لماذا نحب مدننا القديمة؟

  لماذا نحب مدننا القديمة؟
        

من قلب المدن بدأنا... مدنا صغيرة أو كبيرة... بعضها انفتحت نوافذها على البحر, وبعضها تموقع قلب البلاد. وبعض آخر فرضت عليه ظروف تاريخية أو سياسية أن يكون داخل أسوار عالية. وذات قلاع ولها بوابات تفتح في النهار وتغلق في الليل.

          للمدن تواريخ... وتأريخ.. استطاع كثير من المؤرخين والرواة نقل تفاصيلها. كما اهتم الرحّالة والمستشرقون بتسجيل مشاهداتهم. والتقطت كاميراتهم صورا نادرة لكثير من المدن. التي زاروها وبحثوا في تاريخها... وقدموا صور وسيرة ناسها وتراثهم.

          وبمرور الزمن تكبر المدن وتتسع... وتطولها يد التطوير التي تغير من ملامحها فتفقد المدن القديمة بذلك الكثير من ملامحها الأصيلة, ويرى الكاتب محمد خضير أن (المدينة الجديدة تتسع عاما بعد عام. وتأكل المدينة القديمة وتفرغ أمعاءها). ويرى الكاتب خالد زيادة) أن تغيير وجه المدن القديمة لا يقتصر على إزالة الأحياء والأسواق. بل يتعداه إلى تبديل معالم الطبيعة حيث يردم جزء من البحر لتمتد عليه حضارة حديثة, ويطول البشر حيث يحدث التغيير الاجتماعي فيتبدل حتى لباس المرأة والرجل وتختفي عادات وقيم نادرة اتسمت بها وجوه وروح المدن القديمة). ويحدث الخلل ما بين المدن وناسها, فحين يقول ايلوار: بين المدينة والإنسان لم يكن يوجد حتى سمك جدار, وهو بذلك يؤكد علاقة الإنسان الحميمة بمدينته. نجد اليوم أن سمك جدار أو جبل يفصل بين الإنسان ومدينته. هناك نوع من الأمومة الخالدة ربط الإنسان القديم بمدنه. بينما نجد إنسان اليوم يشعر بالاغتراب, وقد تفككت صواميل العلاقة بينه وبين مدينته ما أدى إلى أن يتغرب كثيرون عن مدنهم طمعاً في إيجاد مدن أخرى تكون أكثر حنانا, وأمانا.

الحنين الذي لا يأفل

          وقد ظل الإنسان الذي عاش أجواء المدن القديمة, في حنين دائم لها. وكلما شعر بأنه يقترب من المرحلة الأخيرة ازداد حنينه. فيرجع لا شعوريا أو بقصدية إلى الماضي, يبحث بين طياته عن طفولة عاشها, عن ذكرياته المخبأة في الزوايا أو شقوق الجدران, عن روائح وملامح أمكنة وبشر التقطتهم العين في الرواح. والإياب.

          ترى! لماذا نحب مدننا القديمة؟ ولماذا لا يأفل الحنين إليها؟ ولماذا تبقى أصداؤها حية في الذاكرة؟ هل لأنها المكان الذي شهد مولدنا؟ سمع صرختنا الأولى؟ اتسع لخطوتنا الأولى؟ حملت نسائمه نطقنا الأول؟ واحتضن أحلامنا الصغيرة التي رفرفت في الأزقة والبيوت؟ هل لأنها زمان ناسنا الذين التحمنا معهم, تشربنا طبائعهم, هزجنا مع أفراحهم وعضضنا معهم على الآلام والفواجع؟

          الشاعر محمود درويش يتساءل أيضاً في إحدى قصائده:

ما سر انبثاق هذا الماضي؟

أهو البحث عن طفولة المكان؟

أهو الشبق لملاقاة مكان الطفولة؟

أم هو الاقتراب من سؤال سابق

ما البداية! وما النهاية؟؟

المدينة وحبلها السري

          إن علاقتنا بمدننا القديمة هي العلاقة الحميمة بالمكان والزمان الذي تكون فيه نسيجنا الأول, واكتسبنا عاداتنا متأثرين به ومؤثرين فيه. وفي محاولاتنا لاستعادة شكل مدننا القديمة وأزمانها, قد لا نرى الصورة واضحة تمام الوضوح. فالزمن يفصل بيننا وبين الصورة بما يشبه (الفلتر) وكل منا حسب سمــاكة (فلتره) يرى... ويوقـــد ذاكرته.

          وإن كانت ذاكرة الإنسان العادي, لم تلتقط صورة المدينة القديمة وكل ما يرتبط بها بشكل دقيق. فإنها على العكس تجذّرت في وجدان وفكر المبدع. ولذلك نجد كثيراً من المبدعين الذين كتبوا سيرهم الذاتية, اهتموا بتسجيل تاريخ المدن التي عاشوا بها لأنها المنبع الأول الذي تشرّبوا منه. وانعكست عليهم أحداثه السياسية والاجتماعية والفكرية فأثرت فيهم تأثيراً بليغا. لذلك ظلت لصيقة بهم. وتحس الكاتب لايزال مربوطاً بحبل أمه السري - المدينة القديمة - يستقي من رطوبة ترابها.. نقوشات حيطانها. رقرقات أنهارها وزفرات رمالها, صخب مقاهيها, زخم أحيائها.. أزقتها وحكايات سطوحها. يستقي من ظلمات مقابرها وأنوار مساجدها وكنائسها, من دفء حماماتها العمومية وثراء مكتباتها, من ضجيج أسواقها وساحاتها العامة وحلاوة شواطئها, من حلقات الكتاتيب وتجربة المدرسة الأولى, من سينماتها المكشوفة وجرامافوناتها التي يلعلع صوت المطربين منها في المقاهي, من مجالس الناس فيها: رواة... حكائين...وشعراء... من أعيادها, أعراسها, موالدها, حلقات الزار والمآتم, وعلاقات البشر والمتغيرات التي تهب عليها بين وقت وآخر.

          حين كتب غالبية المبدعين عن مدنهم القديمة, لم يستعيروا مادتهم من الكتب, ولم يؤلفوا أو يسجلوا ما شاهدوه وعاشوه تسجيلاً سردياً وصفياً جامدا. بل كتبوا بتلك العلاقة الروحية, أو الإنسانية التي ربطتهم بمدنهم ومعطياتها التي ساهمت في تشكيل إبداعهم, فصار الإبداع جزءاً مهما من فعل الكتابة. كانوا أوفياء لجوهر المكان والزمان, فبعثوا نبض الحياة في المدن المنسية, ونقلوا بذلك ذاكرة جيل كامل, إلى أجيال لا تعرف عن ماضي مدنها إلا بعض شيء يشبه الضبابات البعيدة.

* * *

          في تحضيري لهذه الورقة. استفدت من قراءاتي لكتب السيرة الذاتية وسر المدن لمجموعة من الكتاب العرب, فلا يهمني في هذا المجال ما قرأته من سير الكتاب الأجانب الذين كتبوا أيضاً عن مدنهم وعلاقات البشر فيها... فأجواء مدنهم لا تلامس عواطفنا, هي مدن لا تخصنا كما مدننا العربية التي تشبهنا.. ونشبهها. المدن التي عشنا بعمقها, فعاشت في أعماقنا.

دمج الذات

          في قراءتي لما كتبه بعض المبدعين عن مدنهم القديمة, بحثت عن دوافعهم للكتابة, فلم أجد أي اختلاف, فالدوافع واحدة, هي الحب العميق, الحنين الجارف لملهى الطفولة, وحكايات الصبا والشباب, الأهم, هو التأكيد على أصالة تلك المدن, وعلاقة الإنسان بها والارتباط بناسها وطقوسها وتراثها وتقاليدها, وتأثير كل تلك الأجواء في مسيرة حياتهم, تغذية مواهبهم وإغنائها بالمادة الخصبة.

          أما الأشكال التي اختاروها في الكتابة فقد تنوعت. بعضهم اختار أن يكتب سيرة المدينة ذاتها, مؤرخاً لبعض الأحداث المهمة فيها, كما فعل: يحيى الفرحان عن مدينة رام الله في كتابه (قصة مدينة) وعدنان الملوحي عن حمص في كتابه (بين مدينتين) وأمين الريحاني عن مدينة بعلبك في (كتاب خالد) وهشام شرابي في كتابه (صور من الماضي) عن مدينة عكا. وخالد زيادة في كتبه الثلاثة: (بوابات المدينة والسور الوهمي), و(يوم الجمعة يوم الأحد), و(حارات الأهل. جادات اللهو) عن مدينتي بيروت وطرابلس.

