حسين ماضي في محتَرَفه المدهش

حسين ماضي في محتَرَفه المدهش
        

جرت العادة أن يتضمن الحديث عن أي فنان عرضا لأعماله, وحديث الفنان نفسه عن هذه الأعمال ونظرته الخاصة إلى الفن عموما. وعندما قصدنا الفنان اللبناني المعروف حسين ماضي, كان هذا ما يدور في خلدنا, ولكن الزيارة التي بدأت عادية انحرفت بسرعة عن طريقها التقليدي نحو المدهش الذي ينفرد به هذا الفنان عن باقي الفنانين العرب, والمدهش هو محترفه ككل.

          استقبلنا أولا في منزله, على جدران غرفة الجلوس نحو ثلاثين لوحة من إنتاجه, وفي زاوية قرب النافذة حصان مرسوم وعدّة العمل ولوحة لايزال يعمل عليها وتمثل عازفة عود. ويشاركه في السكن في هذا المنزل الأنيق, من دون تبجّح, قطّ أسود صغير يدعى ماريو, ويعود هذا الاسم الإيطالي إلى أن حسين ماضي الذي ترأس جمعية الفنانين اللبنانيين ما بين العامين 1982و1992م, عاش لفترة اثنين وعشرين عاما في إيطاليا, حيث لقيت أعماله نجاحا وشهرة جعلت الحكومة الإيطالية تمنحه جنسيتها. غير أن هذا لم يقطع صلته بلبنان, فكان وهو يقيم في روما أستاذاً في الجامعة اللبنانية, يأتيها لشهرين في السنة للتدريس, وذلك من العام 1973 وحتى 1987م, وهو تاريخ عودته نهائيا إلى بيروت للاستقرار فيها.

          ولأن منزله يقع قبالة الجامعة الأمريكية, كان سؤالنا الأول عن علاقته مع هذا المحيط المميّز ثقافياً عن باقي أحياء بيروت, فأجاب فورا وبعفوية: (ما يهمني في محيطي المباشر هو سطوح القرميد الأحمر في الجامعة, والشجر الأخضر والبحر, أما الطريق والرصيف والناس فلا يعنون لي شيئا).

          نلقي نظرة خاطفة على لوحاته المعلقة على الجدران, فنراها تهمس همسا بصلة قرابة جمالية مع لوحات بيكاسو وماتيس.

          - أتحب بيكاسو?

          - بيكاسو عمل على إنتاج فني لإرضاء نفسه, وليس لإرضاء الآخرين, هذه الصلابة في الموقف هي التي تنتج فناً مميزاً.

          - وماتيس?

          - أنا أحب كل إنسان يعطي نفسه بالكامل.

          - هناك تشابه شكلي بين أعمالك وأعماله.

          - أنا ابن الشرق, ابن بلاد الشام, ابن حضارة وثقافة تعلّم منهما الغرب. فعندما كانت الحضارة قائمة على أرض مصر الفرعونية وفي بلاد الشام وما بين النهرين, كان الأوربيون يعيشون في الكهوف. ولهذا عندما يكون هناك فنان مخلص لتاريخ حضارته, لا يمكن القول إنه أخذ عن الغرب. وبالتالي إن كان هناك من تشابه بين أعمالي وأعمال غيري, فيجب القول إن عمله يشبه عملي وليس العكس.

          نسأله إن كانت هذه اللوحات هي المختارة لديه من بين أعماله الأخرى, فينفي قائلا: (لا. إنها هنا بالصدفة).

          - وأين الباقي?

          - في المحترف الثاني.

          ولما لاحظ ماضي أننا استغربنا بعض الشيء وجودنا في مكان اعتقدناه محترفه الذي ذاع صيته, اختصر الطريق بالقول: (سنذهب بعد قليل إلى هناك).

          استأذننا الفنان دقائق قليلة ليضع بعض اللمسات على اللوحة التي يعمل عليها قبل أن يجفّ اللون الذي حضره لها. واستفدنا من الوقت ونحن نشاهده يرسم عازفة العود لنسأله عن علاقته بالموسيقى, والأولوية التي يعطيها المتذوق العربي للسمع على حساب الفنون التشكيلية. فقال: (نحن العرب عبّرنا بالكلام أكثر من أي مادة أخرى. فاللغة العربية من أجمل لغات العالم. ووعاء الكلمة هو السمع. ولهذا نحن معتادون على السمع. القرآن الكريم يُجوّد على مقامات معينة. وإتقان المقامات الموسيقية يفترض سلفا إتقان القرآن. أي أن علاقتنا مع السمع أقوى من علاقتنا مع العين. وفي الفن, أقول لك إني أقرأ الطبيعة, أي أقرأ مسافات تكوينها. وعندما أقول لك إني أقرأ, فإني أتعلم من الخالق, وعندما تكون علاقتي مع الخالق مباشرة, فأنا لست بحاجة إلى أن أتعلم من أي مخلوق, ولكني أستطيع أن اكتسب أشياء كثيرة من معرفة الآخرين لأضيفها إلى معرفتي. إذ إن هناك غيري ممن درسوا عمل الخالق. وما من فنان بدأ في معرفته من الصفر, كانت لكل فنان بداية, وهذه البداية كانت محاطة بجهد غيره).

          وينتهي ماضي من وضع اللمسات التي أرادها للوحته, وننتقل معه إلى مبنى يقع على بعد مائة خطوة فقط من منزله.

          كل شيء هناك يوحي بأننا أمام شقة سكنية أخرى. ولكن ما إن يفتح الباب وندخل حتى نجد أنفسنا أمام عالم يستحيل وصفه.

          مئات التماثيل من مختلف الأحجام والمواد على الطاولات والرفوف وفوق الأسرّة وفي الخزائن الزجاجية, عشرات اللوحات على الجدران والأرض والمئات وربما الآلاف في خزائن مصممة لتوضيب الأعمال الورقية.

          عرفنا بسرعة أن منزله الأول هو للسكن والرسم فقط. أما هنا فقد تحوّلت الشقة السكنية إلى محترف للنحت ومخبأ كنزه وعرق جبينه من الرسوم واللوحات.

          بدأنا جولتنا في هذا المنزل - المتحف من التماثيل المعدنية السود التي حظيت بشهرة كبيرة في السنوات الأخيرة. لا لأنها أهم أعماله, بل لأنها أول ما وقع عليه نظرنا, ولأنها الأكثر عددا في الغرفة التي دخلناها.

          كان هناك أكثر من مائة منها في مكان واحد, وبعضها بعثر في جميع أرجاء المكان, حتى أننا وجدنا مجسّما يمثل عنقود عنب في وسط غرفة الجلوس يصل وزنه إلى نحو مائة كيلوجرام.

          تطغى على هذه التماثيل مواضيع المرأة, الثور, الحصان, الطير... وبعضها مستوحى من الأساطير القديمة مثل أوربا على ظهر الثور الذي اختطفها من صور الفينيقية إلى القارة التي صارت تحمل اسمها.

          تتميز كل هذه التماثيل بخصوصية تنفيذية فريدة من نوعها. وفي هذا الشأن يقول ماضي: (إن كل تمثال من هذه التماثيل يتألف في الأصل من مسطح واحد, يقص وفق الخطين المعروفين: الخط المستقيم والخط المنحني, وبطيّه يتحول تمثالاً بأبعاده الثلاثة).

          ولمزيد من الإيضاح يتناول ورقة قُصّت في جوانبها بشكل غير مفهوم ولا تعني شيئا بحد ذاتها. غير أنه راح يطويها وفق ترتيب في ذهنه لتتحول إلى طائر كامل التناسق في جميع أبعاده, مشيرا إلى أنه يبدأ بصناعة النموذج الأول من الورق لأنه الأسهل على القص والطي, وفي مرحلة ثانية ينفذ التمثال نفسه من معدن طري يسهل عليه التعامل معه يدويا. وعندما يتخذ النموذج شكله النهائي, ينتقل إلى مصنع متخصص ليصار إلى تصنيعه من الحديد السميك وطلائه.

          وحول عدد النسخ التي ينفذها من كل تمثال, يقول ماضي: (عادة, أقل من سبع نسخ من التمثال الواحد, ومن النادر جدا أن يصل العدد إلى عشرة, وأحيانا, أصنع نسخة واحدة).

          وفي خزانة مجاورة صُفّت مجموعة كبيرة من التماثيل الطينية المختلفة أسلوباً وشكلاً, وإن كانت تميل كلها إلى الكلاسيكية أكثر مما هي حال التماثيل المعدنية, يقول الفنان إنه أنجزها (كدراسات وكطريقة للاختزال).

          ويتأكد هوس الفنان وعنايته الفائقة بالدراسة من خلال مجموعة رسوم تشريحية تتجمع في زاوية أخرى, وتؤكد أن الحداثة الشكلية عند حسين ماضي نابعة من تشبعه من فن الرسم الكلاسيكي بمقاييسه الصارمة, وتمكّنه من هذا الفن تماما. وهذا ما أكده بنفسه عندما سألناه عن القرابة بين الرسم والنحت عنده فقال: (الرسم يسبق النحت, فقبل أن تكون نحاتاً يجب أن تكون رساما ماهرا. لأن النحت يتطلب رسما من مختلف جوانب التمثال على مدى 360 درجة).

          ويقع نظرنا في مكان آخر على مجموعة من نماذج مصغرة لتماثيل ومجسمات من الجص, يقول الفنان بشأنها إنها مشاريع تماثيل ميدانية كبيرة. أنجزها لإرضاء نفسه من دون أن يطلبها منه أحد. أما تنفيذها الفعلي فيجب أن يكون بناء على طلب جهات كبيرة مثل المؤسسات.

          وبالانتقال إلى غرفة فسيحة وضّب فيها ماضي لوحاته ورسومه. تأكدت لنا استحالة تناول أعمال هذا الفنان بالحديث المفصّل. لضخامتها كماً, وتنوعها العملاق من حيث المواضيع والأساليب والتقنيات المستعملة مما يستحيل حصره.

          هنا يمكن للزائر أن يبقى أياماً وهو يقلّب آلاف الأعمال الموضبة بعناية في خزائن خاصة. نسأله عن عددها فيقول إنه لا يعرف..

          لم يترك ماضي تقنية تشكيلية إلا ودرسها وبرع فيها وأنجز بواسطتها مجموعات كبيرة من الأعمال: النحت بالطين والجص والمعدن, التلوين الزيتي والمائي, والطباعة الحجرية والحفرية والحريرة, (ودرست أيضا الرسم الجداري والموزاييك, ولكني لا أمارسهما حاليا بسبب ضيق المكان).

          يلفتنا حسن التنظيم والترتيب, (أنا أكثر الفنانين تنظيما من المحيط إلى الخليج) يقول ماضي.

          والفنان الذي يعود معرضه الأول إلى العام 1965م, وجالت أعماله في معارض منفردة وجماعية على معظم العواصم العربية والعالمية من البرازيل إلى دبي ومن لندن إلى عمان مع تركيز ملحوظ على بيروت وروما وباقي المدن الإيطالية, يبدو متعلقا بكل ما يخرج من بين يديه, الأمر الذي يؤكده احتفاظه بأرشيف فوتوغرافي منظّم لكل أعماله القديمة والحديثة. ومن هذا التعلق بما ينتجه, يؤكد لنا حسين ماضي أنه فنان يمارس فنه لإرضاء نفسه أولاً وأخيراً, لا لإرضاء الآخرين, ولكن شأنه في ذلك شأن كبار الفنانين الذين يستحقون فعلاً هذا التصنيف, لابد لهذا الصدق مع الذات وإرضاء النفس من أن يأتيه لاحقاً برضى الآخرين.

 

عبود عطية   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




حسين ماضي في محترفه





ركن من محترف الفنان





أنا أكثر الفنانين تنظيما من المحيط إلى الخليج





كائنات لها روح بيكاسو وماتيس تهيمن على المكان





أعمال الأخرين تشبه أعمالي وليس العكس