ذكريات مدينة بلا قلب

 ذكريات مدينة بلا قلب
        

          عندما التحقت بالجامعة في مطلع الستينيات, وقادتني قراءتي القديمة لطه حسين إلى قسم اللغة العربية, تحقق حلم القراءة الذي صاغه طه حسين عندما زرع في وجداني وعقلي صورة المثقف الذي لا يخشى في الحق لومة لائم, وينهض مندفعا كالعاصفة من بين الفقراء لينثر غبار الطلع على ما حوله, داعيا إلى زمن جديد من الحرية والعدل والجمال والعلم, مادّا ذراعيه إلى الفقراء من أمثاله نتيجة إيمانه أن العلم والثقافة كالماء والهواء حق طبيعي لكل إنسان على أرض الوطن. ولذلك لم أختر من كليات الجامعة سوى كلية طه حسين, الآداب, ولم أختر من أقسام كلية الآداب سوى قسم طه حسين, قسم اللغة العربية. وفرحت بتلمذتي على تلامذة طه حسين الذين رأيت فيهم حضوره, ولمحت في كتاباتهم ومحاضراتهم امتداده الخلاّق. وتعرفت بالزملاء الذين قَدموا مثلي من أقاليم متعددة, تجمع ما بين أقصى الجنوب وأقصى الشمال, وبعض الزملاء العرب, واندمجنا في حياتنا الجامعية التي قادتنا إلى الحياة الثقافية التي قادتنا, بدورها, وعلى نحو غير مباشر, إلى معرفة مدينة القاهرة بعجائبها وغرائبها ومفارقاتها المدهشة التي صدمت عقولنا الغضة التي لم تكن ألفت المدن الكبرى ولا علاقاتها المعقدة.

          ويبدو أن الصورة المثالية التي تقمصتها للمثقف, والتي انطوت على جوانب رومانتيكية مثالية, هي التي جعلتني أشعر بالغربة في مدينة كبيرة صاخبة, مثل مدينة القاهرة, وزاد من شعوري بالغربة في هذه المدينة الصاخبة قدومي من مدينة صغيرة هي المحلة الكبرى. صحيح أنها مدينة صناعية, وأنها عاصمة من عواصم صناعة الغزل والنسيج بحكم موقعها في وسط الدلتا الزراعي, وهو الأمر الذي جعل طلعت حرب يختارها لتكون إحدى القلاع الكبرى لشركات بنك مصر, فأنشأ فيها شركة مصر للغزل والنسيج. ولكن المحلة الكبرى رغم ذلك ظلت مدينة صغيرة, تصلها بالقرى الحقول الممتدة التي تتخلل بعض أحيائها, مذكّرة القاطنين فيها بأصولهم الريفية, أو بجذورهم الممتدة في الريف. ولذلك كانت مدينتي الصغيرة مزدوجة الصفات, تجمع ما بين الملامح الزراعية التي لم تتخل عنها إلى أواخر الخمسينيات, وملامح المدينة الصناعية الوليدة التي تسعى إلى تأسيس علاقات اجتماعية واقتصادية مغايرة, كما تسعى إلى تحويل المجتمع الزراعي الذي حلّت فيه إلى مجتمع مديني مغاير, ولكن من خلال تحول بطيء, تحول لم يجعل من مدينة المحلة الكبرى مدينة بالمعنى المتوحش الذي عرفته في القاهرة, المعنى الذي صدمتني به المدينة الكبيرة الكوزموبوليتانية, متعددة اللغات واللهجات والأجناس والأعراق والصناعات, المدينة التي جعلت من صفة المدينة التي كنا نطلقها على المحلة الكبرى نوعا من المجاز الذي يتشبه بالحقيقة.

          وكانت الصدمة والدهشة والحيرة قرينة المشاعر المتباينة التي غزتنا بها القاهرة, وأدخلتنا بها في أتون تجربتها التي جمعت الأضداد من الانفعالات, فأقبلنا على المباهج التي لم نكن نعرفها في المدينة الصغيرة: المكتبات والمسارح ودور العرض السينمائي التي بدت بلا حصر, مزروعة في كل حي, والجامعات والمعاهد, والمقاهي والمنتديات والجمعيات الأدبية, ووسائل المواصلات العديدة, والعمارات التي ظننا أنها تناطح السحاب, وارتبكنا بقدر ما نفرنا من الزحام الذي لم نر له مثيلا, والشوارع التي تبدو بلا نهاية, والمقاهي والمنتديات, وتنافر الألوان والهيئات والملامح واللهجات والملصقات والإعلانات, والعنف الذي كان ينفجر في بعض ألوان السلوك فيكسر رتابة إيقاع اللامبالاة الذي بدا كما لو كان يجمع بين البشر المندفعين الخطو نحو الخبز والمئونة, أو المندفعين الخطو نحو الموت. ولذلك بدت القاهرة مدينة مخيفة, لها جمالها المغوي الذي يشبه غواية (النداهة) التي كتب عنها يوسف إدريس قصته التي تحمل العنوان نفسه فيما بعد, لكنه الجمال الذي سرعان ما يخلق الخوف منه الإحساس بالنفور والكره, خصوصا حين يفتقد ابن المدينة الصغيرة ما اعتاد عليه من الهدوء والسكينة والألفة ومعرفة البشر المحيطين به, حيث يمضي مصحوبا بدفء العلاقات الإنسانية, محمياً بنظرات الأعين الصديقة المسارعة إلى العون وقت الأزمات.

          هكذا, انطوينا على شعور التضاد العاطفي الذي جمعنا بالقاهرة في مطلع الستينيات التي تبدو بعيدة الآن, وكان الحب قرين تعرّفنا إلى مصادر جديدة من المعرفة وصداقات واعدة تعلّقنا بها, بل مغامرات عاطفية ظنناها دائمة, خصوصا حين أقسمنا بحرمة الليالي المثقلات وانتفاضة الجبين, ولكن كان الكره الوجه الآخر من الحب, الوجه الذي سرعان ما كان يظهر حين يختل الأمان النفسي والاتزان الوجداني لابن المدينة الصغيرة, ويجد نفسه محاطا بخيارات صعبة وتحديات مخيفة واحتمالات خطرة. حينئذ, كان الحنين إلى المدينة الصغيرة يتفجّر غالبا, وتبدو المدينة الصغيرة في وجداننا كأنها واحة الأمان التي نفرّ إليها من هجير المدينة الكبيرة, ومن شوارعها التي تبدو قيعان نار, تجترّ في الظهيرة ما شربته في الضحى من اللهيب. ولم تكن هذه المدينة الصغيرة تتخذ هيئة الواحة الحنون فحسب في تلك الأوقات, بل كانت تبدو أشبه بالأم الرءوم التي نحنّ إلى صدورها, كي ننهل من حنانها, أو نحنّ إلى رحمها كي نعود إلى الأصل الذي منه جئنا, والذي يمايز بيننا وبين أبناء المدينة الكبيرة الذين لا يعرفون الشهامة مثلنا, ولا الكرم والحب الذي يجمع بيننا.

          ولم نفاجأ بأن التضاد العاطفي الذي انطوت عليه مشاعرنا هو التضاد نفسه الذي انطوت عليه مشاعر الريفيين من زملائنا, أبناء القرى الذين جاءوا مثلنا إلى جامعة القاهرة, ينطوون على الأحلام والمطامح نفسها, ويتمزقون ما بين مبدأ الرغبة ومبدأ الواقع في التعامل مع مدينة لم يجدوا فيها من حنان القرية ولا هدوئها ولا حميمية العلاقات الإنسانية فيها, فانضموا إلينا في نوع من التحالف الذي يجمع بين الأشباه والنظائر في مواجهة التحدي الذي ظل يخلف فينا التضاد العاطفي نفسه. بالطبع, كان بعضنا من أبناء المدن الصغيرة يجذبه مبدأ الرغبة في الاتحاد بأبناء المدينة الكبرى والتشبه بهم على الأقل, فيعابث أبناء القرى من (الفلاحين) معلنا تميزه المديني عليهم. ولكن حتى في داخل هذه المعابثة, كان مبدأ الواقع يشدنا إلى الواقع الخشن, ويوقع الاتحاد بين المتشابهين حقا, وليس بيننا وبين أبناء القاهرة الذين احتجنا إلى زمن كي نألفهم تماما, وندخل إلى عوالمهم بادئين في ذلك بأبناء الأحياء الشعبية الفقيرة التي نلتقي وإياها في الأصل الطبقي, أو أبناء الأحياء النائية الواقعة على أطراف المدينة, حيث الأرض الزراعية, أو يبدأ الخيط الذي يعيدنا إلى بداياتنا في مدننا الصغيرة.

          كان ذلك هو المناخ النفسي أو السياق الوجداني الذي تعرفنا فيه على ديوان أحمد عبدالمعطي حجازي (مدينة بلا قلب). كان الديوان قد صدر في بيروت سنة 1959 , وهي سنة حاسمة في تاريخ مصر والعالم, السنة التي انسحب فيها العراق من حلف بغداد, وتم الإعلان عن قيام اتحاد الجنوب العربي الذي ضم سلطنات محمية عدن البريطانية, وانتصرت فيها الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو, وكانت الوحدة بين مصر وسوريا ماضية في طريقها, والاستعمار يحمل عصاه على كاهله وينحسر عن إفريقيا السوداء, والسدّ العالي ينبني بالسواعد العفية التي صممت على بنائه رمزا للإرادة الوطنية المستقلة, وتحديا للاستعمار والبنك الدولي, وبداية عهد جديد مع الاتحاد السوفييتي والعالم الاشتراكي, وكان ذلك في وقت تحصّن فيه عبدالناصر بشعبيته الكاسحة بعد فشل عدوان 1956, وتحوله إلى الزعيم الأوحد للأمة العربية, والقائد الذي حمل راياتها للحرية والوحدة والاشتراكية, والحاكم الذي أمر بفتح المعتقلات على مصاريعها سنة 1959 قبيل زيارة خروتشوف إلى مصر فيما يشبه المفارقة الداعية إلى التساؤل.

          ورغم أن القاهرة بدت لنا - في ذلك الوقت - قلب العروبة النابض الذي افتخرنا بالانتساب إليه, والتغنّي بشعاراته القومية, ومشاركة زملائنا وزميلاتنا من الطلاب والطالبات غير المصريين همومهم وأمانيهم القومية, ورغم أننا أخذنا نسمع عن ثورات التحرير في كل مكان, ويغدو العالم أوسع بكثير من عالم البدايات الذي جئنا منه, رغم ذلك كله ظلت القاهرة - المدينة الكبيرة تخيفنا بتوحشها الذي لم نستطع تدجينه, وربما زادتنا خوفا بسبب ما سمعناه عن بعض ما تحتويه من أجهزة الدولة القمعية, حيث الجنود متعددو الأنواع والأسماء, وحيث السجون والمعتقلات, والأماكن التي تبادر بعض ما فيها من تعذيب إلى أسماعنا المروعة أصلا بالمدينة التي كرهناها بقدر ما أحببناها.

          لذلك كان وقع قصائد ديوان أحمد حجازي على نفوسنا وقع الأصوات العذبة الشاجية التي تجسّدت فيها هواجسنا وأحلامنا وغربتنا وشعورنا الدائم بالتوحد التي رأيناها - كما رآها صاحب القصائد - مدينة بلا قلب. وكان العنوان أول ما جذبنا إلى الديوان الذي سرعان ما ردّدنا قصائده, وأنشدناها في تجمعاتنا وبيننا وبين أنفسنا إلى أن حفظنا أغلبها, خصوصا بعد أن وجدنا أنفسنا في (الطريق إلى السيدة) و(سلة ليمون) و(مقتل صبي) و(إلى اللقاء) و(العام السادس عشر). وترقرقت في أسماعنا تلك الأسطر التي تقول:

- يا عمُّ
من أين الطريقْ?
أين طريق (السيدة)?
- أَيْمِنْ قليلا, ثم أيسر يا بُنيّ
قال ولم ينظر إليّ
وسرْتُ يا ليلَ المدينة
أرقرق الآه الحزينة
أجرُّ ساقي المجهدة
للسيدة
بلا نقود, جائعٌ حتى العياءْ
بلا رفيق
كأنني طفل رمته خاطئة
فلم يُعِره العابرون في الطريقْ
حتى الرثاء.

          كانت الكلمات بسيطة سهلة كأنها الكلمات التي نتبادلها بيننا, فقد اختفت تماما الهوة التي تقلّص بين اللغة الشعرية الصعبة المهجورة, أو على الأقل ذات الهالة الخاصة, ولغة الحياة اليومية التي تتدفق على الألسنة أو في أفواه عابري السبيل الذين حاول العقاد من قبل أن يقترب من لغتهم فلم يفلح. وكانت لغة الحياة اليومية التي أصبحت لغة الشعر لغة إيقاعية, تنتظمها تفعيلة واحدة, هي تفعيلة الرجز, يضيق السطر الواحد عن استيعابها كاملة, وقد تتكرر وتتعدد في السطر, مرهونة في كل أحوالها بالدفقة الإيقاعية, فالإيقاع يتدافع, قصيرا, حادا, في صيغ النداء, أو الاحتدام, ويتباطأ, أو يتماوج, أو يمتد مع هدوء المشاعر وتموجها وتحولها إلى مشاعر قابلة للتأمل, أو قابلة للاستعادة في هدوء. والمقطع جملة, أو بعض جمل, لاشيء منها غير سؤال وجواب وتعليق قصير محايد كما في المقطع الأول. ولكن حياده يكشف عن حياد العلاقة بالآخرين الذين لا يتبادلون المشاعر, ولا يدخلون في علاقات حميمة على نحو مباشر, ولا يجيب منهم أحد إلا بما هو غير شخصي, ودون حتى اهتمام بالتطلع إلى السائل. و(السيدة) التي هي الهدف (أم العواجز) التي يحيط بها الفقراء, والتي تحنو على الغرباء كأنها أمهم الحنون التي يجدون فيها البديل عن أمهم - القرية التي تركوها وراءهم, وظلوا يحملونها داخلهم, ويبحثون عنها في كل ما يرونه, وفي كل ما يحيرهم. و(الطريق إلى السيدة) هو نفسه الطريق إلى القاهرة في وعي القرويّ الذي يأتي حالما بالألوان والضياء والسيارات التي تقل ناسا يضحكون في صفاء, وجوههم مجلوة مثل الزهر, متخيلا نفسه - ذات يوم - فارسا يشدّ قواما فارعا, ذراعه ترتاح في ذراع أنثى كالقمر, لكنه سرعان ما يصطدم بالحقيقة, بالاستقبال البارد, اللامبالي, العدائي, الازدرائي, خصوصا حين تبدو سلة الثياب, وتزداد الساق المجهدة إجهادا, فلا يبقى سوى الشعور بالعياء, والجوع, والإفلاس, ورقرقة الآهة الحزينة, والتوحد المرير الذي يتولد منه تشبيه الطفل الذي ترميه خاطئة, فلا يعيره العابرون حتى الرثاء.

