مَن سيحكم الجليد?

 مَن سيحكم الجليد?
        

لأن الدول الكبرى تعيش بشراهة تلتهم كثيراً من الموارد الطبيعية, التي يوشك الكثير منها على التآكل أو النضوب, فإن صراعاً خفياً يدور للاستحواذ على ثروات الطبيعة, حى لو كانت تحت أعماق الجليد, في قاع العالم, في القارة القطبية الجنوبية!

          عندما نظر رواد الفضاء إلى الأرض, وهم يحلقون بمركباتهم في أجواء الفضاء, قالوا إن القطب الجنوبي هو أجمل بقعة في المعمورة, إذْ يتألق كبللورة بيضاء! وعندما دق العلماء معاولهم في تربة القطب الجنوبي, قالوا إن الأرض هناك حُبلى بالخيرات!

          هل هذا هو كل شيء عن القطب الجنوبي?! الجواب: لا.

          فالعالم اليوم يراقب القطب الجنوبي بعقل ملؤه الفضول ونفس ملؤها الطمع, وقلب ملؤه الخوف!

          لماذا يثير قاع العالم هاته المشاعر المتضاربة في النفس الإنسانية?! هل يكون القطب الجنوبي فاتحة عهد من السلام تتقاسم فيه البشرية خيرات الطبيعة, أم يكون مسرحا لصراع جديد?! هذا ما نعرفه من السطور التالية.

قواعد علمية

          كجزيرة نائية عن العالم, يقبع القطب الجنوبي في طرف الأرض, ملفوفا في ثوب من الجليد جعله يبدو كعروس عذراء في ثوب الزفاف! ومنذ زمن بعيد والإنسان يتطلع إلى عذراء هذا الكوكب في فضول وتوثب, دون أن تواتيه الجرأة على اقتحام القلعة التي تحمي تلك العذراء - الجليد!

          قديما قال العرب: (يفوز باللذة الجسور). وقد احتاج اقتحام أسوار القطب الجنوبي إلى كثير من الجرأة والشجاعة وحب المغامرة. وقد اجتمعت تلك الخصائص في بعثة استكشاف بريطانية, كان على رأسها البريطاني (إيرنست شاكلتون), وفي عام 1908 وصلت البعثة البريطانية إلى مسافة مائة وستين كيلومترا (160 كم) من القطب الجنوبي. ودخلت هذه البعثة التاريخ باعتبارها مكتشفة (عروس الأرض)!

          ومنذ ذلك الوقت, توالت البعثات والرحلات إلى القطب الجنوبي. وتحول الغرض من البعثات - بمرور الزمن - من مجرد ارتياد المجهول إلى محاولة استكشاف القطب الجنوبي, ودراسة طبيعته الجغرافية. ولهذا الغرض أنشئت مراكز درس وبحث في القطب الجنوبي, ويطلق عليها اسم (قواعد) تجاوزا! (ترتبط كلمة (قواعد) بمعسكرات الجيوش وأماكن تجميع العتاد الحربي).

          توجد اليوم أربعون قاعدة أو (محطة) للأبحاث, في أماكن متفرقة من القطب الجنوبي. وتتبع هذه القواعد إحدى عشرة دولة, هي بريطانيا ونيوزيلندا, وفرنسا وتشيلي والأرجنتين, واليابان والنرويج وكوريا الجنوبية, والولايات المتحدة وروسيا وبولندا. وهناك بلدان تشارك في الأبحاث الجارية دون أن يكون لها قواعد فعلية, مثل ألمانيا  وأستراليا وإسبانيا.

          وفي القواعد الأربعين يعمل سبعمائة شخص, في ظروف مناخية بالغة الضراوة. فدرجة الحرارة في الشتاء تنخفض في المتوسط إلى أربع وأربعين تحت الصفر المئوي (-44 درجة مئوية)! وقد سجلت القاعدة السوفييتية, الكائنة في شرق القطب الجنوبي, أدنى درجة حرارة قيست على سطح الأرض منذ عرف الإنسان قياس الحرارة الدقيق, وكانت تزيد قليلا على ثمان وثمانين درجة تحت الصفر المئوي  (-3ر88 درجة مئوية)! وكان ذلك يوم 24 أغسطس (آب) 1960.

          أحد العلماء العاملين في القطب الجنوبي وصف حاله هناك فقال: (جلدي جاف مثل جلد المومياء! أنفي ينزف دماً باستمرار! عيناي دائما محتقنتان! في الصيف, لا أستطيع تمييز الأيام, إذْ لا فرق بين الليل والنهار!) (تكون الشمس مشرقة طوال الأربع والعشرين ساعة كل يوم من أيام الصيف).

          هل يستحق الأمر كل هذا العناء?! بالنسبة للعلماء, الجواب نعم. وكما أجاب أحد العلماء عن هذا السؤال: (إذا فقدت فرصة العمل في أبحاث الفضاء, فأفضل بديل هو القطب الجنوبي)!

          وبالنسبة للبشرية, فالمعرفة المتاحة من استكشاف القطب الجنوبي تستحق هذا العناء وزيادة! ففضلا عن إزالة الغموض المحيط بقاع العالم, وفضلا عن البحث عن الخيرات التي يمكن أن يجود بها ذلك الجزء من كوكبنا, فإن المعرفة المتاحة ستزيد من فرصة فهم الحياة بوجوهها المختلفة في هذا الجزء من الكون - الأرض!

معاهدات دولية

          وفقا لمبدأ (وضع اليد), فإن السابق إلى بقعة غير مأهولة من الأرض يدّعي ملكيتها! فهل ينطبق هذا المبدأ على القطب الجنوبي? حاولت بريطانيا تطبيق ذلك المبدأ, إثر قيام البريطاني (إيرنست شاكلتون) ببعثته الاستكشافية في عام 1908, فادّعت بريطانيا ملكيتها للجزء من القطب الجنوبي الواقع بين خطي الطول عشرين وثمانين غربا!

          إلا أن نيوزيلندا ادّعت لنفسها حقا في الملكية, في عام 1923. وتبعتها فرنسا, في عام 1924, ثم أستراليا في عام 1933! إنها غنيمة, وكلّ يبحث عن نصيبه منها! وربما كان يمكن تقسيم الغنيمة لو وقف أمر ادّعاء الملكية عند هذا الحد. بيد أن الأمور تطورت, فادّعت كل من تشيلي والأرجنتين حقا في الملكية, وكان ذلك إبان الحرب العالمية الثانية.

          والعجيب حقا, في عالم يكثر فيه الجري وراء الغنائم, أن كلا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (آنذاك) لم يطالب بحق في ملكية جزء من القطب الجنوبي! وبدلا من ذلك, أيدت الدولتان العظميان فكرة تدويل القطب الجنوبي, وجعله مكانا موقوفا على الأبحاث العلمية لمصلحة البشرية كلها.

          وفي عام  1959, عقد أول مؤتمر دولي لمناقشة مستقبل قاع العالم, ونتيجة لمباحثات مستفيضة, استقر الرأي على استبعاد حقوق التملك, واعتبار القطب الجنوبي ملكا لكل البشر. وفي يوم 23 يونيو 1961, وقعت (معاهدة القطب الجنوبي). ومن نصوص المعاهدة, أن الأرض الواقعة جنوبي خط العرض ستين, لا يحق لدولة بعينها ادعاء ملكيتها. (المقصود بذلك هو القطب الجنوبي).

          ومن نصوص المعاهدة كذلك, أن الأبحاث التي تجري في القطب الجنوبي, مثلها مثل تلك التي تجري في الفضاء, يجب أن تقتصر على الأغراض السلمية, وأن تكون المعلومات الناتجة من الأبحاث معلنة ومتاحة لجميع الدول. بمعنى أنه لا سرية في ما يتوافر لديها من معلومات عن القطب الجنوبي. واشترطت المعاهدة على الدول التي تجري أبحاثا في القطب الجنوبي أن تحافظ على البيئة الطبيعية, وألا تحاول الاستفادة من ثمرات القطب الجنوبي لمصلحتها بمفردها. حتى الجليد الموجود في القطب الجنوبي, ليس يحق لدولة أن تنقله من هناك - وفقا لشروط المعاهدة! (يمكن تذويب الجليد والاستفادة منه كمصدر طبيعي للماء).

          أما المياه المحيطة بالقطب الجنوبي, فينطبق عليها القانون الدولي المنطبق على باقي المياه الطبيعية في العالم, مع مراعاة عدم وجود قيود إقليمية حول القطب, إذْ ليس يملكه أحد.

          هذه المعاهدة تعبتر إنجازا عظيما في عالم تكثر فيه الصراعات والنزاعات, وقلما تلتقي فيه أطراف مختلفة على اتفاق. ولكن المؤسف أن المعاهدة صالحة مدة ثلاثين عاما من تاريخ توقيعها. بتعبير آخر, فإن (معاهدة القطب الجنوبي) قد انتهت بحلول عام 1991!

صراع المستقبل

          إلى أي مدى التزمت البلدان المعنية باتفاقية القطب الجنوبي ببنود وشروط الاتفاق? إلى الحد الذي يشير إلى احتمال نشوب صراع في المستقبل! خذ مثلا صيد الأسماك من مياه القطب الجنوبي. لأعوام عدة, أخذت اليابان والاتحاد السوفييتي (سابقا) وبولندا وألمانيا وتشيلي والنرويج وكوريا الجنوبية والأرجنتين وإسبانيا, في صيد الأسماك من منطقة القطب الجنوبي على نطاق واسع. وهناك نوع من السمك الصغير ينمو بكثرة في مياه الجنوب ويعرف باسم (كريل). وهذا السمك يعتبر المصدر الغذائي شبه الوحيد للأحياء الحيوانية في القطب الجنوبي, سواء كانت في الماء مثل الحيتان, أو على اليابسة مثل طائر البطريق. وقد بلغ إجمالي الحصاد السنوي لتلك البلدان المذكورة من سمك (كريل) ما بين ثمانين ألفاً إلى تسعين ألف طن (000ر80-000ر90ط).