          بعض الكتّاب وهو يكتب سيرة المدينة, دمج بها سيرته الذاتية, كما فعل محمد خضير في (بصرياثا), وعبدالرحمن منيف في (سيرة مدينة) - عمان - وبعض الكتاب كانت سيرة مدنهم من خلال أعمال روائية بديعة. نجد القاهرة القديمة في روايات نجيب محفوظ, نجد مدينة طنجة في (الخبز الحافي) و(الشطار) لمحمد شكري, ونجد اللاذقية في (بقايا صور) و (المستنقع) وغيرها لحنا مينة, وفي السيرة الذاتية للكاتب نفسه نجد المدينة في كتاب (الشجرة التي غرستها أمي) لبديع حقي. و (الطاحون) للدكتور محمد جمعة. كما نجدها عند سيف الرحبي في (منازل الخطوة الأولى.. الأمكنة والحنين), وأمير تاج السر في رائعته (مرايا ساحلية) وغيرهم كثيرون, لا يتسع المجال لذكرهم, وبعض الكتّاب مروا سريعاً على المدينة من خلال المذكرات والصور الفوتوغرافية.

          في قراءتي لهذه الكتب وغيرها, وجدت تشابها كبيراً بين المدن العربية, أحسستها مدينة واحدة, من حيث الشكل, الصور, الأبنية, علاقات الناس, تراثهم, معتقداتهم, وعاداتهم, مما يؤكد وحدة الوطن العربي, ووحدة الإنسان فيه, رغم وجود بعض الاختلافات البسيطة, أغلب المدن القديمة كان لها سور وبوابات, ثلاث, أو أربع حسب مساحة المدينة. والسور حماية للمدينة من الغزاة والأغراب, والحراسة في الغالب تكون فوق سطح البوابات حيث تكون على شكل قلاع صغيرة ذات فتحات تسمح بخروج فوهات المدافع. والبوابات تفتح عند صلاة الفجر وتغلق بعد صلاة المغرب قبل حلول الظلام. ومن عاش الكويت القديمة يتذكر سورها الذي هدم عام 1954 وظلت بواباته الأربع حتى اليوم. نادرة هي المدن التي لم يكن لها سور أو بوابات. وقد جاء في وصف الروائي محمد خضير عن مدينة البصرة: (كانت مشرعة بين كلاليب الدياجير وتحت سيوف الظهيرة. بوابات انتهكها الغزاة والفاتحون المدرعون الكالحون وقد حملوا تحت خوذهم الطاعون. والسفلس والتمائم المسمومة والشهوات السود) وفي كتابه (الطاحون) يصف د. محمد جمعة بوابة الجابية: (من هذه البوابة دخل المسلمون الفاتحون, وطردوا الرومان, والبوابة هي جزء من السور الذي يحيط بمدينة دمشق القديمة).

روح المكان

          في وصفهم للمدينة القديمة نتعرف أنها تتكون من أحياء متلاصقة, شوارعها متفرعة دون انتظام, محددة بالجدران العالية أو المنخفضة, أو مستقيمة يظللها الشجر وغير مسفلتة, شوارع ضيقة لا يتجاوز عرضها ثلاثة أمتار. تتفرع منها أزقة ضيقة فرعية نهايتها غالبا ما تكون مسدودة. شوارع مستقيمة أو متعرجة, ضيقة, نظيفة أو وسخة, أما البيوت فهي في كل المدن العربية متشابهة إلى حد كبير. في (مرايا ساحلية) يصفها أمير تاج السر: (من حجر خشن وسقوفها من الأسبست. حوائط قصيرة عارية بلا صبغة). وفي (بصرياتنا) يصفها محمد خضير: (بيوت سطوحها الخارجية مصبوغة, خالية من الفتحات أو النتوءات, أو الملصقات). أو كما يصفها عدنان الملوحي: (خليطاً من الغرف المسقوفة بالطين والخشب والقصب). نجد اختلافات بسيطة, هناك بيوت تزرع الشجرة وسط ساحة حوش البيت, أو تحفر بركة ماء, وشبابيك البيوت عبارة عن طاقات صغيرة تطل على الشارع, وتؤطر بالخشب أو الحديد.

          أما الأسواق فأشكالها, وأجواؤها واحدة, أسواق مسقوفة, تصطف فيها الدكاكين متلاصقة على غير انتظام, وتكون هذه الدكاكين ساحة دائرية هي المركز الرئيسي للحي.

          أو أسواق طويلة تتفرع منها أزقة ودروب وحارات داخلية, في أغلب الأسواق يجلس أصحاب الدكاكين فوق بسطهم أو على دكك تبنى خارج الدكان.

          لم تخل مدينة قديمة مما يسمى بسوق الجمعة, وهو سوق يقام في فسحة مشتركة تتنوع فيه كل أصناف البضائع وحتى الأدوات والملابس المستعملة, ولا يخضع هذا السوق لنظام سعري أو أوزان أو مقاييس. ويرتاده الناس للشراء أو الفرجة. ولاتزال كل المدن العربية تحافظ على وجود هذا السوق. في الكويت القديمة كان يقام في ساحة الصفاة, واليوم كل من يسكن الكويت يعرف مكانه. ولا يخلو سوق مدينة عربية من - المقهى - فهي جزء مهم من السوق وحياة البشر, المقاهي لا تغلق أبوابها حتى ساعة متأخرة من الليل. يتجمع الناس فيها للعب النرد والكوتشينة والدامة. يشربون الشاي والقهوة والنارجيلة, ينتشر فيها ماسحو الأحذية, وكتاب العرائض, والعاطلون عن العمل والشحاذون والمهرّبون. والمقهى قديما هو المحطة الأولى التي يؤمها القادم إلى المدينة, وهو مقر التقاء التجّار ورؤساء العشائر, وليس المقهى مكانا للالتقاء وتبادل الأحاديث والاستماع إلى الأقاويل والإشاعات فحسب, بل هو المكان الذي تعقد فيه الصفقات التجارية, والمصالحات بين المختصمين, وتدور فيه أخبار البلاد وأحاديث السياسة والفكر. ويقرأ الشعراء قصائدهم. ويطلق الظرفاء نوادرهم, ومن لوازم المقهى الحاكي أو (الجرامافون) الذي تنطلق فيه أصوات المطربين والمطربات أمثال سيد درويش, منيرة المهدية, أم كلثوم, وعبد الوهاب, في الكويت القديمة كان مقهى (أبو ناشي) أشهر المقاهي وينطلق منه صوت محمود الكويتي وعبداللطيف الكويتي.

          تميزت المقاهي القديمة بوجود - الحكائين - الذين يعودون بعد السفر من البلدان محمّلين بالحكايات, وكذلك الحكواتي الذي يجذب الرواد إلى المقهى وهو يسرد التاريخ القديم, أو قصص التراث (ألف ليلة وليلة) و (الزير سالم) وغيرهما من الحكايات أو يخترع قصصا من خياله. في كتابه (بصرياتنا) يصف الكاتب محمد خضير الحكواتي: (تجد نفسك أمام رجل يرتدي ثوبا من الكتان الأبيض وسروالا طويلا. يكور كوفيته البيضاء على رأسه ويطوي عباءته على كتفه ويبدأ حكاياته). أما سيف الرحبي في (منازل الخطوة الأولى) فيكتب عن شخصية الحكواتي (مراش) الذي يضع (المدوخ) في فمه ويتحلق الناس حوله وهو يسرد قصص البطولات والأسفار والملاحم ويعرض بعض حكاياته عن رحلاته والبلاد التي عبرها). أغلب الكتاب عرضوا لتلك المقاهي بحب وعشق. فقد كانت المكان الذي التقطوا منه الأحداث والشخصيات, وتأثروا بأجوائها التي حركت بدواخلهم بذور مواهبهم, وفي بعض مدن الوطن العربي, لم يفقد المقهى مكانته القديمة, لكن التغييرات الحديثة غيّبت بعض ملامحه, فغاب الحاكي والحكّاءون, وظل روّاده من المثقفين والشعراء.

          لا يخلو أي سوق من أسواق المدن القديمة من (حمام السوق العمومي) الذي يتوسط الأسواق, بناء من الحجر, دائري أو مربع, يتوسطه مغطس كبير حوله دكات عريضة يستريح عليها المستحمون, وتصف على رفوفه المناشف والليف, وهو ليس مقصورا على الرجال فهناك يوم للنساء, وكما تتم بين الرجال في الحمام بعض الصفقات, فإن حمام النساء تتم فيه خطبة البنات لأن الأمهات الخاطبات لأبنائهن يتمكن من رؤية شعور وأجساد البنات وتفحصها.

          في أغلب أسواق المدن القديمة نجد (سوقا للحريم) في هذه الأسواق تقوم النساء ببيع البضائع الخاصة بزينة المرأة, أو بالأدوية التي يحتجن إليها للولادة والنفاس والرضاعة, وتوجد فيه ماشطات الشعر, وضاربات الودع والممارسات لفن السحر, ولايزال سوق الحريم في الكويت.

          تتشابه المساجد في المدن القديمة من حيث موقعها فهي غالباً ما تكون في قلب الأحياء أو قريبة من الأسواق, جوامع بسيطة مبنية من الطين أو الآجرات المربعة, والمآذن قصيرة والقباب طينية, وفي ساحة المسجد تصف الأباريق للوضوء, بعض المدن امتازت بجوامعها الأثرية, وبعضها أصبح كالمزارات حيث يتناقل الناس كرامات تروى عنه, فيقبلون عليه طالبين البركة, والمسجد ليس مكانا للصلاة فقط ففيه تقام الجلسات الدينية ويدرس الشباب علوم الدين.

مقابر ومباغ

          لا يغفل كاتب أن يشير إلى موقع المقبرة في مدينته القديمة, فهي المكان الذي يدفن فيه الموتى وكثيرها يترك بلا شواهد أو أسماء. وهي أماكن يؤمّها الصبية الصغار. يلهون بها ليصطادوا بعض الحشرات والديدان لتكون غذاء لأفخاخ الطيور. لكنها أيضا تكون المكان المرعب الذي يشاع أن الجن والعفاريت وساحرات الليل تسكنه. كما تكون المقابر مأوى اللصوص والمهرّبين أو وليمة للجوارح بعد أن ينبشها بعض الصبية العابثين. كثير من الكتّاب وصفوا المقابر وعلاقة طفولتهم بها إذ كانوا يرافقون آباءهم وأمهاتهم في الجنازات أو الزيارات في الأعياد.

          وكل سير المدن القديمة لا تخلو من وجود ما يسمى (المبغى) الذي غالباً ما يكون في الشوارع الضيقة. تكون أضواؤه متلألئة, وحركته دائبة ليل نهار, ويسمى بالمحل العمومي, ولا تخلو رواية عربية لمسيرة كاتبها من ذكريات المباغي, وبعضهم كتب عن حياة النساء الممارسات لهذه المهنة وبعضهن كان يلعب أدواراً في حياة المدينة. وفي الكويت كانت منطقة (الرميلة) وقد استطاع القاص وليد الرجيب أن يقدم صورة واضحة عن تلك المنطقة, من خلال شخصية (رومية) التي كانت تثير إعجاب الرجال وعشقها كبار القوم وصغارهم.

          السينما... متعة الكبار والصغار, ليس لها مبنى خاص, ولا يتوافر في أمكنة عروض الأفلام ما يتوافر اليوم. في الغالب تكون عبارة عن حوش مفتوح, تنتصب فيه قماشة بيضاء على حوامل من الخشب أو الحديد, يبدأ العرض بعد غروب الشمس وتخصص أماكن للنساء اللائي يخرجن بعد انتهاء الفيلم قبل الرجال, يباع الشاي وبعض الحلوى في السينما, وأما الأفلام فهي في البدايات أفلام عن حياة الشعوب المجهولة. وأفلام صحية وإرشادية, ثم بدأت تغزوها الأفلام العربية, كثير من الكتّاب شاركوا في وصف متعتهم وهم يتسلقون المرتفعات أو الأسطح القريبة ليشاهدوا الأفلام من الأعلى, لكنها لا تمدهم بكامل الصورة, وللسينمات أسماؤها التي تتغير وغلبت عليها أسماء: أمير, الثورة, النصر, الساحة, وغيرها من الأسماء.

خير صديق

          كل الكتّاب الذين كتبوا سيرهم, أشاروا إلى وجود المكتبة, وأهميتها, وعن العلاقة التي تشكّلت بينهم وبينها, وقد كانت القراءة فعلا يوميا, أكثرهم قرأ مجلة الرسالة, والثقافة وكتب السير والتاريخ وأدب المهجر, والعقد الفريد والأغاني, كانت المدينة القديمة تحث على القراءة, والأجواء التي عاشها ناسها حرّضتهم على تثقيف أنفسهم وفرضت عليهم سلوكاً رزيناً في عمر مبكر. كل الكويتيين يذكرون مكتبة (الرويح) أول مكتبة.

          وكما كتبوا عن المكتبات التي أدمنوها, كتبوا عن أماكن التعليم, بدءاً من الكتاتيب, ثم المدارس البسيطة, التي اندفعوا إليها بشغف ورغبة, وأشاروا إلى أهمية المعلم, وتقديرهم له, وذكر بعض أسماء المعلمين كان لهم الفضل الكبير في تهذيبهم وتشجيعهم, وكانت المدارس تقوم بأنشطة عدة, كالرياضة والمسابقات, والتمثيل, ومسابقات حفظ القرآن, ولم يغفل كاتب الإشارة إلى المستشفيات التي كانت تستعين بالأطباء الأجانب لكنها لم تمنع استمرار وجود الحجامين الذين يمارسون التطبيب بكاسات الهواء والكي, وبعض الشيوخ ممن يمارسون إخراج العفاريت من الجسد وكتابة الحجب وقراءة القرآن في (طاسة الرعبة).

          أجواء الأعياد وشهر رمضان وليالي الأفراح من أعراس وموالد, وطهارات تتشابه إلى حد كبير في كل المدن القديمة, وكذلك الألعاب الشعبية, وأغاني النساء لأطفالهن والحياة الاجتماعية في كل المدن القديمة. فللرجل حرية الحركة والخروج متى شاء, والزواج من عدة نساء, وللمرأة البيت وأعماله والاهتمام بالرجل, أما البنات فخروجهن نادر حتى يتزوجن ويجدن سجناً آخر بانتظارهن, وتسود في مجتمع المدينة القديمة روح التآلف والتكافل والتعاون, مجتمع بسيط وفقير لكنه لا يجوع.

          شخصيات مجتمع المدن القديمة لا تختلف من حوائين, ودلالين ودلالات, دلاكي الحمام, الندافين, المؤذنين, حذائي الحمير والخيل, والمرضعات ومجدلات الشعور, وحلاقين, وماسحي الأحذية والمشعوذين والذباحين والخياطين, ومغسلي الموتى, والمجانين والمهرّبين.

          ويعتبر كتاب (مرايا ساحلية) لأمير تاج السر, أنموذجا رائعاً للكتب التي ركّزت بالدرجة الأولى على شخوص المدينة القديمة, شخصيات ذات سمات وطبائع مختلفة, وبعضها له أفعال غرائبية إن كانت تثير الحزن والشفقة فإنها في ذات الوقت قادرة على إثارة الرعب والفزع مما يقلق نهارات المدينة ولياليها. تلك الشخصيات التي تفرزها بعض الأحياء تنعت بأسماء أحيائها أو بنعوت مختلفة للتعريف بها. وقد كانت تلك الشخصيات جزءاً لا يتجزأ من أجواء المدن القديمة. لذلك لم يغفل كاتب أن يذكرها. وقد كان لبعضها أثر واضح إن سلبا أو إيجابا في حركة المجتمع. وإن كان كتاب سيرة المدن قد عرجوا على ذكر تلك الشخصيات من قبيل وصف دقيق لحياة الناس. إلا أن الأدباء قد استفادوا منها لتتحول أبطالا وبطلات لكثير من أعمالهم الأدبية, مما يؤكد العلاقة الحميمة بين الكتاب وبيئتهم التي تشبّعوا بها وساهمت في تكوين عناصر موهبتهم وأثرتهم بالصور, والأحداث, فجاءت كتاباتهم صادقة, ناضحة بعطر الواقع الذي عاشوه حقيقة. وليس كما يفعل بعض كتّاب هذا الجيل ممن يتقصدون دس بعض الكلمات القديمة في نصوصهم, أو ذكرهم لمناطق سمعوا أو قرأوا عنها, وهذه محاولة بائسة لخداع القارئ بأنهم تأصلوا في المدينة القديمة.

بشر وتقاليد

          ماذا عن مدينتي القديمة؟!

          تلوح لي الآن كأنها قلب أمي يصطفيني بحنانه بعد الغياب, تفتح أمامي أبواب سورها القديم, فيشرع وجهها الحبيب, أندس في قلبها, أتفقد أحياءها, أسواقها, بيوتها, أتحسس وجوه ناسها, أستعيد حكاياتها, فلا أجدها في كثير من جوانبها تختلف عن المدن العربية الأخرى التي قرأت ما كتبه ناسها عنها, إلا أنها تحتفظ ببعض الخصوصيات التي لا تخلو منها مدينة عربية أخرى, خصوصية مكان, وبشر, وتقاليد.

          لم تغب مدينتي القديمة عني, ولذلك لم تغب عن كتاباتي الأدبية من مقالة, قصة, ورواية, على أنني أحتفظ بالجانب الأكبر منها ليدخل ضمن كتاب (سيرتي الذاتية) الذي أعمل به, كثيرون كتبوا عن الكويت القديمة, وتنوّعت تلك الكتابات شاملة جميع مناحي الحياة السياسية, الاجتماعية, الفكرية, والتراثية.

          كتب عنها بعض الرحالة من عدة جنسيات عبروها خلال رحلاتهم, أذكر منهم بعض ما ذكره الكاتب البحريني خالد البسام في كتابه (مرفأ الذكريات رحلات إلى الكويت القديمة) سبعة من الرحالة كتبوا, منهم الأمريكية (فيتشر) الذي وصلها عام 1868 وأصدر عنها كتابا تحت عنوان (مع النجمة والهلال), وقد قام بترجمته الأستاذ عبدالله ناصر الصانع. والرحالة الإنجليزي (ويليامسون) الذي بدأ رحلته من الهند واعتنق الإسلام هناك, ثم وصل إلى الكويت عام 1893 ونشرت بعض تفاصيل رحلته في كتاب (الهارب إلى الله), والرحالة الهندي (كرستجي) الذي وصلها عام 1916, وهناك رحالة كثيرون سبقوا هؤلاء وأشير لهم في بعض مؤلفات الكويتيين, أغلب الرحالة الذين كتبوا عن الكويت أشادوا بشهامة أهلها وكرم أخلاقهم.

          لعل من أهم الكتب التي ألفت عن الكويت كتاب (الكويت وجاراتها) الذي ألفه المعتمد البريطاني في الكويت الكولونيل هارولد ديكسون الذي عاش بها منذ عام 1929 حتى عام 1959 ودفن فيها حسب وصيته, وقد عرف باسم (أبو سعود). قام بترجمة الكتاب د. فتوح الخترش.

          ولم تبخل بعض النساء الأجنبيات أن يكتبن عن الكويت بحب, وصدق, نساء جئن مرافقات لأزواجهن, أشهرهن (فيوليت ديكسون) زوجة الكولونيل ديكسون وسميت (أم سعود) وكانت لها منزلة كبيرة عند الكويتيين. أول كتاب قامت بتأليفه عن (الزهور البرية في الكويت), ثم كتابها الشهير والمهم (أربعون عاما في الكويت). المرأة الثانية هي (د. إليانوركا ليفرلي) التي عملت في المستشفى الأمريكاني عام 1913 وألفت كتابها (كنت أول طبيبة في الكويت).

          الثالثة كانت زهرة ديكسون الابنة التي عشقت الكويت كما فعل والداها, وألفت كتابها (الكويت كانت وطني).

          هذه الكتب الثلاثة من أجمل وأهم ما كتب عن الكويت القديمة, لقد كتبت بحب كبير وصدق شديدين, وأيضاً لأنها كتب تدخل ضمن أدب السيرة الذاتية والتي من خلالها أرّخ لمسيرة مدينة كاملة.

مدينتي... غواص قديم

          حين كتب الكويتيون عن مدينتهم القديمة, توزعت تلك الكتابات ما بين التاريخ والتصوير والتسجيل والمذكرات, من بين المؤرخين المؤرخ الأول عبدالعزيز رشيد في كتابه (تاريخ الكويت) وأكثر من كتاب للمؤرخ سيف مرزوق الشملان, منها (من تاريخ الكويت) و(تاريخ الغوص على اللؤلؤ) والمؤرخ أحمد مصطفى أبو حاكمة في كتابه (تاريخ الكويت) وعبدالله الحاتم في كتابه (من هنا بدأت الكويت).

          كثيرون بعد ذلك تولوا الكتابة عن الكويت القديمة, بحيث غطت هذه الكتابات كل مناحي الحياة فيها, عن الغوص, أغاني الغوص, نواخذة الغوص, كتبوا عن تاريخ العلم, والعملة, والطوابع, وعن مناطقها وجزرها, عن أنسابها وقبائلها, عن مدارسها ومساجدها وأسواقها, كما شملت الكتابات كل شيء عن تراثها, تقاليد الزواج والأعراس, أمثالها وقطاويها الشعبية, واللهجات, ألعاب وأغاني الأطفال, طيورها, ونباتاتها, وعن شخصياتها التي كان لها دور بارز في مجالات العلم, السياسة, والأدب, وكما فعل المؤرخون والمؤلفون, فعل الشعراء القدامى, وبعض المصورين ممن التقطت كاميراتهم البسيطة مشاهد المدينة القديمة, والفنانون التشكيليون ممن احتفظت ذاكرتهم بالقديم فرسموها لوحات رائعة, كالفنان أيوب حسين.

          لو أردت استعراض الأسماء التي نشطت في الكتابة عن المدينة من النساء والرجال لما استطعت حصرها والورقة لا تحتمل ذلك. لكنني وأنا أقلب عشرات الكتب, كنت أتمنى أن أجد ضمنها رواية لكاتب كويتي أو سيرة ذاتية كما فعلت النساء الأجنبيات, لكنني مع الأسف لم أجد, وبقيت ظلال المدينة القديمة ودفئها محصورين في بعض قصص قصيرة لعل أكثرها في قصص سليمان الشطي, سليمان الخليفي ونجدها في رواية (بدرية) لوليد الرجيب التي تدور أحداثها في الأربعينيات, ورواية (سماء مقلوبة) لناصر الظفيري, كما نجد لديهما شخصيات مميزة في زمنهما, لكن هناك كتابات تدخل ضمن (كتب المذكرات) كـ (مذكرات) أحمد السيد عمر, و(مسافر في شرايين الوطن) للأستاذ حمد الرجيب, وغيرهما.

          ليس أمتع من أن تتجول كاتبة مثلي - تعشق مدينتها القديمة - تتجول في المدن العربية القديمة من خلال كتابة مبدعين ومؤرخين, لقد انهالت علي روائح المدن, شيء يحمل زفر البحر, وآخر عطر الرمل والطين والإسفلت. التقيت وجوه أناسها المختلفين, استمعت لغناء, ومواويل, ورقصات, وأذان المساجد وأجراس كنائس, شممت فوح الحنين النازف من قلب وقلم كل كاتب. غمرتني المدن القديمة بحنانها وعذوبة ذكرياتها. حتى تمنيت أن أغمض عيني وأفتحهما لأجدني في ذلك الزمن الماضي, فأفر إلى قلب مدينتي البسيطة عائفة كل هذا الترف الذي حولنا إلى ما يشبه الدمى المتحركة - بالريموت كونترول - لقد فقدنا كل حسّ تجاه البساطة في العيش. فقدنا تلك الدهشة الضرورية المثيرة للأسئلة والبحث, وفقدت أجيالنا متعة الحلم والأماني بعد أن أصبح كل شيء متاحا ومتوافراً بلا تعب أو عرق جبين, مما لم يكن متاحا لنا نحن, ذلك الجيل الذي عاش دفء المدن الصغيرة بتلك البراءة النادرة, من كنا نغط في الليل على الحكايات فيعمل خيالنا لاقتطاف حكايا جديدة, ويبحث عن الأسرار المخبأة في صناديق الساحرات والعجائز النحيلات, والجدات ذوات الروائح الأليفة.

          لقد دفعتنا مدننا القديمة حتى بقسوة تقاليدها أن نتعلم ونحلم. حشدت ذاكرتنا بمادتها الخصبة, عشنا تجارب الكبار واستفدنا منها, وكانت لنا تجاربنا الصغيرة التي لملمناها في صناديق الروح, حتى صرنا كباراً نخوض تجاربنا الكبيرة, فنجد لها روافد من الزمن الماضي نغرف منها, ونستمد شحناتنا للكتابة, وهكذا كتبنا بصدق

 

لـيـلى العـثمان