فكرة الدورة في العلوم الإنسانية محمد السيد سعيد

يبدو أن الدائرة هي أكثر الأشكال الهندسية إثارة للعقل الإنساني. إذ لم تلهم هذه الفكرة العقل أو الخيال الهندسي والميكانيكي للإنسان منذ اختراع العجلة، فحسب. لقد ألهمت في الحقيقة كل العلوم. إنها فكرة تخللتها جميعا. وهي بهذا المعنى فكرة عابرة للعلوم بالمصطلح الحديث. بل إنها برهان لحقيقة أن العلوم هي أقسام معرفية اصطناعية، لأن العلم كلٌ واحد لا يتجزأ.

إن فكرة الدائرة هي في الواقع سابقة للعلوم بالمعنى الحديث للكلمة. ويصدق ذلك بسبب المكانة الجوهرية التي شغلتها الدائرة أو الدورة في الخيال الأسطوري والجمالي والروحي أو الديني بصفة عامة. فمنذ بداية وعي الإنسان بنفسه مثلت الحياة بالنسبة له دائرة. ومن حسن الحظ أن الإنسان لم يدرك الدائرة في حالة سكون: أي كشكل هندسي محض. فالدائرة كانت منذ فجر الوعي الإنساني تتحرك دائماً بطبعها: أي تصنع دورة. فالتجربة الإنسانية الزرع والحصاد، الليل والنهار، الطفولة والشيخوخة أو بالأحرى الحياة والموت هي كلها دورات.

وهكذا قد نفسر المكانة الجوهرية التي تحتلها فكرة الدائرة أو الدورة في العلوم الحديثة كافة والعلوم الاجتماعية خاصة بالتصاقها العميق بالذات الإنسانية. ونقصد الذات الإنسانية عند كل المستويات: أي الفرد والجماعة والأمة والبشرية كلها.

مفهوم الدورة الاقتصادية

والطريف في التعامل العلمي المعاصر مع فكرة الدائرة أو الدورة هو أن كل العلوم الحديثة قاطبة، بما في ذلك العلوم الطبيعية، مدفوعة بميل غامض لتقريب حركة أو صيرورة الظواهر إلى فكرة الدائرة أو الدورة حتى لو لم تكن الظاهرة التى تتحرك تتمم دائرة هندسية صحيحة أو دورة كاملة. فالأرض ذاتها تسمى الكرة الأرضية بالرغم من أنها علميًا ليست كرة بالضبط، وإنما يمكن مشابهتها بالكرة: أي السلسلة اللا نهائية من الدوائر ذات المركز الواحد. ويكفي أن تتحرك الظاهرة في شكل منحنيات صاعدة وهابطة أو في شكل موجات لكي يطلق على حركة هذه الظاهرة اسم دورة.

فلنأخذ هنا مثلاً علم الاقتصاد. فقد عرف هذا العلم كثيرًا من الدورات. ويشغل مفهوم الدورة الاقتصادية أو دورة الأعمال حيزاً مهما للغاية من هذا العلم. فالواقع أن المعنى بمفهوم الدورة الاقتصادية في علم الاقتصاد التقليدي هو موجات الرواج والانكماش. ووفقًا للشرح التقليدي تبدأ حالة الرواج مثلاً بظهور طلب إضافي جديد، فيأخذ أصحاب الأعمال في تشغيل عمال جدد وشراء مواد خام وتشغيل رءوس أموال جديدة بهدف زيادة الإنتاج من أجل تلبية الطلب الإضافي، وحيث يزداد الطلب على العمال والمواد تبدأ الأسعار في الارتفاع ويزداد الربح. ولهذا يدخل منتجون جدد إلى مجال الإنتاج على أساس توقعات نفس مستوى الأرباح. ولكن الإنتاج يزيد في النهاية بحيث يتجاوز الطلب الإضافي وتزداد تكلفة الإنتاج وتقل الأرباح. وهنا تبدأ موجة انكماش. ذلك أنه مع انخفاض الأرباح وزيادة منسوب التضخم يخرج المنتجون الأقل كفاءة بالتدريج ويقل الإنتاج ويقل الطلب على العمال والمواد بالتالي، وهكذا. والأصل في هذا الشرح هو أن الرواج يتلو الانكماش ويعقبه في شكل موجات متلاحقة قصيرة المدى زمنيًا بسبب البحث الدائم عن نقطة التوازن بين الطلب والعرض، وهي نقطة توازن يستحيل معرفتها مقدمًا. وبالرغم من أن هذه الفكرة ليست دقيقة تمامًا، فإنها صارت نوعًا من الحكمة الثابتة التي يعمل على أساسها رجال الأعمال ويتوقعونها ويتصايح بها الساسة في المنافسات الانتخابية. غير أننا حتى لو صدقنا الفكرة وكأنها حقيقة ثابتة فإن من الواجب أن ننتبه إلى أن موجات الركود والانكماش ليست دورات بالمعنى السليم للكلمة. فنحن لا نعود أبدًا إلى نقطة الأصل. فالموجات لا تعود إلى نفس المستوى، وإنما ترتفع إلى مستويات جديدة من الإنتاج والإنتاجية.

ويصدق الأمر نفسه على مفاهيم اقتصادية أخرى تسمى "علميًا" دورات. فعلم اقتصاديات التنمية مثلاً يفترض أن مهمته الجوهرية هي التغلب على ما يسمى بالدورات الشريرة للتخلف Vicious Circles of under development. ويعني بذلك أن الفقر يعيد إنتاج نفسه بصورة دائمة، بحيث يصعب كسر حلقات دورة التخلف. فالفقر يعني العوز لرءوس الأموال الضرورية للاستثمار وزيادة الإنتاج. هذه الدورة الوهمية ليست في الحقيقة دورة، لأنه حتى لو افترضنا صحتها في الواقع العملي فهي تعني أن شيئا لم يتحرك. وإنما أن واقع الفقر يكرس الفقر لأنه يتصاحب مع عوامل كثيرة تؤكد بعضها في إنتاج الركود عند مستوى معين من الفقر.

ويصدق هذا التحليل أيضًا على كثير من الدورات المزعومة في علم الاقتصاد مثل دورة النقود أو دورة رأس المال. وأمثال هذه الدورات كثيرة جدًا في الفكر الاقتصادي بحيث لا تكاد توجد ظاهرة من ظواهر هذا العلم لا يميل الدارسون بلى تسميتها دورة: أي حركة دائرية.

التاريخ الأسطوري

وقد يكفي هذا المثل لتوضيح طغيان فكرة الدورة والدائرة في العلوم الاجتماعية الحديثة. ولكن يكاد يستحيل أن ندرك المغزى الكامل لهذه الفكرة، دون أن ندلف لعلم التاريخ. إذ إن الإلهام والإبهار المذهل الكامن في فكرة الدائرة أو الدورة يتكثف بكامل إثارته في ميدان هذا العلم: ففي هذا الميدان، وسواء أكنا نتحدث عن التاريخ الأسطوري أم العلمي نجد أن حس أو حساسية الإنسان بنفسه وبتجربته مشبع بفكرة الدائرة أو الدورة. وتكتسب هذه الفكرة جاذبية وسحرًا لا يقاوم في مجال التاريخ لأن هذا المجال يعني بتأمل ما في الحياة من تغير دائم لا ينقطع. ويبدو جليًا أن الإنسان ينبذ غريزيًا بكل قوته أي انطباع يقوم على التغير الدائم اللا محدود. ففي مجال التجربة الإنسانية يكتسي التأمل بحزن طاغ وأشواق بلا حدود للالتقاء مع ذاته من جديد وبتوق غامض لاستشفاف أو اصطناع المعنى من واقع متغير ومتلاطم لا يكاد المرء يدركه أو يعتاده أو يتوحد معه حتى يتلاشى من أمامه، عاصفاً بما ظنه رفيق وجوده والنجم الهادي لوحدته. إن فكرة الدورة هنا تسحر اللب والخيال معاً لأنها تنطوي على ضمان معنى ما للحياة والتجربة الإنسانية. ونحن نتحدث هنا بالتحديد عن معنى أن الضياع ليس أمرًا نهائيًا، وأن التيه له حدود، وأن ما خسرناه قد نستعيضه وأن الموت نفسه ليس سوى مقدمة لحياة جديدة أو بعث آت، وأن ما انصرف من أمام ناظرينا مآله إلى عود. كل ذلك يتم عبر دورة: حركة دائرية تصل ما انقطع وتربط بين الذاهب والآتي، وبين الطرف والطرف، وبين اللحظة والأخرى في ديمومة مغلقة: الزمن فيها معروف سلفًا أو محسوب مقدمًا أو لا قيمة له على الإطلاق.

وربما يكون هناك سر آخر لسحر فكرة الدورة أو الدائرة في التاريخ، وهو كراهة الثبات على الظلم أو الفساد والإفساد أو القوة القاهرة وحتمية الإذعان لها. ففي مجال علم التاريخ أخذت فكرة دورة الحضارات بألباب المختصين والعامة على السواء، وخاصة منذ أن نشر جيبون سفره الضخم عن صعود وهبوط الإمبراطورية الرومانية. وبعد كتاب جيبون بنحو قرن صدرت "دراسة في التاريخ" لتوينبي، التي تكاد تكون موسوعة شاملة عن الحضارات المعروفة في التاريخ الإنساني كله. ورغم أن هذه الدراسة الموسوعية الأخيرة لم تقصر نفسها على فكرة دورة الحضارات، فإنها كانت مشبعة بها.

دورة الحضارات

وبكل بساطة، فإن فكرة دورة الحضارات تنطوي على الاعتقاد بأن كل حضارة تولد ثم تشب وتنضج ثم تبدأ في الركود والانكماش والاضمحلال والموت، لكي تتلوها حضارة أخرى في رقعة جديدة من العالم. وقد تتتلمذ الحضارة الجديدة على منجزات الحضارات التي سبقتها، ولكنها تتجاوزها بعد أن تكون تلك الأخيرة قد شاخت أو اندثرت. وهكذا، فإن مركز الحضارة والتفوق في العالم لا يدوم في رقعة معينة، وإنما يتحرك هذا المركز من مكان لآخر تبعاً لعوامل شتى.

والواقع أن الفكر التاريخي الحديث والمشبع بالفكرة الرومانسية عن دورة الحضارات قد نهل كثيراً من فكرنا العربي عمومًا، ومن شيخنا الجليل العالم ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون (1332 م- 1406م). وكان ابن خلدون يطمح إلى إنشاء علم للتاريخ يبحث فيه عن "أولية الدول والعمران عللاً وأسباباً". ووجد ابن خلدون إثارة هائلة في ظواهر انتقال مراكز الحضارة من دول سالفة إلى دول خالفة. إذ "انتقلت حضارة الفرس للعرب في عهد بني أمية وبني العباس، وانتقلت حضارة بني أمية بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحدين، وانتقلت حضارة بني العباس إلى الديلم ثم الترك، ثم إلى السلجوقية، ثم إلى الترك الماليك بمصر والتتر بالعراقين. إذ أمور الحضارة من توابع الترف، والترف من توابع الثروة والنعمة، والثروة والنعمة من توابع الملك، وبمقدار ما يستولي عليه أهل الدولة".

ولا تخضع حركة الانتقال لمراكز الحضارة وحدها لفكرة الدورة، بل إن كل حضارة تقوم عبر دورة من خمسة أطوار: البدء، التعمير، العمران، الهرم، والتجديد.

وفي تعليله لنهوض واندثار الحضارات، يطرح ابن خلدون فكرة جوهرية سوف تظل عالقة بالفكر التاريخي والحضاري عامة. وغالبًا ما يذاع عن هذه الفكرة مصطلح "دورة العصبية". غير أنها في الحقيقة تتعلق بانقلاب نمطي في حالة المجتمع بين النهوض والاندثار تصلح للتعميم بأبعد كثيراً مما يشير إليه مصطلح العصبية كما استخدمه هذا العالم الجليل. ويلخص ابن خلدون هذه الفكرة التفسيرية بنفسه، كما يلي "اعلم أن هذه الأطوار طبيعية للدول. فإن الغلب الذي يكون به الملك إنما هو بالعصبية وبما يتبعها من شدة البأس وتعود الافتراس... ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه واتساع الأحوال. والحضارة إنما هي تفنن في الترف" و "الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد". وما يقوله ابن خلدون في الجوهر هو أن الحضارة تقوم على أخلاق التقشف والاستقامة والبأس.. فما أن تزدهر حتى تختفي هذه الخصال ويبدأ الناس في التطبع بأخلاق الترف والدعة والفساد. وهذه الأخلاق تقود بالضرورة إلى تهافت الحضارة وسقوطها.. ويتم ذلك على هيئة دورة تبدو حتمية.

إن النفوذ الطاغي لفكرة الدورة الداخلية للحضارة بانتقالها من أخلاق التقشف إلى أخلاق الترف يظهر بوضوح في تفسير جيبون لسقوط الحضارة الرومانية. فيشرح جيبون انحسار تلك الخصال التي قامت الحضارة الرومانية على أساس منها بنفس المصطلحات تقريبا التي يستخدمها ابن خلدون. ثم يشرح سقوط هذه الحضارة بالتعمق في الآليات التي جعلت من المتعذر إقناع الرومانيين بالتخلي عن حياة الترف والإفساد والمتع، ولجوء القياصرة والأباطرة في العهد الروماني المتأخر بسك عملات رديئة لإرضاء مطالب الرومانيين المترفة، وخاصة قادتهم العسكريين، مما أدى إلى التضخم وبالتالي فساد الإدارة والجيش وهزيمة الإمبراطورية في النهاية.

من التقشف إلى الترف

يعبر الفكر الاقتصادي المعاصر عن تلك الدورة الداخلية "للحضارة ": أي انتقالها من حالة التقشف المرتبط بقيم الادخار والاستثمار والعمل إلى حالة الترف والرفاه الزائد بما تتضمنه من ميل مرتفع للاستهلاك وتراخي الادخار وتدهور قيم العمل من خلال مفهوم الدورات الاقتصادية الطويلة أو ما يسمى بدورات كوندراتييف Kondratieff Cycles. وفقاً لهذا المفهوم فإن التاريخ الاقتصادي الحديث يبدو كأنه يتكون من موجه طويلة الأمد للرواج تتلوها موجة طويلة الأمد أيضًا من الانكماش، وهكذا. وكل من هذه الموجات يستغرق في المتوسط نحو خمسين عامًا.. أي جيلين تقريبًا.

على حين أن موجات الرواج تنهض على ميل مرتفع للادخار ومعدل مرتفع للاستثمار، وتحسن واضح في إنتاجية العمل وأنماط تنظيم الإنتاج.. وهي كلها مرتبطة بأخلاق التقشف والعمل، فإن موجات الركود تنشأ بسبب عكس ذلك كله حيث ميل مرتفع للاستهلاك ومنخفض للادخار، وحيث تراخي الاستثمار وتدهور إنتاجية العمل أو ركودها، مع ارتباط ذلك كله بهبوط واضح في تطبيق الابتكارات والتجديدات.. إلخ. إننا هنا أمام دورة اقتصادية توازي دورة في الأحوال الأخلاقية للمجتمعات. وفي هذا السياق، يمكن أن تنهض موجات الرواج أو النمو الاقتصادي الجديدة في بقعة جغرافية أو في أمم جديدة غير تلك القديمة. وبذلك تنتقل مراكز النمو والتقدم من دولة إلى أخرى، بل ومن إقليم جغراقي سياسي معين إلى إقليم آخر.

الواقع أن هذا المعنى الأخير قد أصبح حكمة شائعة في تشخيص الوضع الاقتصادي الدولي المعاصر. يؤكد كثير من العلماء أن قاطرة النمو قد غادرت الولايات المتحدة وأوربا ربما نهائيا إلى اليابان وجنوب شرق آسيا عمومًا أو من الساحل الغربي إلى الساحل الشرقي للمحيط الباسيفيكي (الهادي).

نظرية الثورات

إننا نقترب هنا كثيرًا من التطبيق السياسي لفكرة الدورات. وقد عرفت العلوم السياسية فكرة الدورات بأشكال وفي ظواهر شتى. وربما يكون أبسط هذه الدورات ما يظهر في تقلب الحكومات- عبر الانتخابات العامة "الدورية" - من حزب أو تشكيلة حزبية إلى آخر- مثلاً انتقال الحكم من المحافظين إلى العمال في المملكة المتحدة أو من الديموقراطيين إلى الجمهوريين في الولايات المتحدة.

ومن أكثر التطبيقات إثارة لفكرة الدورات في مجال العلوم السياسية نظرية الثورات. فهناك اتجاه قوي لإبراز كيف تتطور الثورة الاجتماعية/ السياسية عبر دورة كاملة تبدأ بالتحالف بين المتشددين والمعتدلين للقيام بالثورة، ثم تتطور إلى مرحلة تشدد يستولي فيها المتشددون على كل السلطة السياسية. وسريعاً ما يؤدي ذلك إلى مرحلة إرهاب وانقسامات بين المتشددين أنفسهم، وهو الأمر الذي يضعفهم. ويمهد هذا الانقسام والضعف لسقوط المتشددين واستيلاء المعتدلين على الحكم. وتكون الثورة قد فقدت قوة الدفع الأولية لها، ويسعى المعتدلون القائمون على الحكم في هذه المرحلة إلى المصالحة مع المجتمع القديم الذي هبوا إلى الثورة لهدمه. وهكذا تبزغ قوة المجتمع القديم من جديد، وتكون الثورة قد ماتت واندثرت.

وهناك إلى جانب الأمثلة السابقة تطبيقات كثيرة، سوف نكتفي بلفت النظر إلى أكثرها أهمية من ناحية المغزى العملي. ونقصد بذلك القول بوجود دورة معينة لانتقال القوة في الساحة الدولية من مركز إلى آخر.

هذه الفكرة تتشابه أو بالأحرى تنبثق من نظرية دورة الحضارات، ولكنها ليست هي بالضبط. فالمقصود هنا هو ما يسميه ابن خلدون بالبأس والغلبة، وليس الحضارة. فالعلوم السياسية تتعامل مع القوة والسلطة، أو ما يسميه ابن خلدون أيضا الملك، وليس على مفهوم الحضارة. وفي السياق الدولي قد ينتقل مركز القوة الغالبة من دولة لأخرى أو من مجتمع لآخر في إطار نفس الحضارة أو نفس التشكيلة الحضارية. فعلى سبيل المثال كانت البرتغال هي أقوى قوة عسكرية/ بحرية في إطار الحضارة الأوربية التي كانت تمر بمخاص عصر النهضة منذ نهاية القرن الخامس عشر. وانتقل هذا المركز إلى هولندا ثم إسبانيا. وأخيرًا استقرت الغلبة العسكرية/ البحرية في بريطانيا التي سادت أوربا، والعالم كله في القرن التاسع عشر. وأسس البريطانيون حالة عالمية تعرف باسم السلام البريطاني PAX BRITANICA أي حالة الاستقرار النسبي القائم على غلبة بريطانيا العسكرية بين كل القوى الأوربية. وقد اهتز هذا النظام بشدة بسبب تحدي ألمانيا له، وكانت ألمانيا قد أصبحت أكبر قوة صناعية في أوربا وأكثر هذه القوى ديناميكية منذ سبعينيات القرن التاسع عشر. غير أن بحث ألمانيا عن الهيمنة على أوربا أحبط بسبب خسارتها للحربين العالميتين الأولى والثانية. ولأن هاتين الحربين أضعفتا كل القوى الأوربية التقليدية، فقد انتقل مركز القوة إلى الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لم يكن هذا الانتقال ظفرًا لحضارة مختلفة، وإنما تم في الإطار العريض لنفس الحضارة. فالولايات المتحدة رغم الآمال القديمة المعقودة عليها، بأن تكون "عالمًا جديداً" حقًا كما كان يطلق عليها. لم تكن ممارساتها سوى امتداد للحضارة الأوربية بما فيها من إيجابيات وسلبيات.

إن المغزى العملي لنظرية دورة القوة في الساحة الدولية ينصرف في الحقيقة إلى التنبؤ بهبوط دائم للقوة الأمريكية ونهاية عصر الغلبة الأمريكية وانتقال القوة والغلبة في النظام الدولي إلى مركز أو مراكز جديدة. لقد وعد الرئيس الأمريكي جورج بوش مواطنيه بأن القرن القادم سيكون قرنا أمريكيًا. ولكن هناك مدرسة كاملة في الولايات المتحدة لا تصدق هذا الوعد، وتطلق على العكس نبوءة خسوف القوة الأمريكية في القرن القادم. ويمكننا تلخيص الحجج الرئيسية لهذه المدرسة كالآتي: استندت القوة السياسية والعسكرية للولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرن العشرين على مكانتها وقوتها الاقتصادية الفريدة. إذ تمكنت من حسم الحربين العالميتين الأولى والثانية لأنها كانت ببساطة أكبر اقتصاد في العالم، وأكثر اقتصادات العالم ديناميكية وتوسعًا في المجالات والفروع الجديدة. وعندما دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية كان إنتاجها المحلي الإجمالي يشكل نحو 39% من الناتج العالمي. تحققت هذه المكانة بسبب أكثر من نصف قرن من النمو الاقتصادي المرتفع القائم على معدلات مرتفعة للادخار والاستثمار ونمو إنتاجية العمل وإدخال تكنولوجيات جديدة.

وبعد نحو نصف قرن من انتصار الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، نجد أنها قد خسرت معركة السباق والمنافسة في الميدان الاقتصادي لصالح المهزومين في الحرب العسكرية: أي اليابان وألمانيا. صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال هي أكبر اقتصاد في العالم، إذ يشكل الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي أقل قليلاً من ربع الناتج العالمي. غير أن هذا الاقتصاد فقد تفوقه النوعي في الميدان الاقتصادى العالمي. إذ تعاني الولايات المتحدة من عجز مزمن في الميزان التجاري، ومن عجز هائل في الموازنة الفدرالية مما يجعل الولايات المتحدة أكبر مقترض أو مدين في العالم. وأهم من ذلك أن تنافسية المنتجات الأمريكية قد تآكلت لصالح اليابان والدول الصناعية الجديدة، وألمانيا. ويعود ذلك إلى تراخي نمو الإنتاجية الكلية في الاقتصاد الأمريكي والتدهور الشديد في معدل الادخار والاستثمار ونمو معدلات إدخال تكنولوجيات جديدة.

أسباب تدهور الاقتصاد الأمريكي

ونحن لن ندخل من جانبنا في التفاصيل الفنية لهذه الحجج كلها. ويكفي أن نشير إلى نظريتين مهمتين لتفسير تدهور المكانة النسبية للاقتصاد الأمريكي، وبالتالي للقوة الأمريكية. النظرية الأولى تلفت النظر إلى الحجم الهائل للإنفاق العسكري الأمريكي. ويجور هذا الإنفاق على فرص تشجيع الاستثمار من خلال الإنفاق العام. وهنا نجد أن الولايات المتحدة قد تلحق بالاتحاد السوفييتي من حيث إن الدولتين قد صرفتا مواردهما الاقتصادية في القطاع العسكري. وبالمقارنة فإن ضآلة الإنفاق العسكري لألمانيا واليابان، بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية، قد مكن الدولتين من تركيز مواردهما لتحقيق طفرات اقتصادية متتالية. وإذا كان التدهور الاقتصادي السوفييتي قد أدى إلى تحلل وانهيار الاتحاد السوفييتي كلية، وهو التحلل الذي أخذ شكلاً رسميًا بإلغاء أو حل هذا الاتحاد في ديسمبر عام 1991، فإن التدهور الاقتصادي الأمريكي لابد أن يؤدي في الحد الأدنى إلى تراجع القوة السياسية للولايات المتحدة في النظام العالمي.

وهناك تفسير أكثر شمولاً لهبوط الاقتصاد الأمريكي يستند إلى الارتفاع الكبير في الاستهلاك العام والخاص على حساب الاستثمار، وخاصة في قطاع الآلات والمعدات فالإنفاق العسكري ليس سوى جزء من الإنفاق أو الاستهلاك العام، على حين إننا نشهد ارتفاع مستوى الاستهلاك على حساب الادخار والاستثمار في المجالين معًا: أي العام والخاص. ويمكننا أن نفسر ذلك بدوره كتعبير عن ثورة تطلعات ترنو إلى الاستمرار اللانهائي لما يسمى بالحلم الأمريكي: أي تحقق مستوى مرتفع للغاية من الرفاه، حتى لو لم يعد هذا المستوى مستندًا على أو متوافقا مع مستوى النمو الحقيقي للإنتاج والإنتاجية. ونحن نعود بهذا التفسير إلى ابن خلدون الذي أشار إلى أن الترف ومبدأ المتعة وراء فساد الحضارة.

وهو هنا أيضاً السر الكامن في فالانكسار المتوقع "لشوكة" الولايات المتحدة في النظام العالمي، ربما في المستقبل غير البعيد.

ولكن حتى لو كانت هذه الشروح قريبة من الحقيقة، فهل نكون أمام دورة حقيقية؟ قد نقبل علميًا الافتراض القائل بحتمية هبوط القوة الأمريكية في النظام الدولي. غير أن ذلك لا يعني أننا أمام دورة قوة. فقد يعود مركز القوة العالمية إلى أوربا، لو نجح مشروعها في التوحد وفقًا للبرنامج الموضوع فيما يسمى بالقانون الأوربي الموحد، واتفاقية ماستريخت. وفي هذه الحالة، نكون أمام انتقال لمركز القوة في إطار نفس الحضارة: لأن الولايات المتحدة لم تكن كما قلنا سوى امتداد للحضارة الرأسمالية الأوربية. وربما يذهب بندول القوة بعيدًا هذه المرة.. ربما حتى اليابان وشرق آسيا. وهنا- في هذه الحالة- نكون أمام انتقال لمركز القوة في إطار نفس التشكيلة الحضارية، ذلك أن اليابان والدول الصناعية الجديدة في شرق آسيا تتقدم بفعل استعارة أنماط الإنتاج وتنظيم الإنتاج والأسواق التي ابتدعتها أوربا وطورتها الولايات المتحدة إلى حين.

ومهما يكن من أمر، فإنه حتى لو انتقل مركز القوة إلى اليابان وشرق آسيا، فإن الأمر المثير حقًا في هذا الاحتمال هو حقيقة أن شعوبا كانت في سبات عميق قد استيقظت لتحقيق نهوض هائل، وربما مفاجئ. وهكذا تدخل شعوب لا تاريخية - أي لم تكن لها مساهمات ملموسة في تكوين الحضارة الإنسانية - إلى التاريخ بقوة. هذا في الوقت الذي تكاد فيه شعوب تاريخية - أي كانت لها مساهمات كبرى في تكوين الحضارة الإنسانية - تخرج من التاريخ المعاصر.

الأيام دول

إن صياغة أفكارنا الخاصة بفرص التقدم والقوة والبأس في النظام الدولي على طريقة الدورة: أي وفقًا للاعتقاد بأن هناك عجلة تدور ترفع أممًا جديدة إلى السمو والعلو وتهبط بأمم قديمة إلى التدني والتأخر، يؤدي إلى الاعتقاد بأن العجلة سوف تستمر في الدوران بحيث تعود بأمم تأخرت إلى المقدمة وإلى العلو والسمو من جديد. وعندما نقول في المثل العربي بأن "الأيام دول بين الناس" فنحن نعني في الحقيقة هذا النمط الدائري من التفكير حيث يتبادل الناس أو الأمم المواقع بين القوة والضعف، وبين الظالم والمظلوم. فإذا كنا في موقع الضعف الآن، حيث يقع علينا ظلم قومي من جانب أقوياء اليوم، فنحن نستطيع أن نطمئن أنفسنا وأن نهدد الظالمين بأن مآلهم إلى الضعف ومآلنا إلى القوة.

ومن وجهه النظر هذه، يقودنا التفكير الدائري إلى انتظار حظنا في التقدم والرقي والقوة، بدلاً من العمل الشاق في معترك المنافسة الدولية الساخنة بهدف التوصل إلى هذه الأهداف. وفي السياق نفسه، فإننا نستطيع أن ننتظر بشماتة أن يحبط أقوياء اليوم - وخاصة الولايات المتحدة التي أوقعت علينا ظلماً قوميًا شديدًا بدعمها غير المحدود لإسرائيل - إلى مدارك التأخر والركود والضعف. وهذا التفكير يقودنا - بدوره- إلى القعود عن الحركة والفعل الهادف لإعادة بناء النظام العالمي على أسس من العدل والمشاركة.

هذا المثل المحدد يكشف الستار عن عيوب ومثالب فكرة الدورة في العلوم الإنسانية بشكل عام. فإذا كانت هذه الفكرة تستجيب لحاجات نفسية شعبية، فإنها تقود إلى إدراك التاريخ والسلوك الإنساني كمعطيات مغلقة: أي كظواهر معروفة سلفًا ويمكن التنبؤ بها، مثلما يمكن معرفة أبعاد الدائرة بالمعادلات الرياضية والأساليب الهندسية المألوفة. ونحن- كعرب- لا نستطيع أن نؤسس الفكر اللازم لتقدمنا على المعطيات النفسية الصرفة، وإنما يجب أن نؤسس هذا الفكر على إدراكنا المفتوح للتاريخ: حيث هناك معطيات بعضها قيود وبعضها فرص لمشروع محدد للتقدم. ومهمة هذا المشروع ليس انتظار دوران العجلة إنما قيادتها لتجنب قيود التقدم وعوائقه والإفادة من الفرص المتاحة داخلنا وفي الساحة الكونية.

 

محمد السيد سعيد