          وقد أدى هذا الخرق السافر لبنود الاتفاقية والذي أوشك أن يخلّ بتوازن البيئة في القطب الجنوبي, إلى عقد اجتماع لـ(اللجنة العلمية لأبحاث القطب الجنوبي) (وهي هيئة دولية) في عام 1980, طالبت فيه بضرورة احترام الاتفاقية وعدم المساس بتوازن البيئة في قاع العالم.

          هذه حادثة, وهناك حادثة أخرى جرت في القاعدة الفرنسية في القطب الجنوبي. ففي المنطقة المسمّاة (أديلي لاند), حيث تتمركز محطة الأبحاث الفرنسية وحيث توجد أسراب كثيرة لطائر (البطريق), قام الفرنسيون باستخدام متفجرات (ديناميت) في أثناء إنشاء ممر لهبوط الطائرات في القاعدة, (معظم المحطات يتم تزويدها بالمئونة ولوازم المعيشة الأخرى بطريق الجو في فصل الصيف). وقد أدى تفجير الديناميت إلى تدمير ثلاثة من مراكز تجمع طائر البطريق الستة في تلك المنطقة! وفي المؤتمر السنوي لأبحاث القطب الجنوبي الذي عقد عام 1984, نقل أحد العلماء الفرنسيين العاملين في المحطة خبر الحادثة إلى المؤتمر.

          والحقيقة أن تصرف العالم الفرنسي يدل على مسئولية واحترام للاتفاق الدولي المبرم, كما يدل على رغبة جادة في المحافظة على توازن البيئة في جنوب العالم. ولكن المؤسف أن الحكومة الفرنسية طردت ذلك العالم من العمل في محطتها, ومنعته من السفر مرة ثانية إلى القطب الجنوبي! وليس تصرف الحكومة الفرنسية حيال أحد علمائها خرقا لحقوق الإنسان فحسب, ولكنه يكشف في ذات الوقت الوجه الحقيقي لطريقة التفكير, بما في ذلك من نوايا في المستقبل!

          وخلافا لهاتين الحادثتين, هناك مؤشرات كثيرة تدل على حتمية نشوب صراع في المستقبل. من ذلك مثلا, أنه في محاولة لتمديد صلاحية اتفاقية القطب الجنوبي, عقدت اجتماعات دولية في الأعوام 1972 و1975 و1976 و1980. ولم تسفر تلك الاجتماعات عن أي نجاح, نتيجة إصرار كل من تشيلي والأرجنتين وبريطانيا على حقوق التملك!

          ثم هناك الثروات الطبيعية المخبوءة تحت الجليد. فقد اكتشف الروس جبلا من الفحم في عام 1960. كما اكتشفت معادن أخرى مثل الحديد والرصاص والزنك. حتى الألماس يحتمل أن يكون موجودا. كذلك اكتشف الغاز الطبيعي في مناطق عدة من القطب الجنوبي. وتذهب الدراسات التي أجريت في هذا الشأن إلى احتمال وجود مخزون من الغاز الطبيعي يقدر بمائة وخمسة عشر مليون متر مكعب (115 مليون م3).

          والغاز الطبيعي يعني ضمنا أن النفط موجود. وقد قُدّر الموجود من النفط في القطب الجنوبي بخمسين مليون برميل! وفي أثناء أزمة النفط العالمية في عام 1973, ارتفعت صيحات من عدة بلدان تطالب باستغلال النفط في قاع العالم لحل الأزمة.

          الخلاصة إذن أن القطب الجنوبي ليس جليدا فحسب, ولكنه كنز من الخيرات غير المستغلة. وطبيعي أن لُعاب الإنسان بدأ يسيل لهذه الخيرات. وطبيعي كذلك أن الطمع سيحفزه إلى خطوة تالية. وهل تكون تلك الخطوة شيئا غير الصراع?!

          استنادا إلى ذلك, فإن السؤال المطروح ليس هو: هل سينشب صراع حول القطب الجنوبي في المستقبل?! فالصراع سيقع لا محالة! ولكن السؤال هو: من سيشترك في الصراع?! هل هي البلاد التي تملك قواعد أبحاث, أم البلاد التي تدعي حق الملكية?! وإذا كانت الدولتان الكبريان - أمريكا وروسيا - سكتتا في الماضي عن ادّعاء الملكية, فما هو موقفهما في المستقبل?! وهل ستقف باقي البلاد في المعمورة موقف المتفرج أم سيكون لها دورها في الصراع?!

 

عبدالرحمن عبداللطيف النمر   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مستعمرات طيور البطريق على أطراف القارة المتجمدة الجنوبية





بحيرات نادرة وسط ثلوج القطب الجنوبي





أنواع نادرة من البطريق .. أحد ملامح ثروات الطبيعة فوق الجليد, وماخفي تحته أعظم





أنواع نادرة من البطريق .. أحد ملامح ثروات الطبيعة فوق الجليد, وماخفي تحته أعظم