قاتل بلا وجه

 قاتل بلا وجه
        

          اقرأ شفتي, لأنني لا أتكلم.

          أنت تجلس هناك, وعندما يتمايل القطار تنحني للأمام لتسمع. ولكنني لا أتكلم.

          لو كنت قادراً على العثور عليهم, كنت سأطلب منهم النصف المتبقي من النقود التي وعِدتُ بالحصول عليها عند التنفيذ, لكنهم رحلوا. ولا أعرف إلى أين أتوجه. ولا أظن أنهم ما زالوا موجودين هنا, لابد أنهم ذهبوا إلى بلد آخر, إنهم يتنقلون طوال الوقت وهكذا يعثرون على رجال مثلي.

          فنحن نرحل عن الوطن لأن الحكومات يُطاح بها, فنجد أنفسنا في الجانب الخاطئ, بلا عمل - بلا خبز أو زيت في الدكاكين, وعندما نعبر حداً نجد أنفسنا في مواجهة حد آخر وآخر.

          ما وجهتك النهائية? ولا نعرف إجابة, لا نعرف أين نستطيع المكوث, وما إذا كنا سَنُرسَل إلى مكان آخر أم لا, من مخيم إلى آخر في بلد لن تستطيع فيه الحصول على أي أوراق.

          ولا أتكلم مطلقاً.

          وهناك يجدوننا, في واحدة من تلك الأماكن, وجدوني وأنقذوني, كان في وسعهم القيام بأي شيء, جاءوا بي إلى هنا وزودوني بالأوراق ومنحوني اسماً, ودفنت اسمي داخلي حيث لن يستطيع أحد إخراجه.

          وأخبروني بالمطلوب تنفيذه, ودفعوا لي نصف المبلغ المتفق عليه. تناولت الطعام واشتريت ملابس واستأجرت حجرة في واحد من تلك الفنادق حيث يقرأ الناس قائمة الطعام خارج ثلاثة مطاعم قبل أن يقرروا أين سيتناولون طعامهم.

          وكان هناك ( شامبو) بالمجان في الحمام, ومفتاح للخزانة التي يُحفظ الشراب داخلها بدلاً من النقود.

          كانوا قد جهزوا كل شيء لي. فلقد تتبعوه طوال شهور, وعرفوا مواعيده والأماكن التي يذهب إليها, فرغم أنه كان رجلاً مهماً كان يفضل الخروج برفقة زوجته في خصوصية, دون أن يرافقه الحراس, لأنه أحب التظاهر بأنه شخص عادي.

          وعرفوا أنه لم يفهم أن سلوكه مستحيل, وجعلهم موقفه هذا يدفعون لي لتنفيذ ما طلبوه مني.

          وأنا لا أحد, وليس من بلد يحسبني ضمن تعداده السكاني, فالاسم الذي أعطوه لي لا وجود له: وهكذا فليس من أحد مسئول عما تم تنفيذه. كان يقتطع بعض الوقت, ويخرج برفقة زوجته إلى مطعم ذي أبواب مزدوجة للوقاية من برودة الطقس, وهو المطعم نفسه الذي اعتادا الذهاب إليه أسبوعاً بعد آخر, وبعد ذلك - رغم أنهم أخبروني أنهما يعودان للبيت - فلقد توجها إلى السينما. وانتظرت. تناولت كوب بيرة من أحد البارات, ثم عدت أدراجي.

          ولم يُظهِر الناس الخارجون من السينما أنهم قد تعرفوا عليه, وذلك لأن الناس في هذا البلد يحبون أن يدعوا قادتهم يبدون عاديين.

          واصطحب زوجته, مثل أي مواطن عادي, إلى ذلك الركن حيث المدخل إلى مترو الأنفاق, عندئذ وفي أثناء وقوفه ليسمح بمرورها أمامه, نفذت مهمتي.

          فعلت فقط ما دفعوا لي للقيام به, بعدما اختبروا قدرتي على الرماية, وأطلقت النار مباشرة على مؤخرة جمجمته. وفي أثناء سقوطه, وفي أثناء التفافي لأجري, فعلتها ثانيةً - حسبما كلفوني - للتأكد من موته.

          وارتكبت خطأ السقوط على ركبتيها فوق جسده, وذلك قبل أن تتطلع لرؤية من فعل ذلك.

          وهكذا فإن كل ما قالته للبوليس والصحافة وفي التحقيق, أنها رأت ظهر رجل في ملابس سوداء, جاكيت جلدي, يقفز فوق درجات السلم التي تؤدي إلى الشارع الجانبي. وكانت المدينة تتميز بالمباني الشاهقة والأزقة المظلمة الضيقة. ولم ترَ وجهي مطلقاً.

          وبعد سنوات الآن (كما قرأت في الصحف) داومت على إخبار الناس كيف أنها لم ترَ الوجه, أبداً لم ترَ وجه الفاعل. وإذا كانت قد نظرت إلى أعلى لثوانٍ فقط, كانوا سيتمكنون من العثور علي, وهكذا أصبح أنا ذلك الشخص المجهول.

          وظلت طوال الوقت تفكر في مؤخرة رأسي في القبعة السوداء. (حقيقة لم تكن سوداء, بل كانت عبارة عن مربعات بنية وخضراء, كانت قبعة غالية الثمن اشتريتها من النقود التي دفعوها لي, وبعد ذلك ألقيتها في قناة مائية وبداخلها حجر).

          وفكرت في عنقي, تلك البقعة الصغيرة التي تمكنت من رؤيتها بين القبعة وياقة الجاكيت الجلدي (ولم أستطع إلقاءه في القناة, واكتفيت بصبغه). وظلت تفكر في بريق الجاكيت الجلدي عند كتفي إثر سقوط شعاع ضوء من أحد المصابيح فوق أحد الأسطح, وكنت أعدو سريعاً حتى اختفيت بينما كانت تصرخ.

          وقبض البوليس على أحد مدمني المخدرات, أمسكوا به في الزقاق نفسه عند قمة السلالم المؤدية إليه. ولم تستطع أن تحدد ما إذا كان هو القاتل أم لا, لأنه لم يكن له وجه لتتذكره.

          وحدث الشيء نفسه مع كل من ألقى البوليس القبض عليه من الشوارع وحسب السجلات الإجرامية والقضايا السياسية, فلم يكن هناك وجه. ولذلك لم يكن هناك ما أخشاه.

          فطوال الوقت عندما كنت أُدفَع للفرار من بلد إلى آخر كنت في خوف دائم, خوف من عدم حيازتي للأوراق, خوف من التعرض للتحقيق, خوف من الجوع, أما الآن فليس من شيء يخيفني. ومازلت لا أخاف من شيء. ولا أتكلم.

          وتابعت الصحف لمعرفة ما تكتبه عما يحدث, وعرفت أن التحقيق لم يُغلَق ومازال البوليس والناس والبلد كله مستمرين في البحث.

          وقرأت كل النظريات المفسرة للحادث, وأحياناً - مثل الآن - في أثناء ركوبي لمترو الأنفاق أَطلع على نظرية جديدة في صحيفة بيد أحد الركاب.

          كانت حبكة إيرانية, بسبب ذلك العداء بين هذا البلد وتلك الحكومة هناك. محاولة جنوب إفريقية للانتقام من العقوبات المفروضة على حكومة عِرقية.

          بوسعي أن أقول من ارتكب هذا الحادث, لكنني لن أستطيع أن أقول لماذا. فعندما دفعوا لي نصف المبلغ المحدد كمقابل لم يخبروني عن الدافع ولم أسأل. فلماذا يجب أن أسأل عن الحكومة وبأي جانب, وفي أي مكان, كل ذلك سيورطني. فلقد كانوا وحدهم القادرين على تقديم أي شيء لي.

          وعندئذ حصلت على نصف المبلغ الذي وعدوني به. ولم يتبق منه الكثير بعد مرور خمس سنوات, ستتم خمس سنوات الشهر المقبل.

          وهكذا بدأت أقوم ببعض الأعمال, بين الحين والآخر, وهكذا لم يتساءل أحد عن مصدر المال الذي أدفع منه إيجار حجرتي وغير ذلك من النفقات.

          عملت في حلبة سباق, ولمرة أو مرتين عملت في نوادٍ ليلية. ولم تكن تلك الأماكن تقوم بتسجيل العاملين بها في مكتب العمل.

          وما شغلني هو ماذا سأفعل بالمال عندما أحصل على بقية المبلغ المتفق عليه, كما وعدوني?

          هل أرحل إلى مكان آخر?

          وعندما أفكر في الانتقال إلى بلد آخر, كما فعلوا, حيث أُخرِج عند الحدود الأوراق وأذكر الاسم - الذي لا يخص أحدا - الذي أعطوه لي, وأكشف وجهي.

          أنا لا أتكلم.

          لا أتكلم مع أي شخص. ولا حتى امرأة.

          وفي الأماكن التي عملت بها, كنت أتلقى عروضاً للقيام بأشياء, مثل نقل بضائع مسروقة أو نقل مخدرات, فلقد بدا الأمر وكأن الناس يستشعرون بطريقة ما أنني جعلت نفسي متاحاً. لكنني لست كذلك.. ! لست كذلك هنا, في هذه المدينة.

          فهذه المدينة لن ترى وجهي مطلقاً, فقد رأت ظهر رجل يقفز فوق درجات السلم المؤدي إلى الزقاق القريب من محطة مترو الأنفاق.

          وأعرف ما يقال عن عودة المجرم إلى مكان جريمته. لكنني لم أقترب منه, لم أتجاوز محطة مترو الأنفاق. لم أعد مطلقاً إلى تلك السلالم.

          فعندما صرخت خلفي في أثناء هروبي, كنت في طريقي للاختفاء, الاختفاء إلى الأبد.

          ولم أستطع أن أصدق ما قرأته عن أنهم لم يدفنوه في مقبرة. فقط وضعوه في ذلك الجزء من الحديقة العامة, المقابل للكنيسة المجاورة لمحطة مترو الأنفاق.

          كان مكاناً عادياً, يوجد به القليل من الأشجار العجوز التي تقطر منها مياه الأمطار على الممرات المغطاة بالحصى, ومنها إلى الشارع الرئيسي مباشرة.

          كان هناك شاهد حجري وسياج منخفض, وذلك كل شيء.

          وكان الناس يأتون وقت الغداء وفي أثناء خروجهم للتسوق, يخرجون من محطة مترو الأنفاق أو يخرجون من السينما, ويتسكعون عبر الممرات التي يغطيها الحصى ليقفوا أمام المكان الذي دفن به, ويضعوا الزهور عليه.

          كنت هناك ورأيت ذلك. لم أفر, فلقد كان مكاناً مثل غيره من الأماكن بالنسبة لي. وفي كل مرة أذهب إلى هناك, خلف الآخرين, ماشياً فوق الحصى الذي يغطي الممر, كنت أرى حتى الشباب الصغار ينتحبون وهم يضعون زهورهم وأحياناً يضعون صفحات ورقية بدت كما لو كانت تحمل سطوراً من قصائد ( ولم يكن بوسعي أن أقرأ هذه اللغة جيداً ), ورأيت كذلك أن التحقيق مازال مستمراً, وأنه لن ينتهي حتى يجدوا الوجه, حتى يستدير هذا اللا - أحد. ولن يحدث كل ذلك أبداً.

          والآن أفعل ما يفعله الآخرون. فتلك هي الطريقة يظل المرء في أمان, في أمان تام.

          واليوم اشتريت باقة  رخيصة من الزهور الحمراء, مربوطة بضمادة جروح مرنة ملفوفة بين الأوراق المسحوقة والأشواك الطرية, ووضعتها هناك, أمام الشاهد الحجري, خلف السياج المنخفض, حيث دفن اسمي مع جثمانه.

 

نادين جورديمر   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات