الحرب في الزمنين التاريخي والشعري

الحرب في الزمنين التاريخي والشعري
        

          تثير العلاقة بين الشعر والواقع إشكالية نقدية مزمنة وتطرح عديدا من الأسئلة النقدية والجمالية الدقيقة. بل لعل تحوّل طبيعة هذه العلاقة هو العنصر الفيصل في الانتقال من مسار إبداعي إلى مسار آخر في مجال الشعر, ومن مذهب فكري وتوجه نظري إلى سواهما في مجال النقد.

          هل العمل الشعري انعكاس مباشر للواقع أم أنه مستقل عنه? وإذا كان الشعر انعكاسا مباشرا للواقع, فبماذا يتميز عن لغة الحياة اليومية المتّصفة بالسردية والتقريرية والمباشرة? وإذا كان مستقلا عن عالم الواقع, ألا ينتهي إلى عالم مثالي غير واقعي? هل الشعر تمثيل لمظاهر العالم الخارجي ومحاكاة للفعل الإنساني المتكرر في الزمن, أم أن له بنية فنية موحّدة مغايرة في طبيعتها وإيقاعها لما يتصف به العالم الخارجي? ولماذا تتجه ثقافات معينة إلى التعبير عن ذاتها في فترات تاريخية محددة بأسلوب فني دون الآخر? كيف يمكن للعمل الشعري أن يظل مرتبطا بالواقع التاريخي محتفظا بما يتسم به ذلك الواقع من حيويّة وصراعيّة وتناقض وتجاوز من غير أن يكون ذلك العمل انعكاسا للواقع ومحاكاة لأفعاله وتمثيلا لمظاهره?

          هذه بعض الأسئلة التي طالما تناولها النقاد الأدبيون والفلاسفة الجماليون منذ أفلاطون وأرسطو حتى يومنا هذا. وكانت الإجابات المختلفة عنها كشفا للتوجّهات الحضارية عبر العصور كما تجسّدت في مذاهب فنية مختلفة وفي نظريات نقدية وجمالية. ولعل أهم ما وصلت إليه الدراسات النقدية والأبحاث الجمالية في العصر الحديث إدراك الأبعاد الحضارية للمذاهب الفنية والنقدية وربط التحوّل في الأشكال الفنية بالتحوّلات الحضارية والفكرية.

          لقد بَيَّنْتُ في كتابي (بنية القصيدة الجاهلية) خصائص التعبير الفني التشكيلي والشعري التي تميزت بها الفنون العربية والشعر العربي, الجاهلي بالأخص, واستنتجت أن هذه الخصائص الفنية المتميّزة ارتبطت بموقف من الحياة والوجود يتصف بعدم الانسجام ويتوق إلى التخطي, أدّت بالشاعر إلى الابتعاد عن تمثيل مظاهر العالم الخارجي ومحاكاة الفعل الإنساني المتكرر في الزمن. فلم يكن الشعر العربي انعكاسا مباشرا للواقع بل كان بنية موحّدة تقدم رؤية فنية للحياة وتعبيرا رمزيا عنها, يكتشف علاقة الإنسان بمظاهر وجوده الخارجي والموقف المتجاوز والمتخطي للإنسان الفنان المبدع. هذا التوجه الفني يؤدي إلى إلغاء عنصر الزمن بما هو تسلسل وتتابع, فينتقي السرد القصصي. ولعل هذا ما يفسر خلو التراث الشعري العربي من الشعر الملحمي القائم أساسا على القصّ, ويعلل عدم اكتراث العرب القدماء بالشعر اليوناني الملحمي والدرامي, لتناقضه مع التوجه الحضاري العربي وعدم انسجامه مع ما نتج عنه من شكل فني للقصيدة العربية.

          وليس غياب الملحمة عن الشعر العربي مما يقلل من شأنه كما يوحي العديد ممن تعرضوا لبحث هذه القضية. بل إن طبيعة التوجّهات الحضارية التي تميّز عصرا من العصور هي ما يحدّد الأشكال الفنية السائدة فيه. لكن بالرغم من غياب الملاحم عن الشعر العربي فإن جانبا كبيرا من هذا الشعر يتناول الحرب. ومن يتأمل الشعر الجاهلي يلاحظ أن كثيرا منه كان يدور حول الحروب القبلية العديدة التي سادت شبه الجزيرة العربية والمعروفة بأيام العرب. بل إن أربعا من المعلقات السبع, تتناول الحرب, وهي قصائد عنترة بن شداد وزهير بن أبي سلمى وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة. وقد شاع القول إن الشعر ديوان العرب أي سجل أحداثهم التاريخية ووقائع أيامهم. هذه الملاحظة دعت أحد أوائل النقاد الأدبيين العرب وهو محمد بن سلام الجُمَحي (متوفى 231هـ) إلى استنتاج نظرية تربط بين الشعر والحرب وتعزو غزارة الشعر إلى تكاثر الحروب, ونضوب معينه إلى ندرتها. ففي حديثه عن شعراء مدينة الطائف قبل الإسلام, يقول ابن سلام في كتابه (طبقات فحول الشعراء): (وبالطائف شعر وليس بالكثير وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء, نحو حرب الأوس والخزرج أو قوم يغيرون ويغار عليهم.

          والذي قلل شعر قريش أنه لم تكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا. وذلك الذي قلل شعر عمان وأهل الطائف في طرف).

          والحق أن ملاحظة ابن سلام حول ندرة شعر قريش والمدن العربية صحيحة, غير أن القول بوجود علاقة سببية بين الشعر والحرب يحتاج إلى مناقشة. ويمكن أن نسوق هنا ملاحظتين: الملاحظة الأولى هي أن جانبا كبيرا من الشعر الجاهلي لم يلتفت إلى الحرب, وقد تناول الشعراء الجاهليون أغراضا شعرية أخرى عديدة في قصائدهم ومقطّعاتهم. بل إن بعض الشعراء الفرسان ممن أمضوا زمنا من حياتهم في خوض الحروب لم يفردوا حيّزا واسعا من شعرهم للحرب, ولعل أمرأ القيس يصحّ مثالا على ذلك. فقد فصّل الرواة أخبار مساعيه للأخذ بثأر أبيه, ملك بني أسد, وما خاض من حروب واسعة لاسترداد الملك المفقود. ولم يتضمن شعره سوى لمحات سريعة عن الحرب, ودار جله حول الصيد واللهو والنساء.

          والملاحظة الثانية هي أن الشعر لم يواكب الفتوحات الإسلامية وإن كان قد تناول الغزوات الباكرة مثل بدر وأحد. فلماذا لم يقل الشعراء العرب الشعر في الفتوحات? إذا تتبعنا ما دُوِّن من شعر في تلك الفترة نعثر على شعر قليل في تمجيد البطولة يعكس معظمه الروح القبلية السائدة في الجيش الإسلامي. إذن فهذه الحروب الكبيرة والخطيرة الأهمية لم يواكبها الشعر الذي ظل محصورا في الصراعات القبلية أو ابتعد تماما إلى الغزل. وإذا صحّت الروايات التي تتحدث عن غزوات شارك فيها عمر بن أبي ربيعة, شاعرالغزل بامتياز, وقيل إنه مات في غزوة له في البحر حين احترقت سفينته, إذا صح ذلك, فلماذا لم يقل عمر شعرا في الحرب?

          لعل هاتين الملاحظتين تشكّلان ردا على نظرية ابن سلام فيما قرّره من علاقة بين الشعر والحرب, ويُستنتج منهما مبدآن أساسيان في النقد الأدبي:

          المبدأ الأول هو أن التجربة الشعرية لا تواكب بالضرورة الحدث الخارجي, فللإبداع الشعري إيقاعه الزمني الذاتي وله نظامه البنيوي الخاص وتقاليده الفنية المتميّزة. فلم يقل الشعراء العرب شعرا في الفتوحات, لأنها في مفهومها وفي حدوثها التاريخي مغايرة لما هو معتاد من نظام قبلي وما هو مألوف من صراعات قبلية. فمفهوم الأمة لم يكن قد تبلور بعد في النفوس, ولا تشكلت بعد التقاليد الفنية للتجربة الحياتية الجديدة والأحداث التاريخية المستجدة. لذلك ظلّ الشعر دائرا في إطار ما استقر من تقاليد شعرية ترسّخت عبر فترات طويلة من التجربة الحياتية والأدبية وسادت فيها النزاعات الداخلية القبلية. وأكبر شعراء هذه الفترة وهم الأخطل والفرزدق وجرير, أبدعوا قصائدهم في أجواء الروح القبلية والأخلاقية الجاهلية كما تمثلت في الشعر ما قبل الإسلام.

