التعليم العلمي والتكنولوجي... إنهاض الذات بألم المقارنة

مع بدء دوران عجلة العام الدراسي في جامعاتنا ومدارسنا العربية, تثور نقاشات حول قضايا التعليم, ولكن يظل موضوع التعليم العلمي والتكنولوجي أقلها اهتماما في هذه المناقشات, برغم أهميته الفائقة, التي انتبه إليها الآخرون!

  • لا يوجد تقدم علمي وتكنولوجي متعدد المجالات إلا بحريّة البحث وإتاحة الابتكار في ظل مجتمع مدني علمي التفكير
  • لم ننتبه إلى أن العلم والتكنولوجيا عنصر حاكم في القوة المدنية والعسكرية على السواء فسبقنا الأعداء, فهل نفيق!

          من غرائب التفكير المزدوج في ثقافتنا, نحن العرب, أن هناك مفاهيم نطبّقها في حياتنا الفردية, لكنها لا تنعكس على حياتنا الجماعية وممارستنا كوحدات بشرية أو اجتماعية أو سياسية. مثال ذلك مفهوم البحث عن ملمح خير في (الابتلاء) على اعتبار هذا الابتلاء امتحانا نكتشف خلاله قدراتنا الكامنة من العزيمة والصبر, ونكشف معه قوة عقيدتنا (الدينية). إنه موقف عبقري يستنهض احتياطات القوة في نفوسنا وأبداننا, ويحيلنا من مجرد متلقين للابتلاء إلى مقاومين له, ومنتصرين على آثاره السلبية بإيجابية نبيلة في أغلب أحوال هذا الابتلاء.

          لكننا نردد ما يزيد عن نصف قرن إن إسرائيل خنجر مسموم في قلب الأمة العربية (وهو ابتلاء أصابنا كجماعة), وننقل هذا الخنجر المسموم تارة إلى الظهر وتارة إلى الخاصرة! لكننا لم نمعن في هذا الخنجر وندقق في صناعته, وكأن مجرد إدانته ولعنه, في خطابنا الإعلامي, كفيل بإبقائه مؤلماً لكنه ألم لا يقتل, ومسموماً لكنه سم لا يميت!

          كون إسرائيل ابتلاء هذا أمر لاشك فيه, لكن لماذا لا نطبق مفهومنا العربي الفردي بشكل جمعي إزاء هذا الابتلاء الذي أصابنا جميعا ولا يزال? لماذا لا نجد فيه امتحانا يضع كوامننا موضع التساؤل, ويستخرجها, ولا يستنهضها, لا من أجل العدوان على الآخرين كما تفعل إسرائيل, بل لمجرد أن نكون جديرين بمكان لائق تحت الشمس? والمكان هنا ليس مجرد الرقعة الجغرافية, فهي شاسعة, بل إعمار هذه الرقعة بأفضل وسيلة ممكنة من أجل أفضل شرط ممكن لحياة البشر. وهذا لا يتوقف عند حدود خُمس البشر الطافين على السطح, بل يشمل بالضرورة - الإنسانية والأخلاقية - أربعة الأخماس الغرقى من مجموع سكان العالم العربي الغاطسين تحت سطح الجهل والتخلف والفقر!

شهادات وقرائن

          لقد علقت بذهني هذه الخواطر, بعد قراءتي لكتاب خطير ومؤلم عنوانه (التعليم العلمي والتكنولوجي في إسرائيل) للباحثة د. صفاء محمود عبدالعال, والذي قدم له أستاذ التربويين العرب الدكتور حامد عمّار, أطال الله في عمره وأكثر من فيض جهوده وأسمع صوته لمن ينبغي عليهم الإصغاء لهذا الصوت, المغرد وحيدا مع الأسف!

          هذا الكتاب الصادر عام 2002 هو نموذج للجهد المخلص في البحث العلمي الجامعي, فهو يحفل بثمار غزيرة من الرصد الحقيقي والمقارنات والأرقام والدأب الذي توافر للباحثة التي أجادت العبرية لتصل إلى المراجع والوثائق في لغتها الأصلية فتصبح شهادة دالة وقرائن حقيقية.

          يقول الدكتور حامد عمار في تقديمه للكتاب: (إذا كانت الحكمة ضالة المؤمن ينشدها أنّى وجدها, فلاشك في أن ما يجري في إسرائيل من إنتاج وتطوير واستيعاب وتوظيف وتعليم وبحث في ميادين العلم والتكنولوجيا, ينبغي أن يكون موضوعا لدراستنا والإفادة من دروسه وخبراته, فعلا ورد فعل, وقاية وعلاجا, استجابة ومقاومة إلى غير ذلك من التفاعلات الواعية من خلال المعرفة, لا من مجرد ردود أفعال عشوائية انفعالية في كثير من الحالات).

          إننا ننظر إلى الدولة اليهودية - في الأغلب الأعم - كخصم عسكري ونقارن قوتنا بقوته من خلال نتائج الحروب العربية - الإسرائيلية, والمواجهات الفلسطينية - الإسرائيلية, لكننا لم ننظر, ولو قليلا, إلى الآلة والآلية المنتجة لهذه القوة. ملأنا كل الصورة بالتصوّر العسكري, ففاتنا البعد المدني لهذا الكيان الصغير الخطير المزروع في قلب أمتنا, ولو نحينا تجارة السلاح المتطور الذي تُعد إسرائيل أحد باروناته الكبار في عالم اليوم, لو نحينا ذلك (برغم اعتماد صناعة هذا السلاح على العلم والتكنولوجيا) لفاجأتنا تفاصيل في الإنتاج العلمي والتكنولوجي المدني, عالي التطور, ومن ذلك, كمجرد أمثلة وليس حصراً:

  • زادت صادرات إسرائيل من المنتجات الإلكترونية من حوالي مليار دولار أمريكي في عام 1986, إلى قرابة ستة مليارات دولار أمريكي عام 1999.
  • طوّرت إسرائيل استخدام الطاقة الشمسية (السولارية) ووسعت استخدامها في تدفئة المنازل والأغراض المختلفة حتى وصلت إلى توظيف مليون وحدة طاقة سولارية في الفنادق والمصانع مما أدى إلى توفير مليار وثلاثة أرباع المليار دولار كل عام, إضافة إلى تصدير هذه الطاقة ومنتجاتها إلى الخارج.
  • أحرزت إسرائيل خلال السنوات القليلة الماضية مستوى دوليا عاليا في المجالات الطبية المتقدمة - خاصة البيوطبية - والهندسة الوراثية وأجهزة الاتصالات والكيماويات فائقة المستوى وآلات الموارد الطبيعية البديلة مثل مصادر المياه الضئيلة, وتطوير أنظمة الحواسب (الكمبيوتر) ومنتجات البيومعلومات (البيولوجيا والمعلومات) والصناعات (كثيفة العلوم) ذات الأبعاد الاستراتيجية.
  • تهتم إسرائيل الآن بتطوير التكنولوجيا فائقة الدقة أو ما يعرف بالنانوتكنولوجي, التي تقوم على دقة المنتج وتقليل حجمه وتوفير طاقة استهلاكه, ويعتبر الألماس هو أنسب اختيار لتصنيع الأجهزة اعتمادا على هذه التكنولوجيا. ولقد تجاوزت صناعة الألماس في إسرائيل أربعة مليارات دولار عام 1995 حيث أنتجت  ثمانين في المائة من الإنتاج العالمي من الحجر المصقول, ويبدو أن أغلب قطع ألماسات خواتم وعقود نساء العرب الأثرياء مصدره هذا الإنتاج!
  • تستخدم إسرائيل (الصناعة كثيفة المعرفة) التي تعتمد على المعرفة العالية من أجل الدقة وتنويع خطوط الإنتاج مما أنعش اقتصادها بشكل يتجاوز قدراتها لأنها بهذه التقنيات لا تستخدم إلا نصف الخامات والطاقة المستخدمة في كثير من الدول الصناعية.
  • في فترة الثمانينيات من القرن العشرين استطاعت إنتاج حاسبة متقدمة أسميت (إلياك 2000) اعتبرها الخبراء خطوة إلى الأمام على مستوى الإنتاج العالمي للحاسبات الإلكترونية وتصميمها, ومازالت تطور إنتاجها في هذا المجال حتى أنها تنتج وتصدّر الرقائق الإلكترونية للكمبيوتر من الأجيال الأحدث لأجزاء متطورة من العالم.
  • نظمت وزارة العلوم والتكنولوجيا بها مشروعاً مرتبطاً بشبكة عالمية لصناعة الفضاء, تجارية, وذات إمكانات فائقة فتحت نوافذ خاصة في الأسواق التجارية للأقمار الصناعية تغطي قطاع الاستثمار من بعد وملحقاته, وتبلغ تكلفة الشبكة بليون دولار سنوياً.

          هذه مجرد أمثلة مختارة, مما يوجع القلب لحالنا, ويثير السؤال: متى فعلت إسرائيل ذلك كله, وكيف?

حتى لا نرى تقصيرنا

          بالطبع سيسارع البعض منّا بالقول: إن إسرائيل لم تصل إلى ذلك لقواها الذاتية, بل بالدعم القادم إليها عبر البحار من يهود العالم, ومن أنصار إسرائيل في الدول الصناعية المتقدمة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية, ومن إتّباع أساليب نقل التكنولوجيا, بل سرقتها بأساليب التجسس التكنولوجي. هذا كله صحيح, لكنه جزء من الحقيقة التي نغطي عيوننا حتى لا نراها, فلا نرى مدى تقصيرنا وعجزنا, ولا أقول بلاهتنا!

          أما الحقيقة, أو جانب منها على الأقل, فتقول إن اليهود ودولتهم بدأت قصتها مع العلم والتكنولوجيا مبكرا جدا, وقبل أن تنشأ إسرائيل, مما يعني الانتباه المبكر لأهمية العلم والتكنولوجيا كعنصر حاكم في اكتساب القوة العسكرية والمدنية على حد سواء. ففي عام (1819) سعى القائمون على الحركة الصهيونية أن تكون كل المؤسسات ذات طابع علمي, وتمثل نشاطهم, بداية, في تأسيس جمعية (الثقافة والعلم) التي يناط بها إعداد برامج البحث والتطوير في العلوم التطبيقية الأساسية. وفي عام (1913) - في المؤتمر الصهيوني الحادي عشر - نشطت فكرة إنشاء مؤسسة للتعليم العالي لتكون مركزا ثقافيا وعلميا. فكانت الجامعة العبرية التي بدأ بناؤها عام (1918). وفي عام  (1924) تحققت فكرة إنشاء معهد على مستوى عال من التقنية بافتتاح معهد (التخنيون) للهندسة التطبيقية في مدينة حيفا, وهو معهد لايزال في مقدمة جهات البحث العلمي ذات المستوى العالمي حتى الآن.

          بمواكبة هذه الملامح البارزة في طور التأسيس كانت هناك ملامح أخرى لدراسة العلم والتكنولوجيا منها: المعهد الزراعي الجامعي القومي (1920) ومحطة بحوث الزراعة في تل أبيب (1921) ومركز الصحة العبري(1924) والمعهد الميكروبيولوجي (1924) والمعهد البيطري (1925) ومعهد وايزمان للعلوم (1934). هذه مجرد أمثلة لاستباق مشروع إنشاء الدولة اليهودية ببنية تحتية تقوم على العلم والتكنولوجيا أخذت تتطور حتى أنجزت ما وضع هذا الكيان الصغير في مصاف الدول الكبرى علميا, على الأقل مقارنة بحجمه وعدد سكانه وسنوات عمره.

          وبالبحث يتبين أن البنية وحدها لم تكن لتنجز هذا كله, لولا إرساء قواعد التفكير العلمي ومنهج تعليم العلوم والتكنولوجيا والإغداق على ذلك كله بإصرار ومتابعة صارمة, بمنطق أن الاستثمار في العلم والتكنولوجيا ذو مردود أكيد وضخم, لا على مستوى الأمن القومي وحده, بل على مستوى الاقتصاد والربح, فبعد قيام الدولة اليهودية مباشرة عام (1948) بدأ تنظيم مشروع (أورت 2005) للتعليم المهني بهدف ربط التعليم بسوق العمل, ثم كان مشروع (تمدا 1998) الذي اعتمدته الحكومة الاسرائيلية في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين لإدخال التعليم المهني في كل المؤسسات التربوية ودمجها في العصر العلمي - التكنولوجي الحديث.

          إذن كانت القاعدة مجموعة مدارس ومعاهد ومراكز أبحاث وإنفاقا سخيا على ذلك كله, فعلى سبيل المثال غدت اعتمادات (البحث والتطوير) بابا أساسياً ثابتا, في ميزانية الدولة, للإنفاق يستوعب نسبة كبيرة من الناتج القومي الإجمالي, وتعتبر من بين أعلى النسب في العالم حيث تصل إلى 2,4% بينما هي لا تكمل الواحد الصحيح في أي بلد عربي, وبلغت تكلفة الفرد في سن التعليم (2500)  دولار, في حين أنها لم تتجاوز (350) دولاراً  كمتوسط في الأقطار العربية!

          لقد بلغ حجم الانفاق على التعليم من الناتج القومي الإجمالي في إسرائيل 7,6% عام 1999-2000, في حين كان في الولايات المتحدة الأمريكية 5,4% وفي اليابان 3,8% وفي كوريا الجنوبية 3,7% وفي الصين 2,8%.

الابتكار وحرية البحث

          بالطبع لم يكن الإنفاق وحده هو سر القفزة العلمية في التعليم العلمي والتكنولوجي, وما استتبعه من عائد في الدولة اليهودية, بل كان هناك منهج التعليم الذي يحض على الابتكار, والبرامج ذات السمات العالمية في تطورها, ونسج العلاقات الوثيقة مع معاهد ومراكز الأبحاث العالمية والعلماء البارزين في مجالاتهم بالعالم المتقدم, وتبادل الزيارات العلمية والإسهام بالنشر العلمي الكثيف في الدوريات العلمية المتخصصة, ومن اللافت للنظر أن النشر العلمي للباحثين والمطوّرين من العلماء الإسرائيليين حقق ما نسبته 1% من إجمالي البحوث المنشورة في العالم حيث بلغ عشرة آلاف ومائتين وستة أبحاث عام (1995) في حين بلغ إجمالي المنشور لكل العلماء العرب في العام نفسه  ستة آلاف وستمائة وخمسة وعشرين بحثا - ناهيك عن الفارق في المستوى ونوعية الأبحاث واتجاهاتها - ومقارنة بعدد السكان, فإن إسرائيل تشغل المكانة الأولى لعدد العلماء الذين ينشرون بحوثا, إذ تبلغ 11,7 بحث لكل عشرة آلاف نسمة, وتسبق الولايات المتحدة الأمريكية ومعدلها هو 10 أبحاث, وإنجلترا 8,4 بحث.

          أما في مجال نشر الكتب وهي قرينة بأي تطور تعليمي أو بحثي في مجال النشر العلمي, فقد باعت إسرائيل عام 1997 ما قيمته (12) مليون كتاب, بمتوسط 3 كتب في العام للشخص الواحد, وبلغت الكتب المترجمة في العام ذاته (1,2) كتاب لكل مليون نسمة في العالم العربي, بينما بلغت (100)  كتاب تقريبا لكل مليون نسمة في إسرائيل!

          كل هذه الأرقام - بالطبع - لا يمكن إنجازها إلا في وجود مناج من الحرية في البحث العلمي ونشاط رسمي من دولة تلتزم بتوفير الجو العلمي وإشاعته ومجتمع مدني يرغب في التحول إلى مجتمع علمي تكنولوجي يواكب العصر ويعيش فيه. وهذه الصورة الوردية ليست كاملة, فثمة مشاكل يواجهها البحث العلمي والتعليم العالي في إسرائيل الآن, ومنها: عدم تأقلم الباحثين المهاجرين الجدد مع المجتمع وإمكاناته وشروطه, ونفور العلماء ذوي الكفاءات من حملة الدكتوراه من تدني امتيازاتهم مقارنة بزملائهم في الولايات المتحدة الأمريكية, إضافة لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية, انتشار ظاهرة التكدّس البشري في المؤسسات والمراكز العلمية بلا عمل, فتور أعداد كبيرة من الدارسين لمواصلة التعليم الجامعي, ضيق الباحثين من اهتمام الجامعات بتعليم اللغة العبرية والدين اليهودي للمهاجرين الجدد, هروب الطلاب من كليات العلوم إلى المعاهد التقنية التي تعلّم مهارات توفر فرص العمل السريع.

          كل ذلك أدى ويؤدي إلى نوع من التسرب, وبعض الهجرة المضادة: لكن هذا لم يُقعد الجهات المعنية عن الحركة, فتعاملت مع العلماء المهاجرين من إسرائيل على أساس أنهم عثروا على فرص أفضل بالخارج وجرى توثيق صلات دائمة معهم لإفادة زملائهم في إسرائيل, وجرى تصميم برامج دراسية تتسم بالمرونة, مع التوسع في تأسيس أقسام تكنولوجية في الجامعات تضيف إلى المعرفة العلمية تدريبا على مهنة محددة, وأسهمت الجامعات والمعاهد في تأسيس عدد من المؤسسات الصناعية لاستخدام البحوث في إنجاز منتجات ذات مستوى عالمي وتوفير فرص عمل وامتيازات للباحثين المتميزين, وتنظيم عملية محو الأمية العلمية والتكنولوجية بين مجموع السكان, وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في الالتحاق بالتعليم العالي, والتوسع في إقامة علاقات علمية دولية, هذا إضافة إلى سمات خاصة مثل:

  • إعداد (المعلم الباحث) الذي يمتلك مهارة تكنولوجية وقدرة أكاديمية محنّكة, فضلاً عن إجادة لغات عدة مما لا يجعله مقتصراً على مهنة التدريس, بل مشارك في برامج البحث والتطوير, وهذه بدورها تجعله معلماً من نوع متميز وخلاّق. (أصبح تدريس اللغة العربية في مدارس إسرائيل إجبارياً).
  • افتتاح مدارس ثانوية لذوي الميول البحثية والتفوق العلمي حيث يبدأون البحث العلمي في عمر مبكر, وهذه المدارس يلتحق بها سنويا حوالي 15% من الفئة العمرية (من 15-18 سنة). باختصار إنها حركة دائبة في مجتمع يؤمن بأهمية العلم والتكنولوجيا والتفكير العلمي في نموّه وحصانته, ويقوم بتفعيل هذه العقيدة في الواقع ومن ثم يجمع الحصاد الوفير.

          إن هذا الخصم الذي ينتصر علينا دائما, بصورته هذه,  يجب ألا يجعلنا نركن إلى اليأس. فنحن كعرب لن نبدأ من الصفر, فلدينا إرهاصات جديرة بالعناية وجامعات عدة وعريقة, ولدينا إنجازات, وإن تكن مبعثرة, وعقول وإن تكن مهملة وغير معتنى بها - وأغلبها تحتضنه المهاجر بسبب الاضطهاد السياسي والفكري -. كما أن لدينا مؤسسات يلزمها الترميم والإنفاق والتفعيل للأغراض البحثية العلمية النبيلة التي قامت من أجلها. وقبل ذلك, وخلاله, وبعده, لابد من تكريس وإشاعة التفكير العلمي وحمايته في مجتمعاتنا العربية, في مدارسنا وجامعاتنا ومراكز الأبحاث, ودعم طموحات المجتمع المدني المتطلع إلى علمية الرؤى وإنسانية التقنية, وفتح أبواب الاجتهاد دون قصر أو عسف, فالاجتهاد هو أساس كل ابتكار, والحرية هي شرط العثور على كل مفيد جديد.

          هل نعيد تأمل ملامحنا بعد الإمعان في صورة هذا العدو المتحفز باستمرار لأن يكون في المقدمة, وهل نعيد اكتشاف قصورنا باكتشاف إنجازات هذا العدو ودراسته من كل جوانب قوته وضعفه, وهل يدفعنا تقدمه إلى المزيد من الإسراع, لا للحاق به, بل للحاق بما ينبغي أن نكون عليه?

          إذا فعلنا ذلك فإننا نكون كمن يجد الشفاء في عناء (الابتلاء), وليتنا لا نطيل الوقوف والتردد, ونبدأ في غربلة واقعنا العلمي والتعليمي, وألا نكتفي بلطم الخدود والصدور على ما فات ومات, بل نضع واقعنا عاريا على طاولة التشريح, ونضع المبضع في المكان المطلوب, وهو الجزء التعليمي المترهل في جسمنا, والعاجز عن جر عربة السير بنا إلى القرن الواحد والعشرين, علينا أن نتحول من تعليم (الكم) وتخريج طوابير العاطلين عن العمل, إلى (الكيف). لقد أصبح لدينا طوابير بالآلاف وعشرات الآلاف من خريجي الجامعات دون عمل, وأصبحت ظاهرة (البطالة الجامعية) سمة عربية أضيفت إلى بطالة الأمية, هذه الطوابير من العاطلين عن العمل يتحول الجزء الأكبر منها إلى منظمات الإجرام أو إلى متمرّدين وساخطين على مجتمعاتهم, وتلتقطهم بسهولة قوى الشر والتعصب والتخلف لتحوّلهم إلى أدوات للتخريب والتدمير ضد مجتمعاتهم وبلدانهم, ويبقى الجزء القليل ممن لديه كفاءة ما لتلتقطه دول ومجتمعات متقدمة تضيفه إلى قوة العمل والانتاج لديها, وليصبح قوة مضافة لهذه المجتمعات. إن الانهيارات المتتالية والهزائم المتلاحقة التي تصيب مجتمعاتنا منذ عقود طويلة لن تنتهي وتتراجع إلا بعمل جاد يبدأ بتحول شامل في فكرنا وأساليب عملنا, والبداية والانطلاقة تكون من مقاعد الدرس والتحصيل العلمي القائم على (التفكير العلمي) أولاً وأخيراً.