صباح يوم وصولنا إلى العاصمة التركية أنقرة استقبلنا عنوان صحفي بارز
(كبيرة يا تركيا..)! لم يكن العنوان الموجز والملغز تعليقا على قبول دخول البلاد
للاتحاد الأوربي, أو سداد الديون التركية المستحقة التي تخطت مائتي مليار من
الدولارات الأمريكية, أو انخفاض نسبة البطالة, أو انتعاش العملة الوطنية, وإنما
تركيا كبيرة لأن مطربتها الشابة سِرتاب إرنر فازت بأغنيتها (بكل ما في وسعي)
بالمركز الأول في مسابقة أوربية لأول مرة منذ بدء المشاركات التركية قبل 28
عامًا!
قال لي شاب يدندن باللحن الشهير إن سرتاب اليوم هي معشوقة الجماهير في
تركيا بعد فوزها, وكانت قبل ذلك أصدرت خمسة ألبومات غنائية, واليوم تحولت الأذن
التركية إلى سماع الكلمات التي تشدو بها سرتاب باللغتين التركية والإنجليزية
وتصاحبها على المسرح في الأداء راقصات أوربيات بأزياء وحركات مزجت الشرق والغرب
معًا. وكأن فوز الأغنية التركية يأتي عبر عولمتها أو (أوربتها), تقول الكلمات: أشعر
بك وأنت تنطلق عبر درب مختلف/ لتصل إلى الساحل البعيد/ تفصح عن حبك لي بعينيك/
اللتين تستديران لتحملقا في السماوات الخاوية/ اعتقدت أن الأمر انتهى/ وأننا عبرنا
ذلك كله/ .. ولكنني بكل ما في وسعي/ سأحاول أن أجعلك تحبني ثانية/ بكل ما في وسعي/
سأمنحك الحب كله/ وبكل ما في وسعي/ سأبكي/ وأموت/ حتى تصبح ملكي ثانية. وتكاد هذه
الأغنية أن تمثل (الطريقة التركية في الحياة), إنها تريد أن تحقق مآربها بأي طريقة,
وعلى الأجيال الجديدة أن تعي الدرس جيدًا, تلك الأجيال التي تواصل في الشوارع
غناءها للحياة, حالمة بغدٍ أفضل, رغم كل شيء.
يتحايل الأتراك على المعايش صباحًا بإفطار بسيط يصل إلى تناول قطعة
واحدة ساخنة وشهية مما يعرضه باعة السميط في شوارع البلاد. سميط بالسمسم وآخر
بالجبن, وثالث من دونهما.. يتفنن الصانعون في إعداده مثلما يتفنن الباعة في عرضه.
وبيع السميط مهنة من عمر الإمبراطورية (رأيت صورة توثيقية لبائع السميط أمام جسر
جالطا قبل مائة عام أو أكثر). مع رشفات الشاي الساخن, في كأس زجاجية صغيرة تكتمل
الوجبة الصباحية التي لا يزيد ثمنها على ربع مليون ليرة.
لا تغرنك الملايين, الليرة التركية ـ على الرغم من انتعاشها أمام
العملات العالمية خلال الشهور الأخيرة ـ لا تزال مريضة بانهيارها قبل عامين أمام
الدولار الأمريكي حين فقدت نصف قيمتها بين ليلة وضحاها, وبات الدولار اليوم يوازي
مليونا وأربعمائة ألف ليرة, بما يجعل من زائر البلاد مليونيرا لحظة دخوله: فاستئجار
عربة الحقائب في المطار قيمته نحو المليوني ليرة, وسيارة الأجرة التي تقل المسافر
من المطار إلى الفندق بخمسين مليونا, وثمن الشاورما التركية ثلاثة ملايين, أما وجبة
الإسكندر الأكثر شعبية (وهي رقاقات من الخبز واللحم المقدد مضاف إليهما الزبد)
فيتفاوت ثمنها حسب المطاعم التي تقدمها, وهي قد تصل إلى 15 مليون ليرة ... فقط.
ربما يقضي الأتراك نهارهم خارج البيوت, فلا يعودون إليها إلا في
المساء. يمضون الوقت بين الدراسة والعمل والتنزه وتناول الغداء, حيث تنتشر المطاعم
النظيفة في كل شارع, فترى أسرة هنا, وأصدقاء هناك. ذات غداء اجتمعت إلى جوارنا
ثماني سيدات أصغرهن فوق الستين, بأزياء لم تعد تميز النساء اليوم هنا. كن يتناولن
وجبة يتذكرن خلالها أحلام أيام الشباب; شبابهن وشباب جمهورية أصبحت مثلهن على
المعاش, وقد بلغت اليوم 80 عامًا.
بستان الأشجار الحجرية
في أنقرة; عاصمة الجمهورية, يسْبقنا المطر حينا, وحينا نسبقه. المثل
الشائع هنا: لا تأمن إلى طقس أنقرة, فستلتقي المطر بموعد أو سواه. وربما لذلك تمتلئ
الأرصفة بماسحي الأحذية من أثره. لن يشغلك عن ماء السماء سوى النظر إلى أبناء هذه
المدينة الهادئة والنظيفة, الذين يجدُّون في السعي لمقار أعمالهم, وكأن إيقاعات
المطر دقات ساعة قائلة لهم إن الحياة دقائق وثوان, فإذا بهم خطوات مسرعة ودقيقة,
بثياب بسيطة وأجساد رشيقة, تبدأ رحلة النهار مبكرًا, ولا تنتهي إلا في الليل حين
تأوي إلى مضاجعها الأحلام والأوهام معًا, في انتظار رياح التغيير مع شمس اليوم
الجديد.
مع هذه الحركة الدءوبة في أنقرة تبحث عن الثابت فلا تجد غير الأشجار
الحجرية, أعني مجموعة هائلة من التماثيل, أغلبها نصب تذكارية لمؤسس الجمهورية, فهو
موجود في كل بقعة من أنقرة, صورته ووجهه وتمثاله وكلماته, وبصمته واضحة من بيته حتى
ضريحه, ومن متاحف أنقرة حتى مدارسها. فالمدينة هي بستان أتاتورك التي توجها عاصمة
للجمهورية في 1923 نتيجة للدور الكبير الذي لعبته في حرب التحرير.
في حي أولوس العتيق يستوقفك (نصب الجمهورية), يتوسطه مؤسسها مصطفى
كمال راكبا جواده, فيما الجنود حوله يحتفلون بالنصر, وفوق أيديهم تحلق طيور السلام
(الحقيقية) في سماء البلاد, ثم ترى بعض هؤلاء الجنود وفئات من الشعب في نصب آخر
بحديقة جوفان في ميدان الكيزلاي. ثم الزعيم وعماله أمام بنك ثالث في حي السفارات
بشارع يحمل اسمه; أتاتورك بوليفار! وليست تماثيله وحدها هي التي تملأ الساحات
والحدائق, فالمدينة التي تعد عاصمة الموسيقى التركية الكلاسيكية, وحاضنة الأوبرا
ومركز الباليه والرقص الحديث وبيت المسرح ومعارض الفن تحتفي بنجوم ثقافتها
المعاصرة, وتضع تماثيلهم ـ نساء ورجالا ـ في الميادين العامة أيضا.
ما بقي من ذكرى أيام وسنوات الجمهورية الأولى ستراه موزعًا بين
مكانين; شتان بينهما! فهناك صور وأدوات تضمها المتاحف مثل متحف حرب التحرير. وحين
تجلس إلى تلك المقاعد الخشبية الصغيرة به, كأنها مقاعد مدرسة الحرية, تستعيد أيام
أتاتورك الأولى في الصعود إلى سدة الحكم على أنقاض دولة بني عثمان, مستعينا برفاق
الجيش, الذين بقي ورثتهم يقبضون على مقاليد الأمور في البلاد. ويطل متحف حرب
التحرير الذي يطل على ميدان أولوس, ويعد أول برلمان في عهد الجمهورية حيث جلست زمرة
الجيش تخطط للمستقبل. أما المكان الثاني فترى من هذه التذكارات ما يزين بعض
المتاجر. التاريخ هنا لا يعني سوى ديكور أنيق وطريف وغريب, وإن كانت به بعض
الحميمية أيضًا! لقد نقل السوق إلى زائره إحساس العيش بين ردهات ذلك العصر البعيد
القريب: مجلات وصور ولوحات قديمة, وأدوات موسيقية كلاسيكية, وآلة عرض سينمائي,
وملصقات أفلام, وكرسي طبيب أسنان, ولعب, وهواتف, وطابعات, ونياشين, حتى أن هناك
قاطرة حقيقية داخل المتجر الذي يبيع ملابس رياضية وأحذية أطفال!
في أنقرة عدد هائل من متاحف (الجمهورية): متحف الرسم والهيكل (والهيكل
تعني النحت بالتركية) الذي يضم آيات الفن المعاصر. ومتحف الجمهورية, وهو غير بعيد
من متحف حرب التحرير ويشغل مبنى البرلمان الثاني وبه توثيق لسجلات الحرب وما بعدها
(ستدهشك خارجه السلاسل الضخمة وكرات الصلب التي تفصل بين المبنى والشارع, بين أهل
البرلمان, وأهل البلاد). ثم بيت أتاتورك ونصب ضريحه ومتحف شاعر الثورة التركية الذي
كتب نشيد البلاد الوطني محمد عاكف أرسوي, وكثير من المتاحف التي تسهب في الحديث عن
منجزات الجمهورية. وأطرف ما مر بنا في رحلة متاحف أنقرة, مسألة العثور على متحف لعب
الأطفال. ظننا الوصول إليه سهلا فبدا كأنه غاية لا تدرك! لم يعرف مكانه أحد ممن
عاشوا في المدينة عمرهم, حتى أن سائق التاكسي الوحيد الذي ادعى معرفته قادنا إلى
متجر ضخم متعدد الطوابق لبيع الألعاب! تقودنا المصادفة للسؤال في الجامعة التركية
عنه, لنكتشف أنه حبيس غرفتين في كلية الحقوق, وأن زيارته يجب أن تكون بموعد, وأن
تصويره ممنوع! وخرج دليلنا إليه فرحًا به لأنه أصبح الوحيد في أنقرة العالم
بمكانه!
لكن قلعة أنقرة هي الموقع الذي لا تخطئه العين, من أعلى نقطة, وقد
شهدت القلعة إضافات تاريخية من الرومان فالبيزنطيين وبعدهما السلاجقة. وشيدت أنقرة
ذاتها ـ على عكس الفكرة التي تشي بحداثتها ـ في القرن الثالث قبل الميلاد, حين عرفت
آنذاك باسم أنسيرا Ancyra , وتعاقبت عليها سيطرة الرومان فالبيزنطيين, حتى فتحها
السلاجقة في العام 1073 بعد ولوجهم الأناضول قبل ذلك بعامين, ولتصبح المدينة
المرتفعة (850 مترا) موقعًا مهمًا للنقل الحربي, وتتخذ في العهود العثمانية أحد أهم
مراكز القوافل في حركة التجارة بين الشرق والغرب, بفضل موقعها الذي يتوسط الأناضول.
وكان العنصر السلتي أول من اتخذها عاصمة في القرن الثالث قبل الميلاد. والإضافة
العصرية لقلعة المدينة هي تلك البيوت العتيقة جوار جدرانها العملاقة, والتي تحول
بعضها إلى مطاعم سياحية تقدم الوجبات المحلية.
في واحد من الطرق الصاعدة, والمنهكة, باتجاه القلعة تجلس سيدة ـ في
أحد الأماكن الملحقة بمطعم صغير ـ تحضر مع ابنها عجين (المانطي) وهو زهرات من
العجين في داخلها اللحم المفروم. واللحم قاسم مشترك على المائدة التركية. نغادر
المكان بعد حديث قصير مع صاحب المطعم الذي ينتظر زبائنه وقد حول زاوية من المكان
إلى مقهى ومتجر للعاديات, ونمضي محاذين جدران القلعة فنرى عائلة تركية حولت المكان
إلى مطعم مفتوح للمشويات, يقدمون لنا مع همهمات تشبه لغة أبجديتها الابتسامات قطعا
من الدجاج, وحين يأخذ الأطفال وضعية التصوير! تحيط بالقلعة سجاجيد الطبيعة الخضراء
والمزهرة, حيث تجسد أنقرة حلم تركيا في الحفاظ على مدنها خضراء (المطر المفاجئ
يغسلها حتى في الصيف). وهي الخضرة التي ترى الحدائق العامة والغابات شاهدة
عليها.
الشارع ديوان الموظفين
على مدار النهار يتحول الشارع التركي إلى ديوان موظفين غير رسميين,
وبدلا من التسول الذي تراه في مدن كثيرة, وتجرمه هنا القوانين الصارمة, يبحث
المعوزون عن مهن تقليدية وأخرى لم تخطر ببال أحد: باعة أوراق اليانصيب الذي يمثل
أحيانا طوق نجاة لأسرة معدمة, بائعو السميط الذين يملأون الشارع, مروجو الصحف, صانع
العصير الطازج, والمنادي على كيزان الذرة المشوية والمسلوقة في الماء المغلي, حاملو
باقات الورد, ماسحو الأحذية, قارئات الكف والفنجان, منادون على البوظة, عازفون,
ومصورون, ومتفرجون أيضا. كما تكاد المرأة التركية تقتسم كل المهن ـ دون استثناء ـ
مع الرجل. ورغم عدم انتشار الحجاب فإن مرتدياته يعملن بحرية أيضا. وقد أجرت إحدى
أكثر مؤسسات قياس الرأي المهمة في تركيا ـ (طارهان إردم) ـ استطلاعًا للرأي وجدت من
نتيجته أن 75 بالمائة من المشاركين يرون أن تحريم غطاء الرأس يجب ألا يستمر, كما
يعتقد 56% منهم أن من حق المسئولات في الدولة ارتداء الحجاب عند المشاركة في
المناسبات الرسمية (مقابل 44% يرون عكس ذلك). وطبقا لقانون الملبس في تركيا لا يسمح
للنساء في مكاتب الدولة ـ ومنها الجامعات ـ بارتداء الحجاب, بينما تظل حريتهن
مكفولة في ارتدائه في حياتهن الخاصة. ورغم الأغلبية الساحقة المسلمة في تركيا ينظر
للعمامة والحجاب كرمزين للإسلام السياسي. بينما عرَّف غالبية المشاركين في
الاستطلاع الذي نشرت نتائجه خلال زيارتنا للعاصمة التركية بأن الحجاب مجرد غطاء
للرأس وهو جزء من الدين الإسلامي. الكل يمضي في طريقه لا يكاد يعبأ بأحد. يعبرون عن
وجوه الحياة التركية: نظام, ونظافة, وهدوء, وطقس بديع, لكنها نار في الأسعار مقارنة
بدخول أهلها, ولا يطفئ هذا الحريق إلا شغف الأتراك بالبهجة, تلك البهجة التي تجعلهم
يحبون الموسيقى ويشغفون بالرقص ويتيمون بكرة القدم.
وإذا كانت أفراحهم الكروية الأوربية قد بدأت قبل عامين عندما فاز نادي
جالطا سراي بالكأس الأوربية, فإن نشوتهم العالمية اكتملت عندما حجزوا المركز الثالث
لفريقهم الوطني في مسابقة كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت السنة الماضية. وبات
لدى الفرق التركية ذلك الشغف الأوربي بالمنافسة والفوز. شاهدنا المباراة الحاسمة في
الدوري مع مئات الموزعين على المقاهي تتويجا للشعبية التي يحظى بها هذا الفن, وخرجت
الجماهير كلها في أنقرة تحمل لافتات بشكيطاش وأعلامه, أما الصحف في اليوم التالي
فكتبت إحداها: بطل 100 في المائة! والمائة الأولى إشارة لمستوى الفريق الذي فاز
بالمباراة والدوري قبل نهايته بأسبوع على منافسه جالطا سراي, أما المائة الثانية
فهي تورية لعمر الاستاد الرياضي للفريق الذي بلغ قرنا من الزمان هذا العام,
واستطعنا تصويره من إحدى ناطحات السحاب التي تتكاثر يوما بعد يوم في إستانبول.
وامتلأت الشوارع قبل المباراة وبعدها بباعة التذكارات: قبعات وأعلام, كرات ومراوح,
أوشحة وملصقات, بالونات وكئوس, حتى في المكتبات ظهرت كتب ملونة وفخيمة تسرد تاريخ
النادي المئوي ومنافسه (تحسبا لفوز جالطا سراي), وعلى نادي (فنار بخشه) الثالث في
المنافسة أن ينتظر عامًا آخر ليحظى بنصيب في الكعكة أو لا يدركه.
أوراق صحفية
لكن هم الصحافة التركية الأكبر ليس الفن وكرة القدم وحسب, إذ يشتعل
الجدل يوميا في أكثر من موضوع حول علاقة الجيش بالحكومة, وتمتلئ الصفحات بآراء عن
علاقة تركيا بالجيران, وتفرد زوايا الصحف للتعليق على زيارات دولية إلى تركيا
وخارجها, وكانت كلمة وزير الخارجية عبد الله كول أمام أعضاء القمة في منظمة المؤتمر
الإسلامي صريحة في تعبيرها عن سعي الدولة التركية الإسلامية العلمانية إلى تبني
خطاب زعامة الشرق في مواجهة الغرب: (على الأقطار الإسلامية أن تتبنى رؤية جديدة ..
رؤية أساسها الحكم الصالح, والشفافية, والمسئولية التي تمنح الحقوق والحريات
الأساسية ومنها المساواة بين الجنسين. فلا يوجد مكان للبلاغة الخاوية والشعارات
الخادعة). وطالب كول بأن تصلح الأقطار الإسلامية من إداراتها لتقابل الاحتياجات
المعاصرة: (علينا أن نعيد أولا ترتيب بيتنا من الداخل, .. وأن ندعم طموحنا الرامي
إلى الحرية والسلام والرخاء والديمقراطية).
في شارع الصحافة التركية يحدثنا حسن طهراوي أحد المراسلين النشطين
الذي يقيم في أنقرة منذ نحو عشرين عامًا عن حيز الحرية في الصحف التركية: (يجب
الإقرار بوجود هذا الهامش الذي تعمل من خلاله الصحف وباقي وسائل الإعلام التركية,
مع ملاحظة تسجيل زيادة كبيرة في عدد الصحف والمجلات ومحطات التلفزة في السنوات
العشر الأخيرة, وتصدر كلها بالطبع باللغة التركية باستثناء Turkish Daily News
اليومية الإنجليزية الوحيدة. وعلى الرغم من هذه الوفرة فإنها تبقى أسيرة الشأن
الداخلي أكثر من الاهتمام بما يدور في العالم).
ويؤكد طهراوي ملاحظتنا حول الاهتمام بالصورة الملونة كبيرة الحجم على
حساب الخبر المطول, والسرد المسترسل, واعتماد العناوين اللافتة, استجابة لمطالب
القارئ العادي الذي يعير اهتمامًا أكبر للأخبار غير السياسية. ومن الصحف التركية
اليومية (حريات) و(ستار) و(ملليت) و(صباح) و(أكشم) و(راديكال), و(جمهوريات)
و(بوسته). ويبلغ عدد صفحات جريدة (حريات) الأكثر انتشارا في تركيا 40 صفحة, إضافة
لملاحق نهاية الأسبوع, وتتحكم في قطاع الإعلام شركات كبرى منها (دوجان ميديا) التي
تصدر أكثر من عشر جرائد ومجلات فضلا عن محطات التلفزة, وهي صفات تشترك فيها الصحف
ذات التوجه العلماني, أما الصحف الأخرى التي يمكن وصفها بالاتجاه الإسلامي مثل
(زمان) و(يني شفق) و(مللي غرنة), فتفرد مساحات أوسع من صفحاتها للقضايا السياسية
والدينية والفكرية.
هذا الهامش المتاح من الحرية يسمح بتباين الآراء المنشورة. ففي
(راديكال) يكتب مراد ياتكن عن النتائج الإيجابية لاجتماع رئيس الوزراء رجب طيب
أردوغان برئيس الأركان حلمي أوزكوك بعد أن منح المجلس العسكري الضوء الأخضر للحكومة
في عدة خطوات من شأنها البدء في دخول تركيا للاتحاد الأوربي. لكن (حريات) تشير إلى
رغبة الجيش ـ التي أبداها فيما وراء ستار اللقاء ـ في إبقاء بعض هذه الخطوات في
حدها الأدنى. وكانت الإشارة إلى السماح ببث تليفزيوني للأكراد وعزم الجيش على أن
يبقى البث في ظل التليفزيون الحكومي (TRT).
وتنتقد (يني شفق) خدعة الصفقة الإسرائيلية لتحديث F- 4 بالأسطول الجوي
التركي, وكيف تدفع تركيا خمسين مليون دولار سنويا لقطع الغيار وحدها ضمن مشروع
قيمته الإجمالية 700 مليون دولار, وذلك بسبب الزيادة المستمرة في السعر التي تفرضها
الشركة الإسرائيلية المنتجة. أما أطرف الانتقادات المنشورة فكانت لجريدة (ملليت)
التي نشرت خبرا عن تأخير عَمْدي لطائرة حتى يلحق بها عبد الله ابن كمال أونكتان
وزير المالية التركي!
نصعد قرب ميدان كيزلاي بالعاصمة التركية إلى إحدى شركات الإعلام التي
تمتلك وكالة أنباء (جهان). وهناك يعرب لنا طاهر قرنفيل ممثل الوكالة في أنقرة ـ
والذي عمل سنوات مديرا لشئونها الخارجية ـ عن رغبته في فتح علاقات نشطة مع الساحة
العربية (التي تتخوف من التعامل مع جهان بسبب انتمائها للتيار الديني المحافظ)
وتؤجر (جهان) الأستوديو الخاص بها لتسجيل ومونتاج بعض الرسائل التليفزيونية التي
يبثها مراسلو محطات التليفزيون العربية, والذين يزدادون يومًا بعد يوم.
وتبث عبر (جهان) قناة تليفزيونية مستقلة هي (s.t.v) كما تصدر المؤسسة
الأم صحيفة (زمان) يومية في عشرين صفحة, (الثالثة بعد حريات, وبوسطه), ويحدثنا بها
آيدين هاسكابيبشي المسئول عن الشئون الدولية: (اهتمامنا الأكبر هنا بالعائلة
المحافظة, لسنا متزمتين ولكننا ملتزمون, وربما تلاحظ ذلك فيما نصدره من ملاحق
ومجلات أسبوعية وشهرية ـ مثل (أكسيون) و(بايلار) ـ وهي التي تكرس صفحاتها للدعوة
للأخلاق الحميدة ومعالجة مشكلات الأسرة. ونمنح مشتركي الجريدة كتابا شهريا, قد يكون
تفسيرا في إحدى قضايا الدين, لكننا خصصنا أحدثه للحوار بين الحضارات, ففي تركيا
يبرز الهم المشترك بين الشرق والغرب).
وفي حين تدفع (زمان) لكتاب الأعمدة فيها مبلغا بين ألف وثلاثة آلاف
دولار شهريا ويبلغ عددهم نحو 30 كاتبا, فإن الصحف الأخرى التي تربح أكثر تدفع مبالغ
أفضل, وتهدي مشتركيها بدلا من الكتب موسوعات متخصصة أدبية وفنية وسواهما.
ولا يتوقف النشاط الثقافي والفني في العاصمة التركية, فالمعارض
التشكيلية التي ترعاها البلديات, ومؤسسات الدولة, وهيئاتها, تستضيفها أيضا القطاعات
الخاصة. في قاعة عرض مملوكة لأحد البنوك التقيت الفنانة التشكيلية قدرية جودنلر
القادمة من كوتاهيه, وهي رسامة وخزافة ورثت سنوات الخبرة من مسقط رأسها, وامرأة
تنقل للحجر مشاعرها فينطق أو يكاد. في أعمالها ذلك الحس الأنثوي بكيان المرأة
المتفرد. قالت لي (المولودة في 1945) إن هبة الله للمرأة قدر يشرفها, لأنها مانحة
للحياة ودرب للخلود. تتراوح قيمة أعمال قدرية بين الخمسين مليون والمليار ليرة
تركية! وتفخر أن معلمها هو الفنان العراقي أحمد النجفي. تضيف لنا إنها تهدي معرضها
لروح ابنة أختها (إن رحم القدر فستمنح أمها حياة أخرى). تتحدث عن فنها مثلما تتحدث
عن ذاتها, فالمرأة الفنانة سكبت عاطفتها في تلك التماثيل التي جاءت بها من أقصى
الجنوب, لكنها تحمل معاني إنسانية للعالم كله. أو هكذا تحلم!
ودعنا أنقرة في مطعم أتاكولا, ذلك المركز التجاري الذي يعد إحدى
السمات العصرية الكثيرة للمدينة. في شرفته المطلة على المدينة على ارتفاع 125 مترًا
نلتقط الصور إلا من الركن المطل على قصر الرئيس! وفي الداخل يدور المطعم ببطء بينما
نستعرض اللوحات الجانبية على جداره الثابت لمشاهد من دول أوربية, وتركيا بينها. إنه
الحلم الذي بدأ منذ 80 عامًا ويريد الأتراك أن يستيقظوا ليجدوه متحققا, وأن يروا
أنفسهم وقد عبروا بوابة الاتحاد الأوربي. فهل يعرفون كلمة السر لعبور هذه
البوابة?
استانبول.. حلم الفاتح
بعد 550 عامًا بالتمام والكمال من دخولها على يد محمد الفاتح
استقبلتنا المدينة وهي تستعيد ذكراه بفرح واعتزاز. شاهدنا على المباني التاريخية
والحافلات التي تجوب المدينة لافتات (الغازي) وصورته ورقم 550 بارزا في غبطة
التاريخ بما صنع الأسلاف. بينما تنشر الصحف برامج الاحتفال بأكبر انتصارات الشرق
على الغرب وأبهاها! صحيح أن أيام الاحتفالات تبدأ في التاسع والعشرين من مايو كل
عام, لكنها هذه السنة لا تكاد تنتهي. فمنذ خمسة قرون وخمسة عقود تحولت القسطنطينية
عاصمة الروم إلى مدينة الإسلام, استانبول, وعاصمة الإمبراطورية العثمانية التي
امتدت حدودها بعد ذلك بسنوات من حدود باكو شرقا إلى تلمسان وما بعدها غربا, ومن مدن
بولونيا شمالا, إلى عدن الجزيرة العربية جنوبًا.
سيبدأ الاحتفال مبكرًا بفرق الموسيقى العسكرية التي تنطلق من أمام
مكتب حاكم استانبول, ولا بد من زيارة لضريح الفاتح يوم انتصاره. ثم ترفع الرايات
والبيارق في أكثر من ساحة مصحوبة بموسيقى المشاة العسكرية. ويقيم علي مفيد جورتونا
عمدة المدينة حفل استقبال على شرف الفاتح بعدها بيومين. وتستمر الفعاليات الثقافية
والفنية مخلدة الحدث الذي حول الدولة العثمانية إلى إمبراطورية ضخمة. وقد نلحق ببعض
الاحتفالات الموسيقية النحاسية والإيقاعية التي تضج بها ساحة دار العسكر فنوثقها
بصورة تستعيد زي أساطير الحرب وأساطينها.
كانت مزولة التاريخ تشير ساعتها الأولى إلى عبقرية القائد الحربية.
فمنذ تولي محمد الفاتح ابن السلطان مراد الثاني زمام الدولة العثمانية في العام
1451 ميلادية, وكان عمره 19 سنة, وهو يستعد لهذا اليوم, وما تلاه. درس الماضي ووعى
التاريخ, ووجد أن فتح عاصمة الروم, والسيطرة على إمبراطوريتهم, لا ينجح دون أن
يسيطر على بوغاز استانبول, فكان أن بدأ بتشييد قلعة الروم. يصحبنا لننظر إليها من
علٍ الدكتور نزيه معروف, الباحث في تطوير وفنون الحرف اليدوية الإسلامية والعاشق
لهذه الشخصية الفذة.
من فوق هضبة أولوس (في استانبول هذه المرة) يمتد البصر فوق بساط اللون
الأخضر الذي يغسل قدميه في مياه البوسفور. هناك, وأمام أضيق نقطة بين شاطئيه يبدو
لنا برجان من قلعة الروم (روملي حصاري) التي شيدها محمد الفاتح في الطرف الأوربي
فلم تستغرق سوى شهور خمسة بدأت في مارس وانتهت في يوليو 1452 ميلادية. ارتفعت أبراج
القلعة الثلاثة سبعة وعشرين مترًا بينما كانت الهضبة ذاتها التي تحتضن القلعة على
ارتفاع 82 مترًا من سطح البحر, وبلغت مساحتها الكلية 30250 مترًا مربعًا كما يذكر
لنا الدكتور معروف. وإذ نعيد البصر في الشاطئ المقابل تبدو لنا قلعة الأناضول
(أناضولي حصاري) التي بناها جد الفاتح; يلدروم با يزيد, ولتكتمل كماشة نيران
المدافع المنصوبة في أبراج القلعتين لأي مدد قد تستنجد به المدينة حين حصارها.
وكانت نقطتا البناءين جغرافيا تصل بين طرفي أضيق ممر في مضيق البوسفور (660 مترًا
فقط).
سفن برية
تتحرك مزولة التاريخ فإذا بالفاتح يجهز عتادًا لم يوصف من قبل; مائة
ألف جندي, ومدفع ضخم تطلب ستين ثورا لجره مع أربعمائة جندي توزعوا على الجانبين,
ومنجنيق هائل وأربعة أبراج متحركة. يحتل الجيش الجزر المحيطة, وينصب المدفع على بعد
خمسة أميال وحسب من أسوار المدينة, ويحرك الفاتح 67 قطعة بحرية عبر المناطق البرية
حتى تتجاوز السلاسل الحديدية الضخمة التي وضعها الإمبراطور البيزنطي في البحر لصد
سفن الفاتح, خلال ليلة واحدة, بدءا من ميناء طولمه بهغجة فميدان تكسيم, نزولا إلى
مياه الخليج, في لوحة وثقها أكثر من رسام, ووجدت إحداها في قصر طولمه بهغجة. أتوقف
قليلا في ميدان تكسيم الذي يحمل ـ أيضا ـ بعضا من بصمات عهد أتاتورك. بينما تتقاسم
عربتا المترو القضبان مع الحمام الذي يطير حينا وحينا يسير حتى يدخل شارع
الاستقلال, على القضبان نفسها. الحمام اليوم آمن, لأن الفاتح بالأمس أورثه هذه
السماء.
تذكرني مزولة التاريخ بأمرين; كيف أعدم الإمبراطور الروماني المحاصر
آنذاك الأسرى العثمانيين (260 أسيرًا) وقطع رءوسهم وألقاها من أبراج المدينة, وكيف
عبر الفاتح بعد ذلك عن سماحته الإسلامية في بيان تاريخي عرف باسم (عهد نامة) لدى
فتحه البوسنة والهرسك في 28 مايو 1463 ميلادية فأمر قواته بعدم التعرض للمسيحيين أو
لكنائسهم أو ممتلكاتهم. ويروي الدكتور محمد حرب في مؤلفه (البوسنة والهرسك من الفتح
إلى الكارثة) كيف أذن الفاتح (للكاثوليك خارج الدولة العثمانية بالقدوم لتعمير
الأراضي المهجورة, ولولا ذلك الإذن لما كان بقي في بلاد البوشناق غير
المسلمين).
أتذكر ذلك الإذن وتلك السماحة وأنا أمر بكنائس شارع الاستقلال, أو تلك
الباقية في المدينة القديمة. بهذه الخصال أصبح الفاتح صانع مجد للحضارة الإسلامية,
فاستولى على إمبراطوريتين, وعشر دول, ومائتي مدينة خلال ثلاثين عاما هي فترة حكم
عاشها مجاهدًا, فضلا عن كونه عالما يعرف العربية والفارسية واللاتينية واليونانية
والسلافية, وواضعا أمهر للقوانين.
تشير مزولة التاريخ إلى ظهر 29 مايو 1453 ميلادية, يترجل السلطان محمد
الفاتح عن حصانه ويسجد شكرًا لله سبحانه وتعالى, ويدخل آيا صوفيا فيأمر برفع الأذان
وإقامة الصلاة بها لتتحول أشهر الكنائس إلى جامع آيا صوفيا. ندخل المكان الذي حوله
مصطفى كمال إلى متحف (حتى تكف الدعوات الأوربية لاستعادة الكنيسة كما قال لنا
دليلنا, وأضاف أن أتاتورك طلب بالمقابل عودة مساجد الأندلس). في آيا صوفيا التي
تخضع لعمليات جراحية ترميمية تطول العين الطابق الثاني العصي على الولوج فإذا بصف
من الأعمدة تمثل نصف دائرة يحمل نصف القبة الأيسر عند مدخل (الحرم) الأساسي المواجه
للمحراب. وإذا كانت رءوس الأعمدة من الطراز البيزنطي المصنوع من المرمر والحجر
الجيري; فإن زيناتها النباتية من الموزاييك الزجاجي المذهب والمفضض على رقبة القبة
المثبتة فوق عدد من العقود الصغيرة. وحماية لها من التصدع أضيفت للأعمدة أطواق
برونزية تحيط بأعلى الأعمدة وأدناها. فيما الأروقة تشير إلى إضافات من جاءوا بعد
الفاتح, بين مكتبة هنا أو هناك.
في ذكرى أبي أيوب
وإذا كان حصار المدينة التاسع والعشرين هو آخرها وأنجحها, فإن مزولة
التاريخ لا تنسى أن تذكرنا بإحدى هذه الحملات الإسلامية الكثيرة, قادها سفيان بن
عوف واخترقت الأناضول حتى ساحل بحر مرمرة. وقد أرسلها معاوية بن أبي سفيان, وساندها
بمدد قاده يزيد بن أبي سفيان, وشارك فيها الصحابي أبو أيوب الأنصاري. في الجامع
الذي يحمل اسم الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري, نراقب الذين يغتسلون في الميضأة
ذات الأرضية الرخامية, وهي تعود ـ مع الباب الكبير ذي العقد الرخامي ـ إلى العام
1800 ميلادية عندما أعيد فتح الجامع للعبادة في عهد السلطان سليم الثالث. وقد بقيت
بعض أشجار الدلب السبع التي أمر بغرسها السلطان محمد الفاتح عندما أمر ببناء
الجامع, الذي يشرف على ساحة الضريح وقد رأيت خلال زيارتي كيف تنهمر الأدعية على
الجدران, فتروي بالحروف المسموعة والدموع الرقراقة إحدى هذه الأشجار الضخمة.
تدور ظلال المزولة التاريخية فإذا بها فتوحات وعمران, ومبان وفنون,
وتجارة وصلة لا تنقطع بين أوصال الإمبراطورية. تقودني الخطوات إلى أحد أبواب السوق
المصري الذي يجسد الحركة التجارية التي نقشتها ريشة السفن المقبلة إلى استانبول
بمداد بحار الدنيا. أدخل من أحد الأبواب الستة (اثنان منها رئيسيان ويشكلان لجسد
السوق حرف اللام), لأرى سوقا مبنيا كله من الحجر. عند التقاء ذراعي حرف اللام تنهض
قبة كبيرة عند مفترق الطريقين, حيث كان ينادى إلى الصلاة. وكانت المساحات الأولى من
السوق مخصصة لمحكمتين تجاريتين تفض إحداهما النزاعات بين التجار, فيما كانت تختص
الأخرى بفض النزاعات الناشئة بين التجار وزبائنهم. وإذا كان السوق يبيع القطن
والأدوية في بداية حياته, وكل ما كان يأتي من مصر والهند وسوريا والجزيرة العربية,
فقد أصبح اليوم بوابة كل شيء من التوابل إلى الذهب.
مثّل هذا السوق جزءا من مجمع (الجامع الجديد), الذي بدأ إنشاؤه في عهد
محمد الثالث (1595 ـ 1603) واستكمل في العام 1663ميلادية. ويقف الجامع قربه شامخا
بأبوابه ذات العقود القوطية المدببة الأقواس, ورخامه بزخارفه المحفورة وزينات
الحديد المطروق المضفر, أحد أبرز العناصر الفنية في العمارة الإسلامية. الجامع جزء
من مجمع الوالدة الجديد الذي أمرت بإقامته السلطانة الوالدة أمة الله والدة السلطان
أحمد الثالث بين عامي 1708 و 1710ميلادية. ويضم المجمع مسجدًا ومحفلا للسلطان
وسبيلا وعينا ومقبرة ودارا للتوقيت وكتابًا لتعليم الصبية وحوانيت ودارًا لإطعام
الفقراء. وإذا كان أعلى ضريح (أمة الله) مفتوحًا للرحمة, فإن الأعمدة بين الضريح
والسبيل موصول بينها بشبكة تبدي مهارة الصناع.
بساط الفن المعماري
تحت شراع مزولة التاريخ البعيد القريب نتحرك في بحر مرمرة الهادئ من
آيا صوفيا إلى جامع السلطان أحمد, والعين تنتقل من شاطئ لآخر. كان أول ما ربط
القارتين جسر جالطا (قَرَه كُوي), بين منطقتي أمين أوني وقره كوي وقد شيد من الخشب
في العام 1845ميلادية. وإذا كانت العوارض الخشبية تنصفه لتميز عبور الجهتين, فقد
خصص للمارة رصيفان أعلى مستوى من أرضية الجسر. وتمخر بنا عبارة إلى أعلى المضيق,
كأننا متجهون إلى البحر الأسود, فإذا بالعمارة العثمانية كأنها جزر من الفن محمولة
فوق بساط المياه والتاريخ. وهناك يبدو جامع نُصَرْتيَّه بمئذنتين رشيقتين ويعد
نموذجًا للانتقال من طراز الباروك إلى الطراز الإمبراطوري في العمارة. وإلى جوار
قصر طولمه بهغجة جامع السلطانة الوالدة (بزم عالَم) بجوار القصر الأشهر الذي يحمل
الاسم نفسه. وقد أتم بناؤه ابنها السلطان عبد المجيد في العام 1853 ميلادية.
وزيناته باذخة بشكل هائل تفتح على هيئة ذيل طاووس تحت العقود التي تحمل قبة
الجامع.
تعود بي المزولة للعهد الجديد حيث تبحث استانبول عن وجه مغاير.
فالمدينة فخورة بتراثها الحضاري, وإرثها التاريخي, وميراثها الإسلامي; لكنها تدرك
أن التحول قادم, وأن كفيها ممدوتان لتصافح الأكف الأوربية. وأن عليها أن تترك
الأمجاد في المتاحف, وأن تولي وجهها شطر الغرب. إنها تجرم هدم البيوت القديمة,
لكنها تبني الشاهقات من ناطحات السحاب التي تعد غريبة في سماء المدينة. وصحيح أنها
تحاول الحفاظ على عاداتها وتقاليدها لكنها تتبنى السياحة فتتكاثر بها الفنادق
لتجتاحها العادات العابرة للقارات. وهي أيضا تتمنى أن تصبح قطعة من أوربا, فتتناول
شطائر البيتزا والوجبات السريعة عنوان العولمة والتحديث, وربما تصنعهما للغرب! لكن
مزولة التاريخ لا تكذب, لأن استانبول تبقى بهجة مدائن الشرق.
تقف الحافلات وسيارات الأجرة اليوم في الباحة التي تربط شاطئ البوسفور
بميدان تكسيم أمام قصر طولمه بهغجة, وهو المكان الذي كان يضم موقفا لعربات الخيل
قبل مائة عام, وعدوه آنذاك قبلة التنزه, خاصة أمام بوابته البديعة البهية الزينات,
حتى لتكاد أزهارها الحجرية والمعدنية تميل بوجهها تستقبل الشمس كل صباح. لكن ذلك
البهاء أصبح ملكا للجميع, الذين يقطعون تذاكر للفرجة, بعد أن ذهب ورثة الفاتح. أبحث
في دهاليز القصور عما يعين على فهم التحول الكبير الذي نما مع الفتوحات التي وصل
أقصاها في العام 1683 ميلادية, عندما بدأ المجد في الزوال, لتتحول الفتوحات إلى
هزائم, وأجد ضالتي في (الأساطير الغامضة لحريم آل عثمان), وهو كتاب مترجم إلى
الإنجليزية, ألفه المدير السابق للقصور العثمانية إلهان آكشيت. قراءة الكتاب تفسر ـ
بطريقة غير مباشرة ـ كيف نخر السوس في عظام القصور التي ورثها السلاطين الصغار,
وتحكمت فيها عواطف النساء حينا, وعواصف الرجال حينا آخر. فالقيان اللائي جئن سبايا
من مدن الإمبراطورية, ومن غزوات قراصنتها ـ وتحول بعضهن بعد الرضى عليهن إلى
سلطانات القصر ـ ساهمن في جرعة التحول هذه. نعم, ربما تبني السلطانة على خطى
المعماري العظيم سنان ما يميز العهد, وقد تقتفي خطى الكرام, ولكن تبقى التصدعات
الصغيرة - في المؤامرات والدسائس وغيرهما - الشرر الذي يوقد شعلة الانهيارات
الكبرى, وهي النار التي أضرمت في شجرة الاستقرار ذات تاريخ.
التركمان عائدون
عند الحديث عن الاستقرار اليوم تقفز إلى الذهن المجموعات العرقية غير
المستقرة في تركيا باعتبارها هم الهموم في الاجتماعات الرسمية وثمرة الجزر التي يجب
أن يضعها الأتراك أمام حمار (نصر الدين خوجة) - جحا في الأدبيات العربية - حتى
يتخطى هضاب الأناضول إلى أعالي الألب. وبعض هذه المجموعات العرقية تركت الأحاديث
البيزنطية لرجال الصحافة والسياسة وانطلقت تعيش حياتها كما تهوى. ويبدو ذلك حقيقيا
حين نتأمل في حال تركمان العرب القادمين من العراق, إحدى هذه المجموعات وما حققته
من حريات داخلية لم تتح رسميا حتى الآن.
وإذا كان تركمان العرب في الربع الأخير من القرن العشرين قد هاجروا من
العراق إلى تركيا وأوربا, فإن ذلك يعد حركة عكسية للهجرات التي بدأت باستيطان
التركمان للأراضي العراقية في العام 54 للهجرة عندما استقدم عبيد الله بن زياد
ألفين من التركمان أسكنهم البصرة, ثم تعاظم نفوذهم في العصر العباسي وخاصة في عهد
الخليفة المعتصم بالله. ومع دخول السلطان طغرل بك في الخامس والعشرين من يناير سنة
1055 للميلاد إلى بغداد وتنازل الخليفة القائم بالله عن سلطاته له بدأت أكبر موجات
التركمان تتدفق على العراق, وأهمها الموجة التي رافقت حملة السلطان مراد الرابع على
بغداد في العام 1638 ميلادية والتي استرد فيها المدينة من أيدي الصفويين. وفي إحصاء
العام 1957 ميلادية والمنشور بعد ذلك التاريخ بعامين كان عدد التركمان بالعراق قد
بلغ 567000 أي ما يقارب عشرة بالمائة من إجمالي عدد السكان, وبحساب نسب النمو
السكاني فقد يكون عددهم في العام 1999 قد بلغ 2172000 نسمة, لكن الدراسات
الإثنوجرافية تعتمد 75% فقط من هذا الرقم بسبب الهجرات التي ذكرناها. وفي
الثمانينيات هربت نسبة كبيرة من تركمان العرب في العراق إلى تركيا (عبر إيران في
أحيان كثيرة). ووجد هؤلاء في تركيا المخرج الآمن عبر طلبات اللجوء السياسي, ومنهم
من منح إقامات لثلاثة أشهر, تم تمديدها إلى ستة, أو تحويلها إلى إقامة دائمة.
والطريف أنه في العائلة الواحدة تجد من بين تركمان العراق من حصل على الجنسية
التركية, أو الإقامة الدائمة, أو ينتظر, ومنهم أيضا من تطارده وزارة الداخلية
لمخالفته قوانين الإقامة!
وتوزع جُل تركمان العرب القادمين بعد حرب تحرير الكويت بين أنقرة
واستانبول وبورصة, وتحرص القوانين التركية حاليا على عدم تجديد أي إقامة تركمانية
لدفع هؤلاء للعودة إلى بلادهم, بعد أن شعرت بأن منح الجنسية التركية لهم سيؤثر سلبا
في البعد الديموجرافي التركماني في العراق وهو ما ترغب في استمراره هناك. كان
تركمان العرب يتواصلون مع أسرهم في دهوك وكركوك وغيرهما بعد 1991 عبر شركات أوربية
وأمريكية, فقد أنشأ بعض الأشخاص هناك شركات للاتصالات تعمل بالصحون اللاقطة.
خلف مكتب عتيق في الطابق الخامس بإحدى البنايات في الكيزلاي يجلس
المهندس عبد السلام أحمد, التركماني العربي القادم من دهوك العراقية. يمزج في حديثه
بين التفاؤل والحذر معلقا على قضايا عديدة. سألته عن عودته للعراق, فقال: كيف نعود
لبلد بلا صاحب? وكيف نأمن في بلد بلا حكومة? ويستطرد عبد السلام: التركمان عانوا
بسبب ما حدث لهم سابقا وما قد يجري لاحقا. ففي التعليم, ومثل كل الأعراق الأخرى هنا
غير التركية لا يحق لهم تعلم اللغات الأم, ورغم أن التعليم إلزامي وهو مجاني برسوم
رمزية في المدارس الحكومية فإن على أسر الطلاب شراء الكتب المدرسية ولذلك فإن عددا
كبيرا من أبناء العائلات التركمانية لا يستطيعون مواصلة التعليم بسبب سوء الحال
الاقتصادية.
عبد الله بيرقدار تركماني آخر هرب من العراق قبل عقدين, وظل يحلم
بالعودة, حتى وهو يبني حياته الأسرية والعملية بنجاح في أنقرة. وعندما التقيته في
متجره الذي يبيع الفضيات والأحجار الكريمة بأحد المجمعات التجارية الكبيرة في
العاصمة التركية كان عائدًا لتوه من العراق: كنت هناك قبل عشرة أيام, وهو حلمي الذي
ظل يراودني عشرين سنة, رغم استقراري ونجاحي هنا, لكنني أشعر بأن جذوري هناك, حتى لو
اضطررت أن أقسم حياتي بين البلدين.
نزوره في اليوم التالي بمنزله الجميل في ضاحية باتكنت Batikent
البعيدة عن العاصمة بنحو 70 كيلومترا, وقد ذهبنا مع شقيقه الأصغر الذي لا يعرف من
العربية سوى بضع كلمات, واكتملت الطريق بين المترو والحافلة. وهناك يعرض علينا عبد
الله بفرح بالغ ما أحضره من تذكارات عراقية خلال زيارته لمسقط رأسه قبل أيام; أكواب
زجاجية, وصور لوالديه, ومزهرية. وبينما تعد لنا زوجته التركية ـ التي لم نرها ويفخر
بأنها صارت عربية الطباع ـ بعض الكعك المنزلي تدخل إلينا ابنتاه الصغيرتان لالتقاط
الصور. يقول: ابني عمر في المدرسة, على بعد دقيقتين من هنا, وأنا سأحرص على أن
يتعلم أبنائي العربية, وأن يختموا القرآن الكريم, وأن يعودوا معي للعراق. أما
شقيقاي فهما لا يحبذان العودة فهما لا يعرفان سوى تركيا بلدا.
حديثي مع تركمان العرب استمر مع واحد من بين الذين مثلوا المعارضة
العراقية, منذ 1991 فهو عضو للجنة التنسيق والمتابعة للمعارضة العراقية, ونشاطه
السياسي لم يطغ على نجاحه في مجال السياحة. قال لي جنيد منجو: عدد التركمان العرب
في تركيا أكثر من 40 ألفا, وأعتقد أن وجود الصحون اللاقطة قد حل مشكلة استقبال
القنوات العربية للناطقين بها في تركيا, أما في الصحافة فنحن نتمنى وصول الصحف
العربية إلى هنا وإن كانت لدينا دورية تركمانية تصدر فصليا باللغتين العربية
والتركية.
والمجلة التي يشير محدثي إليها ويكتب بها, تحمل اسم (قاردشلق) وهي
ثقافية فنية أدبية تراثية. وقد احتفلت هذه المجلة هذا العام بدخول سنتها الخامسة.
وصاحب الامتياز المدير المسئول عز الدين كركوك, ورئيس التحرير صبحي ساعتجي. والناظر
إلى عناوين أحد الأعداد يدرك أن هم التركمان في تركيا هو الحديث عن مشكلاتهم في
العراق: النهج السياسي لتركمان العراق, تركمان العراق وانتهاك مبادئ حقوق الإنسان,
الديمقراطية والحقوق القومية لتركمان العراق, كركوك ليست كردية... إلخ. يستكمل جنيد
حديثه حول الواقع التركماني في تركيا ومستقبل اللغة: أعتقد الآن أن كثيرا من أبناء
التركمان ـ بل وأبناء الأتراك أيضا ـ يميلون إلى تعلم لغة ثانية, قد تكون
الإنجليزية أو الفرنسية أوالألمانية, ربما لأن علاقة تركيا بالعالم تشهد تحولا
كبيرًا. ويرى جنيد صعوبة في قبول الاتحاد الأوربي لتركيا ضمن منظومته, لأن ذلك
الاتحاد يقبل بلدانا تذوب فيه مثل بلغاريا ورومانيا, لكن النفوذ التركي ودين البلاد
أهم ما يخشاه الأوربيون في الجانب التركي. وحول عودته للعراق قال: لا يمكن أن ننفصل
عن الوطن, وسيكون لي مقر في العراق ببغداد أو كركوك, ونأمل أن يحقق الشعب طموحه
ليعود ممارسا لجميع حقوقه وسلطاته, دون تدخل في شئونه, ومع الالتزام باحترام حقوق
الجوار وعودة العلاقات الطبيعية معه.
وقد أنشأ تركمان العراق (جمعية الأخوة والثقافة) وتضم محامين وتجارا
ومهنا أخرى, لاحياء وإنماء الثقافة التركمانية, ولإيصال انتهاكات حقوق الإنسان
التركماني إلى الرأي العام في تركيا وخارجها, وكما يقول بيانهم (إن جمعيتنا وإن
كانت جديدة التأسيس إلا أنها أصيلة في قلوب شعبنا أصالة تاريخه, لأننا نستند إلى
الهوية الحقيقية لهذا الشعب المظلوم الذي جاهد عبر مئات السنين للمحافظة عليها وقدم
دماء المئات من أبنائه لكي يبقى مرفوع الرأس ثابتا لا يتزعزع).
هل تركمان العرب هم الفئة الوحيدة في النسيج التركي الناطقة بالعربية?
بالطبع لا! فهناك المهاجرون العرب من المناطق العربية الملتهبة مثل فلسطين. كثيرون
منهم هنا شقوا حياتهم وعملوا في الطب والصحافة والتجارة أيضا. ومن الأتراك الناطقين
بالعربية التقيت عددا من أبناء لواء الإسكندرون, الذين أسسوا جمعية (الأنطاكيين) في
شارع الاستقلال الرئيسي باستانبول, يستعيدون فيها الصوت العربي عبر دروس لغوية,
ويقيمون أمسيات للشعر العربي وحفلات ومعارض لرسومهم وصورا لأنطاكيه التي تقع على
نهر العاصي وتبدو مثل حفنة من البساتين في حجر الجبال الشاهقة.
حين نمر بالقرن الذهبي في استانبول نتذكر أفراح السلاطين, الجالسين في
شرفة القصور وحولهم كبار الوزراء ورجال الدولة, يشاهدون زمرة العازفين والراقصين في
باحة بساتين توب كابيه وقد اجتمعوا للاحتفال بمولد وريث العرش. نافخ البوق,
والزمار, وقارع الطبل, وعازف القيثارة, والحاوي, والمهرج, وضارب الرق, والخَيَّال
(الراقص بالحصان), والنشاب (الضارب بالنبال), ودرويش المولوية... أين هم الآن?!
يجيبني فنان استعاد هذه الجوقة الكاملة في 40 تمثالا ضاحكا لها نفس أحجام البشر لكن
هيئتهم التي خصهم بها الفنان شكيب داواز تبعث على السرور. ويخطط شكيب لوضع تماثيله
في متحف كالمتاهة مثل بيت جحا, مليئة بالمرايا, ربما لنكتشف عيوبنا قبل أن نرى عيوب
المهرجين. لكن ذلك الحفل المنقرض يقابله حفل آخر يتجدد نهاية كل أسبوع, وهو حفل
للبسطاء, يقيمونه للعرسان الجدد, فيصحبون العروس وزوجها إلى تل العرسان, في القسم
الآسيوي من استانبول, وكأنه حنين للجذور, وهناك فوق تلة تشرف على البوسفور والمضيق
والجسور والمستقبل, تتمنى العائلات السعادة لأسرة المستقبل. لقد تناسلت أفراح
البسطاء وبقيت حية حتى اليوم, لكن أفراح السلاطين انتقلت إلى المتحف!
جئنا الجمهورية التركية بعد مرور 80 عاما على إنشائها وفي الذهن عنوان
براق, وكلمات آسرة: حلم أتاتورك يعبر البوسفور. هكذا كان مصطفى كمال يحلم بأن ينمو
التقدم كأشجار البلوط في الأرض التركية بتضاريسها المختلفة, وظل عبور البوسفور;
المضيق الذي يفصل قارة آسيا عن شقيقتها الأوربية, يمثل اتجاه التقدم في الأجندة
التركية خلال ثمانية عقود (ربما لذلك يخططون لبناء نفق يمثل طريقا رابعا بعد الجسور
الثلاثة بين القارتين). وحين تأسس الاتحاد الأوربي, أصبح انضمام تركيا إلى مجموعة
دولِه أملا يشدو به رجال السياسة, ويتعجله أهل الاقتصاد, ويتمناه أبناء الوطن كلهم,
رغم أن أحدًا ممن قابلناهم لم يعتقد أن ذلك الحلم يومه قريب. فالكثيرون يملؤهم
الشك, وهم يرون البطالة تصادقهم, وضيق الحال يسير بجانبهم, والرواتب لا تكفي من
يعمل, والاقتصاد ينتظر معجزة, والاستحقاقات الأوربية تتعاظم يومًا بعد يوم, ولا
تقتصر على الإصلاحات الداخلية وحسب, بل على موقف تركيا من العالم كله. وأصبحت عتبة
الاتحاد الأوربي في المخيلة التركية مثل بوابة السراب في صحراء الحقيقة. فهل شاخت
الأحلام بعد ثمانين عامًا?.