أصداء علمية.. صَدْمتا تكوين البشر

 أصداء علمية.. صَدْمتا تكوين البشر
        

منذ ما يقارب ثلاثة قرون قدمت الكاتبة ماري شللي روايتها الصادمة (فرانكنشتاين), لتعكس فزعاً من احتمالات عبث البشر بتكوين الإنسان. وفي أيامنا هذه تخرج علينا امرأة أخرى, لكنها دميمة وتنتمي إلى طائفة الرائيليين المريبة, لتصدم البشرية بزعم إتمام استنساخ أول كائن بشري (أسمته حواء). وما الصدمتان إلاّ نوع من الانفجارات الارتدادية لاختراقات العلم لحاجز المألوف.

          يقول الفيلسوف الأمريكي جون ديوي إن (كل تطور في العلوم هو وليد خيال علمي). وخلال القرون الثلاثة الأخيرة, وهي أشبه بالأمس في تاريخ البشرية الطويل.

          قامت ثورتان خياليتان علميتان استحوذتا على العقل البشري حيال مسألة الحياة وسلطة الإنسان على تطوره ومصيره البيولوجي. الأولى قصة فرانكنشتاين للكاتبة البريطانية ماري شللي, التي ظهرت في القرن التاسع عشر ولاتزال تقرأ حتى اليوم وتتبارى السينما في تقديم نماذج جديدة منها, والثانية (سيناريو حواء) الذي أطلقته عالمة الكيمياء بريجيت بوسيلييه, في اللحظات الأخيرة من القرن العشرين.

الصدمة الأولى

          لمن هو بحاجة إلى تذكير أو لم يسبق له أن قرأ رواية فرانكنشتاين أو لمن شاهدها فيلما ولم يطلع على النص الأصلي الرومانسي, فهي قصة عالم نجح في إعادة الحياة إلى جثة بإعادة تركيب وتجميع أجزائها وخاصة الدماغ بعد استخراجه من رأس عالم فذّ توفي للتو. وبتسليط الكهرباء على الجثة المغموسة في مركبات كيميائية ملائمة, تم إحياؤها. ولكن حادثا عرضيا تعرض له الدماغ أثناء سرقته وإبان حفظه أدى إلى تلف شيء ما, وبالتالي إلى عدم توازن (المخلوق). يضاف إلى ذلك أيضا بشاعته الفظيعة التي جاءت نتيجة لطبيعة العملية الجراحية المعقدة والغريبة, فقد (ولد) مشوها ومخيفا مما أدى إلى نفور المجتمع منه.

          جميع هذه العوامل تضافرت مؤدية إلى سلسلة تطورات مؤسفة راح (المسخ) ضحيتها. ومما زاد من المأساة ذلك الصراع المزمن والتناقض الحاد بين الطيبة الفطرية التي عبر عنها ذلك المخلوق والشر الذي سيطر على تصرفات المجتمع والعداء غير المبرر في كثير من الأحيان الذي ووجه به المخلوق.

          وتنتهي الرواية بمقتل صانع المسخ على يد صنيعته وإسدال الستار على الرواية والمسخ هائم على وجه الأرض.

          ومن الواضح أن في النهاية هذه عبرة واضحة أرادتها مؤلفة الرواية.

          كانت ماري شللي في حدود الثامنة عشرة من عمرها عندما كتبت القصة. وقد برعت في رسم التيارات التي أخذت تعصف بعصرها والآفاق التي تفتحت ثم أحاسيس البشر تجاه ذلك النوع من التطورات والأحداث التي تصعق العقول على مدى العصور. ولاتزال بصمة ماري شللي في خيال الناس ظاهرة منذ قرنين من الزمن, وقد تستمر هكذا لمرحلة طويلة من تاريخ الحضارة البشرية. وبحسب الكاتب البريطاني براين ألديس, فإن أدب الخيال العلمي بدأ مع ماري شللي وتطور مع جول فرن في فرنسا.

          ولكن ما يهمنا الآن هو دورها الريادي على صعيد استقبال العلم والقبول بتطوراته.

          كانت ماري شللي سليلة عائلة أدب جم ونفوذ سياسي وفكري ليبرالي ثاقب. والدها الفيلسوف الفوضوي والمفكر الحر وليم غودوين وأمها داعية حقوق المرأة ماري وولستونكرافت, كلاهما كانا من معارضي النظام ومناصري أفكار ومبادئ الثورة الفرنسية, وخاصة جناحها اليعقوبي المتطرف.

          كما كانت ذات جمال مشع. وعلى ما تقوله كتب السيرة والرسوم, فقد كانت بشرتها رائعة عجزت اللوحات الفنية عن تجسيد شفافيتها, والأهم أنها كانت ذات قدرات عقلية رفيعة. وقد اعترف بيرسي بيش شللي, الشاعر الرومانسي الذي افتتن بها وتزوجها على امرأته, بأن (رغبة جامحة دفعته لتملك هذا الكنز الثمين). وقد عكف على صقل مواهبها وإرشادها للقراءات المفيدة فافتتنت به بدورها وكان شاعرا واعدا في السادسة عشرة من عمره, وثائرا كأبيها الذي كان يتردد عليه, فانشغلت به ومعه (خمس حالات حمل خلال ثماني سنوات من العلاقة وطفلان قبل الزواج). فرت معه إلى القارة (أوربا) بعيدا عن جو لندن المتزمت لكون شللي متزوجا, ثم تزوجا بعد انتحار الزوجة يأسا وتعاسة. ومن المؤكد أن ماري كانت أكثر من جَسّد الشرط الذي وضعه شللي لشريكة حياته وهو أن (تتحسس الشعر وتفهم الفلسفة). وقد بلغ إعجابه بها حدا دفعه إلى إهدائها كتابه (ثورة الإسلام) الذي لخص فيه دعوته إلى التغيير وإعادة تنظيم المجتمع.

الذاتي والموضوعي وماري

          كانت ولادة ماري شللي عام 1797 أي في ذروة صدمة الثورة الصناعية وبعد أقل من عقد واحد من بداية الثورة العلمية (حوالي 1789). وكانت بالتالي مرحلة مفصلية مهمة في التاريخ. فاستطاعت أن تستوعب ما كان يتفاعل على مسرح التاريخ من تيارات وهي بعد في ريعان الصبا, فجاءت روايتها تعبيرا عن معاناة مستمدة من القلق الذي تبديه العقول الذكية ذات الخلفية الناصعة وهي تستجيب للتحولات الكيانية العميقة التي تلهب العالم بوهجها.

          كان ما كتبته ماري شللي ثمرة عاملين: الأول رجع الصدى لما كانت تدور به عجلة الحضارة وهي تطحن في طريقها الأفكار وتعيد صياغتها, والثاني عامل ذاتي شخصي.

          ففي العام  1815 رزقت ماري بطفلة لم تعش أكثر من أسبوعين. وقد روت مأساتها المروّعة على الشكل التالي: (استيقظت في الليل لأطعمها, فلم تستجب, خلتها نائمة ولم أرد إيقاظها. وظلت نائمة بجانبي وهي ميتة إلى أن اكتشفت ذلك عند الصباح). وأضافت أنها حلمت بها (بعد بضعة أسابيع وكانت تبدو متجلدة من شدة البرد. قمت بتدليك جسدها قرب المدفأة فعادت الحياة إليها من جديد. وحينما استيقظت (أدركت أنه كان حلما وتألمت لأنني لم أجدها إلى جانبي).

          وقد شكلت مسألة الموت وبعث الميت إلى الحياة لب قصة فرانكنشتاين وعقدتها المركزية والعامل الذاتي ضمن دوافع التأليف لدى الكاتبة.

          أما العامل الثاني, أي الظروف الموضوعية التي أوحت بالرواية, فكانت الثورتان العلمية والصناعية اللتان اجتاحتا أوربا وقلبتاها رأسا على عقب.

          وليس من الصعب تصور الأثر الذي تركته مثل هذه التحولات في العقول النيرة وغير الرتيبة, بل والجريئة إلى أقصى الحدود حتى في حياتها الشخصية والاجتماعية. فقد كانت ماري شللي رفيعة الثقافة. ومن المرجح أنها قد اطلعت على الفصل المتعلق بـ(التوالد) في كتاب أراسموس دارون الجد, (زونوميا أو قوانين الحياة العضوية) الذي بدت فيه ملامح فكرة التطور والتكيف والتنازع في سبيل البقاء.

          وقد بدا كل شيء جاهزا لبطل روايتها للدخول إلى قبو المنزل وبدء تجاربه المرعبة المثيرة ولدخولنا عصر الخيال العلمي الهادف إلى صنع عالم جديد.

          ومن المرجح أيضا أنها قرأت جان جاك روسو, أبرز رومانسيي حركة النثر, إذ إن مفهومه القائل بأن رجل الغاب, أي ابن الطبيعة الخام (همجي ونبيل) في آن, هو في صلب تكوين شخصية (المخلوق) الذي صنعه الدكتور فرانكنشتاين. أليس مشهد (المخلوق) وهو يطرب لعزف الكمان تجسيدا لهذه الفكرة?

          في هذه الرواية المرعبة نجد أيضا الشره الرومانسي نحو الاختبار الملطف بتحذير رومانسي آخر ملطف بأن القوة المطلقة خطيئة, وأن اللذة ليست صافية وإنما مشوبة دائما بالألم. وفي العبارات القليلة التي نطق بها (المخلوق) دلالة على الكثير مما قد اطلعت عليه من أفكار وإشارات غنية مجتزأة من بلوتارك وميلتن وغوته.

          ومن الواضح إذن أن ماري شللي كانت مستوعبة للعصر برمته لا بتحولاته الميكانيكية وأبعاده فحسب, وإنما بأنماط التفكير الجديدة التي نتجت عن الانقلاب الاقتصادي وما حفل به من تغيرات اجتماعية وأدبية. وقد برزت القناعة آنذاك بأن العلم مؤهل ليكون المرشد لكل توجه عقلي سليم, وأنه وحده القادر على توفير الأجوبة الصحيحة لكل ما يمكن طرحه بصورة عقلانية.

          ولذلك قيل إن رواية فرانكنشتاين هي الوحيدة بين روايات الرعب ذات المغزى والرسالة, وقد رسخت في أذهان الناس رهبة مسبقة لكثير من المتغيرات الوراثية الممكنة التي يتيحها التطور العلمي.

أثر الرواية

          ما الأثر الذي خلفته هذه الرواية طوال ما يقارب القرنين من الزمن?

          مما لاشك فيه أن فكرة الرواية أخّاذة لم نر مثيلا لها من حيث قوتها ومساسها بجوهر توق الإنسان إلى الخلود وسعيه الدائم لمعرفة سر الحياة. وقد دأب على البحث عن إكسير الخلود إرضاء لهذا الهاجس الرابض أبدا في ضميره. وحتى اليوم لم تتمكن أي رواية رعب أو خيال علمي من أن تستولي على خيال الناس بمثل ما فعلت هذه الرواية رغم كل تقدم العلم وما جرّت إليه فتوحاته من احتمالات وما أثارته من رؤى وخيالات وما فتحته من آفاق.

          ولكن تجربة التكوين التي زعم دارون الجد والكتّاب الألمان بإمكان حصولها, جعلتها ماري شللي عمدا عملية فاشلة, محولة المخلوق إلى مسخ والحلم إلى كارثة, كدليل على التحذير الذي تنطوي عليه الرواية من التلاعب بقوانين الحياة وأسرارها.

          هذه الرواية التي اتصفت بقوة الخيال, تميزت, أيضا, من الوجهة الفلسفية, بتحليل الصراع بين العقل والعاطفة, وبالتحذير من مخاطر اقتحام الحدود المحرمة. ولعل الرسالة الأساسية التي رغبت ماري شللي في إيصالها إلينا هي أن توق الإنسان لفهم العالم المحيط به والسيطرة عليه مشروط بقدرته على فهم ذاته والسيطرة عليها.

          والطيبة الفطرية التي جابه بها المخلوق الناس, وبالمقابل الحذر الذي جوبه هو به من قبل الناس, قد عبر عن مفهوم عدوانية المجتمع وانتصار الشر وحدود محاولات تغيير سنن الطبيعة.

