محمد عبدالوهاب... العبقرية المدهشة في القصيدة الغنائية

   محمد عبدالوهاب... العبقرية المدهشة في القصيدة الغنائية
        

            يستحق الرصيد الفني الهائل للفنان الرائد محمد عبدالوهاب جهوداً متواصلة لجمعه وتحليله ودراسته واستخراج كل خصائص التجديد فيه, فعبدالوهاب أسس من خلال ما أنتجه في فن القصيدة الغنائية, عشرات المحطات للانطلاق إلى آفاق التجديد والتطور الرحبة.

            يمكن تلخيص المحصلة العامة لجهد الرواد الأوائل للغناء عبده الحامولي, وسلامة حجازي وأبو العلا محمد, في تركيز الشكل التقليدي لفن القصيدة الغنائية العربية في العصر الحديث, وإعادة إحيائه بعد انحسار طويل لهذا الفن الذي طالما ميّز الموسيقى والغناء العربيين ووصل ذروة ازدهاره في العصور الذهبية التاريخية للغناء العربي, في العهدين العباسي والأندلسي.

            وكان أغرب ما سجله التاريخ المعاصر للموسيقى العربية, أن رائد الموسيقى العربية الحديثة في مطلع القرن العشرين, سيد درويش, قد عالج في ثورته التجديدية معظم الأشكال التقليدية والجديدة في الموسيقى العربية, باستثناء شكل القصيدة الغنائية, على ما لهذا الشكل من موقع أساسي في مسيرة التراث الموسيقى والغنائي العربي عبر القرون.

            وكأن الظروف شاءت لرائد آخر (محمد عبدالوهاب), أن يتولى مهمة إطلاق فن القصيدة العربية من قمقم التقليد الكلاسيكي, الذي تسلمه من جيل الأسلاف, وتسليمه للأجيال التالية من المبدعين العرب, فنا حديثا ذا آفاق لا حدود لها.

            إن اختفاء فن القصيدة الغنائية في النشاط الواسع المحموم الذي أطلقه سيد درويش في ثورته التجديدية العارمة, ظاهرة نادراً ما لاقت الاهتمام الذي تستحقه, بل لا نكاد نجد لها ذكرا لدى مؤرخي ونقّاد الموسيقى العربية, وهي حتما ظاهرة ذات أسباب موضوعية عامة, وأخرى ذاتية متعلقة بمكونات وعناصر الشخصية الفنية لسيد درويش, الأمر الذي يستحق دراسة مطوّلة تتجاوز مجرد الإشارة العابرة.

            فإذا تجاوزنا ذلك إلى دور محمد عبدالوهاب الرائد والمؤسس في هذا المجال, فإننا نشير إلى أكثر من مكوّن في حياة عبدالوهاب دفعه إلى اتخاذ فن القصيدة الغنائية منصة أساسية لإطلاق أهم مجهوداته في تطوير الموسيقى العربية وخدمتها.

            في أحد لقاءاتي المتعددة مع محمد عبدالوهاب, والتي امتدت بين أواخر الخمسينيات وأواخر الثمانينيات, طرحت عليه سؤالاً مباشراً في هذا الشأن: (مَن يتأمل تراثك الفني بنظرة شاملة, يلاحظ أنك أكثر ما تكون جدية ومثابرة وتألقا وتعمّقا, عندما تقوم بتلحين نص باللغة الفصحى, لماذا?) وكان رد عبدالوهاب موافقة تامة على الملاحظة, وتفسيرا يتراوح بين إبداء عشقه المبكر والدائم للغة الفصحى, وإيمانه الراسخ بأنها أكثر خلوداً من أي نص بالعامية, مهما بلغ هذا النص العامي من الجمال الفني.

بداية التكوين

            من المؤكد أن أكثر من عنصر في حياة محمد عبدالوهاب قد ساهم في تكوين هذه العلاقة الخاصة بينه وبين اللغة الفصحى, يمكن إجمالها بما يلي:

            1- نشأة عبدالوهاب الأولى في كنف عائلة مسئولة (والده وشقيقه الأكبر) عن جامع حي باب الشعرية الذي ولد في محيطه وشهد ترعرعه ونشأته الأولى, قبل دخوله دنيا احتراف الفن, ولعبدالوهاب أحاديث مطوّلة عن أثر هذه النشأة العميق في تكوين شخصيته الإنسانية والفنية, ما بين تجويد القرآن الكريم, والإنشاد الديني والابتهالات.

            2- التبني المبكر لأمير الشعراء أحمد شوقي لمحمد عبدالوهاب, وهو فتى دون الخامسة عشرة من عمره, وملازمته اليومية له في السنوات الثماني الأخيرة من حياة شوقي.

            ولم تقتصر هذه العلاقة على دخول عبدالوهاب حرم الإبداع الشعري الراقي لأحد أعظم شعراء العرب في القرن العشرين, بل تعدت ذلك إلى دخول عبدالوهاب (من خلال العشرة اليومية المطوّلة لشوقي), حرم رأس الهرم الثقافي في مصر, في تلك العقود الخصبة من حياة مصر الثقافية, فأصبح عبدالوهاب, وهو في سن التفتح والتلقي, يعاشر (بطريقة غير مباشرة, وعن طريق شوقي) كبار شعراء ومثقفي مصر, في تلك الفترة. ويروي عبدالوهاب في مذكراته المتعددة النسخ (مع سعد الدين وهبة, ومع مجدي العمروسي, ومع وجدي الحكيم), أنه كان - على سبيل المثال لا الحصر - يمر مع أمير الشعراء على طه حسين في الجريدة التي كان يرأس تحريرها, ويستمع إلى عميد الأدب العربي, وهو يملي افتتاحية ذلك اليوم, بصوت مهيب وإلقاء فخم منغم, وبلا أي تردد أو تلعثم.

            3- بعد رحيل شوقي, في العام 1932, قام عبدالوهاب بمواصلة نسج علاقاته بالوسط الثقافي الأعلى في مصر, وذلك عن طريق صالون روز اليوسف (كما يؤكد في مذكراته) حيث أكمل التعرف إلى بقية كبار أدباء مصر كالعقاد والمازني, الذين كانت عداوتهم الأدبية لشوقي, تحرمه من الاقتراب منهم.

            وفي هذه الفترة, وبعد أن لمع نجم عبدالوهاب ليس فقط كملحن ومطرب أول, بل كرائد جريء من رواد التجديد, توثقت علاقاته بالجيل الجديد من الشعراء أمثال بشارة الخوري (الأخطل الصغير) في لبنان, وكامل الشناوي وعلي محمود طه وأحمد فتحي ومحمود حسن إسماعيل وصالح جودت وأحمد فتحي في مصر, وصولا إلى نزار قباني. مع التذكير بأن شلة أصدقاء محمد عبدالوهاب الشخصيين كانت تضم منذ شبابه الباكر الشاعر أحمد رامي. علماً بأن التعاون بينهما لم يشمل إلا ثلاث قصائد, واحدة من روائع عبدالوهاب الأولى (على غصون البان) والثانية نشيد العلم, والثالثة مرثية (أيها الراقدون) (في فيلم (دموع الحب)), واقتصر التعاون بعد ذلك على قصائد رامي بالعامية المصرية.

            ولو أردنا وضع ما أنتجه عبدالوهاب في فن القصيدة الغنائية, على الخريطة العامة لمجمل نتاجه الفني, فإننا سنلاحظ أن فن القصيدة كان الباب الأول الذي دخل منه هذا الفنان إلى عالم الاحتراف, حتى عندما كان في خطواته الأولى, يقدم نفسه كمطرب لا كملحن. ذلك أن أول ما نعرفه من تسجيلات عبدالوهاب بصوته على أسطوانات, قصيدتان للشيخ سلامة حجازي: (ويلاه ما حيلتي), (وأتيت فألفيتها ساهرة). ولم يكن ذلك الاختيار من باب الصدفة, فقد كانت قصائد الشيخ سلامة حجازي المسرحية, هي عماد المادة الفنية التي يقدمها المطرب الناشئ عبدالوهاب بصوته بين فصول مسرحيات فرقة عبدالرحمن رشدي, وكان ذلك أول مرحلة في حياة عبدالوهاب الاحترافية.

            بعد ذلك, ولما اكتشف عبدالوهاب في نفسه موهبة التلحين, وأقلع نهائيا (حتى نهاية عمره) عن الغناء من ألحان سواه, فقد احتلت القصائد الموقع الأول في نتاج عبدالوهاب الفني, حتى في مرحلته التجريبية الأولى كملحن. فسنجد في اسطواناته الأولى (بين 1924 و 1927), قصائد مثل (خدعوعها بقولهم حسناء) لأحمد شوقي, المتضمنة للبيت الشهير:

نظرة, فابتسامة, فسلام فكلام, فموعد, فلقاء


            هذا النمط من القصـــائد الأولى (مثــــل (مــنــك يا هاجر دائي) أيضا), كان عبدالوهاب فيه يلحن ويغني بطريقة المزج بين تأثره بأسلوب الشيخ سلامة حجازي, المرسل الحر, الذي يحاول التعبير, وأسلوب الشيخ أبو العلا محمد, الذي وضع حجر الأساس للقصيدة الغنائية العربية, ذات الشكل الواضح المعالم, كما ورث بداياته عن سلفه العظيم عبده الحامولي, وهو اللون الذي يمكننا العودة إلى نموذجه الأشد وضوحا والأبقى في قيمته الفنية الخالدة (أراك عصي الدمع), في التسجيل المميز بصوت أم كلثوم.

            ويمكن اعتبار هذه القصيدة (ألحان عبده الحامولي), ثم قصيدة (وحقك أنت المنى والطلب) (ألحان أبو العلا محمد) حجر الأساس الذي انطلق منه عبدالوهاب العام 1927 في بناء عمارته الشاهقة في فن القصيدة الغنائية.

            لم يكن صدفة, أن تكون قصيدة (يا جارة الوادي( هي المحطة التاريخية التي أعلنت ميلاد موسيقار العرب الأول في القرن العشرين ومطربهم الأول محمد عبدالوهاب. فمن يستمع إلى هذه القصيدة اليوم,يرى فيها كل جذور عبدالوهاب الضاربة عميقاً في التراث العربي التقليدي, عودة إلى العهدين العباسي والأندلسي, (في القسم الأول من القصيدة الذي يسيطر عليه مقام البياتي) ويرى فيها أيضا كل, أو بعض مؤشرات الآفاق البالغة الرحابة والغنى والتنوع, التي سيرتادها عبدالوهاب في تطوير وإغناء فن القصيدة الغنائية, حتى آخر عمره, وذلك واضح وجلي في القسم الثاني من القصيدة الذي يبدأ بعبارة (لم أدر ما طيب العناق على الهوى) (على مقام نهاوند). ولا تقتصر المعادلة الوهابية الفذة المتوازنة بين الانتماء إلى الجذور التقليدية والانطلاق الجريء إلى الآفاق الرحبة, على الفكر التلحيني للقصيدة, ولكنها تتجسد بالعمق نفسه والقوة نفسها في أسلوب عبدالوهاب الغنائي, الذي يحتفظ بكل أساسيات وأصول الغناء العربي التقليدي النابع من فنون تجويد القرآن الكريم, والإنشاد الديني, ولكنه يشذب هذا الأسلوب من كل شوائبه المترسبة عبر القرون, ويصقله ويجلوه في أبهى حلة وأنقى أداء, فيقدم الموازي العربي لفن الغناء الأوبرالي المتقن كما طوّرته أوربا في القرون الأربعة الأخيرة.

            في مجموعة (يا جارة الوادي) التي شكلت المرحلة الثانية في فن القصيدة الغنائية لدى عبدالوهاب, نستمع إلى قصائد في منتهى الروعة والجمال مثل (علموه كيف يجفو), (ويا ناعما رقدت جفونه) (من أشعار شوقي), غير أن عبدالوهاب توج هذه المجموعة بروائع مثل (ردت الروح على المضني معك), (وأنا أنطونيو), (وتلفتت ظبية الوادي) (كلها لشوقي), التي يمكن أن نلحظ فيها بوضوح تام توسع رحابة آفاق التطور في الفكر الموسيقى, كما في الفكر الغنائي, وهذه القصائد الثلاث كانت الجسر المتين الذي عبره عبدالوهاب, في تطوير فن القصيدة الغنائية إلى مرحلة ثالثة, قد تكون أبرز نماذجها وأهم عناوينها قصيدتان: (على غصون البان) (لأحمد رامي) (وأعجبت بي) (للشاعر الفارسي المستعرب مهيار الديلمي).

            يتوقف عبدالوهاب كثيرا, في مذكراته التي يرويها بصوته, عند قصيدة (على غصون البان) ويعتبرها محطة بالغة الأهمية في مسيرته الفنية, وليس في ذلك أي مبالغة, ففيها بدا أن عبدالوهاب الملحن وعبدالوهاب المغني قد أفلت من منطقة الجاذبية المغناطيسية القوية للتراث التقليدي, وأطلق جناحيه في آفاق التجدد والتطور بحرية كاملة. وأنتج في هذه المرحلة قصيدتين غنائيتين يمكن اعتبارهما (إلى الآن) من الغرائب المعجزة في فن تلحين وغناء القصائد العربية وهما (جفنه علم الغزل) (في فيلم الوردة البيضاء) و(سهرت منه الليالي) (في فيلم دموع الحب), إلى أن توج تلك المرحلة الثالثة بقصيدته الخالدة (أعجبت بي). في هذه القصيدة كانت قد اكتملت كل ملامح التجديد في تلحين وغناء القصيدة لدى عبدالوهاب, وبدا فكره الموسيقي في هذا اللحن متقدما بعقود من الزمن عن قدرة الفرقة الموسيقية على التعبير, وخرج نهائيا من قيود الشكل التقليدي لفن القصيدة, وأطلقها في رحاب لا حدود لآفاقها, هي رحاب المونولوج, أي السرد الموسيقي التأليفي الحر, الذي لا يلزم إلا بخيال الملحن وطموحاته التعبيرية.

مراحل محددة

            بعد هذه المحطة المهمة, أصبح من الصعب تقسيم نتاج عبدالوهاب في فن القصيدة الغنائية في مراحل واضحة الحدود, محددة التقسيمات الزمنية والفنية, ذلك أننا مثلما نجد في تراث عبدالوهاب مجموعات من القصائد يمكن تصنيفها تحت عنوان واحد, فإننا نجد قصائد متفرقة, قد تشكل كل واحدة منها لوناً فريداً مستقلاً بذاته, أضرب على ذلك مثالا قصيدة (الصبا والجمال) التي يستعير فيها الشكل الأوربي المعروف باسم (سوناتا للبيانو والكمان), ولكنه لا يلبث أن يطوعه بعبقرية مدهشة لملامح التراث الكلاسيكي للقصيدة العربية, في معادلة لا نظير لها في التراث الموسيقي العربي المعاصر. والشيء نفسه يمكن قوله عن قصيدة (سجى الليل), التي هي بدورها جزء من مغناة (مجنون ليلى) التي تعتبر أرقى نموذج في تلحين الدراما المسرحية العربية المستفيدة من فن الأوبرا الأوربي والمحتفظة في الوقت ذاته بملامحها العربية الخالصة. ولعل من أغرب النماذج الوهابية في هذه المجموعة من القصائد التي يصعب جمعها وتصنيفها مع سواها, قصيدة (قالت) (لصفي الدين الحلي) التي لا تتميز فقط بوزنها الشعري الصعب المستعصي أصلا على التلحين, بل إن عبدالوهاب أطلق فيها العنان لحريته الفنية بمزيج فني لا يجاريه في جرأته ملحن آخر. فصاغ ثلاثة أرباع القصيدة (وهي من نتاج عقد الأربعينيات) بعودة غريبة إلى الشكل التقليدي القديم (بعد تهذيبه وصقله تلحينا وغناء), واختار لها مقام (النكريز) النادر الاستخدام في الموسيقى التقليدية. حتى إذا وصل إلى البيت الذي مطلعه (قالت سررت الأعداء), أفلت من عقال التقاليد وانطلق إلى آفاق التلحين بطريقة (التنويع على نغمة أساسية), واستعراض مواز في فنون الارتجال الغنائي, المستقاة من فلسفة النهضة الغنائية العربية في القرن التاسع عشر, وما إن يصل إلى قفلة القصيدة حتى يختمها بروح تقليدية نادرا ما نجدها عند عبدالوهاب بعد مرحلة (أعجبت بي).

            وبما أن التأريخ الدقيق لمسيرة عبدالوهاب في تطوير فن القصيدة الغنائية يحتاج إلى مجلد كبير, ويقتضي المرور بتفاصيل كثيرة اضطررنا لتجنبها في هذا المقال القصير, فإننا سنكتفي بالإشارة إلى مرحلتين مهمتين في هذه المسيرة, الأولى مرحلة القصائد المطولة مثل الجندول والكرنك وكليوباترا ودعاء الشرق والنهر الخالد ومصر نادتنا ودمشق وإلام الخلف والجهاد وسواها, والتي يمكن اعتبارها الجوهرة الأساسية في تاج الموسيقى العربية المعاصرة في القرن العشرين, لأنها تحوي خلاصات كاملة لتلك المعادلة المتوازنة بين الانتماء الكامل للشخصية العربية الفنية التاريخية, وفتح آفاق التجدد والانطلاق أمامها بلا حدود, وذلك في الفكر الموسيقي التأليفي والفكر الأدائي الغنائي, على حد سواء.

            أما المجموعة الثانية (أو المرحلة الثانية) التي لابد من إشارة سريعة إليها في هذه العجالة عن مسيرة عبدالوهاب في فن القصيدة الغنائية, فهي مجموعة القصائد التي أسست بقوة واقتدار لآفاق الرومانسية والدراما في فن القصيدة الغنائية. وقد افتتح عبدالوهاب هذا اللون بشكل واضح ومكتمل الملامح في قصيدة (لست أدري) (لإيليا أبو ماضي), ذات العمق الفلسفي الواضح شعرا ولحنا وأداء, (فيلم رصاصة في القلب), وقصيدة (الخطايا) (لكامل الشناوي), التي يمكن اعتبارها نموذجا كلاسيكيا مكتمل النضج في تأكيد قدرة الموسيقى العربية والغناء العربي, على ارتياد آفاق التعبير الدرامي إلى آخر مدى, وإلى أي مدى.

            هذا اللون اعتمده عبدالوهاب في عدد غير قليل من القصائد التي غناها بصوته أو لحّنها لغيره من الأصوات بعد ذلك, مثل أغنية عربية لـ(كامل الشناوي) غناها بصوته في أواخر عقد الخمسينيات, وهي تعتبر ذروة هذا النمط في القصائد الوهابية, ثم قصائد نزار قباني لنجاة الصغيرة مثل أيظن, وماذا أقول له, وإلى حبيبي, وأسألك الرحيلا, ثم قصيدة لا تكذبي, وقصيدة (لست قلبي) (القصيدتان لكامل الشناوي) و (أصبح عندي الآن بندقية) ذات الموضوع الوطني, المسجلة بصوت أم كلثوم وصوت عبدالوهاب, ولا ننسى طبعا القصائد المطوّلة الثلاث التي أبدعها لصوت أم كلثوم: هذه ليلتي, وأغدا ألقاك, وعلى باب مصر, وجميعها من روائع فن القصيدة الغنائية العربية الحديثة.

            لقد بلغ من تعلق عبدالوهاب بفن القصيدة الغنائية, ليس فقط تكريس جهده الأساسي في عمره الفني المديد لهذا اللون, ولكنه ظل يعتبره لونه المفضل, كلما أراد أن يبدع فنا يلخص فيه كامل عناصر شخصيته الموسيقية والغنائية: الانتماء الواضح إلى الجذور, والتحليق الحر في آفاق التطور اللامحدود, وتأمين أقصى حد ممكن من المتعة الفنية الراقية له كفنان, وللجمهور المتلقي, وفتح عشرات أبواب التطور أمام الأجيال التالية من الموسيقيين العرب.

            ولعل أهم ما يمكن تسجيله في ختام هذه العجالة السريعة, ملاحظة أن عبدالوهاب بدأ حياته الفنية بقصيدة (منك يا هاجر دائي) فغناها بصوته في مطلع العشرينيات, ولحّنها بلحن بالغ التقليدية, وأنهى حياته الفنية بإعادة تلحين القصيدة نفسها, لصوت المطربة المغربية سمية قيصر, بشخصية تلحينية وغنائية مختلفة تمام الاختلاف.

            ما أحوجنا في هذه الأيام, للعودة إلى محطات عبدالوهاب عودة الدارس المدقق, لنواصل العمل من النقطة بل النقاط التي أنجزها لنا هذا العملاق الموسيقي, بدل أن نخبط خبط عشواء, في القصيدة وغير القصيدة, في محاولات قاصرة تنطلق كلها من الصفر, كأننا لا ننتمي إلى أي مكان أو أي زمان

 

إلياس سحاب   







الموسيقار محمد عبدالوهاب





محمد عبدالوهاب في آخر أغنية له





أحمد رامي





عبده الحامولي





كامل الشناوي