أدب ساخر.. الحفيد... وأنا!

حينما كنت أسمع مقولة (ما أعز من الولد إلا ولد الولد). كنت ألوكها وأجترها وأرددها مع القائلين دون أن أحيط بمعناها.

          وأسأل نفسي - نافيا مستنكراً - كيف بالله عليك يكون الحفيد أغلى من الوليد?!

          ودارت الأيام - بالإذن من أم كلثوم - وجاءنا الحفيد في يوم ربيعي بهيّ رائق خال من (الطوز) ولله الحمد! أعرف أني فرحت بإطلالته, لكني لم أشعر تجاهه بالمشاعر التي تجسدها المقولة السالف ذكرها في أول المقالة! قلت لنفسي مؤنبا (قلبي صخر جلمود) بسبب (جيناتي) النجدية الوراثية التي تعتبر إشهار العواطف عيبا يثلم الرجولة, ويشين الفحولة, ويهين هيبة الطلعة البهية لشخصية (سي السيد) إياها!! ولذا كنت أقوم (بالواجب) تجاه الحفيد, على عكس بقية الأسرتين (أسرة والده وأسرة والدته), وإزاء الحب المتأجج والفرحة الطاغية والعناية الشديدة الطافحة بشتى المشاعر الإيجابية التي اكتنفت قدوم الحفيد. قلت لنفسي: لابأس على الحفيد, ولن يضيره البتة مشاعري (الحيادية) تجاهه. فإزاء مظاهرة الفرح التي استقبل بها, لم تشعر الأسرة البتة بموقفي (البارد) المريب. ورب سائل: لم كل ذلك?! بصراحة شديدة: لم أتعمد سلوك الموقف المحايد البارد السالف الذكر. فقد وجدتني أمام قطعة لحمة تقطر ماء وسوائل شتى ما أنزل بها من سلطان. ولا تكف البتة عن الصراخ - ليل نهار - بقولة (واء واء)! ووجدتني ثانية أقول لنفسي - بمنأى عن الجميع - لاشك أن (مقولة ولد الولد أغلى من الولد) إشاعة وفرية وأكذوبة أطلقها بعض الأحفاد نكاية بآبائهم, واستجلابا لعطف وحب وحدب أجدادهم... ليس إلا.

          لكن الأمر الذي يحيّرني - آنذاك - يكمن في ملاحظتي أن جميع أفراد الأسرتين فرحون جداً بقدوم الوليد الحفيد: يقيمون له الأعراس والحفلات, ويولمون له الولائم,  ويلعلعون بالزغاريد, ويلهجون بالشكر والحمد للمولى سبحانه وتعالى, ويمطرونه بالبوس والقبلات, ويحاصرونه - على الدوام - بكل الطقوس الاحتفالية الاجتماعية التي تليق بمقامه, ومع ذلك كله: كنت كما الأطرش بالزفة! ولذا خشيت أن يكتشف أحد أفراد الأسرة سلوكي البارد الشاذ الغريب, الذي يستحيل تبريره والدفاع عنه! فلجأت إلى الصديقة الحميمة الغالية الأستاذة ألطاف عيسى السلطان (الأخصائية النفسية) المعروفة, لأستعين بمعرفتها وخبرتها لكشف ستر الغامض الشاذ الذي يشين علاقتي بالوليد الحفيد.

رغبة في التخفي

          ولذا تلثمت - كما رجال الطوارق - ووضعت نظارة سوداء على عيني, سعياً وراء الستر ورغبة في التخفي وعدم معرفة الناس بطلعتي البهية. إذ إن الشائع لدى العامة والخاصة على حد سواء, بشأن المترددين على المصحات والمستشفيات والعيادات النفسية, أنهم يعتبرون في عداد المجانين!

          وهذا تصور خاطئ بطبيعة الحال قد يكون مرده الصور النمطية الخاطئة التي تصوّرها الدراما التلفزية والسينمائية والمسرحية للطبيب النفسي والعلاج النفسي. ما علينا. فالشاهد أني تربعت في العيادة دون خشية وعقد أفكار خاطئة مسبقة. ورحت أحكي للمعالجة مسألتي من ألفها إلى يائها. وشهادة حق: لم أجد في العيادة المشاهد الكاريكاتيرية السمجة التي أشاعتها السينما العربية عن الطب النفسي. فالطبيب أو المعالج: إنسان هادئ سوي قريب إلى النفس: تشع منه الألفة والمودة والرحمة, ويحرضك على البوح والحديث و(الفضفضة) مثل أي صديق حميم تسر في أذنيه بأدق أسرارك الخاصة. ومثل أي زبون أو عميل معتبر لا يخشى ارتياد العيادات النفسية رحت أحكي للسيدة المعالجة حكايتي (الميلودرامية) التي تبز أنجح الأفلام الهندية. قلت: إن الوليد الحفيد يكرهني ويحقد عليّ, ربما لأنه يعاني من (عقدة أوديب) إياها.

          واستطردت في البوح قائلا: تصوري يا سيدتي أن الوليد يزأر في وجهي (بالواء) والبكاء حالما يلمحني! كأن بيني وبينه (ثأر بايت) أو عداوة لاشعورية راقدة في أعماق وجدانه الطري! أكبرت في المعالجة النفسية أنها لم تقاطعني, ولم تعترض البتة على كل ما قلته في حق حفيدي. الأمر الذي حرّضني على الظن بأني على حق مبين, ولابد - والأمر كذلك - من الاستطراد في البوح, إلى حين قلت كل ما في جعبتي, وما عن لي قوله على مسامع المعالجة. وإثر ذلك سألتني: كم عمر المحروس الحفيد حفظه الله?! قلت: عشرة أيام فقط لاغير. قالت: - بحسم وحزم - راجعني بعد سنتين, وساعتها لكل حادث حديث! الحق لم يعجبني حديثها, حدثتني نفسي الأمارة بالشك في كل طبيب ومعالج عربي ووطني, أن أزور نطاسيا (خواجة) يرطن بالإنجليزية أو الأوردية على أقل تقدير. لكن أم البنين التي كانت ترافقني تمنت عليّ أن أتعوذ من شيطان الوسوسة الرجيم, وأن أمتثل لرأي الأخصائية الوطنية إلى الحين الذي حددته. ولابأس عليّ من بكاء الحفيد في وجهي, ولابأس على الحفيد نفسه من ودي المفقود. مادام الجميع يحيطونه بالحب! ولم يبق إلا أن تقول بملء فيها (بناقص واحد) فذلك لا ولن يضير الحفيد بإذن واحد أحد!

          وإذا كان هذا المنحى لن يضيره فعلا وحقا, فإنه يضيرني أنا ذات نفسي. لأن الود المفقود عيب ينسب لشخصي الراشد الكهل بل العجوز!

دع للزمن كل شيء

          ولأني عربي قح محافظ على عاداتنا وتقاليدنا الفلكلورية التليدة, تركت للزمن نفسه حل هذه المشكلة العاطفية! فلم أتجشم معرفة أسباب المشكلة, وأتكبد متاعب علاجها.

          لأدعها للزمن يحلها بالسرعة الإملائية, مثل أي عربي ,أو (عروبي) (معتبر! (والعروبي في هذا السياق لا علاقة لها بـ(الأدلجة) بل إني أعنيها باللهجة المغربية الدارجة! والقارئ الفضولي الراغب في معرفة معناها المغربي يروح المغرب مباشرة, أو يسأل (جورج قرداحي) أو إذاعة الـ(B.B.C) الناطقة بلغة الضاد.

          لكني لا أنصحه البتة بسؤال أخينا الأديب القاص الأستاذ (محمد مستجاب) خشية على القارئ من فذلكته الثعبانية المعهودة!! نقول ذلك بالاعتذار الشديد: لحضرة الثعبان والعياذ بالله).

          الشاهد أني حافظت على علاقة الود المفقود كما شرحتها آنفا: أمر عليه صباح مساء, يبادرني بـ(الواء واء) إياها فأغادره حافيا دون (خفي حنين) لا أريم!

          وحين لاحظت أن المحروس قد (عرف مقامه فتدللا) ولم يُحن في سلوكه تجاهي, ارتأيت أن أكون (جاهل) وأعامله بالمثل. والبادي أظلم كما يقولون. فوجدتني أقطع زيارته, وألزم والدته أو جدته بأن تحضراه إليّ في عقر داري! ألست الكبير (سي السيد) صاحب الحق في الوصل من الأبناء والأحفاد?! مادام الأمر كذلك - وهو كذلك ونصف - فلم لا يؤتى به إليّ, علّ ذلك يؤدي إلى طائل. لكن العملية أدت إلى طل لسوء الحظ!

          ومع تواتر عملية إحضاره إلى داري أو مكتبي أو أي مكان أقبع فيه: ابتدأ الوليد يكف عن البكاء. ومع تقادم الأيام: طفق يعبث بلحيتي, ويبلل صلعتي (بلعابه) المنبثق من فوق ومن تحت!

          ويبدو لي أنني اكتشفت مفتاح الباب الذي أدخل منه إلى قلبه. ببساطة شديدة: أن أكون طفلا يضاهيه براءة وحركة وشفافية و(سعابيل) وبكاء بين حين وآخر, واستمراء للدلال و(الدلع) والإسراف في استخدام (البامبرز) نكاية بأمه حينا وبالمربية حينا آخر!

