاصا بمحاربة الاستعمار في كل مكان. وكان للخطاب والقرار تأثيرهما الحاسم - في الوقت نفسه - على المثقفين الذين ظلوا مترددين في تأييد الثورة التي رأوا فيها انقلابا في بدايتها, وفي تأييد عبدالناصر الذي جعله بعضهم عدوا للديمقراطية. وجاء تأميم قناة السويس ليحسم ذلك كله, ويجعل من عبدالناصر زعيما قوميا بكل معنى الكلمة, وزعيما يبايعه الشعراء الذين اهتزوا بقرار التأميم كما فعل حجازي, فجعلوا من صاحب القرار قائدا للنصر وزعيما للجماهير التي تفتحت أمامها نوافذ الضياء. وكان لهم من أفعال عبدالناصر ما يبرر اقترابهم منه, والتفافهم حوله, خصوصا بعد صفقة السلاح مع تشيكوسلوفاكيا وكسر الاحتكار الغربي الرأسمالي للسلاح, وبعد إعلان عدم الانحياز والعداء للاستعمار في الوقت نفسه. وأخيرا, بعد مؤتمر باندونج في منتصف الخمسينيات الصاعدة.

          ويمكن أن نلاحظ - فضلا عن ذلك - ما تقوم عليه القصيدة من روح متفائل, أرهص بمناخ انتصار حرب 1956, وما اقترن به هذا الانتصار من معان قومية لم تفارق حركة تلك الجماهير التي مرّت تحت أقواس النصر, تفرض إرادتها على كل ما حولها, منطلقة في أمانيها كأنها تلك الطيور الطليقة التي تفتحت أمامها نوافذ النور والأمل. وهي النوافذ التي فتحها عبدالناصر الذي جمع العرب, ورفع شعارات الحرية والعدل والوحدة, فدفع الشاعر إلى أن يختم قصيدة بقوله:

فلتكتبوا يا شعراء أنني هنا

أشاهد الزعيم يجمع العرب

ويهتف: (الحرية.. العدالة.. السلام)

فتلمع الدموع في مقاطع الكلام

وتختفي وراءه الحوائط الحجر

***

ليظهر الإنسان فوق قمة المكانْ

ويفتح الكُوى لصحبنا

يا شعراء يا مؤرخي الزمان

فلتكتبوا عن شاعر كان هنا

في عهد عبدالناصر العظيم.

البطل (الإنساني)

          ويمكن للقارئ أن يستنتج أن الإشارة إلى (صحبنا) الذين يفتح لهم عبدالناصر الكُوى هم الذين ينتسبون إلى التيار القومي الذي تجسّد في شعر الشاعر, كحلم الوحدة الذي تجسّد في كلمات الزعيم, وسرعان ما تحقق بعد نشر القصيدة - الوحدة بين مصر وسوريا - بحوالي عامين, وذلك في سياق الانتصارات الصاعدة التي حققها (البطل) الذي أصبح عنوان قصيدة غير مؤرخة, أخبرني أحمد حجازي أنه كتبها ونشرها سنة 1962, متأثرا بمناخ الانفصال الذي سرعان ما انداح في سياق المعركة مع ما كان يطلق عليه الخطاب الناصري: (الرجعية العربية) و(العدو الإمبريالي). والقصيدة منشورة في الديوان الثاني لحجازي, وهو ديوان (لم يبق إلا الاعتراف). ومهداة إلى جمال عبدالناصر الذي لا يبدو فارسا يلوح عند الخطر ليختفي بعد ذلك في سحائب الدخان, ولا قديسا يأتي فجأة بلا أوان, وإنما يبدو إنسانا:


ألصق ما يكون بالأرض, وأبواب البيوت, والشجر

أكثرنا حزنا, أشدَّنا تفاؤلا, أبرَّنا بنا

أحنّ من صافي الندى على الثمر

وكان باديَ الونى.. وما يلين

ثم انتصر

***

حصانه أحلامنا

***

وسيفه أحزاننا

          هذا البطل الإنساني هو الذي غنّى له حجازي في انتصاره لأنه رآه يوم الأماني مثله يوم الخطر, ورآه إنسانا أصفى ما يكون الإنسان, ورآه منتصرا لإيمانه بشعبه وتجسيده له, فلا يستطيع أحد أن يكسره. واللافت للانتباه أن قصيدة (البطل) مثل قصيدة (عبدالناصر) تنتسب إلى الوزن نفسه, وتنبني على التدفق الإيقاعي الذي يتناسب مع الإلقاء الحماسي في محمل. ولا تفارق كلتاهما الصور البسيطة التي لا تستدعي التأمل, بل التي تنبسط في الذهن فور الاستماع إليها, مثيرة حالا من التخييل الذي يفضي بالقارئ أو المستمع إلى فعل أو انفعال مطلوب في هذا النوع من قصائد التحريض السياسي. ويقلل من الأثر السلبي لهذا النوع من القصائد الدرجة العالية من الصدق التي تؤديها تنغيمات الكلام وتراكيبه التي تبدو خارجة من قلب قائلها أو كاتبها.

باسم الفقراء

          ومن الطبيعي أن تستمر النغمة الصادقة في قصيدة (أغنية للاتحاد الاشتراكي العربي) التي يحملها ديوان (لم يبق إلا الاعتراف) وهي قصيدة نشرها حجازي عقب الإعلان عن الاتحاد الاشتراكي بوصفه التنظيم الجماهيري الذي يحقق لهم أحلام الاشتراكية, ويتيح لهم ممارسة دور المتابعة السياسية التي تهدف إلى تصحيح المسار صوب أحلام العدل الاجتماعي. ولذلك تنطق القصيدة باسم الفقراء الذين حلموا بالعدل الاجتماعي, لكن خلال صوت الشاعر الفرد الذي يتجسّد فيه صوت الجمع ليؤدي للاتحاد الاشتراكي تحيته سنة 1966, خصوصا بعد الإعلان عن قيام حزب الطليعة الاشتراكية (التنظيم الطليعي) الذي ضم أحمد حجازي نفسه, إلى جانب محمود أمين العالم وكمال الدين رفعت وغيرهم. وكانت تحية الاتحاد الاشتراكي في القصيدة مصوغة من منظور شاعر أصبح واحدا من طليعة الاشتراكيين, وعضوا في التنظيم الطليعي الذي يبني للمستقبل, ويعمل على تحقيق التحول الاشتراكي, ولذلك يتقمص الشاعر في القصيدة صوت المواطن البسيط, الكادح, لاجئا إلى الاتحاد الاشتراكي بوصفه حصن الأمان للملايين, وبوصفه سبيلا إلى المستقبل, يتوجه إليه المواطن البسيط بخطابه الذي هو نوع من التمنى الذي يبدأ على النحو التالي:

كن لي عائلة

يا حصن الفلاحين الفقراء

فأنا لا أسرة لي

إلا الإنسان بلا أسماء

... ...

كن لي عاصمة

يا بلد العمال الغرباء

فأنا لا موطن لي

منذ تركت الأرض الخضراء

          والمقطعان متجانسان في وصلهما بين الفلاحين والعمال, قوى الشعب العامل التي تحدث عنها عبدالناصر كثيرا, وجموع الفقراء المنتظرين للعدل من زعيمهم الذي يتحد به الشاعر في النهاية, أو يتقمص صوته وهو يقول لجموع المؤمنين به:

يا أبناء الوطن الشرفاء

إنّا نتسلم علم الوطن الآن

فلتكن القامات الصلبة ساريه العالي

ولتكن الأعينُ أنجمه الخضراء

          والعلاقة بين أبناء الوطن الشرفاء وأصحاب الحق في المستقبل هي العلاقة بين وجهي عملة واحدة, في وحدة الحركة التي تنطلق بها جماهير الشعب العامل, وهي الجماهير التي أصبحت - هكذا قيل لها - تملك كل شيء, وأن قاماتها لابد أن ترتفع اعتزازا, وأعينها - الأنجم الخضراء - لابد أن تكون مفتوحة لحماية مصالحها من أعداء الشعب الذين لا حرية لهم في حضرة أبناء الوطن الشرفاء.

