أنغام

  طه حسين
        

          أراه من بعيد ولا أقترب منه. كان هناك يخوض معركته وحده, منحنيا وذراعاه حول رأسه, أشبه بطائر يطوي جناحيه. قطع الحجارة تنهال عليه, لحظة وأخرى ويندفع الأولاد مختفين بالحواري, يقف بعدها مشدودا متلفتا حوله, ويتخذ طريقه عائدا إلى بيته.

          البيت من طين على الترعة, حجرتان وحوش, يعيش مع أمه العجوز, تربّي الدواجن وتبيعها في السوق. أتبعه. يسير وسط ظلال الأشجار على شط الترعة, وألمح العجوز أمام البيت تظلل عينيها بيدها في مواجهة الشمس لتراه عائداً.

          عادة أجدني ألتفت إليه حين أراه. لا أدري سبباً لذلك, لم يكن بعد لفت الأنظار إليه, ربما شروده واستغراقه مع نفسه, وربما محاولته أن يبدو في هيئة نظيفة, الجلباب الأبيض المكوي, الحذاء اللامع, والمنديل المطوي يمسح به شفتيه من حين لآخر, وما كان يقال عن شجاره مع أمه حين تعجز عن توفير طلباته, وربما أيضا ما يعلنه من شغف شديد بطه حسين, وكان قرأ كل مؤلفاته وحفظ الكثير منها, يتلو مقاطع طويلة حين يتصادف وجوده مع زملاء له, وكانوا يقاطعونه صائحين:

          - الله... الله.. أعد.

          لا ينتبه لانسحابهم من جواره, يظل في مشيته المتهادية مستقبلا الخلاء على الطريق الزراعي وصوته يعلو متهدّجاً.

          ويوما ناداه أحدهم من قبيل المزاح (يا شيخ طه), والتفت. جاءت التفاتته طبيعية وكأنه اسمه, حتى أن مَن ناداه أصابته الدهشة, وبمرور الوقت أصبح الجميع ينادونه بالاسم الجديد, وربما وجدوا فيه ما يرضيهم من غمز.

          كنا في المدرسة الثانوية نفسها, هو في السنة النهائية, يكبرني بعامين, يقف في الحوش وقت الفسحة في ظل شجرة, وقورا هادئا, ينتظر على ما يبدو أن يسعى إليه البعض من زملائه, غير أنهم كانوا دائما منصرفين عنه, يبحثون عن مكان منزو يدخنون فيه السجائر.

          ولبس النظارة القاتمة, ظهر بها أول ما ظهر بالمدرسة, نفس وقفته في ظل الشجرة ويده في جيب السترة, يمد رأسه ويميل بها خفيفا كأنما يرهف السمع لصوت لا يراه. ربما كان ذلك بداية التحرّش به, صاحوا به:

          - عميت يا شيخ طه؟

          قال إن الضوء يؤلم عينيه.

          - امبارح كانت سليمة يا شيخ طه؟

          - يكون الأستاذ جاءك في المنام؟

          - وقال لك اتبعني يا بسيوني.

          - طب سمّعنا موال من مواويله.

          يضحكون حوله في صخب, يبتسم خفيفا وكأنما يغفر لهم. في وقفته بظل الشجرة كان هدفا لضربات الكرة, تصيبه في غفلة, وحين تستهدف وجهه ينحني في اللحظة الأخيرة بعيدا عن مسارها, وأعقاب السجائر المشتعلة يدسّونها في جيب سترته, وحين يرتفع منها الدخان تظهر فجأة كيزان المياه يدلقونها فوقه. ويوما اشتبك معهم, جذبني الصياح, كان هناك بينهم نحيلا هزيلا, يتشاجر كالبنات, يداه ممدودتان تصدّانهم, يحاولون نزع النظارة عن عينيه, وأراد اثنان كانا يقفان بجانبه أن يسحباه بعيدا, لم يستجب لمحاولتهما, تهدّلت سترته وتمزّق جيبها العلوي, ارتفع صوته ردّا على همس بجواره:

          - بص لهم. رضوا بجهلهم ورضي جهلهم عنهم.
قال مدرس كان مقبلا على الصياح:

          - لم أقرأها أو أسمع بها من قبل يا بسيوني. أهو الأستاذ؟

          انفضّ الأولاد بعيدا, كان يلهث مسويا سترته:

          - هو. قالها ردّا على سفالة نكرة من الكتاب.

          كان التحرش به محصورا في المدرسة, ثم امتد إلى الخارج حين رأى أن يكلم الناس بالفصحى, أخبرني فيما بعد أن العامية أشبه بمجرى ماء عكر يحمل كل ما يقابله من طحالب وقاذورات, الفصحى رائقة مصفاة. رنينها عذب.

          وقال: لا تظنه كلام الأستاذ, هذا كلامي.

          كان يحرص في حديثه معي على أن يفصل بين كلام الأستاذ وكلامه. ومع الوقت كان يسهو, وأجدني لا أفرّق بينهما.

          يخرج من البيت بعد العصر, مشواره اليومي, يسير على مهل متجها إلى الطريق الزراعي, ربما ليخلو إلى نفسه أو مبتعدا عن زحام شوارع البلدة, بيده عصا يتحسس بها الطريق, والنظارة القاتمة على عينيه, يتعثّر أحيانا بحجر ويكاد ينكفئ, أشعر لحظتها بأنه لا يبصر, ويبتعد في الخلاء, أتوقف وقد أخذ ضوء الغروب يغمر أطراف الزرع على جانبي الطريق, البلدة لا تستريح لمن يخرج على إيقاعها. كانوا يتناقلون أخبار مشاحناته مع الباعة في السوق, وما يقوله من كلام لا يفهمه أحد, وشتائم لم يسمعوا بها, والشراسة التي ظهر بها فجأة (طول عمره وهو في حاله), ويضربون كفا بكف (عقله شطح واللي كان كان).

          وقف أمام محل الجزار, لم أره في مثل هذه الهيئة من قبل. وجهه شاحب مكفهر. جلبابه الذي كان نظيفاً دائماً ملطّخ بالطين الجاف, أزراره مهشّمة, ما تبقى منها لم يثبت داخل العروات, كشفت الياقة المفتوحة عن عظام صدره الناتئة, صوته عميق النبرة, ليس الصوت الذي أعرفه, يشير بعصاه إلى اللحم المعلق بالخطاف:

          - يا قصاب. أعطني نصف كيلو دون عظم.

          الجزار على ما يبدو قد سمع به أو رآه من قبل, أخرج مبسم الشيشة من فمه وغمغم:

          - قصاب؟ قصاب يا ابن زينب. امش من هنا.

          - لغة منحطة. أنا لا أتسوّل, أعطني ما طلبته.

          - يا فتّاح يا عليم. ساعة صبح يا ابن...

          - خسئت. سباب من فم ملوّث.

          اندفع الجزار مزمجرا, وربما ظن أن بسيوني سيطلق ساقيه للريح أمام هياجه, فوجئ به في وقفته ساكنا, هدأ الجزار في لحظة:

          - أستغفر الله. يا ابني, إلهي يسترك, بلاش لحمة في اليوم القطران ده. اتكّل على الله.

          التفت بسيوني, بدا أنه تذكّرني كزميل في المدرسة. خاطبني.

          - أرأيت إلى هيكلهم المتهالك, وأصنامهم الغبراء.

          واستدار ومضى.

          هم أيضا لا يتركونه في حاله, يناديه البعض من المقاهي والمحلات مستخدمين كلمات بالفصحى:

          - يا شيخ طه. إلى أين؟

          - انتظر لعنة الله عليك.

          يمشي وخلفه جمهرة من الأولاد, يتوقفون حين يتوقف ليكلم أحدا. يستمعون إلى ما يـــقول ويتــبادلون النظرات. ويوما تبعوه حتى خرج من شــــوارع البلدة وراحوا يناوشونه بقطع الحجــــارة, يقـــــذفونها بتراخ, تسقط غير بعيدة عنه أو عند قدميه, كان لا يلتفت إليهم, عادة يتوقف على الكوبري قبل أن ينطلق إلى الطريق الزراعي, منحنيا على السياج ينظر إلى المياه, ما إن يستدر حتى يعودوا إلى قذفه بالحجارة التي تنال من ساقيه وظهره, ويصيح ولد منهم:

          - خسئت يا ابن زينب.

          ويوما أصاب حجر رأسه, لوّث الدم أصابع يده وصدر جلبابه, سرت به إلى بيته, كان طوال الطريق صامتاً, ورعشة تسري فجأة في جسده فيتوقف لاهثاً ثم يواصل السير, استقبلتنا أمه بصرخة: يا ابني!

          أرقدته على الكنبة في الحجرة:

          - دثّريني يا أمي.

          غمغمت بصوتها الباكي: إزّاي يا ابني؟

          غسلت له الجرح, ووضعت عليه قليلا من البن. استرخى متنهداً:

          - أنت في الفصل الثاني.

          الحجرة ضيقة, طبلية مائلة على الحائط, مصباح زجاجته نظيفة, حصير قديم, الكتب بامتداد جدارين, متراصّة فوق بعضها على ألواح من الخشب تعزلها عن الأرض الطينية, الأم قعدت على عتبة الحجرة وظهرها لنا, تبكي دون صوت, تعلّقت عيناي ببعض الكتب كانت دون غيرها مغلفة بورق شفاف. قال:

          - آه كتبه. قرأت له؟

          قلت: لم أقرأ.

          - إن أردت. خذ منها ما تشاء. كلها هنا.

          صمت قليلا ثم قال:

          - ابدأ بالأيام. سيرته. سترى كيف ينشأ ويتكون المفكر الكبير, بداية وعيه, الإصرار, العناد, الهدف, نزع القشرة الزائفة, كتابه في الشعر الجاهلي, أو مستقبل الثقافة في مصر, بحث عميق, ليس مجرد معلومة جديدة, لكنه دعوة لإعادة التفكير في الميراث القديم, هو الأعمى كان يبصر أكثر من غيره.

          صوته منفعل, وعيناه شبه مغمضتين, سكت فجأة:

          كانت تلك بداية علاقتنا, يسير وأسير بجواره, هو على ما يبدو اتخذني تلميذا له, الأولاد حين رأونا معا كفّوا عن قذف الحجارة, ظهروا يوما وآخر, وساروا خلفنا, ثم اختفوا بعد ذلك, يحدّثني عن مواقف الأستاذ ومعاركه:

          - انظر في آخر كتابه الشعر الجاهلي, هذه نسخة نادرة, ستجد وقائع محاكمته, قصصتها من مجلة وألصقتها به, كان لابد أن يحاكموه, أزعجهم, أفسد طمأنينتهم البلهاء.

          لم أكن برفقته يوم حدثت واقعة عم (أحمد) الاسكافي, الرجل منكفئ داخل دكانه الصغير المظلم, يتحسّس جوانب فردة حذاء, متأهبا لدق مسمار, فوجئ بمن يسد فتحة الدكان ويحجب الضوء, فمه مطبق على مسامير صغيرة يستخدمها منعته من الزمجرة, جاءه صوت بسيوني:

          - يا نعّال. أصلح هذا الحذاء إن سمحت.

          ورأى عم أحمد الحذاء يوضع بجواره, لم تشفع كلمة (إن سمحت) قذف بالحذاء في عنف إلى الشارع فسقط في ماء غسيل كان متجمعا أمام الدكان, كاد ينحني مرة أخرى على فردة الحذاء, ثم بصق المسامير من فمه وقفز خارجا, أمسك بسيوني الذي وقف ذاهلا أمام ثورته وألصقه بالجدار, زمجر:

          - نعّال يا ابن الجزمة. أنا يتقال لي نعل؟

          الجسد هزيل طيع بين يديه. أفلته مغمغما:

          - أنت ابن زينب؟ طيب. والمسامير اللي ضاعت. هات الجزمة.

          غير أن بسيوني التقط حذاءه ومضى.

          كان هناك من حذر أبي من رفقتنا, قال أبي:

          - ابعد عنه. اللي زيّه ما يجيش من وراه غير المشاكل.

          كنت أتسلل عبر الغيطان لملاقاته على الطريق الزراعي, أخبرني أن الأولاد حين رأوه وحده عادوا لمناوشته بالحجارة. وقال:

          - لا أظن أن هناك مَن يدفعهم. ربما حين رأوا الكبار.

          وأخبرني في لقاء آخر أنهم من يومين تبعوه بعد أن غادر الكوبري, وما إن وصل إلى الطريق الزراعي حتى تكاتفوا عليه ودفعوا به إلى قناة ممتلئة ثم اختفوا, ملابسه المبتلة, والوحل الذي يغطيه, اضطر للاختفاء في حوض زرع حتى جاء الليل, فعاد إلى البيت. انتظرته يوما ولم يأت. كان ذلك عقب حصوله على الشهادة الثانوية. ذهبت إليه. أمه أمام البيت تنثر الطعام للفراخ والبط, لم تلتفت نحوي, كان مسترخيا على الكنبة, جلست على طرفها.

          قال إنه فكر طويلا وقرر أن يذهب.

          - أين؟

          - أبحث عن عمل في العاصمة, كما ترى. الظروف لا تسمح بالتحاقي بالجامعة, ربما فيما بعد, الكتب هنا, وقلت لأمي, إن احتجت إليها, ماذا تقرأ الآن؟

          - كتاب الأستاذ (مستقبل الثقافة في مصر).

          - تحدّثنا عنه؟

          - آه تحدّثنا.

          سافر بعد أيام, كنت برفقته على المحطة, لم أسمع عنه بعدها

 

محمد البساطي