          أما الصراع المستدام بين الخير والشر فقد عبر عنه قرار (الخالق) بمواجهة مخلوقه بعد أن حاول تجنبه. إنه صراع أزلي, ومن أجل ذلك جعلت ماري شللي من (الخالق) سيدا لمخلوقه وعبدا له في آن. ولذلك أطلقت على مخلوقها الاسم الأسطوري (برمثيوس) وهو حسب الأسطورة صديق البشر وسارق نار المعرفة والذي - كونه وهبهم إياها - لقي جزاء قاسيا بجعله يصلب على شفير هاوية. وكانت النسور تنهشه ولكن كلما أطل صباح جديد كسته الآلهة بجلد جديد لتطعم به النسور في عذاب أبدي. وهكذا حرم (المخلوق) من قوة يأنس إليها وحكم عليه بالوحدة الأبدية عقابا له, وهو البريء أصلا. وأما السبب فناتج عن مخاطر اقتحام حدود المعرفة والتلاعب بأسرار الحياة التي تواجه كل مجتمع يمر بمرحلة انقلاب علمي - تكنولوجي.

دخول على الخط

          بعد ثلاثة قرون من (تركيب) (فرانكنشتاين) وقفت امرأة أخرى, تدعى بريجيت بوسيلييه, لتعلن (ميلاد) حواء, أول وليد مستنسخ بين البشر. وبهذه التسمية بدت (المخلوقة) كما لو أنها بداية لجنس بشري جديد.

          ورغم أنه لم يتم التثبت من هذا (الميلاد) وما تلاه من إعلانات مماثلة أخرى عن الجهة نفسها, ولم يتم تقديم الأدلة على (حواء الجديدة) وميل الكثيرين - وربما الأكثرية - إلى الشك بالنبأ, فإن الصدمة قد فعلت فعلها. فإن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد سيشهد العالم بشرا مستنسخين. والفكرة لم تعد مستحيلة في خيال الناس رغم الصعوبات والمخاطر والأضرار التي يتكلم عنها أهل الخبرة والاختصاص في الوقت الحاضر على الأقل.

          ومثلما تضافرت عوامل عدة, علمية واجتماعية, في القرن الثامن عشر لظهور فكرة إعادة تركيب الحياة وبعثها من مكونات بشرية نافقة, فالفكرة أصبحت جاهزة اليوم لاستنساخ (حياة جديدة) وتحقيق حلم الخلود الأبدي بنسخ الذات مرة تلو الأخرى, ذلك أن طبيعة الثورة العلمية المعاصرة راحت أبعد مدى من تطورات القرن الثامن عشر بكثير.

          كما أن هناك عاملاً آخر رمى بثقله في الميزان وساهم في الضجيج الذي أثاره الإعلان عن (حواء الثانية). فالعالم كله اليوم في حالة, بل مرحلة نفسية, هي الانتظار والترقب. وسبب ذلك يعود إلى مجموعة التطورات العلمية المشار إليها وغيرها الكثير في معظم قطاعات العلوم والطبابة, بمعنى أن البشرية ليست أمام ثورة بيولوجية فحسب بل ثورة عامة شاملة نتجت عن التطور الذي رافق الاختراقات التي شهدها قطاعا التكنولوجيا الرفيعة والاتصالات. فهناك تغيير لا سابق له في كل شيء وكل شيء معرض للتغيير.

          فالعالم ينتظر الآن نبأ العثور على حياة أخرى في الكون, والعالم ينتظر بعد حين تأهيل محطات فضائية تكون بداية لهجرة من الأرض, والعالم يخشى أن يصبح كل ما يتناوله من طعام إما معدلا وراثيا أو مركبا من بروتينات بديلة. كل شيء أصبح ممكنا.

          ومن الواضح أن الإنسان أصبح يملك للمرة الأولى في تاريخه مفاتيح التحرر من الطغيان الجيني, ويأمل أن يحقق في عصره حلم (الخلود الشبابي). بل إن البعض يعتقد أن العلم سيتغلب على الأمراض التي تؤدي إلى الموت ولذا يوصون بأن تحفظ أجسادهم في كبسولات من النتروجين بانتظار (يقظتهم) عندما يتسنى علاج مرضهم أوعجزهم. وهناك من بدأ بتجارب الدمج بين الشريحة الكمبيوترية والدماغ البشري بحيث يصبح العقل خزانا هائلا من القدرات. إنه عالم مستعد لقبول كل فكر وأي فكرة.

          ومما لا شك فيه أن عقيدة (الرائيليين) التي تنتمي إليها (مقدمة حواء) تمثل ثقافة عصرية. فهم, إلى جانب سذاجة تفاصيل معتقداتهم (الفضائية - الأرضية) وانهماكهم في محاولة إقناع الحكومة الإسرائيلية بافتتاح سفارة للكائنات الفضائية في إسرائيل دون غيرها, وبمواصفات هندسية قيل إنه موحى بها بالتفصيل على غرار ما حصل مع نوح حينما شيد مركبه, فهم يؤمنون بمسألتين: العلم ومركزية فكرة الخلود لدى الإنسان. وبهما يستقطبان الأتباع.

          وتعتبر بوسيلييه عالمة كيمياء مرموقة, حسب بعض المصادر الجامعية والعلمية. وبرغم بشاعتها (خاصة إذا ما قيست بماري شللي) بسبب أنفها الطويل الذي يذكر بأنف الساحرات, وأسنانها المسوسة القبيحة, فقد امتازت إطلالتها بكبرياء نمطية لقولها من دون تردد (إنني أخلق حياة جديدة). وباستثناء نزاعها مع الشركة التي كانت تعمل فيها أثر انكشاف دورها في مؤسسة (كلون إيد) وخلافها مع زوجها وحرمانها حضانة ابنتها, وكون ابنتها الثانية حاضنة (حواء الجديدة), فإنه لا يعرف عنها الكثير. وقد دخلت التاريخ بإعلانها المدوي وستظل تذكر مقرونة بالاستنساخ مثلها مثل النعجة دوللي, لا مثل (مستنسخ دولي) الذي قلما يتذكر الناس العاديون اسمه.

          الصدمتان اللتان نتجتا عن الفكرتين هما واحدة نسبيا. لكن السؤال هو إلى أين يقودنا هذا الحلم الجديد? وإلى ما آل إليه الحلم القديم?

تجميع الإنسان

          البعض يعتقد أن حلم (إعادة تركيب الإنسان) حسب ماري شللي, قد انتهى مدفونا في بطون الكتب القديمة. لكن ذلك ليس بصحيح. فهذه التقنية حاصلة ضمنا في الجراحة الحديثة عبر عمليات زرع الأعضاء واستبدالها. أليس التبرع بالأعضاء وانتزاعها بعد موت أصحابها وإعادة زرعها في الأحياء تعبيرا من نوع ثان عن الفكرة? أليست عمليات التجميل, من شد جلد وتكبير أثداء وتضخيم شفاه وشفط دهون تعبيرا من نوع ثالث عن الفكرة نفسها? ربما بقي الدماغ الوحيد المستعصي ولكن إلى متى?

          فهل يعني ذلك أن الاستنساخ سيجد لنفسه مكانا طبيعيا في حضارة القرن الحادي والعشرين?

          من صفات الطبيعة البشرية أنها مفطورة على المغامرة. ومن الطبيعي أن يقتحم الإنسان بابا موصدا بدأ ينفتح تدريجيا. لم يصادف التاريخ جيلا بشريا وقف خجولا أمام إغراء القفز إلى  الأفق الجديد متراجعا عن الاستكشاف والاختبار وتحري المجهول حينما تتوافر له الفرص وتتفتح أمامه الأبواب. ومن المؤكد أن الاستنساخ سيتم يوما سواء كان مسموحا به أم محظورا, لا من أجل أن يلعب العلماء دور الخالق بل ممارسة لنشاطهم العلمي. علما أن القاعدة الأولى والرئيسية في العلم هي أن ما يمكن فعله سيتم فعله.

          وتتصف مسيرة المعرفة العلمية بمحطات وقوف بين الحين والآخر بانتظار اكتشاف نظرية أو تقنية أو أداة جديدة ولكن لا تراجع إلى الوراء. ومن أجل ذلك فإنه لا يمكن القضاء على التقدم العلمي إلا بإبادة الحضارة بكاملها. وأفضل من عبر عن هذه الحقيقة موفق الدين عبداللطيف بن يوسف البغدادي بقوله إن العلوم تغور في زمان وتفور في زمان آخر. مشبها إياها بعيون المياه أو النبات المتنقلة من مكان إلى مكان ومن حضارة إلى أخرى.

          لكن لا بد من إيراد محاذير مثل هذه التقنية.

          إن البروتينات التي تتشكل منها الكائنات الحية, بشرية كانت أم حيوانية أم نباتية, هي ذات تركيب واحد وقواعد كيميائية واحدة. واختلافها هو في تسلسلها داخل الخلية وداخل الـ(دنا) تحديدا وليس في تركيبها. أي أن الفارق الذي يجعل هذا الكائن إنسانا وذاك حشرة, أو هذا رجلا وتلك امرأة أوهذا رجلا طويلا وذاك قصيرا, أو هذه يدا وتلك قدما, هو في طريقة انتظام شيفرة التعليمات, والتي هي بمنزلة برنامج لتكوين الحياة, مما يعني أيضا أنه خلافا للدم الذي يفسد إذا نقل من نوع إلى آخر, وأحيانا من إنسان إلى آخر ذي فصيلة دموية أخرى, فالقواعد التي يتشكل منها البروتين, وهو حجارة بناء الحياة, قادرة على الالتحام مع بعضها البعض, سواء كانت تخص إنسانا أو ذئبا, حشرة أو نبتة.

          وهنا مكمن الخطورة. فإذا كان العلماء قد نجحوا في إنتاج نبتة تبغ مضيئة عن طريق الدمج بين جينات النبتة بالجينة البروتينية المسئولة عن الإضاءة في صرار الليل, التي تتضمن أنزيما يدعى الوضاء Luciferase, وإذا كانوا قد نجحوا في تخليق حيوان مبتكر لا سابق له بين الأنواع الحيوانية, وهو (الغيب) المزيج بين الماعز والخروف, فماذا يمنع عالما غريب الأطوار يعمل في مرآب منزله سرا أن يكوّن إنسانا ذئبا حقيقيا? لا شيء سوى القيم والأخلاق.

          والمؤسف أن الإنسان الذي يمتلك تقنية التلاعب بمصير الحياة لا يتسم بالحكمة اللازمة لإدارة مثل هذاالتطور. وفي حال استمر تطور الحضارة البشرية على النمط الذي تسير فيه, فالإنسان لن يبلغ مستوى أخلاقيا يؤهله لامتلاك أسرار الحياة. وللأسف, فإن التطورين العلمي التكنولوجي والأخلاقي غير متكافئين ولا هما متلازمان.

          في الإنجليزية تعبير غني هو Thinking The Unthinkable أي التفكير بما لا يعقل التفكير به, ولا أعتقد أن هناك ميدانا تنطبق عليه هذه العبارة اليوم كميدان الهندسة الوراثية طبعا, باستثناء فكرة الحرب النووية التي ولدت هذه العبارة في أجوائها.

          ومن أجل ذلك فإن معظم الدول عمدت إلى معارضة استنساخ البشر منذ الإعلان عن ولادة النعجة دوللي.

العوامل الاجتماعية

          إذا كان الاستنساخ نتيجة منطقية للتطور التكنولوجي فإن العوامل الاجتماعية ضرورية لتحوله إلى واقع حيوي مستدام ذي ضرورة أوحاجة. ولكن العوامل الاجتماعية لا تشكل حتى الآن قوى تدعم هذا التطور. إذا نظرنا إلى المجتمعات الغربية حيث تحققت فيها التطورات التكنولوجية التي نحن بصددها فإننا نلاحظ أن مؤسسة الزواج ضعفت قياسا إلى الماضي. والنمط التاريخي العالمي المتمثل في الزواج, قد انحسر على صعيد العلاقات بين الرجل والمرأة.

          وماذا بشأن الأعضاء المفقودة أو المعطوبة?

          باستثناء التطورين العلمي والطبي فإنه في الواقع لا توجد حاجة حقيقية وملحة للاستنساخ, ولكن تقدم الأبحاث على صعيد الخلايا الجذعية سيلغي الحاجة للاستنساخ كسبيل للتعويض عن الأعضاء المفقودة في الجسم البشري.

          من هنا, فإن قوى السوق التي تقف وراء تحول التطورات العلمية إلى صناعة ذات أسس ثابتة غير متوافرة حتى الآن بالنسبة للاستنساخ. خاصة أن تجارب العلماء في هذا المضمار وفي الهندسة الوراثية عموما قد أظهرت أن إجراء مناقلات مناسبة بين الجينات قد يسمح بتوليد الماشية من دون الحاجة لاستنساخها من أنسجة حيوانات بالغة. وقد تتجمع قوى السوق لتدعم الاستنساخ بالنسبة للحيوانات لا البشر. وعلى سبيل المثال استخدام تقنية الاستنساخ لـ (انتاج) الأجبان. ففي ذلك فائدة اقتصادية. ولكن ما فائدة استنساخ البشر اقتصاديا?

          يظل الاستنساخ, ربما, خيار البعض نتيجة ثلاثة عوامل:

          أولا: بدافع الفضول العلمي المجرد مثله مثل ملايين التجارب والفتوحات العلمية التي تكرست فورا أو جاءت قبل أوانها أو أعيد استكشافها في وقت لاحق.

          ثانيا: عامل (الأنانية) الذاتية أو الغيرية. أن نستنسخ ذواتنا لنمنح أنفسنا الخلود أو نستعيد, لأسباب عاطفية, عزيزا لنا, فردا من العائلة خسرناه, أو عظيما من عظماء التاريخ نحتاج إلى قيادته.

          ثالثا: عامل إيكولوجي أي السعي مثلا لإحياء أنواع حيوانية منقرضة كما تتطلع الهند اليوم في مسعى لإحياء نوع منقرض من النمور.

          لكن جميع هذه العوامل تظل بعيدة عن قوى السوق وفي حدود ضيقة لا تشكل دوافع صناعية. والدليل أن اللجوء إلى بنوك الحيوان المنوي ظل محدودا جدا خاصة أن هذه البنوك لم تصادف إقبالا من المشاهير لإيداع حيواناتهم المنوية.

هل الاستنساخ مضمون?

          تعتبر نسبة نجاح الاستنساخ في وضعه الحالي محدودة جدا بل ومعدومة بالنسبة للإنسان. ومن أبرز المخاطر التي تنتج عن الاستنساخ أعطال في وظائف الكبد, مشكلات في القلب, أوعية دموية غير طبيعية, رئات تنفس غير مكتملة النمو, سكري, نقص في المناعة, وتشوهات وراثية غير ظاهرة, وويات مبكرة جدا. وأبلغ عبرة هي في إصابة النعجة دوللي بمرض رئوي غير قابل للشفاء بعد ست سنوات من استنساخها مما اضطر العلماء إلى إنهاء حياتها.

          ويعتقد العلماء أن سبب الخلل في الاستنساخ ناتج عن العملية العكسية في عمل الخلية والتي تنطوي عليها إعادة زرع الخلية البالغة في بويضة لتبدأ من الصفر من جديد. مما يعني أن الخلية المستعان بها تنقل معها نتائج الحياة السابقة التي عاشتها وتتصرف كما لو أنها ورثت الهرم الذي بلغه الجسم الأصلي للخلية.

          ومما لا شك فيه أن الخوف من انتشار مجموعات من الأطفال المستنسخين من ذوي العاهات في المجتمع أشبه بطبقة منكوبة شيء لا يحتمله الضمير ولا تقره الأخلاق ويحفز إلى تشدد في القوانين والأنظمة. كما أن استنساخ ميت وإعادته بنسخه إلى الحياة أمر ليس من الهين القبول به. ويحتاج على تهيئة نفسية عظيمة لا من الأسرة الصغيرة الضيقة بل من المجتمع ككل. ثم من يضمن أن استنساخ الأموات لا يلقي على ظهرانينا فرانكنشتاين جديدا!

          أما على صعيد القرار العاطفي فينبغي التنبيه إلى أن الاستنساخ لا يضمن إطلاقا توليد نسخة مشابهة تماما للأصل نظرا إلى أن شخصية المرء تعتمد إلى حد بعيد على بيئته التطورية. ولإيضاح ذلك نكتفي بالمثال التالي:

          يستنسخ المرء نسخة عنه. ما العلاقة بينهما? أهو شقيقه (بالطبع وراثيا) ولكنه ابنه علائقيا (ولا نريد أن نقول قانونيا). يربيه وينميه ويوجهه ويكبره. ما إن ينمو المستنسخ حتى يبدأ بتكوين قناعاته وتجاربة الذاتية. سرعان مايبدأ برفض نصائح (الوالد) ويميل إلى الموسيقى الحديثة ويزدري الموسيقى التي اعتاد والده سماعها. تتكون لديه ميول فكرية مختلفة. تعلم الوالد في مدرسة غلب عليها الانضباط في حين ينتسب هو إلى (الكلية الحديثة) التي لا تراعي حدود ولا قيود الماضي. اعتاد والده على العربات ولكن الابن يرغب في سيارة سريعة (يشفط) فيها. يحب الوالد جبران في حين يحب الولد المستنسخ الكتاب الجديد الذي قيل إن هيفاء وهبي ستقوم بتأليفه (بناء على طلب أحد الناشرين بعد النجاح الهائل للكليب الذي أصدرته). ترفض النسخة نصائح الوالد ويتطور الخلاف بين الشخصيتين إلى أن يصبحا نقيضين. تقع النسخة في الغرام وتكتشف أن فيها عاهة ولادية وهي زيادة في تهوية القلب بسبب خلل ناتج عن كثرة غير طبيعية في الأوعية الدموية فيختلج القلب ويعجز عن أدنى ممارسات العاطفة.

          والأكثر سخافة استنساخ عظماء التاريخ. هل ستتمكن نسخة جديدة عن الفيلسوف والرياضي الفرنسي باسكال أن تبتكر آلة حاسبة اعتبرت من الممهدات للكمبيوتر, في حال جاءت ولادته وتربيته على يد ثري وليس إنجابا طبيعيا لموظف في ضريبة الدخل يمضي لياليه في الحسابات?

          يظل أمامنا سؤال محيّر ومثير وهو: لماذا امرأة في كلتا الحالتين?

          مما لا شك فيه أن السؤال محير والأجوبة عليه بالغة التعقيد إذ تتصل بالعامل البيولوجي الذي كرسته الميثولوجيا منذ أقدم الأزمنة.

          فالأقدمون, عبدوا المرأة, في المرحلة الفطرية من الوعي الإنساني بسبب خلفيتها البيولوجية. وكان ذلك قبل أن تصبح الميثولوجيا, وخاصة في الغرب (كاليونان مثلا) منظومة هرمية معقدة. وكان دور (الربة) أو (الإلهة) أكثر سموا من الآلهة المذكرة. فقد كان للربة دور سام بصفتها أم الطبيعة. بل اعتبرت المرأة حاضنة الحياة.

          والواقع أنه استنادا لعالم الأنثروبولوجيا مالينوفسكي فإن جهل الإنسان القديم للعلاقة بين الفعل الجنسي والتكوين أدى إلى نشوء الاعتقاد بأن سر الولادة مقرون بالأنثى. ولجهل الذكور بدورهم في عملية الإنجاب اعتقدوا أن المرأة تملك سحرا خاصا مما جعل أعضاء المرأة رمزا للخصوبة.

          ويبدو أن في سلوك ماري شللي وبريجيت بوسيلييه رجع صدى وجدانيا متوارثا في اللاوعي بأن المرأة, بيولوجيا, ليست حاضنة للحياة فحسب, بل هي في البعد الميثولوجي المتوارث.

 

أنطوان بطرس   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




ايان ويلموث مستنسخ دوللي في صورة تركيبية معها





انتزاع نواة الخلية الجسدية لغرس نواة مايراد استنساخه فيها





باللعب في المورثات امكن انتاج فئران مضيئة كبعض الكائنات الحية