كان لي حلاق...!

 كان لي حلاق...!
        

          مثل خلق الله جميعا كان لي حلاق, لكنني فجأة, ودون سابق إنذار, فقدته.

          فإذا رأيتموني هائما على وجهي في الطرقات, في ساعات الظهيرة أو القيلولة, فاعلموا أنني أبحث عن حلاقي الذي ربما يكون قد أضاع نفسه, أو ربما يكون قد وجد نفسه!

          لقد كان حلاقي جميلا, ويحب الجمال, وكان متأملا وفيلسوفا رغم أن أذيال الشباب لا تزال عالقة به, وكان حكيما أخذ من مودات الشعر الأخيرة التي اجتاحت العالم أجمل ما فيها, ونأى عن التقاليع لأنه يعلم أن التقاليع لا تدوم.

          دامت معرفتي به خمسة عشر عاما كاملة, عرفت فيها معنى الاستقرار على شكل محدد ومألوف, أتطلع إليه كل صباح وأنا أحلق ذقني, وكنت قبل أن أعرفه قد (تلطمت) كثيرا على مقاعد الحلاقين الدائرية أو الدوارة, لدرجة أنني كنت أحيانا أحلق في اليوم الواحد ثلاث مرات, فأخرج من عند حلاق لأدخل عند آخر ليصلح لي ما أفسده الأول, قبل أن أهتدي مع هذا الحلاق المفقود إلى شكلي الذي أرضى عنه, والذي  أصبح مألوفا لمن أعرفهم من الناس.

          ولقد تعودت على شكلي الذي ظل يضع له اللمسات الجمالية بمقصه الدقيق الذي لا يسمع له صوت, في زمن يعج بصليل المقصات!

          نحن لا نعرف في حقيقة الأمر أهمية ما يفعله الحلاقون بنا, فالحلاقون يتشابهون جميعا في كونهم يقصون الشعر, ولكنهم يختلفون اختلاف أصابع اليد الواحدة في الطريقة التي يقصونه بها.

          وقبل أن يجد لي هذا الحلاق شكلي المعروف, إلى الآن, والذي يوحي بالطيبة والبشاشة - وليس هذا وقت مناقشة نصيب ذلك من الحقيقة - كنت أحيانا أخرج من دكان حلاق وأنا أحمل وجه مهرب, وأحيانا أخرى أجدني أشبه موظفا بإحدى المحاكم, قادما من الجنوب إلى العاصمة ليأخذ بثأر له, ومرات كان بعض الحلاقين يبالغون في تحسيني فأجد نفسي مكوي الشعر مثل نجوم السينما الذين يتهيأون للتصوير, وكنت أضطر إلى حمل أمثال تلك الوجوه حتى تمر الأيام ويطول الشعر, فأتخلص منها.

          أفظع ما يخطئ فيه الحلاقون أنهم يبرزون الأذنين بشكل جلف حين يحيطونهما باستدارة واسعة خالية من الشعر, وكان حلاقي الفيلسوف يقول لي إن الإنسان يكون أكثر تحضرا بمقدار قدرته على إخفاء أدواته, أو إظهارها في حياء أنيق, والأذن أداة يمكن مداراتها بالقليل من الشعر, بل إن الأذن أداة مفزعة!

          وقد مست التكنولوجيا مهنة الحلاقة بعصاها السحرية فأصبحت هناك ماكينات للقطع والقص والتدريج وأصبحت هناك مقصات للتفريغ, وأصبح الحلاقون يحلقون للزبائن في دقائق معدودات, لكن حلاقي كان يصر على أن يجري لمساته الأخيرة على رأسي بمقصه الدقيق الذي لا يصدر عنه صوت, بعد أن تقوم هذه الآلات بأعمالها, وكان يقول الآلة تنجز من العمل ما يضيّع الوقت, ثم يجيء الإنسان ليضع اللمسات الإبداعية التي تعبر عن الإحساس والذوق!

          من أجمل الأشياء في الحياة أن تصبح المهنة هواية, وقد كان حلاقي هاويا وله أخلاق الهواة, وكنت أقول لنفسي لو أن كل الحلاقين مثل حلاقي هذا لما شاهدنا في الحياة رأسا قبيحا أبدا.

          وكنت مطمئنا دائما إلى استقرار الحياة ومتأكدا تماما من ديمومتها, لأن حلاقي دائم, ومستقر تماما في محله الكبير الواقع في أحد شوارع وسط البلد, الأنيقة, تمر بنا عشرات المحن والأزمات وهو مستقر خلف مقعده الدوار المميز عن بقية مقاعد المحل الخمسة, يجري لمساته الإبداعية على الرءوس بمقصه الصامت, ويرفض بلباقة ثقلاء الظل من الزبائن والأغبياء منهم, ويحيلهم إلى معاونيه, حتى جاء يوم تخلص فيه من كل الأغبياء والثقلاء والمعاونين أيضا, وبقي في المحل وحده يزين أصفياءه من الزبائن.

          وكان يقول لا أريد رواجا يفسد عليّ متعة المهنة, وكان ذلك بعد أن بدأ يشكو من أن الناس لم تعد تميز بين الجمال والقبح...!

          وفي المرات الأخيرة التي حلق لي فيها, كان يبدو مهموما, وقال لي إنهم يجيئون بكثرة, الزبائن كثيرون, ولكنني لا أستطيع تجميلهم جميعا...!

          وحين ذهبت إليه منذ شهر, وأوقفت سيارتي أمام دكانه, فوجئت بعد أن غادرت السيارة, بأن الدكان غير موجود!

          لا يمكن أن أخطئ لهذه الدرجة, الدكان غير موجود فعلا, وكأنما انتزع انتزاعا من بين الصيدلية التي على يمينه, ومخزن البقالة الذي على يساره, وكان الفراغ الذي كان دكانا مغطى بواجهة خشبية كبيرة كتب عليها: سيفتتح بمشيئة الله قريبا, فرع شركة كذا كذا للسياحة!

          آخر ما كنت أتوقعه...

          وبحثت بعيني على الواجهة الخشبية عن عنوان جديد قد يكون انتقل إليه, وسألت العمال الذين يقومون بأعمال الديكور الجديد لشركة كذا كذا للسياحة, لكنه أبدا لم يترك عنوانا.

          قالوا لي لقد أخذ خلوا في المحل مائتين وخمسين ألفا من الجنيهات, لو وضعها في البنك وديعة لعاش من أرباحها في بحبوحة وثراء, فلماذا ينتقل إلى عنوان آخر? لقد ترك المحل بما فيه ومضى.

          ورأيت الأحواض والمقاعد مقلوبة, ورأيت المرايا مخلوعة ومكسورة, ورأيت عمال الديكور يشتغلون بهمة في إزالة كل أثر لحلاقي القديم الحميم, فانقبض قلبي وشعرت بالحزن.

          ورأيتهم يقيسون الجدران ويجهزونها لمناظر السياحة, فسألت نفسي عن هذا الذي يدفع مائتين وخمسين ألفا من الجنيهات خلوا في محل قديم, هل يتوقع أن يكسب منه الملايين? أم أنها واحدة من واجهات غسيل الأموال التي بدأت تزحم الساحة!

          ثم بدأت أفكر في حلاقي, كيف استطاع أن يتخلى عني, وعن زبائنه, وعن أهدافه الجمالية, بهذه الطريقة المفاجئة والسريعة?!

          وتذكرته في المرات الأخيرة التي كان يبدو فيها مهموما, ويقول لي إنهم يجيئون بكثرة, الزبائن كثيرون, ولكنني لا أستطيع تجميلهم جميعا...!

          وقد مرت بي الأيام والأسابيع دون أن أفيق خلالها من تلك الصدمة, أو أكف عن هذه التساؤلات...

          وعدت أهيم على وجهي في الشوارع فعلا وكأنني أبحث عنه.

          وحين طال واستطال شعري عدت إلى تلك الملهاة القديمة, أخرج من عند حلاق لأدخل عند آخر يصلح ما أفسده الأول, وفي الصباح أجد وجها غريبا عني يطل علي من المرآة, وأنا أحلق ذقني...!

          وكثيرا ما أركن إلى أحلام اليقظة تهدهد قلقي وانزعاجي, فأتصور حلاقي القديم يدق بابي وهو يحمل حقيبته, ثم يخرج مقصه الصامت ويحركه بأصابعه السحرية فوق رأسي وهو يقول لي: لا تنزعج, هأنذا قد جئت لأعيد إليك شكلك الحقيقي.

 

صبري موسى   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات