محمود موسى... مروّض الأحجار العنيدة

 محمود موسى... مروّض الأحجار العنيدة
        

          نسمة خشوع تحوم, لا ريب, حول من يتأمل أعمال النحات المصري المتفرّد محمود موسى, ذلك أن منحوتات الرجل تبدو وكأنها خارجة توّاً بكامل جلالها من المعابد القديمة التي بناها الفراعنة منذ أزمنة سحيقة نظرا لأن محمود موسى ظل طوال عمره المديد (ولد عام 1913 ورحل عام 2003) وفيا للتراث النحتي للمصريين القدماء. لذا لا عجب إن كان هذا التراث هو مصدر الإلهام الأول والرئيس للفنان, منه تعلم وتذوق, ومن خلاله ابتكر وأبدع.

          انحاز محمود موسى إلى الخامات القاسية كالحجر والجرانيت والرخام, مثلما فعل أجداده الأولون, أما غرامه بالمرأة فليس له حدود, ومعه حق, لكونها أهم وأشهر مثير جمالي على مر العصور. وحسب علمي, فإنه مامن فنان استطاع أن ينفلت من أسر الجسد الأنثوي وأسراره الجميلة.

          في منحوتة (فتاة مصرية) - التسمية من عندنا - نجد أسلوب الفنان باديا بوضوح, فهاهو وجه الفتاة المصنوع من الرخام الإيطالي الرمادي الفاتح قد اتخذ وضعاً مواجهاً يشي بالتحدي, في الوقت الذي يقطر فيه هذا الوجه عذوبة ورقة بسبب الحواجب المقرونة والأنف الدقيق والجبين المنبسط والشعر المنسدل.

          وبالرغم من أن حجم هذه المنحوتة صغير إلى حد ما (الارتفاع 37سم, العرض 23,5سم, العمق 20سم), فإنها قادرة على منح المتلقي شعورا قويا بالفخامة والمهابة, من خلال قدرة الفنان على إقامة حوار هامس بين الكتلة والفراغ. أضف إلى ذلك براعته في الانتقال بيسر وهدوء من سطح لآخر مثل الوجنتين وامتدادهما, أو من تجويف إلى بروز (مثل العيون).

          إن سيادة الملمس الناعم في هذه الكتلة منح الوجه براءة تليق بفتاة تعتد بنفسها, خاصة أن النحات الكبير اكتفى من الفتاة بوجهها وعنقها الطويل الذي فاقم من الشعور بالسمو والكبرياء.

          المنطق نفسه نراه في منحوتات أخرى للفنان, مثل منحوتة (فتاة خاشعة) وإن كان, في هذه المرة, قد قام بنحت جسد المرأة كاملا, لكن مع المحافظة التامة على الطابع السكوني الهادئ الذي يتسم به فن النحت المصري القديم, علاوة على الحفاوة بنقاء الكتلة ورسوخها.

          صحيح أنه أنجز تمثالاً لجسد المرأة كاملاً, إلا أنه لم يسعَ, ولو للحظة, إلى إبراز المفاتن الأنثوية المثيرة التي يكتظ بها جسد أي امرأة, بل بدت المنحوتة وكأنها تسبح في غلالة من العفّة, من أول وقفتها المستكينة مع وضع يديها فوق بعضها لتحجب منطقة الإثارة, حتى انحناءات الصدر الهادئة التي لم يبرز منها ما يغري مَن في قلوبهم مرض من الرجال.

          محمود موسى فنان كبير, يعرف جيدا أن الأحجار القاسية التي عشقها لا تغفر للخطائين, ولا تلين إلا للموهوبين الذين يتمتعون بنعمة الصبر. وهاهي قاعة (خان المغربي) بالزمالك تقيم له معرضا استعاديا لأهم أعماله. باختصار: هذا فنان استطاع بموهبته المتدفقة أن يروض عناد الحجر ليبدع لنا منحوتات تضج بالجمال وتفرح بالخلود.

 

ناصر عراق   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الفنان المصري محمود موسى





منحوتة (فتاة مصرية)





منحوتة (فتاة خاشعة)