          ولا أدري لماذا عندما أتذكر هذا المقطع من قصيدة حجازي, بعد سنوات عدة على مطالعتي له, أتذكر قصيدة الشاعر الإنجليزي كولردج التي تتحدث عن طريق آخر إلى زندو, وزندو كلمة فارسية, تشير إلى مكان ساحر في القصيدة, يجمع المباهج واللذات وكل ما تشتهيه الحواس والأرواح, حيث تختفي كل المتناقضات, ولا تبدو سوى النشوة الخالصة التي يمتزج فيها الجسد والروح. ولكن زندو كولردج سرعان ما تختفي كالحلم المنقطع. وقد قيل إن كولردج كتب هذه القصيدة في نشوة تعاطيه الأفيون, واندفع قلمه إلى كتابتها, ولم يتوقف إلا عندما طرق الباب طارق لحوح, أيقظ الشاعر من نشوته الشعرية, فانقطع حلم زندو البهيج, وتوقفت القصيدة التي لم تكتمل قط. ولكن قصيدة حجازي (الطريق إلى السيدة) اكتملت, ولم تكن بالقطع تحت وطأة الأفيون, ولكنها نتجت من وطأة الإحساس القروي بالضياع, ومن الحلم بالوصول إلى (السيدة) أم المعجزات التي تحقق رغبات اللائذين بها. ولكن حلم الوصول إلى (السيدة) لا يتحقق في قصيدة حجازي, يقطعه مبدأ الواقع الخشن الذي ينقض مبدأ الرغبة, فتختفي علامات البهجة الواعدة, وتحل محلها علامات عالم كئيب, لا يعرف الأمان, ولا الحب, عالم يدفع إلى كرهه, بوصفه عالم مدينة مخيفة تدفع إلى لعنها.

          أذكر جيدا أننا كنا نردد هذه اللعنات حين كانت تحبطنا القاهرة, تثقل علينا كما تثقل على ذلك الغريب الذي طرد من غرفته, في إحدى قصائد الديوان, فمضى في ليل المدينة ضائعا دون اسم, يرى كل شيء حوله جدارا من الصمت أو التربّص, حتى رحابة الميدان تبدو كأنها تل, يبين ثم يختفي وراء تل. والغريب يبدو كأنه وريقة في الريح دارت, ثم طارت, ثم حطت في الدروب, ولاشيء غير ظل يذوب, يمتد, وعين مصباح فضولي ممل, لا يقطع شعاعه سوى السؤال الذي يزيد في الغريب إحساسه بغربته. كنا مثل ذلك الغريب في لحظات إحباطنا, بل كنا أشبه بسلة الليمون التي تأتي من القرية إلى المدينة, طازجة, عطرة, يحملها طفل ينادي عليها, حملها منذ أن غادرت القرية في الفجر, خضراء مندّاة بالطل, قطفتها يد الحاجة لتحملها, كي تبيعها في شوارع مختنقات, مزدحمات, وبين أقدام لا تتوقف وسيارات, وشمس محرقة, تجفف الليمون الندي, فلا أحد يشمّه بعد أن جففت الشمس طله, وبعد أن أصبح الليمون والصبي الذي يبيعه مثلنا ضائعين, غرباء في المدينة التي تكره الغرباء, المدينة التي تشرع الموت في الأعين القادمة إليها من القرية, كما لو كانت تقول لهم: عودوا إلى ما كنتم فيه, بعيدا عن الموت الساري في هوائي.

          كان ذلك ما فهمناه من قصيدة (مقتل صبي) حيث الموت ينفجر في الميدان, فجأة, كالصمت الذي يحطّ كالكفن, أو كالإطار الذي مرّ فوق جسد الصبي الريفي الذي لم ينتبه, فمزقته عجلات سيارة مندفعة, وتركته جثة هامدة, لم يعرفه أحد. فالناس في المدائن الكبرى عدد. ولكن هذا الموت لم يقترن في وعينا بالسيارات المجنونة وحدها, وإنما اقترن أيضا بالجدران الجهمة والأسوار والأسلاك التي اقترنت بالمعتقلات التي بدأنا نسمع عنها, فعرفنا وجها جديدا من أوجه الرعب في المدينة, خصوصا حين تمشي أحذية الحرس كمطارق تملأ الإحساس, وتدفع في قلب الظلمة, تدفع ضحيتها حتى ينهار.

          ما الذي كان يمكن أن يحمينا - نحن الغرباء - في هذه المدينة التي رأيناها بلا قلب. الحب والصداقة. ولا فارق بينهما جذريا, فالحب كالصداقة لقاء بين قلبين, اتفاق بين روحين, ائتلاف بين عقلين, ولكن بقدر ما كان الحب يبدو غيمة هائمة, تدنو وتنأى كالبدر الذي أفرط في العلو وضوؤه قريب للسارين والمتطلعين إليه, كانت الصداقة قريبة كالنهر, صافية كالنبع, جمعتنا نحن الغرباء, ووصلت بيننا وبين أبناء القاهرة التي أخذنا نكتشف لها قلبا من خلالهم. ولذلك كانت الصداقة واحتنا ما ظللنا في القاهرة, أملنا في الوصول إلى قلبها المختوم ما دمنا في مدى سطوتها. ولذلك كان وقع قصيدة (إلى اللقاء) (التي أهداها أحمد حجازي إلى صديقه رجاء النقاش) عذبا على نفوسنا, يشبه وقع قطرات المطر التي تقع على الأرض العطشى, المشتاقة إلى ريِّ المعرفة.

          والقصيدة تبدأ بإعلان الخشية من نهاية الطريق, ومن تحية المساء, لأن كليهما يؤذن ببداية الوحدة وأول التوحد, وعلامة الفراق, خصوصا في شوارع المدينة الكبيرة التي تغتال من لم يصادف غير شمسها, غير البناء والسياج, والمربعات والمثلثات والزجاج, ولم يعرف دفء الحب الذي يجمعه بالحبيبة كما يجمعه بالأصدقاء.

          ونهاية الطريق في عالم هذه المدينة المتوحشة تعني نهاية الفرح بالحب والصداقة, نهاية الحياة, النهاية التي تسرق الإنسان من الإنسان, مستهلة وقعها الأليم بكلمات اللقاء. ولكنها في قسوتها الغادرة, وعلى سبيل التضاد, تؤكد معنى نقيضها, معنى الأصدقاء الذين يجتمعون, يستمدون من محبتهم العون على مواجهة المدينة الغادرة, الأصدقاء الذين يبدون جذوة في الليل لم تنم, أو حلم فجر كأفق قرية في لحظة الشروق:

والأفق رحب في القرى حنون
وناعمٌ وقرمزيٌ يحضن البيوتْ
وتسبح الأشجار فيه كالهوادج المسافره

          ولا تخفى على القارئ رمزية الضوء التي تصل بين الأصدقاء وجذوة الليل أو الأفق المشرق لفجر ينساب دفء زرعه على المياه, الضوء الذي يعيدنا إلى القرية, أو يرد حميمية العلاقة بين الأصدقاء في المدينة إلى أصل قروي ينغرس في صدر المدينة كي يحتضنها بجرعة من الحنان. وهو حنان لازم لمواجهة ليل المدينة الذي يبدو عيدا قصيرا, سريع الزوال, سرعان ما تكنس رياحه كل مائدة, فترفع الأحزان في الأعماق رءوسها وتنثني إلى الطريق.

          هذا الليل لا يخفف من وطأته المقترنة بالوحدة سوى الحلم بإشراقة النهار الذي يأتي بالأصدقاء من جديد, يجمعهم في رحلة الصراع الأبدي, في مواجهة مخاطر المدينة التي لابد من اقتحامها, ولا يمكن اقتحامها إلا بتجمع عقد الصداقة الذي لا ينفرط, خصوصا لنا, نحن الذين عرفنا - مع المشاعر - أن دربنا طويل, وجزناه أشهرا وأشهرا, مؤمنين بمعنى أن نطهّر بالحب ساعة الوداع كي نعاود اللقاء والصراع, لعلنا يوما نرفع الشراع.

 

جابر عصفور   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات