الإمفزيما ... ذلك السجن الرئوي

الإمفزيما ... ذلك السجن الرئوي
        

          سجن أليم يحبس ملايين الناس داخل أقفاص صدورهم, ومعظم أسبابه المكتسبة يمكن تحاشيها.

          هذا المرض من أمراض الرئة المزمنة, يعد أكثرها انتشاراً ويمثل عبئا على كثير من حكومات الدول لما يسببه من فاقد كبير من الناتج القومي لعدم قدرة المصابين به على العمل والإنتاج.

          كما أن مرض الإمفزيما يعتبر مشكلة حقيقية من المنظور العلاجي للأشخاص المصابين به ممن تجاوزوا عمر الأربعين, ولعل مما يفاقم مشكلة المصابين بهذا المرض أن التشخيص السليم عادة يأتي متأخرا وبذلك لا يكون العلاج مناسباً.

التشريح المرضي

          حتى نتعرف على التغيرات المرضية التي تحدث عند الإصابة بالمرض, يجب علينا - بداية - أن نلقي نظرة فاحصة على جهاز التنفس عند الإنسان وهو الذي يتكون أساسا من قصبة هوائية ورئتين.

          يبلغ طول القصبة الهوائية 11 سنتيمترا ونصف قطرها من 2 إلى 2,5 سنتيمتر عند البالغين.. وتتكون القصبة الهوائية من حلقات غضروفية غير كاملة الاستدارة من 16 إلى 20 حلقة, ما بين هذه الحلقات توجد أغشية ليفية مرنة تحيط بها من الخارج عضلات طولية رقيقة توجد تحتها شبكة من الأنسجة الضامة تحتوي على الأوعية الدموية والأعصاب والغدد المخاطية.

          وتنتهي القصبة الهوائية إلى شعبتين إحداهما إلى اليسار والأخرى إلى اليمين ثم تنتهي كل واحدة إلى شعيبات أصغر والتي بدورها تنتهي إلى وحدات أصغر, والشعبة الهوائية عبارة عن وعاء صغير يبلغ قطره حوالي نصف مليمتر ولا تحتوي على غضاريف بل تتكون من أنسجة مرنة لها القدرة على الانكماش أو التمدد تحت ضغط عضلات الصدر.

          وتحصر هذه الشعيبات فيما بينها الحويصلات الهوائية وهي الوحدة الأساسية في عملية التنفس, وتبلغ المساحة الكلية لهذه الحويصلات من 70 إلى 80 مترا مربعا.

          ويقوم الشريان الرئوي بمد الرئة بالدم من خلال شبكة أوعية دموية هي الأكبر في كل الجسم, إذ تبلغ مساحتها المساحة الكلية نفسها للحويصلات الهوائية لتكون في النهاية مزيجا مثيرا للدهشة والعجب.

          هذه هي - إذن - صورة طبيعية لجهاز التنفس, فما الذي يحدث عندما يصاب المرء بالإمفزيما؟ إن معرفة التغيرات التي تحدث أمر عظيم الأهمية للمريض حتى يعرف كيف يتعامل مع مرضه وكيف يكيّف حياته ليقترب في معيشته من المعيشة العادية.

          تعرف الإمفزيما بأنها تمدد غير طبيعي في الحويصلات الهوائية مع انهيار جدرانها وما بينها من فواصل.. فكيف يحدث ذلك؟

          يحدث ذلك لأسباب كثيرة منها ما يصيب الرئة نفسها من ضمور وهو ما قد يحدث في الشيخوخة, كما تحدث هذه التغيرات في الرئة عند استئصال جزء منها أو أحد فصوصها وهو الشيء نفسه الذي يحدث عند وجود عيب خلقي أو انسداد موضعي لوجود ورم أو جسم غريب, وكل هذه الأسباب تؤدي إلى ما يعرف بالإمفزيما الانضغاطية.

          وإذا حدث تهيّج مزمن للشعب الهوائية من جراء التدخين لوقت طويل أو من جراء التعرض لحساسية من هواء ملوث أو عند الإصابة بالتهاب مزمن في الشعب الهوائية فإن الشخص يقع ضحية الإصابة بالإمفزيما.

          وسواء كان السبب ضمورا أو حساسية أو التهابا, فإن القصبة الهوائية والشعب تصبح أضيق مع حدوث تغيرات حادة في الغشاء المخاطي للجهاز التنفسي فيتورّم هذا الغشاء (أديما) ويزداد إفراز المخاط والذي يحدث ضيقا في التنفس مع وجود وسط مناسب لنمو البكتيريا وهذا كله يزيد الحال سوءاً.

          إن ما يحدث من انضغاط في الشجرة التنفسية مع التغيرات التي تحدث في الألياف العضلية والأنسجة المخاطية وزيادة الافرازات تجعل المريض في حاجة إلى المزيد من القوة للقيام بعملية التنفس خاصة عند الزفير, وهي عملية سلبية تماماً تحدث عند الشخص العادي من جراء رجوع الألياف المرنة في القصبة والشعب إلى وضعها الطبيعي, لكن عند مريض الإمفزيما يتوجب عليه أن يضغط صدره بقوة (ليكبس) الهواء داخله ويدفعه للخروج, وهذا يسبب له إجهاداً كبيراً وهو ما يجعله يتخذ وضع الجلوس المعروف لمريض الإمفزيما, متقلصا ومائلا بصدره إلى الأمام.

          أيضاً من جراء التغيرات التي تحدث في التجاويف الهوائية داخل الرئة تقل كمية الدم التي تقوم بتبادل الغازات مما يقلل من حجم التهوية المطلوبة والإمداد بالأكسجين وهو ما يجعل المريض سريع الاحساس بالتعب والإجهاد عند بذل أقل مجهود.

تطور الأعراض... والعلاج

          ترتبط أعراض الإصابة بالإمفزيما بعاملين, أولهما التغيرات التي تصيب الجهاز التنفسي, وثانيهما هو عنصر الزمن, فكلما تقدمت الحال أفرزت أعراضا جديدة, في البداية يشعر المريض بصعوبة مع أزيز (صفير) عند التنفس خاصة أثناء الزفير, ويمكن فهم معنى الصفير لو أجرينا تجربة بسيطة على عود قصبي, فعند النفخ فيه لن يحدث صوت ولكن عند ضغط بعض جوانبه فإنه يحدث صفير (مثل المزمار) وهذا ما يحدث تماما عندما تضيق القصبة الهوائية والشعب.

          ومع تقدم المرض تزداد صعوبة التنفس سوءا, والمعروف أن بالرئة أنسجة مدخرة فيمكن أن تصاب نصف الرئة بالمرض دون أن يشكو المريض من أي أعراض ولكن عندما تصل الأنسجة السليمة إلى الثلث فقط عندئذ يبدأ المريض في المعاناة والشكوى. ومن المؤسف أن المريض أحياناً يعزو ما يشعر به من مشاكل في التنفس إلى تقدم العمر بينما يكون بالفعل مريضا.

          ولعل هذا ما يؤكد ضرورة استخدام مرسمة التنفس (SPIROGRAM) كأحد عناصر الكشف الدوري أو عند عمل فحص شامل فالكشف بمرسمة التنفس لن يستغرق أكثر من خمس دقائق, لكنه سوف يعطى صورة واضحة عن حال الرئتين والجهاز التنفسي كله. ويمكن لحال المريض أن تتدهور إذ لم يبدأ علاجاً فورياً, فقد تظهر أعراض ومضاعفات أخرى, مثل إصابة المريض برعشة في أصابعه عند الراحة بينما تختفي هذه الرعشة عند الحركة, وقد يشكو المريض من كثرة النوم مع ارتفاع ضغط الدم في الدورة الرئوية, وأخيرا يمكن أن يصاب بتضخم البطين الأيمن وهبوط القلب.

والآن ما العلاج؟

          ربما كانت مقولة (إن المريض هو طبيب نفسه) تنطبق أكثر ما تنطبق على مريض الإمفزيما لأنه يملك مفردات العلاج أكثر من أي شخص آخر, لذلك كانت أولى خطوات العلاج أن يفهم المريض طبيعة مرضه والتغيرات التي حدثت بجهازه التنفسي والقدرة المحدودة لأي علاج يتناوله, بل ويعرف أكثر أنه إذا اتبع الأساليب الصحية السليمة فإن حالته لن تسوء أو تتطور.

          ولعل أول ما يجب عليه اتباعه أن يمتنع فورا عن التدخين, فهو العدو رقم واحد لمريض الإمفزيما, وليس ذلك ببعيد عن الجو الملوّث والبيئة غير الصحية, فمريض الإمفزيما بحاجة إلى هواء نظيف ومتجدد خال من التلوث والغبار والأدخنة.

          تأتي الخطوة الثانية في العلاج وهي المرتبطة بالمشكلة الحقيقية التي يواجهها مريض الإمفزيما ألا وهي صعوبة التنفس, ولعل هذه المشكلة تعتبر أكبر معاناة لهذا المريض, لذلك كان عليه أن يعيد الكفاءة المفقودة لتنفسه والعمل على استغلال كل النسيج الرئوي السليم لديه في عملية التنفس, ويمكن أن يحدث هذا بممارسة تمارين التنفس بصورة يومية, فهذا يساعده على استنشاق أكبر قدر ممكن من الهواء وبالتالي تحسين كفاءة التنفس, كما أن هذه التمارين تزيد من انسجام وتناغم جميع عضلات التنفس, وهناك ثلاثة تمارين يمكن لمريض الإمفزيما أن يمارسها لتحقيق هذا الهدف.

التمرين الأول:

          ويساعد هذا التمرين على زيادة كفاءة عضلة الحجاب الحاجز... وفيه يجلس المريض على حافة السرير أو على كرسي على أن يكون نصفه الأعلى قائما (منتصبا) ثم يتنفس بعمق بينما يضع كتابا أو مخدة صغيرة على بطنه ثم يزفر الهواء ببطء, وهو ينحني للأمام ضاغطا الكتاب على بطنه ليدفع الحجاب الحاجز إلى أعلى ما أمكنه... في هذا التمرين سيمتلئ الجزء الأسفل من الرئتين بالهواء كما أنه سوف يساعد على دفع الإفرازات البلغمية إلى الخارج.

التمرين الثاني:

          يساعد هذا التمرين على تقوية عضلات البطن, وفيه ينام المريض على ظهره ثم يرفع ساقه إلى أعلى لتكون في وضع قائم مع جسمه, يفعل ذلك بالتبادل مع الساق الأخرى ببطء وهو يستنشق الهواء (شهيق) ثم يزفر الهواء ببطء أيضا وهو يخفض ساقه إلى وضعها الأول, وهكذا مع الساق الأخرى, ثم يقوم برفع رأسه وكتفيه وهو يستنشق الهواء (شهيق) ببطء ثم يعيدهما ببطء أيضا وهو يزفر الهواء (زفير) إلى وضعهما الأول.

التمرين الثالث:

          يساعد هذا التمرين على توازن وكفاءة عضلات البطن والحجاب الحاجز معا, كما أنه يساعد على دخول الهواء للمناطق السفلى من الرئتين وفيه ينام المريض مستلقيا على ظهره (كما في التمرين السابق), ويضع كتاباً على بطنه تحت الضلوع مباشرة ثم يستنشق أكبر قدر ممكن من الهواء (شهيق عميق) رافعا الكتاب إلى أعلى مع ارتفاع البطن بفعل التنفس ثم يزفر الهواء ببطء (زفير) في الوقت الذي يضغط الكتاب على بطنه, ولأعلى دافعا عضلة الحجاب الحاجز ثم يكرر ذلك.

          إن هذه التمارين بالغة الفائدة لمريض الإمفزيما الذي يحتاج إلى إعادة الشباب المفقود لجهازه التنفسي والاستفادة بكل خلية ونسيج سليم فيه.

          وبالإضافة إلى هذه التمارين, فإن المعالجات الأخرى لا تخلو من فائدة خاصة عند إصابة المريض بأزمات تنفسية, فهناك الأدوية الموسعة للشعب, وهي على نوعين مباشر وغير مباشر وتستخدم الموسعات المباشرة من خلال جهاز التبخير (NEBULIZER) كما تشمل الموسعات غير المباشرة المضادات الحيوية ومضادات الحساسية ومركبات الكورتيزون.

          وقد يحتاج المريض إلى جرعات من الأكسجين خاصة عند إصابته بحمضية الدم من جراء زيادة غاز ثاني أكسيد الكربون في الدم, ويحتاج أيضا إلى (المنفثات) وهي أدوية تساعد على طرد البلغم المتراكم في الرئتين والشعب وهو الذي يزيد من حدّة ضيق التنفس الذي يعاني منه المريض.

          وأحيانا يلج الطبيب إلى إجراء جراحة لإزالة التالف من الأنسجة الرئوية مفسحا الطريق للأنسجة السليمة للتمدد والتشبّع بالأكسجين وهو ما يؤدي غالباً إلى ظهور تحسن نسبي في حال المريض

 

سامي محمود علي   






وضع الجلوس لمريض الامفزيما





تبادل الأكسجين عند الشخص العادي ومريض الإمفزيما





قياس كفاءة التنفس بجهاز الاسبيروجرام





القصبة الهوائية والشعبتان





تركيب الحويصلات الهوائية