          هذه الحرية كانت بداية الشرخ الذي حدث في اليقين, خصوصا حين كانت تقمع باسم حماية الجماهير أو حماية مصالح الشعب, وكان القمع مقرونا بالظلم الذي ظل نقيضا للعدل, ونقيضا لشعارات الثورة التي أخذت تبدو شعارات تجافي الواقع في حالات كثيرة, حالات لم تقض على محبة عبدالناصر الذي خاطبه حجازي في قصيدة (الشاعر والبطل) في يوليو سنة 1965 بمناسبة إعادة انتخابه رئيسا للجمهورية, وقد أخبرني أحمد حجازي أنه كتب هذه القصيدة التي نشرتها جريدة الأهرام بناء على طلب من القيادة السياسية, بواسطة لويس عوض, بمناسبة إعادة انتخاب الرئيس, فكتب هذه القصيدة كما كتب عبدالوهاب البياتي ومحمد الفيتوري وصلاح عبدالصبور قصائد موازية. وكالعادة, يتقمص حجازي قناع الرجل البسيط, المواطن الكادح الذي جعلت الثورة من سعادته هدفا لها. وتبدأ القصيدة بصوت هذا المواطن على النحو التالي:

وجهي كآلاف الوجوه, لا يُرى في المهرجانْ

إلا كما يرمى شعاع في أصيل

أو عودُ قمح فى الحقولْ

لكنني أنتظر اليوم الذي تقول فيه أين أنت!

لكي تراني واضح الشارة, مُعلم البيان

أحتضن الصوت على أطراف زحفك النبيل

          هذا الصوت الذي يتجسد الكل في واحد هو الصوت الناطق بالوفاء والولاء هو صوت الشاعر الذي آمن بالبطل, خصوصا بعد ما عاناه في تاريخه الطويل من قمع سياط الجند التي ألهبت الصدى والكلمات, والذي - مع الأسف - يلمح السياط نفسها تحت راية الذي أحبه, والذي رآه أصفى الناس, وأكثرهم حنوا على شعبه, الوضع الذي يدفعه إلى إعلان خوفه, ونطق المسكوت عنه من الكلام, فيقول:

أخاف أن يكون حبي لك خوفا

عالقا بي من قرون غابرات

فمُرْ رئيس الجند أن يخفض سيفه الصقيل

لأن هذا الشعر يأبى أن يمر تحت ظله الطويل

          هذا الخوف يبقى عالقا بنهاية القصيدة, مقترنا بالمفارقة التي تحوم حول البطل الذي أعطى وجوه الفقراء كبرياءها, ووزع عمره الجميل بالعدل في أعمارهم, يحثهم على أن يقهروا الحزن ويتبعوا الدليل, وتأتي النهاية مع المقطع الختامي الملتبس:

يظلمك الشّعرُ إذا غنّاك في هذا الزمان

لأنه لا يستطيع أن يرى مجدك وحده,

بدون أن يرى

ما في الزمان من عذاب, وهوان.

          وهو التباس غير بعيد عن مفارقة العادل الذي لا يمارس العدلَ جندُه, والقائد الذي يستلهم شعبه الذي أخذ يفتقد ظل حلمه, فتتجمع النقائض التي تصل بين وجه المجد في القائد وما في زمانه من عذاب وهوان, وأيا كان الرأي في هذه النهاية فإن اختلافها عن نهايات القصائد السابقة دال, خصوصا حين ينقسم الوعي فيها على نفسه, فيرى أكثر من جانب للحقيقة التي لم يكن يراها سوى من جانب واحد, وعلى نحو أحادي, فيتشقق اليقين, وتنزرع بذرة الشك التي سرعان ما تتضخم شيئا فشيئا, عبر قصائد من مثل (موعد في الكهف) و(الأمير المتسول) و(إشاعة) و(السجن) و(من نشيد الإنشاد) التي تؤكد كل واحدة منها انكسار اليقين الناصري القديم, وضياعه تماما تحت الشمس الحارقة لهزيمة 1967 الهولية التي قطعت ما بين زمنين, ودفعت الشاعر نفسه إلى كتابة قصيدته (مرثية العمر الجميل) التي هي مرثية للزمن الناصري كله, خصوصا الحب القديم بلا حدود, والإيمان المطلق بلا تحفظات, للبطل عبدالناصر

 

جابر عصفور