الواء... واء

          والمفتاح السالف الذكر: أفضى إلى أن أتواصل معه بسهولة ويسر. فلم أعد أضيق ببكائه البتة, بل أشاركه مواويل (الواء واء) حتى يبح صوتي! ومع تقادم الأيام والأسابيع والشهور امتزجنا سوية: فلا تعرف من هو فينا الجد ومن فينا الحفيد! وقد اعتدت أن أتحدث معه بلغة سوية فصيحة على غير عادتنا عند مناغاة ومناجاة الطفل والحوار معه.

          أي أن أسمي الأسماء بمسمياتها الحقيقية. فعلى سبيل المثال لا الحصر: لم أكذب عليه وأخدعه فأطلق على الماء (أمبو) والطعام (مم أو نمنم) وهكذا دواليك.

          من ناحية أخرى: صرت أدعه يبكي حتى آخر الوصلة, ويكف عن البكاء لوحده. لأني اكتشفت أن هذا (الوغد) ليس بريئاً كما هو شائع لدى عامة الوالدين! بل أزعم أن بكاءه وسيلة ابتزاز يلجأ إليها كلما عن له اللعب والتواصل مع الآخر, أو رغب في التدليل والتدليع والحدب عليه على الدوام! وقد اعتادت الأمهات ساعة بكاء الطفل على (سد نيعه وفمه) بثديها أو (بزازة) الحليب الصناعي إياها, وتلقيمه بأي طعام يسد فمه!

          ولا أعرف من هو ذلك العارف بعلم نفس الطفل الذي أفتى بأن بكاء الطفل يعني - بالضرورة - حاجته إلى (البلعة) والطعام فقط لا غير?! ألا يمكن أن يكون راغباً في البكاء من أجل البكاء فحسب! وفي هذا السياق لاحظت أن بعض الأسر الأوربية والأمريكية الصديقة: تترك الطفل يبكي ماشاء له البكاء... حتى يكف عنه بعد حين قد يطول أو يقصر! ولست أعني هنا أن الطفل يبكي دون سبب ومبرر, بالقطع لا, كل ما أود أن ألفت النظر إليه هو أن بكاءه لا يعني - بالضرورة - حاجته إلى الطعام كما ذكرت آنفا. ومن يدري فقد يكون بكاؤه صرخة احتجاج ضد كل ما يقوم به الكبار الراشدون في بلاد العرب والمسلمين. ولم نذهب بعيداً?! لم لا يكون بكاؤه الدائم صرخة احتجاج ضد غياب أمه بالأصالة وحضور أمه بالوكالة: المرأة التي تربّيه وتعنى به نيابة عن أمه وتسمى مجازا أو (مزاجا) - بالمربية! وهي عادة امرأة جاهلة قد تجيد تربية الدجاج والكتاكيت, ولكنها لا تفقه شيئا في تربية الأطفال, والمؤسف أن هذه الظاهرة (تعربت) وباتت ظاهرة عربية بعد أن كانت محصورة في الأقطار العربية الخليجية النفطية. ومن هنا يمكنني القول - دون مغالاة ومجافاة للواقع - بأن لغة أحفادنا في السنين الأولى من أعمارهم ستكون (فرانكو أراب) ولله الحمد!

          وقد لاحظت ذلك على حفيدي, على الرغم من أن جل وقته مع أمه وجدتيه وجديه. إلا أن السويعات التي يمضيها مع (المربية) تؤثر على لغته... وما خفي أنكى وألعن. ومن هنا: تحولت مهمتي معه, حين شرع في النطق والحكي, أن أترجم له فوريا المرادفات العربية للمفردات الأعجمية التي يتفوه بها بملء فيه دون أن يرف له جفن العروبة!

الرطن بلغات أخرى

          إن البعض منا: يفرح لهذه الظاهرة بدعوى أن المحروس يرطن بلغات أجنبية بجانب العربية! وأنا لا أجد الأمر مفرحاً حين أراه يرطن بالأوردية, أو أي لغة أعجمية تزاحم لغته الأم وتزيحها عن ذاكرته ووجدانه ولسانه.

          ولعلني لا أبالغ إذا ذكرت بأن جل الأسر العربية الخليجية, تحتاج إلى مترجم فوري من مترجمي الأمم المتحدة, ليقوم بمهام الترجمة الفورية من لغة (المربية) الأجنبية إلى اللغة العربية! وفي الماضي: كنا نلوم الإمبريالية والاستعمار اللذين غيبا لغة الضاد, ونفياها عنوة وقسراً, للاستحواذ على عقول الناشئة. والآن بعد أن رحل الاستعمار من الباب أدخلناه - بإرادتنا - من نافذة الخدم والمربيات!

          وفي بعض الأقطار العربية الخليجية: ثمة أطفال يرطنون بلغة المربية الأعجمية, ويتحدثون العربية المشوهة المكسرة المهجنة التي لا تعرف لها رأسا من رجل!

          ولا أبرئ حفيدي من هذه البلية: فهو يضاهي أقرانه في الرطانة إياها. لكن الذي يعزينا في هذا السياق: يكمن في أن كل ذويه, الذين يعيشون معه ويعاشرونه, بمنزلة مدرس خصوصي له في اللغة العربية! وهذه البلية ذاتها كانت السبب في تحسن علاقتي به, وتطور تواصلي معه, إلى درجة غياب القطيعة السالف ذكرها في أول هذه الخواطر.

          وبتنا اليوم (خوش بوش) أو إن شئت (سمن على عسل), ولم لا يكون الأمر كذلك بعد أن وصل عمر الحفيد إلى السنتين. ولم يعد الصراخ وسيلته إلى التواصل مع الآخرين. بل صار بليغاً (لبلباً) يغرد بالكويتي الفصيح المطعّم ببعض المفردات الأعجمية الأجنبية, والتي يلتقطها بحكم حضور (أمه بالوكالة) الواردة من وكالة توريد المربيات والشغالات المزروعة في كل الديار العربية الخليجية, وجل الأقطار العربية المشرقية, واللهم زد وبارك! ولعلني لست بحاجة إلى التنويه بعدم ذهابي إلى المعالجة النفسية التي نصحتني بالمرور عليها بعد مرور أزيد من سنتين على عمر الحفيد. لأن الحاجة إلى صاحبتنا انتفت. فالحفيد في هذه السن أغلى من الولد فعلا وحقا. ولا أعرف لماذا (والحب هو ألا تعرف شيا) كما يقول الشاعر الفذ مظفر النواب. والحب أعمى. كما قال واحد (مفتّح) لا يخطر على بالي اسمه (وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا) كما قال بشار بن برد إذا لم تخنّي الذاكرة العجوز.

          باختصار: صار الحفيد صديقاً حميماً غالياً, بل هو الأغلى الأعز الذي لا يضاهيه حبيب!

          وقد عنّ لي ساعة تجلي التساؤل حول مقولة (ما أعز من الولد, إلا ولد الولد) وهل هي صحيحة فعلاً... أم أن القوم يتواترونها بحكم تكرار قول شائع بينهم ليس إلا?!

          الحق إن المقولة حقيقة نفسية روحية عاطفية ربانية لاجدال فيها البتة. فتراها متجلية بالحب والدلال والرحمة والحنان والوله الساكن في سلوك الأجداد تجاه أحفادهم من (الجنسين) كي لا يزعل الإناث ونتهم بالعنصرية البغيضة.

          وقد سألتني لم أحب حفيدي أكثر من ولدي? فوجدتني أجيب دون عناء في التفكير قائلا: لأن الحفيد هو سلوى الجد, ولعبته الأثيرة إلى نفسه! فهو مصدر فرحه وسعادته, وأنسه وغيّته, دون أن يكلفه كل ما ذكرته آنفا أي استحقاقات! فوالدا الحفيد هما المعنيان بتربيته, والسهر على راحته, والاهتمام بصحته ورعايته وكل شئونه, والجدان يتسلمان الحفيد (جاهزاً) دون أن يبذلا في تربيته وتنشئته أي عناء.

          فهو - أي الحفيد - الابن الحبيب المحبوب الذي لا يكلف حبه عناء ولا مشقة. والحفيد من جانبه يجد في الجدين أعز خلق الله لأنهما لا يقيدانه بـ(كلبشات) الممنوع و(الكخ), وقيود العيب وكل أشكال وأنواع العقاب والردع, فالجدان يسمحان له ب أن يلعب ويتحرك ويعبث بالأشياء شريطة ألا يصاب بضرر.

          ومن هنا تجد الحفيد يلوذ بصحبة الجدين ويفضلهما على التواجد بمعية والديه. فهو يشعر بأن الجدين أكثر فهما لشخصيته المفعمة بالحيوية والحركة والنشاط والشيطنة, وأزيد تدليلا له من والديه, بحيث لا يجد في حضرتهما سوى الحب والحلوى والهدايا واللعب والحرية فضلاً عن غياب الممنوعات وما إلى ذلك!

          وإذا كان صحيحاً بأن (ولد الولد أعز من الولد) فإنه صحيح أيضا بأن الجد - بالنسبة للحفيد - أغلى من الوالد, لظنّي أن علاقة المعزة متبادلة بالضرورة, وليست حبا ومعزة من طرف واحد!.