كم هي سهلة وممتنعة.. تلك "الديمقراطية"! محمد الرميحي

حديث الشهر

"دليل الطفل إلى الديمقراطية" كان عنوان دراسة تم توزيعها في الولايات المتحدة الشهر الماضي قبيل الانتخابات الأمريكية، وقد آثارت ردود فعل إيجابية واسعة أبرزها ما أورده أحد المعلقين عندما كتب " الديمقراطية تبدأ منذ الطفولة وتنمو معها وتزدهر بالخلاف حول هذه الطفولة بالذات، وبالتالي لماذا لا يكون الأطفال طرفا فيها بدل أن يكونوا موضوعا لها؟ ". والدراسة تشكل دليلا للطفل كي يعرف الموضوعات التي يختلف الكبار في الانتخابات حولها وحقوقه في مدارس مريحة ووجبات مجانية وجامعات تسهل متابعة دراسته، ثم حقه في الوظيفة. أو في الصلاة داخل المدرسة.

أما في العالم العربي فإن الدليل إلى الديمقراطية يمكن أن يتضمن نموذجين: النموذج الجزائري والنموذج الكويتي، وما بين هذين النموذجين تتورع تجارب في إفريقيا والعالم الثالث يعجبها من الديمقراطية التسمية وليس الممارسة، ومع آنها تضع جماهيرها أمام خيارين هما التنمية أو الديمقراطية، وكأنهما متناقضان، فإنها تسلب هذه الجماهير الاثنتين معا.
هل من سبيل إلى المصالحة مع هذه الديمقراطية؟ بالتأكيد، ولكن هذا يقتضي أن نعرفها أولا كي نعترف بها.

مهما يكن الزمان أو المكان التاريخيان اللذان جاءت منهما فكرة الديمقراطية، ومهما تكن الأسماء التي سميت بها، ومهما تكن الصيغ التي تشكلت فيها فكره الديمقراطية عبر اختلاف الظروف والأوضاع في الأزمنة والأمكنة، في مجتمعات العالم المختلفة، فلعله من أهم إنجازات هذه الفكرة أنها تلوح الآن للعالم أو لأكثره وكأنها " سفينة نوح " التي يتعلق بها الناجون من الطوفان، وفي الأغلب إنه بعد أن ترسو سفينة نوح على " الجودي " فسوف يحتدم الاختلاف من جديد بين ركاب السفينة حول أفضل صيغ الديمقراطية وأكثرها ملاءمة للأرض الجديدة التي رست عندها السفينة في عالم لا يكف عن التجدد والتغير، والسؤال هو: هل سوف تسمح لهم " الديمقراطية " بإعادة فكها وتركيبها لما يحقق السلام والتوازن بين ركاب السفينة أم أنها ستقف حجر عثرة أمام التطور إلى أن يبدع الإنسان فكرة غيرها لتنظيم شئون حياته؟ ولعل في قدرة الديمقراطية على السماح والتقبل، أو الوقوف والجمود تكمن لحظة التوازن ويكمن سر الديمقراطية وسحرها من جهة واستخدامها بشكل سلبي من جهة أخرى.

هل معنى ذلك أن مفهوم الديمقراطية به من الغموض وانعدام التحديد ما يقبل التأويلات المتناقضة والتلاعب بالألفاظ؟ وإعادة الفك والتركيب في كل فترة من الزمان.

شكل الديمقراطية

لو أردنا أن نضع أيدينا على العناصر الأساسية في أي صيغة لفكرة الديمقراطية- دون الدخول في أي تفصيلات- لقلنا إن الديمقراطية في جوهرها هي حوار بين الحاكم والمحكوم في قضايا تهم المجتمع، لا يملك أحد القطع مسبقا بنتيجة الحوار حولها، ولا الغالب تكون النتيجة عبارة عن تسوية أو حلول وسطى مقبولة لفترة زمنية، ويتم الحوار عبر قنوات (مؤسسات) تضم أناسا منتخبين من أناس متساوين في الحقوق والواجبات وتستمر هذه المؤسسات في عملها هذا فترة من الوقت محددة سلفاً، ثم يقرر الشعب، بعد هذه الفترة، ما إذا كانت هذه المجموعة المنتخبة قد قامت بدورها في التعبير عن آماله ومتطلباته كما ينبغي أم لا، ويكون من حقه في انتخابات تالية أن يعيد انتخابها أو ينتخب مجموعة أخرى. وهذا بطبيعة الحال لا يعني عدم وجود جماعات ضغط اقتصادية أو أيديولوجية أو إعلامية تقوم بدورها في التأثير على مجريات هذا الحوار.

الفكرة الرئيسية في أي ديمقراطية أنه لا توجد شريحة اجتماعية أو طبقة أو مجموعة من الناس تملك وحدها حق تقدير ما يصلح للمجتمع ككل، وإن شطت شريحة أو طبقة أو فئة بالقول إن لديها وحدها (حلولا) سحرية للمجتمع فقدت الديمقراطية معناها ومضمونها، ولعل من سخريات القدر أن (الديمقراطية) تدعيها دول وشعوب متناقضة في التطبيق، بل إن هناك دولا تصر على لصق كلمة (ديمقراطية) مع اسمها الرسمي لتأكيد صفة ربما كانت من أكثر الصفات افتقادا في الممارسة لدى تلك الدول (!).

الشكل والمضمون

ما تحدثنا به عن فكرة الديمقراطية في الفقرة السابقة يتصل بشكل الديمقراطية وإجراءاتها، لكن الديمقراطية قبل ذلك كله قيم وسلوك واقتناع داخلي واستعدادات نفسية وفكرية موروثة أو مكتسبة، وهذا كله يشكل ما يمكن أن نسميه روح الديمقراطية أو مضمونها، ولو أردنا أن نشير إلى هذا الروح برقة (لأنه روح) لقلنا إنه يكمن في الاستعداد للقبول بالآخر (المواطن)، بأنه بشر مثلنا له الحقوق نفسها وعليه الواجبات نفسها باعتباره إنسانا أولا وبغض النظر عن كونه رجلا أو امرأة، قادرا أم عاجزا، بغض النظر عن لون بشرته وعن عقيدته، لأن ما يميز مواطنا عن آخر هو الكفاءة لا غيرها. فماذا نملك نحن حقا من هذا الاستعداد، ماذا نعطي من الوقت لكي نصغي بجدية لمشكلات مواطنينا؟ وإلى أي مدى نسمح لهم بالاختلاف حول ما نراه مصلحتهم الأكيدة، أو يتراءى لنا أنه "مصلحتهم الأكيدة "؟ وإذا نقلنا هذا السؤال إلى مستوى آخر وهو مستوى علاقتنا بأطفالنا، فإلى أي حد ندرك أن الطفل قد ينقص عنا في الخبرة، ولكنه بسبب هذا النقص، أكثر منا قدرة على أن يكون محايدا ومتحررا من مطامعنا ومخاوفنا، فهذا الطفل هو الذي أعلن حقيقة أن الإمبراطور يمشي عاريا في قصة هانز أندرسون الشهيرة " ثياب الإمبراطور الجديدة " لأنه لم يقع في أسر الفكرة السخيفة التي أقنع بها المحتال كبار رجال الدولة، وهي أن الشخص غير الجدير بمنصبه هو وحده الذي لا يمكنه رؤية ثياب الإمبراطور.. وهو عار (!).

روح الديمقراطية يكمن أيضا في إدراكنا أن الحقيقة نسبية وأن الأفراد والجماعات يرونها من زوايا مختلفة، ويتعاملون معها عبر مصالح مختلفة، وهكذا يكون الاختلاف بين البشر أمرا طبيعيا فلا ينبغي أن نضيق به، أو أن تمنح الفرصة لتقصير حباله أو قطعها لكل من يملك سكينا، بل يحتاج الأمر إلى الرغبة الصادقة في تفهم بواعث ودواعي هذا الاختلاف، والصبر على إزالة أو تخفيف أسبابه عبر الحوار أو عن طريق الوصول، كما أسلفنا، إلى حلول وسطى أو الاقتناع الحر من أحد الأطراف لما يقول به الطرف الآخر. والسؤال هو: إلى أي حد يمكن أن نتفق على (آلية) تنظيم هذا الحوار، فلا يشط بعضنا إلى عزل الآخر واتهامه أو رفع السلاح عليه وقتله وتصفيته؟

صعوبات على الطريق

إذا كانت تلك- بتبسيط شديد- هي الديمقراطية شكلا ومضمونا، فمن أين نبدأ طريقنا إليها، وما أبرز الصعوبات التي تعترضنا، وكيف نعمل على إزالة تلك العقبات أو على الأقل تذليلها؟

لعل البداية الحقة تبدأ مع أطفالنا بأن نهيئ أولا لكل طفل أبوين مدركين وراغبين حقا في أن يعيشه أبناؤهما في مجتمع ينعم بالديمقراطية، أبوين لديهما القدرة والرغبة في حسن الاستماع إلى الطفل، وصف الحوار معه، والإدراك بأنه كائن مستقل عدت الأبوين رغم احتياجه واعتماده عليهما، وتكون تلبيتنا لاحتياجه الطبيعي هي طريقنا لكسب محبته الحرة، وليس لرشوته أو استعباده من قبلنا، وتصبح مهمتنا الحقة هي أن نساعد في نموه إلى أقصى درجة يمكن أن تصل إليها قدراته وإمكاناته ليصبح إنسانا حرا يؤمن بأن حقه في الحرية مكافئ لحق الآخرين فيها، ولكي يعيش الحياة التي به يدها هو لا تلك التي نريدها له نحن.

ثم بأن نهيئ لأطفالنا مدرسة وتعليما ومدرسين، يعلمونهم كيف يبدعون من خلال النشاط الحر الذي يمارسونه، ويكشفون لهم أنهم أيضا جزء من مجتمع فيه الاختلاف كما فيه الاتفاق.

مدرسة تعلمهم كيف يتقبلون أنفسهم بما فيها من مزايا وقصور ليكون هذا طريقهم لتقبل الآخرين وللتفاعل الإيجابي مع ما فيهم من مزايا وقصور أيضا، مدرسة تعلمهم، كيف يبحثون عن المعلومة، وكيف يستخدمونها وكيف ينتجونها، وكيف يتخذون القرار في ضوئها في الوقت المناسب، وكيف يكون لهم موقف نقدي من المعلومات والأفكار والنصوص التي تصل إليهم أو يصلون إليها من الماضي أو الحاضر؟ فإذا وجد تلميذ مثلا أن شاعرا كبيرا من أكبر شعراء أمته يقول:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعله لا يظلم

إذا كانت تلك- بتبسيط شديد- هي الديمقراطية شكلا ومضمونا، فمن أين نبدأ طريقنا إليها، وما أبرز الصعوبات التي تعترضنا، وكيف نعمل على إزالة تلك العقبات أو على الأقل تذليلها؟تحاور مع الأستاذ حول دلالات هذا البيت، وهل هو يصور حقيقة مطلقة أم رؤية إنسانية في لحظة يأس. وأمثلة أخرى من أدبنا القديم والجديد وأمثلتنا العربية أو الشعبية كأن نقول لأطفالنا ونحفظهم: " اتق شر من أحسنت إليه ". وهذه الدلالات السلبية التي تؤخذ على علاتها وإطلاقها تترك تراثا في التكوين النفسي للفرد، وهو تراث مناقض بشكل ما لإيجابيات قبول الآخرين وقبول الاختلاف معهم وبالتالي قبول فكرة وممارسة الديمقراطية.

الديمقراطية في تراثنا

سوف يحتاج المربي الذي يفتش في تراثنا وفي تاريخنا السياسي العربي عن نصوص أو وثائق أو وقائع يمكن أن تعزز الروح الديمقراطية- ولا أقول الشكل- في نفوس طلابه إلى وقت طويل جدا قبل أن يجد بغيته، وباستثناء عهد الخلفاء الراشدين سيجد أن صورة المعارض العربي في كتب التاريخ موصومة بالفساد أو الإفساد وربما بالكفر والزندقة، وأن مصيره في الأغلب هو النفي أو القتل أو السجن أو التشريد وقد تعرض لكل ذلك مصلحون كبار في تاريخنا العربي والإسلامي.

فإذا تعب هذا المربي من البحث في كتب التاريخ السياسي وولى وجهه نحو تاريخ الأدب، فسيجد أن الفن الشعري يقدم صورة فنية تستلهم الواقع وتنطوي على نزعة موضوعية هي فن الوصف، وسيجد أن الوصف يكاد في معظمه يكون وصفا للطبيعة بما فيها من نبات وحيوان وأرض وسماء وبشر، فإذا واصل البحث عن الشعر الذي يتحدث عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم وعن البشر عامة، فسيجد نفسه أمام فن المدح وفن الهجاء، وكلاهما يقدم رؤية أحادية الجانب سواء للشخصية أو للقضية أو الموضوع المتصل بالشخصية، وفي الغالب فإن المدرس في الفصل يحاول أن يقرب لتلاميذه صورة الماضي إلى الحاضر فيقول لهم:

" إن شاعر المديح كان يقوم في الماضي بالدور الذي تقوم به الصحف المؤيدة للحزب الحاكم اليوم، أما شاعر الهجاء فهو يمثل صحف المعارضة " ولكن التلميذ اليوم الذي يشاهد في التلفاز عبر قنوات البث العالمي كيف تقدم الشخصية الواحدة أو القضية الواحدة- سواء في مواسم الانتخابات أو في غيرها - من خلال وجهات نظر متعددة دون أن يحاول أي منها إلغاء الآخر، مثل هذا التلميذ في عصرنا سوف لا يكتفي بحكاية الحزب المؤيد والمعارض، ولعله سيعود إلى أستاذ التاريخ ليعرف منه قصة الطريق الطويل والدامي الذي تطورت خلاله الديمقراطية شكلا ومضمونا في الغرب وعبر ما يزيد على ثلاثة قرون لكي تصل إلى هذه الصورة الوردية التي يراها في التلفاز الملون.

نموذج إشكالية الجزائر

مع أن الإشكالية التي تقف في طريق الديمقراطية في أقطارنا العربية والتي تتعرض لها الآن لا تتصل بالجزائر وحدها، إلا أنها وجدت في الجزائر بالفعل، بينما هي موجودة في أقطار عربية أخرى بالفكرة. ولذلك قلنا إشكالية الجزائر، وفي الواقع أن تجربة الديمقراطية في الجزائر كشفت بوضوح عن الفارق الكبير بين الديمقراطية كشكل وكإجراءات، وبينها كروح وقيم وسلوك وأسلوب حياة، فلقد أدت الإجراءات الديمقراطية في الجزائر إلى أن يصبح الطريق إلى الحكم مفتوحا على مصراعيه أمام تيار سياسي سبق له أن أعلن أنه لا يؤمن بالتعددية السياسية، وإنه إذا تسلم الحكم- ولو عن طريق الانتخابات- فإن أول ما سيفعله هو إلغاء التعددية (!).

فكيف يمكن أن نواجه مثل هذه الإشكالية بأساليب أو إجراءات ديمقراطية، دون أن نمارس نحن العنف أو الشمولية التي نخشى من التيار القادم أن يمارسها حين يتسلم السلطة؟ وتتعدد الاجتهادات لا مواجهة هذه الإشكالية، والمطلوب منا جميعا، مفكرين وممارسين، أن نبحث عن مخارج وحلول لها.

ولعل من أهم الاجتهادات بهذا الصدد اجتهاد الدكتور السيد ياسين مدير مركز الدراسات الإستراتيجية في "الأهرام" سابقا، حيث يقول: (في تصورنا أنه في مرحلة الانتقال من السلطوية إلى التعددية لا بد من إجراء حوار وطني واسع ومسئول بين كل الفصائل والتيارات السياسية للوصول بالاحتكام ليس فقط " لإجراءات الديمقراطية "، وإنما " لقيمها أيضا " غير أن هذا الميثاق لكي يطبق بصورة واقعية ينبغي أن يتضمن من الآليات ما يسمح بعدم الخروج على الشرعية الدستورية.

ويمكن في هذا الصدد التفكير في إنشاء مجموعة من الأجهزة الدستورية التي تراقب العملية الديمقراطية وتمنع الخروج على قواعدها، وبعبارة أخرى، نحتاج في الوطن العربي إلى إبداع فكري لصياغة نموذج ديمقراطي صالح للتطبيق، لا يكون نقلا آليا لقواعد الديمقراطية الغربية من ناحية، ولا يخضع من ناحية أخرى للمواصفات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الناجمة عن التخلف السائد، نموذج ديمقراطي يتجه إلى المستقبل، بل ويعمل على تطوير الأوضاع القائمة).

نعم، نحن بالتأكيد محتاجون إلى إبداع فكري بهذا الخصوص يلائم ما بين فكرة الديمقراطية وآلياتها، وهو ما يطرحه مفكر عربي آخر له باع في القانون الدستوري هو يحيى الجمل ليؤكد على فكرة المؤسسات أو " المأسسة " والتي تأخذ تدريجيا مكان الأفراد في الإدارة السياسية. وهناك اجتهادات عديدة لمفكرين عرب منهم: أحمد كمال أبو المجد ومحمد عمارة وآخرون آن لنا أن نجمع اجتهاداتهم ونحللها علنا نصل إلى تصور يضعنا على أول الطريق.

في العالم الثالث

إذا كانت الديمقراطية الأوربية تمثل سعيا إلى إيجاد السلام والتوازن بين فئات المجتمع في داخله، فإن الديمقراطية في الجنوب أو العالم الثالث نشأت كمطلب لشعوب لم تعان فقط من قهر داخلي، بل بالأساس من قهر جاءها عبر الحدود في شكل مستعمر سلبها بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى حق المشاركة في ثروتها الوطنية والسلطة على أرضها لهذا نجد أن مطلب الديمقراطية في المجتمعات الإفريقية كمثال جاء جزءا من ثقافة نشدان الاستقلال، ولهذا صح أن يطلق عليه "التوق إلى استقلال ثان"، وكما يشير الكاتب الإفريقي " نرونجولا ننالجا ": "لم يتطور مفهوم الاستقلال الثاني بواسطة علماء الاجتماع، بل بواسطة الناس العاديين في إقليم "كويلو" في زائير الشرقية؟ فقد كان الاستقلال بلا مستوى معيشة أفضل وحريات مدنية أوسع ووعد بحياة أفضل لأطفالهم لا معنى له بالنسبة للشعب. وبدلا من جعل المكاسب الموعودة في متناول أيدي الجماهير، عاش السياسيون الذين ورثوا سلطة الدولة من البلجيكيين حياة مرفهة أكثر من أسلافهم الأوربيين واستخدموا العنف والقوة الغاشمة ضد مواطنيهم، وقد فشل الاستقلال الأول الاسمي، ومثل عدم اقتناعهم بدولة الاستعمار الجديد الأساس لطموحهم باستقلال جديد وأصيل ".

وفي تصور للديمقراطية هذا منشؤه يصير الحديث عن التنمية وعائدها على المواطنين لازمة لا غنى عنها لمطالب الديمقراطية البديهية كالمساواة أمام القانون مقابل ما كان من التمييز العنصري في الدولة الاستعمارية، وحقوق المواطنة للجميع بغض النظر عن العنصر واللون والجنس والمنحدر الإثني، وأهلية المواطنين للمساواة في الحياة العامة. إن مطلب التنمية والتطلع إلى عائدها لدى هذه الشعوب تحول بين أيدي الحكام الجدد وورثة النظم الاستعمارية إلى سلاح يشهر في وجه مطلب الديمقراطية حيث لم يتردد كثير من الأنظمة العسكرية القمعية في إفريقيا وغيرها في إصدار مرسوم حظر العمل بالسياسة للتركيز على التنمية تحت شعار " الخبز قبل الديمقراطية "، ولم تتجاوز التنمية أو توفير الخبز في عرف هذه الأنظمة أكثر من القيام بدور المستعمر القديم ولكن بطريقة أسوأ. ومن ثم نشأت مطالب شديدة التناقض وتولد صراع شديد القسوة من حركة انفصالية إلى إبادة إثنية وانقلابات عسكرية تتوالى ولا تنقطع.

سياسة الباب المفتوح

أمام ذلك كله أصبح الاستقرار السياسي وبأي ثمن هو نداء رجال التنمية في العالم الثالث، حتى أن مفكرا سياسيا مثل " صمويل هنتجتون " على سبيل المثال راح يجادل في أن الدولة في الأقطار النامية لا تستطيع أن تحتمل سياسة الباب المفتوح إزاء المطالب التي ترفعها القوى السياسية المتنافسة من أجل تخصيص الموارد العامة أو التنموية الشحيحة، أي أن من ينادي بالتنمية ينادي بالتالي بقدر أقل من المشاركة السياسية في المجتمعات النامية حيث تقود المشاركة السياسية حتما للتفكك السياسي في ظروف كهذه، والديمقراطية بعبارة أخرى هي نقيض للتنمية في هذه المجتمعات حيث الدولة في إفريقيا تحاكم بأداتها التنموي وليس بخطواتها في توطيد مجتمع ديمقراطي.

وإذا كان هذا التصور يعززه تأثرت الديمقراطية غير الحاسم على النمو الاقتصادي وبقاء اللا تكافؤ في دول العالم الثالث عام حاله، فإنه يغفل عن أن النماذج المطروحة هي نماذج غير ناضجة، ومن ثم تقود إلى الفساد الذي يجهز بدوره على كل تنمية، فالعيب ليس في الديمقراطية ولكن في نماذجها المشوهة، ومن المؤكد أن الديكتاتورية أعاقت التنمية لأنها وجهتها نحو خدمة ذاتها الضيقة أو طموحاتها القمعية.

نقطة انطلاق

قد يعني ذلك نبذ الديمقراطية الليبرالية لضيق محتواها كما يقول " شفيجي " لكن المفكر الإفريقي "ثانديكا مكاندويري" يرد على ذلك بالقول: إذا كانت الديمقراطية الليبرالية غير كفؤة (وهذا ما لا أعتقده) فهي نقطة انطلاق لأي إعادة صياغة مفاهيمية للديمقراطية في هذا الجزء الأخير من القرن العشرين، فالفاجعة أن تزاح الديمقراطية الليبرالية بدعوى عدم كفاءتها لتفسح المجال للحكم الديكتاتوري. ولهذا يخلص " مكاندويري " إلى " أن الديمقراطية جيدة في حد ذاتها، إضافة إلى أن الفاشية بلا ريب لم يكن أداؤها التنموي أفضل من نماذج الأداء التنموي في ظل الديمقراطية ".

لقد فرض على مفكرين عديدين في العالم الثالث مناقشة صلاح أو فشل الديمقراطية كأسلوب للتنمية بسبب الإخفاق الشديد الذي لاقته تجربة الاتحاد السوفييتي بعد سبعين عاما من النظام الشمولي، الذي قلده كثيرون بشكل أو بآخر في العالم الثالث، حتى أصبحت الديمقراطية لدى البعض منهم ليست وسيلة بحد ذاتها ولكنها هدف أيضا يسعون إليه.

مجتمع المعلومات الكوني

تتطور المجتمعات اليوم- على نحو غير مسبوق- وبدرجات مختلفة بفضل الثورة العلمية التكنولوجية نحو ما يسمى ب "مجتمع المعلومات الكوني "، وهو وضع يمنح قوة غير محدودة لمن يمتلك الوسائط والقدرة على إنتاج المعلومات وحفظها واسترجاعها واستخدامها، وهو وضع يشكل تحديا خطيرا، لفكرة الديمقراطية ذاتها، شكلا ومضمونا، فإذا كانت الديمقراطية تبنى على المعلومات الصحيحة والموثوقة، فإن فكرة الاختيار سوف تهتز من أساسها بالنسبة لمن لا يملك المعلومات، أو لا يمتلك وسيلة للحصول عليها. ومن هنا فإن النظام العالمي الجديد مطالب كأولوية مطلقة، وهو يؤكد حقوق الإنسان على نحو عالمي، أن يضع في سلم هذه الحقوق حقه في الحصول على المعلومات اللازمة لترشيد اختياراته. وفي هذا الإطار يؤكد المهتمون بهذه القضية أن ديمقراطية المعلومات تنهض على أربعة أسس أولها حماية خصوصية الأفراد، وتعني الحق الإنساني للفرد في أن يصون حياته الخاصة ويحجبها عن الآخرين، والثاني هو حق المواطن في معرفة كل ضروب المعلومات الحكومية السرية التي قد تؤثر على مصائر الناس تأثيرا سلبيا، والثالث حق كل مواطن في أن يستخدم شبكات المعلومات المتاحة وبنوك البيانات بسعر في متناول قدرة الفرد في كل مكان وفي كل وقت، والرابع وهو يمثل ذروة مستويات ديمقراطية المعلومات، ونعني به حق المواطن في الاشتراك المباشر في إدارة البنية التحتية للإعلام الكوني، ومن أبرزها عملية صنع القرار على كل المستويات المحلية والحكومية والكونية.

التجربة الكويتية

يقودنا هذا الحديث عن الديمقراطية إلى التجربة الكويتية والتي اكتملت بعد الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بالإعلان عن نتائج الانتخابات والعمل بالدستور الذي ارتضاه الجميع كعقد بين الحاكم والمحكوم ينظم سير المجتمع. والتجربة الديمقراطية في الكويت. كغيرها في العالم الثالث، مرت بفترات عديدة من النمو والتقلص لأسباب داخلية وخارجية مختلفة، وهي كجزء من تجربة العالم الثالث تحتاج أيضا إلى تأصيل في الممارسة.

هذا التأصيل يتلخص في كيف يمكن الحفاظ على الحوار الوطني والسعي الجاد لتحقيق مصالح المجموع مع وجود اختلافات ورؤى واجتهادات فردية أو لدى مجموعات من الأفراد، وكيف يستمر هذا الحوار وينجح دون أن يعطل أو يعاق، وكيف يمكن أن يستجيب في بعض الأوقات وبشكل ناجح إلى مصالح قد نكون متناقضة؟

الديمقراطية في الكويت هي مثال يتكون ويتلاءم ويزدهر وينمو نتيجة لفهم المشاركين فيها من مواطنين ومسئولين، ناخبين ومنتخبين أهمية أن تستمر وأن يحافظ عام توازنها، نتيجة التجربة والخطأ ونتيجة فهم صحيح لتطور العالم من حولنا.

لقد كان مؤشر النجاح كبيرا عندما تمت الحملة الانتخابية دون تعكير، وكانت حملة انتخابية (متحضرة) إلى أبعد الحدود، وبرغم ما يشوب مثل هذه الحملات الانتخابية حتى في البلدان الغربية من سلبيات، كانت السلبيات في الكويت في حدها الأدنى، وقد شارك عدد من المرشحين في إلقاء المحاضرات مع مرشحين آخرين في مقارهم الانتخابية، مع أنه كان بينهم تنافس انتخابي. وتكللت هذه التجربة بالنجاح عندما شارك عدد معقول من أعضاء المجلس المنتخب في الحكومة متحملين بذلك مسئولية مضاعفة دفعت بالديمقراطية إلى الأمام خطوة أخرى. إن أهمية التجربة الديمقراطية الكويتية هي أنها تقترب وتتحول إلى ترسيخ المؤسسات بدلا من اجتهاد الأفراد، ويقبل الجميع الحوار تحت قبة البرلمان، بل ويطالب المنتخبون بأن تقوم الصحافة وغيرها من المؤسسات الوطنية بأداء عملها الرقابي عليهم.

وكما أن لكل تجربة ديمقراطية خصوصيتها، فالتجربة الكويتية لها خصوصية أيضا، فهي من حيث الشكل مزيج بين ما يعرف بالنظام الرئاسي والنظام البرلماني، وهي لا تعتمد الأحزاب المنظمة بل التيارات الفكرية، وهي أيضا تعيش في وسط اجتماعي وسياسي صغير نسبيا وتنتمي إلى عالم عربي وإسلامي واسع، فيه من المشكلات والمحظورات الكثير.

ولكنها أيضا تجربة تترسخ وتتكيف وتتطور. وهي تأخذ أبعادا جديدة بعد كارثة الاحتلال التي تعرضت لها الكويت كدولة وكيان وشعب، فقد أرادت قوى الاحتلال العمياء أن تطمس هوية شعب صغير متآلف ومتصالح مع نفسه ومع شرعيته، جبل على الحوار والبحث عن الاستجابة للتحديات عبر التفاهم والاعتراف بالآخر، بينما بالمقابل كان يقوم في الجوار نظام مستبد يعتمد التصفيات والعزل ومعسكرات الاعتقال وطوابير الإعدامات ومطاردة المعارضة حتى في الخارج. ومن هنا فإن التجربة الديمقراطية الكويتية كانت تشكل تحديا وتهديدا لذلك النظام في أساس وجوده، ليس عبر وجود المؤسسات والهيئات الرسمية المنتخبة فحسب، بل وإنما عبر التقاليد الشعبية الراسخة، وفي طليعتها "الديوانية" المنفتحة والمفتوحة على الجميع، وكانت تشكل النقيض العفوي لسياسة سراديب التعذيب والحجرات المغلقة، والهوس الذاتي والطفرات الفردية.. وهو ما جعل من هذه الديمقراطية "المصنعة محليا " تجربة رائدة تحمل قدرا كبيرا من المناعة نتيجة لتراكم الخبرة، وتعتمد المشاركة الشعبية باعتبارها السلاح الأفضل والأفعل في مواجهة تحديات العصر.