ملامح الواقعية في لوحة (الأب والابن) لكورين


صبغت الواقعية بدلالاتها الاصطلاحية المختلفة معظم مناحي الإنتاج الفني في روسيا القيصرية خلال القرن التاسع عشر, وخصوصاَ الرواية والفن التشكيلي, وعندما حدث ما يشبه فرض (الواقعية الاشتراكية) في المرحلة الستالينية على الأجناس الفنيّة, بدا ذلك استمراراً للتقاليد الفنية الروسية في القرن التاسع عشر, وخصوصاً في الفن التشكيلي الذي لم تطرأ على تقاليده مظاهر تغيير حاسمة, خلافاً لفنون القول التي ألزم مبدعوها بالتزام سياقات متزمّتة وسطحية في أطر التعامل مع الذات والعالم, بينما تخلّص التشكل من السقوط في هاوية السذاجة الجمالية لأسباب عدة, ربما كان أبرزها قدرة التشكيل على صنع الجمال وإشاعة المناخ الجمالي من خلال أي مادة تعالج بصرياً.

عاش بافل كورين بين عامي 1892 و 1967, وتتلمذ على يد الأكاديمي الروسي نوستروف, ولكن الكاتب الكبير مكسيم جوركي هو الذي كان له الأثر الحاسم في مسيرة الفنان وتوجيه خطاه في مراحل التكوّن والنشأة والنضج الفنّي. ولوحة (الأب والابن) أنجزها عام 1931, وهي لوحة ضخمة أبعادها 240x 140, وأدرج نسخة عنها في عمله الملحمي الضخم (روسيا المهاجرة) الذي رسمه بناء على نصيحة معلّمه مكسيم جوركي, واستغرق إنجازه ثماني سنوات, ويضم إلى جانب (الأب والابن) حشداً من الشخصيات والرموز القومية الروسية, جاء بعضها أيضاً في أعمال مستقلّة, كهذه اللوحة, ولوحة (المتسوّل) وصور بعض رجال الدين, وبعضها اقتصر وجوده على العمل الرئيسي (روسيا المهاجرة).

يبرز في (الأب والابن) قدر غير يسير من ملامح الواقعيتين الروسية والسوفييتية الاشتراكية, فهما لدى بافل كورين متكاملتان ومنسجمتان, من غير تعارضات كبيرة, خلافاً لما طغى على بعض الأعمال التشكيلية ذات الطابع الدعائي السياسي المباشر. وفي هذه اللوحة يسعى الفنان إلى إبراز الطاقة وقوّة الإرادة اللتين يختزنهما الشعب الروسي البسيط, فالأب وابنه ينتميان إلى الفئات الأكثر فقراً في المجتمع الروسي, ويتجلّى ذلك عبر فقر اللوحة بالموجودات, فالخلفية فارغة من أي شيء. ويعكس فقر اللوحة بالألوان حال الفقر التي أراد الفنان إبرازها, بالإضافة إلى طبيعة الثياب التي يرتديها الرجلان, وما يرتسم على وجهيهما من آثار الشقاء والعناء.

ورغم غرق الأب وابنه في مستوى واحد من البؤس, فإن الفنان حرص على إبراز فروق حاسمة بين الرجلين, والجيلين, فالأب يمتلئ وجهه بما يدلّ على الحزم والقوة والتصميم, ويخفي خلف تجاعيده الغائرة مزاجاً عصبياً, ونوعاً من الشراسة التي يمكن السيطرة عليها, ويبدو متطلّباً صعب الإرضاء, ويبدو أيضاً أقوى من ابنه الشاب بفرق كبير, فهو يختزن تاريخاً حافلاً بالزمن والأحداث التي ظهرت في طبيعة وجهه بتجاعيده العميقة, ولحيته الكثيفة الطويلة, ويخفي يديه وراء ظهره وكأنه بذلك يزمع الكفّ عن ممارسة الفعل في الحياة الراهنة وفي المستقبل, ويخفي أيضاً بقايا سيف يحمل إمكان استعماله رغم انتمائه إلى مقتنيات الماضي ومخلفاته.

وبالمقابل, نجد وجه الابن محتقناًً بالحزن الدفين والحيرة والقلق, وهي دلائل نموّه النفسي والروحي, على خلاف نموّ والده الذي اتّخذ المنحى الجسماني, فامتلك جسداً ضخماً قويّاً ووجهاً يفيض بالقوّة والحزم. ووجه الابن مغطى بظلال قاتمة تشير إلى غموض ما ينطوي عليه, وإلى وفرة الاحتمالات القائمة أمام مسيرته الحياتية. وتعكس لحيته المهوّشة ذات النموّ غير المتناسق حال الحيرة وتشابك المسالك والخيارات الموجودة أمامه وفي داخله, وهو يشبك كفّيه اللذين تنفر عروقهما بشكل يوحي برؤية جريان الدم داخل العروق, وكأن هذا يعني أن اليدين تختزنان طاقة هائلة على العمل, وتملكان أيضاً توقاً للبدء فيه, لكن غموض المسالك المنعكس في ظلام وجهه, وتشابك الخيارات والاحتمالات المنعكس في تشابك أصابعه وتهويش لحيته, وكبوة النظرة في عينيه, أمورٌ تجعله على عتبة الفعل وليس في صميمه.

لم يشأ الفنان وضع الجيلين, جيل الأب وجيل الابن, الماضي والمستقبل, في حال العداء والصراع, أو التناقض الضدّي, بل جعلهما متكاملين رغم الاختلافات الصريحة والتباينات التي تبدو حادّة في بعض المواضع, كما في حال التباين بين طباع الرجلين, لكن ذلك أراده الفنان في أجواء التكامل والاتساق التاريخي, وقد انعكس ذلك من خلال الاتّساق اللوني الذي طغى على أجواء اللوحة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه اللوحة تعد مثالا للواقعية الروسية, فقد أبرزت ملامح البؤس والشقاء الإنساني وحال الفقر المدقع الذي غرق فيه الشعب الروسي, وعنيت أيضاً بإبراز الغنى الداخلي الروحي الذي يظهر من ملامح الرجلين. وهناك أيضاً تلك القدرة المدهشة في إبراز تفاصيل معينة وإغفال أخرى. فقد بلغت الحفاوة بالتصوير الدقيق والعناية الفائقة بالتفاصيل ذروتيهما في وجه الرجلين ولحية الابن, ويديه اللتين يمكن ملاحظة جريان الدم في عروقهما, حسب التعبير المستعمل في وصف الواقعية الروسية, بينما لم تحظ الثياب بأيّ اهتمام موازٍ, وخصوصا في الجزء السفلي من اللوحة, حيث بدت الثياب تفصيلاً غائماً مدرجاً في خلفية اللوحة