          والمبدأ الثاني هو أنه في إطار التقاليد الشعرية والنظام الشعري اللذين يبدع الشعراء بالضرورة ضمنهما لا يمكن إنكار ذاتية الشاعر ومزاجه الخاص مهما نمت تلك التقاليد وترسّخ ذلك النظام. والتجربة الشعرية ليست بالضرورة هي التجربة الحياتية للشاعر, فالشاعر انتقائي في إبداعه, كما ذكرنا من مثالي امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة اللذين اختارا مسارا فنيا متميّزا عن مسيرتهما المعيشية.

          غير أن شعراء آخرين ساروا في حياتهم اليومية مسيرة تنسجم مع مزاجهم الفني والإبداعي. ولعل ما عرف عن شاعر الغزل العذري جميل بن معمر, صاحب بثينة من رفضه خوض الحرب لتعارضها مع مزاجه, يصح مثالا على ما ذهبنا إليه. وقد اشتهر قول جميل في ذلك الموقف:

يقولونَ جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ وأيُّ جهاد غيرهنَّ أريدُ
لكلّ حديث بينهنَّ بشاشةٌ وكلُّ قتيل بينهنَّ شهيدُ


          وهناك شعراء آخرون وجدوا في الحرب مصدرا للإلهام وحافزا على قول الشعر. وقد قال عمر بن معدي كرب مبررا صمته عن قول الشعر وتمجيد البطولة:

فلو أنَّ قومي أنطقتني رماحُهمْ نطقتُ ولكنَّ الرماحَ أجَرَّتِ


          بمعنى أن تخاذل قومه عن الجهاد ألزمه الصمت عن قول الشعر وكأن انعدام الحدث أعدم القول ونفى الفن, بل إنه قطع اللسان على حد تعبيره.

          كان على الشعر العربي أن ينتظر زمنا حتى يثمر التحول الحضاري والثقافي والفني الذي جاء به الإسلام والفتوحات والانفتاح على أمم أخرى وثقافات متنوّعة, وحتى تتحوّل الحساسية العربية وتتولد تقاليد شعرية جديدة. وقد أثمرت تلك التحوّلات في حركة التجديد الشعري في مطلع العصر العباسي التي أثارت جدلا كبيرا بين الشعراء والنقاد والعلماء في ذلك الزمن لما تضمنته من خروج على بنى وقواعد ترّسخت عبر قرون من الإبداع الشعري العربي. وقد أجمع العلماء على أن بشار بن برد (متوفى 168هـ) أول المحدثين وأستاذهم الذي عنه أخذوا, أي أن نضج التحوّل في الحساسية الفنية والشعرية المرتبط بالتحوّلات الحضارية والثقافية والسياسية والاجتماعية, احتاج إلى ما يزيد عن القرن من الزمن, ليتبلور في إبداع شعري جديد مرتبط بالتراث الشعري القديم ومغاير له معا.

          أما التحول الأساسي في قصيدة الحرب فكان مع الشاعر الكبير أبي تمام الحبيب بن أوس الطائي (متوفى 231هـ). لقد عاصر أبو تمام حروبا كبيرة ومهمة خاضها الخليفتان العباسيان, المأمون والمعتصم, ابنا الخليفة هارون الرشيد, ضد الروم البيزنطيين وانتصرا فيها. غير أن الحدث الكبير وحده لا ينتج شعرا كبيرا كما بيّنا, ففتوح المسلمين الأوائل وانتصاراتهم لم تكن أقل شأنا مما عاصر أبو تمام من حروب, ولم تخْلُ العصور الأولى تلك من شعراء عظام. ومع ذلك يمكننا أن نعدّ بائية أبي تمام في فتح المعتصم عمّورية أول قصيدة في الفتوحات العربية الإسلامية. هذه القصيدة الرائعة في انتصار العرب الحاسم على البيزنطيين, هي حدث شعري عربي تحوّل بالشعر العربي عامة وبشعر الحرب على وجه الخصوص, إلى آفاق جديدة لم يبلغها من قبل على المستويين الدلالي والبنيوي الفني:

فتحُ الفتوحِ تعالى أنْ يُحيطَ بهِ نَظْمٌ من الشعرِ أو نثرٌ من الخُطَبِ
فتحٌ تفتَّحُ أبوابُ السماءِ لَهُ وتبرزُ الأرضُ في أثوابِها القُشُبِ


          وكأن العُدَّة النفسية والفكرية والفنية للشاعر العربي قد اكتملت وأصبحت القصيدة مؤهلة لإبداع تقاليد فنية جديدة تستوعب صورة حرب ذات أبعاد قومية ودينية, بالمعنى الحضاري للقومية والدين, في بنية شعرية جديدة وصور شعرية جديدة ولغة استعارية فنية لم تعرفها القصيدة القديمة ولم يألفها جمهور العلماء والرواة والنقاد الذين ظلوا متشبثين بالأنماط القديمة ووقفوا موقفا متحفّظا وأحيانا مناوئا للتحديث والمُحْدثين:

خليفةَ اللهِ جازى اللهُ سعيَكَ عن جُرْثومةِ الدِّينِ والإسلامِ والحَسَبِ
بَصُرْتَ بالرّاحةِ الكبرى فلم ترَها تُنال إلا على جسْرِ مِنَ التّعبِ
إنْ كان بين صُروفِ الدّهرِ من رَحِمٍ موصولةٍ أو ذِمامٍ غير مُنْقَضِبِ
فبين أيّامِكِ اللاتي نُصِرْتِ بها وبين أيامِ بدر أقربُ النَّسَبِ
أبقتْ بني الأصفرِ المصفرِّ كاسْمِهِمِ صُفْرَ الوجوهِ وجلّتْ أوجهَ العربِ

          إنّ ما أرساه أبو تمام من تقاليد فنيّة جديدة لقصيدة الحرب بلغ اكتماله في شعر أبي الطيب المتنبي, شاعر الحرب الأكبر في تاريخ الشعر العربي وقمة التجربة الشعرية العربية وخلاصتها. مع المتنبي التقت العبقرية الشعرية الفذة بالفعل التاريخي, فاخترقت الحدث إلى أبعاده الحضارية وأبدعت صورا أسطورية لنماذج أصلية متجذّرة في اللاوعي الجماعي الإنساني. عاش المتنبي في زمن انحلّت الدولة العربية العظمى فيه إلى دويلات سيطرت عليها الصراعات الداخلية, فاستطاع بعبقريته الشعرية المتميّزة تحويل ذلك الواقع السياسي المرير رؤية شعرية مبدعة تغوص إلى الجوهر تكتشفه وتكشفه: تذيب المرارة في أتون التجربة الشعرية وتصهرها في لفتة عبقرية تحولها فنا رفيعا. وكأن المتنبي هنا سبق ابن خلدون إلى نظريته العضوية في أعمار الأمم والحضارات موازيا بينها وبين العمر الإنساني في طفولته وشبابه وهرمه:

وقتٌ يضيعُ وعمرٌ ليت مدَّتَهُ في غير أُمّتِهِ من سالفِ الأممِ
أتى الزمانَ بنوهُ في شبيبتهِ فسرَّهم وأتيناهُ على الهرَمِ

          لكن المتنبي يتجاوز هذه الحتمية التاريخية المريرة إلى صورة البطولة العربية الخارقة. لقد وجد هذا الشاعر في أمير حلب, سيف الدولة الحمداني, الذي حارب الروم وانتصر في بعض معاركه ضدهم, رمز التخطي لواقع التردي والاضمحلال الذي تعيشه الأمة العربية في زمنه. فلم تكن صورة سيف الدولة في شعره مجرد نقل للصورة التاريخية لأمير عاش في منتصف القرن الرابع الهجري, بل تحوّل سيف الدولة رمزا للبطولة العربية المتجاوزة والمتخطية مظاهر واقع التفكك السياسي والانحلال الحضاري وعلامات الهرم, وغدا صورة أسطورية تجسّد الحلم باستعادة العافية المفقودة وتبلغ بالبطل درجة عالية جداً, وهذا ما لم تصل إليه قصيدة الحرب العربية قبل المتنبي. ولنأخذ مثالا رائعته في انتصار سيف الدولة على الروم في ثغر الحدث عام ثلاثمائة وثلاثة وأربعين:

وقفتَ وما في الموتِ شك لواقفٍ كأنكَ في جَفْنِ الرّدَى وهو نائمُ
تمرُّ بكَ الأبطالُ كَلْمَى هزيمةً ووجهُكَ وضَّاحٌ وثغرُكَ باسِمُ
تجاوزتَ مقدارَ الشجاعةِ والنُّهَى إلى قولِ قومٍ أنتَ بالغيبِ عالِمُ


          لم يكن سيف الدولة التاريخي في حجم الخلفاء العظام الذين أسسوا الدولة العربية الإسلامية الكبرى, ولم تكن إمارة حلب دمشقَ الأمويين ولا بغدادَ العباسيين, لكن شعر المتنبي في هذا الأمير سما به إلى مرتبة لم ينلها خليفة أو قائد من قادة الفتوحات الكبرى. ومازال المتنبي في منتصف القرن الرابع يبدع شعر البطولة ضمن تقاليد شعر الفتوحات التي ترسّخت ما بعد زمن الفتح بأكثر من قرن كما ذكرنا, واستمرت حتى في زمن التراجع السياسي والاجتماعي وبدايات الانهيار:

ومَنْ طلبَ الفتحَ الجليلَ فإنّما مفاتيحُهُ البِيضُ الخِفافُ الصَّوَارِمُ


          كما يقول في القصيدة ذاتها. بل إن قصيدة الفتح لديه تتخذ أبعادا جديدة لم تنلها حتى مع أبي تمام:

ولستَ مليكا هازما لنظيرِه ولكنكَ التوحيدُ للشّركِ هازمُ
تَشَرَّفُ عدنانٌ به لا ربيعةٌ وتفتخرُ الدنيا به لا العواصمُ


          فالملك الفاتح ليس مجرد بطل خارق القدرة, لكنه تجسيد للدين, هو التوحيد نفسه, وما عدوّه سوى الشرك. وكأن المعركة تجاوزت الأفراد التاريخيين والأحداث التاريخية إلى صدام العقيدة بضدها, وكأن انتصارها هو الانتصار الفاصل والحاسم والأخير, هو انتصار كوني للحق وهزيمة للباطل, وهو أيضا انتصار الأمة العربية بأسرها, وقد رمز إليها الشاعر بعدنان, أبي العرب جميعا, لا انتصار قبيلة الأمير, ربيعة, رغم التفكك التاريخي للدولة العربية في زمن المتنبي وسيف الدولة, وهو فخر الدنيا, وكأن العقيدة المنتصرة والأمة المنتصرة سادا العالم أجمع.

          إن هذا التخطي المبدع وهذا الحسّ التاريخي والحضاري والقومي, والقدرة المتميّزة على إعادة صياغة التاريخ والحدث في بنية فنية مرتبطة بالتاريخ والحدث ومستقلة عنهما معا, وذلك الاستيعاب لتجربة الماضي بما هو تاريخ وفكر وتقاليد فنية, ذلك كله ما جعل المتنبي حالة شعرية خاصة في تراثنا الشعري وذروة من ذرى الخلق الفني جسّدت خلاصة التجربة الشعرية العربية عبر ما يزيد عن أربعة قرون من الإبداع.

          إذن, فإن ما يسهم في إبداع قصيدة الحرب هو وجود تقاليد شعرية توجّه العمل الشعري وتؤطره, وحدوث اللقاء بين الحدث وعبقرية شاعر مشبع بالوعي التاريخي والحضاري, قادر على اختراق الحدث وتخطيه وإعادة صياغة الواقع والتاريخ في عمل فني ليس هو الواقع وليس بالمنقطع عنه في آن معا.

          غير أن هناك شرطا ثالثا للإبداع هو ما يمكن أن نسمّيه بالحيوية الشعرية التي تتصف بها عصور وتفتقدها عصور, وليست الحيويّة الشعرية صدفة تاريخية, كما أنها ليست هبة سماوية, وليست في الوقت ذاته انعكاسا للواقع الخارجي بصورة آلية ومباشرة. فشبه الجزيرة العربية في الفترة السابقة من تاريخها على الدعوة الإسلامية, كانت تعيش ما أسماه المستشرق ديللا فيدا (عصورها الوسطى) بعد انهيار تجارتها الخارجية وضياع قوتها السياسية وغلبة البداوة والفوضى فيها على التمدّن. ووسط هذا المحيط المتسم بالتفكك الاجتماعي والسياسي والانهيار الاقتصادي, وبالرغم من مرحلة الانحدار الحضاري, كانت اللغة العربية تتكوّن وتحقق ذاتها بنية مكتملة مترسّخة, وكانت أشكال التعبير الفني باللغة تتخذ صيغا متطوّرة وناضجة. ولعل الأمر يبدو متناقضا للوهلة الأولى: فهل يمكن أن يتواصل تطوّر التعبير الثقافي في قفزات نوعية تحقق التحوّل في فترات الانحسار والانحدار الحضاريين? هذا الموضوع يطرحه حسين مروة في كتابه (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) ويعالجه في تحليل ينتهي إلى القول بالاستقلالية النسبية للشعر وللتعبير الثقافي عن الظروف والشروط الموضوعية التي ينشأ فيها. ويقول إنّ المعرفة والثقافة, وإنْ كانتا انعكاسا للعالم على وعي الإنسان, فذلك الانعكاس ليس انعكاسا مباشرا, وإنما عملية معقدة لها قانونها الداخلي وحركيّتها المستقلة نسبيا عن حركيّة الوجود المادي, مصدر الانعكاس, وينشأ عن ذلك ما تتميّز به من إيقاع خاص يتصف بالبطء, أي بزمنيّة ذاتية لا تتناسب مع إيقاع زمن الواقع الخارجي. ومن هنا يتأخر تشكل البنى الثقافية عن تشكل البنى الاجتماعية.

          من هذه المعطيات يُستنتج لماذا كان الثبات والاستقرار النسبيان من الصفات المميّزة للأشكال الثقافية, فلا تتحولّ تلك الأشكال بتقلّب الأوضاع الاجتماعية وتغيّرها وتظل محتفظة بزمنية تطوّرها الذاتي. وهذه الخصائص المشتركة التي تتصف بها الأعمال الثقافية والفنية تجعل منها نظاما متماسكا متكاملا له كينونته وهويّته, تحمل أجزاؤه ما تحمل من الصلات والروابط الوثيقة فيما بينها, وتنتمي إلى ذلك النظام الذي يضمّها فتسهم في تحقيقه وتستمدّ منه ذاتها ومعناها. وهي, وإن كانت لا تعكس الواقع بصورة آلية مباشرة لاستقلاليتها النسبية عنه, فإنها لا توجد في فراغ مكاني وزماني, بل إنّ المكان والزمان الخارجيين يسهمان في تعريف مكانيّتها وزمانيّتها الخاصتين.

          كان المتنبي آخر الشعراء الكبار في التراث الشعري العربي, وكأن ما قاله في الزمان يصحّ في النظام الثقافي والفني, ينمو ويشبّ ويهرم, فتذوي الحيويّة وتخبو إلى أن تضمحل. وكأن لذلك النظام الثقافي والفني زمنيّته الخاصة وإيقاع صعوده وتراجعه الذاتي الموازي لمسيرة الواقع الخارجي, لكنه لا يعكس تلك المسيرة بصورة مباشرة ولا يتقاطع معها وإن كان لا ينقطع عنها. فكما أن نماء اللغة العربية وصعود ثقافتها وارتقاء فنونها لم يتطابق مع ما كانت تعيشه شبه الجزيرة العربية من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية في تلك الحقبة التاريخية, فإن تراجع الحيوية الثقافية والإبداعية لم يتزامن مع بدء مرحلة التفكك السياسي للدولة العربية الإسلامية وما شهدته من صراعات داخلية نجد الكثير من صداها في شعر المتنبي نفسه. لكن الحيوية الإبداعية العربية بدأت بالضمور رويدا رويدا بعد المتنبي وكأنه أقصى ما كان يمكن أن تحققه العبقرية الشعرية العربية من إمكانات, وتواصل التفكك الذي ابتليت به الدولة العربية الإسلامية حتى انتهت إلى الانهيار ثم إلى احتلال أراضيها من قبل الجيوش الغازية, ولعل أخطرها ما عرف بالحروب الصليبية الطويلة والمريرة.

          فبالرغم من الانتصارات التي حققها القائد صلاح الدين في حروبه الطويلة ضد الصليبيين, لم يسجّل تاريخ الأدب قصيدة واحدة مهمة قيلت في تلك الحروب. هذه الحقيقة أدركها العماد الأصفهاني (519-597هـ) وكان كاتبا لدى صلاح الدين وجمع الشعر الذي قيل في الديار الإسلامية بأسرها من أواخر القرن الخامس ومنقلب القرن السادس حتى العقد السابع منه في كتابه (خريدة القصر وجريدة العصر), حين وصف الشعر في عصره بالبضاعة الكاسدة, فقال في مقدمة كتابه: (أما بعد, فإنني لمّا رأيت الفضل في عصرنا هذا, وإن ضاع عَرْفُه, قد ضاع عُرْفُه, كما أنه وإن زان ضِعْفُه فقد زاد ضُعْفه, لفساد أمره, وكساد سعره, وهبوط نجمه, وسقوط رسمه, وحطّ حظه, وقلّة عناية أهله بحفظه). هنا أيضا لم يواكب الشعر الحدث ولو كان حدثا عظيما, فظلت حروب البطولة والانتصار في ذلك العصر مقتصرا تسجيلها على كتب التاريخ ولم تحفظها الذاكرة الثقافية في بنية فنية شامخة وخالدة.

 

ريتاعوض   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات