(العربي) تزور آخر سلطنة إسلامية في القارة السوداء

  (العربي) تزور آخر سلطنة إسلامية في القارة السوداء
        

(العربي) تزور آخر سلطنة إسلامية في القارة السوداء

أربعة ملايين ونصف المليون إنسان يعيشون في القرن الإفريقي, هم عرب مثلنا, يتكلمون لغتنا, ويكتبون بحروفها نفسها, مسلمون مائة في المائة, جاءوا من اليمن والحجاز وظلوا هناك. ولكن ما حدث معهم هو نفس ما حدث مع الاكراد, نفس السيناريو ونفس الأسباب, ونفس التبرير, أمة مزدهرة فتتها المستعمر, وقطع جسدها ثم وزعها بين الجيران, ثم وقف يتباكى دون خجل على حقوق إنسانها.

  تماما, أعمل المستعمر سكينه في الجسد العفري فقطع أحشاءه الى ثلاث غير متساويات, حيث لكل جار نصيب من الكعكة, وهونفس ماجرى مع الأكراد الذي بلغ الكرم الاستعماري معهم حد تقطيع وطنهم الى خمس وتوزيعه أيضا, فياله من مخطط, وياله من ظلم فادح, وكرم يهدي رغم أنف الهدية.

          إلى إفريقيا, وتحديدا الى القرن الافريقى, انتقلت مجلة (العربى) لتشهد بعض وقائع اللحظات النهائية لاضمحلال آخر سلطنة اسلامية بعد ان ظلت لأزمنة طويلة تساهم في نشر اللغة والثقافة العربية والدين الاسلامي في مختلف بقاع القارة السوداء.

          بعد سنوات طويلة من الازدهار, وسنوات طوال من الدفاع عن كيان موحد كان يتعرض للابادة, تم اقتطاع الأمة العفرية بين ثلاث دول في القرن الافريقى, ولكن الاتفاق نص ايضا على بقاء السلطنة تحت امرة زعيمها الروحي السلطان علي مرح الذي اقترب حاليا من عامه الثمانين, على ان ينتهي كيان تلك السلطنة الموحد الذي تزيد مساحته على ضعف مساحة فرنسا, وتذوب اجزاؤها في الدول التي اقتسمتها, بعد ان يلقى السلطان ربه.

          وهكذا بدأت تلك السلطنة في التفتت وبدأ العد التنازلي لكيان كان الجميع يخشون بأسه يوما, ويسعون بدأب لخطب وده في زمن قديم مغاير لذلك الذي نشهده الآن, والذي أصبحنا فيه نجتر ذكريات المجد القديم ونواصل البكاء على أطلاله.

          كانت مفاجأة مذهلة لنا, عندما علمنا بوجود السلطان علي مرح في العاصمة الاثيوبية اديس ابابا في ذلك الوقت الذي كنا فيه قد وصلنا الى هناك, كنا نعلم ان هذا السلطان ظل منفيا عن بلاده لزمن طويل, وقت ان كانت قوات سلطنته تخوض قتالا ضاريا دفاعا عن الكيان المستقل للسلطنة ضد جيش الامبراطور هيلاسلاسي ومن بعده مانغستو هايلي ماريام.

          كان لابد عندئذ من اقتناص تلك الفرصة والذهاب الى منزله الكبير داخل العاصمة, ورغم اننا وصلنا الى هناك في العاشرة والنصف ليلا, الا ان المظهر الداخلي لهذا البيت الذي ربما كان قصرا والذي كانت تبدو عليه آثار بقايا أبهة غاربة, كان يشي في براحه واستطالته بزمن شديد الفخامة عاشه السلطان, وعاشته حاشية مازالت تحيط به اعجابا وتبركا, فيما لايزال الاتباع يقدمون له فرائض الطاعة عن رضا تام و قناعة تبدو راغبة في افتدائه ومناصرته, وتعتبره رمزا وأبا وضميرا لكيان يمتد الى مساحة كبيرة (25 ألف كيلو متر مربع), ويضم في جنباته أربعة ملايين ونصف المليون انسان كلهم يؤمنون بوحدة مصيرهم ولايعترفون فيما بينهم بتلك الحدود الفاصلة بين الدول الثلاث والتي حاولت اذابتهم في الكيانات الجديدة, وإبعادهم حدوديا عن أشقائهم .

          العفر لم يكونوا وحدهم الذين فاجأونا ولاسلطانهم الذي اكتشفنا وجوده بالصدفة, أثناء وجودنا في ذلك البلد الافريقي المهم, فعندما يكون المرء في إثيوبيا, فهو في عالم شديد الغرابة, قادر على بث الذهول والدهشة في كل لحظة.

          هكذا أخذتنا اثيوبيا جاعلة لنا في كل خطوة مفاجأة, فقد كان كل مانراه ونسير نحوه كفيلا بنقلنا من عالم غريب الى آخر أشد غرابة, ما يدفع المرء الى إيهام نفسه في النهاية بأنه وسط عدة دول لادولة واحدة.

          ففي هذه الدولة يتجاور المسجد والكنيسة وترتفع أصوات آذان الصلوات الخمس ودقات نواقيس الكاتدرائيات, فيما يتعايش المسلمون والمسيحيون والوثنيون وعبدة النار واللادينيون, ويختلطون في طول إثيوبيا وعرضها, بل وينتمون معا في غالب الأحيان إلى قبيلة واحدة تتسع لتضمهم رغم تباين في ديانات وفي عصبيات يكون للحس القومي الصوت الأعلى فيها.

          لذلك كانت دهشتنا كبيرة حين علمنا أن السلطان علي مرح موجود في تلك الأيام التي كنا فيها في أديس أبابا, فالسلطان عاد أخيرا واستقر لكنه يتنقل بين الحين والآخر في أرجاء السلطنة وتحديدا في أشلائها الممزقة بين اثيوبيا واريتريا وجيبوتى.

          منذ ان وصلنا الى أثيوبيا, كانت الذاكرة تدفع بثلاثة أسماء لتسير معنا في كل مكان: (الحبشة) و(النجاشى) و (بلال الحبشى), فالحبشة اسم عربي أطلق على تلك المنطقة في الزمن السحيق نسبة الى قبيلة الحبشات التي كانت قد هاجرت اليها من اليمن بعد انهيار سد مأرب, والنجاشي هو الملك الصالح أحمد النجاشي الذي استقبل أصحاب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم, والذي صلى النبي عليه صلاة الغائب بعد وفاته, فشرعت من يومها تلك السُّنة, وفي منطقة أكسوم في اقليم التيجراى, يوجد مسجده الذي تحول الى مزار, والى جواره مقابر الصحابة رضوان الله عليهم, وثالث الأسماء بلال الحبشي مؤذن الرسول الذي قدم الى مكة من الحبشة.

          كانت المساجد الـ 22 التي تضمها العاصمة الإثيوبية, وتلك التي رأيناها طيلة الطريق في القرى النائية والمدن البعيدة المترامية على طول طريق يمتد 650 كيلو مترا ونحن في طريقنا الى الجزء الإثيوبي من سلطنة العفر, أحد الشواهد على تجذر الاسلام في تلك البلاد التي ظل الانطباع عنها انها تضم أقلية مسلمة ضعيفة ومهمشة, وقد ظل هذا الاعتقاد سائدا منذ ان خاض منليك الثاني ملك إثيوبيا وموحدها حربا شرسة ضد المسلمين كادت تقضي عليهم تماما, حتى جاء فيما بعد الامبراطور هيلاسلاسي الذي واصل هو الآخر حملة إبادة وإلغاء تام بل ومطاردة ضد أي مظهر اسلامى, مانعا أي كتابة باللغة العربية أو أداء للشعائر. وعندما طرد من الحكم بالانقلاب العسكرى, جاء الكولونيل مانغستو هايلي ماريام ليواصل مسيرة إلغاء الآخر, لكن المسلمين وفقا لما أبلغ به (العربى) كل من قابلناه منهم, يعيشون حاليا أفضل أزمنتهم منذ تسلم الحكومة الحالية, التي تتكون من تحالف لعدة أحزاب, الحكم وان كان يهيمن على المناصب القيادية فيها ابناء قومية التيغراى, فالمسلمون ممثلون في الحكومة ولهم في الوقت الحاضر ثلاثة وزراء, اضافة الى مسئولين كبار آخرين, كما انهم ممثلون بشكل عادل في البرلمان الفيدرالى, اضافة الى تمتع مناطقهم بالحكم الذاتي حيث يقومون بادارة شئونهم بأنفسهم, ولديهم حكامهم وحكوماتهم وبرلماناتهم المحلية, كما ان الحديث عن عدد المسلمين في اثيوبيا بات علنيا ومتداولا على أكثر من صعيد, حتى ان الحكومة ذكرت اكثر من مرة في وثائق رسمية ان عدد المسلمين الاثيوبيين يصل الى 50 في المائة من عدد السكان, وحتى هذا التقدير تراه الأوساط الاسلامية أقل من الواقع وتشير في هذا الصدد الى ان النسبة الحقيقية بين 60 الى 65 في المائة من عدد السكان, وتؤكد هذه الأوساط لـ (العربى) ان حرية العبادة أصبحت مكفولة بنص الدستور, ولم تعد توجد أي قيود على بناء أماكن الصلاة الأمر الذي استفاد منه المسلمون في بناء العديد من المساجد, وتعويضهم عما حدث في ظل الحكومات السابقة من هدم لها وملاحقة للمصلين, وقد بلغ التسامح الديني للحكومة حد ان في مطار أديس أبابا الدولي مكانا متسعا للصلاة, بل وفي كل مطار داخلي يوجد مكان مفروش بالسجاجيد وتقام فيه الصلاة في وقتها, وقد رأينا ذلك بالفعل خلال انتقالاتنا عبر مناطق اثيوبيا المترامية والتي لجأنا فيها الى طائرات فوكر كي تنقذنا من عذاب الطرق شديدة الوعورة التي كنا قد جربناها عندما غامرنا بالسفر الى الجزء الاثيوبي من السلطنة العفرية.

الطريق إلى عفر

          وسط هذه الحقائق كان لابد من الانتقال الى هناك لرؤية الأمر على الأرض, لذلك اتخذنا طريقنا الى مدينة عواش الواقعة على بعد 450 كيلو مترا من العاصمة الاثيوبية, والتي تمثل واحدة من أهم المدن العفرية, وقد استغرق الطريق للوصول اليها اكثر من أربع ساعات, فيما تضم هذه المنطقة مدنا مهمة أخرى منها (عيسى عيتة) أو )عوصة) وهي عاصمة الإقليم التي قررت حكومته اخيرا اختيار مدينة (سمرا) عاصمة جديدة له, وهناك مدن أخرى منها: جوانى, جلافو (وتقع على الحدود الاثيوبية ـ الجيبوتية), ماركاور, ماركة سدى, ماتهرا, وأم بيبارا.

          انطلقنا ومعنا محمد أول القائد السابق لجيش التحرير العفري الذي قاتل لمدة 17 سنة قوات مانغستو قبل ان يتم حله أخيرا ودمجه في الجيش الحكومى, ومحمد دري موظف العلاقات العامة في السفارة الكويتية بأديس أبابا, فيما قام عبد الرحمن كرار وهو خريج في قسم العلوم السياسية من إحدى جامعات ولاية أريزونا الأمريكية بقيادة سيارة الجيب التى خصصها السلطان علي مرح لإيصالنا الى المناطق العفرية, كان الوقت مبكرا والشمس لاتزال تتوارى, بينما كنا منطلقين عبر طريق (دبرازيت) وسط ازدحام السيارات الصباحي ودخان عوادمها الخانق الممتزج بغبار الطريق الترابى, نمر على شارع طويل يؤدي الى ميناء عصب الاريتري وكذلك الى جيبوتي التي أصبحت المنفذ البحري الوحيد لوصول الواردات إلى إثيوبيا المغلقة والتي لاتطل على أي ميناء.

          نصل الى مدينة (دبرازيت) التي كنا قد زرنا قبل عدة أيام بحيرة بها تسمى (حورا), وفي ميدانها الرئيسي كتب على بعض الحافلات أسم مدينة (جيكبجيكا) الواقعة في الإقليم الصومالي من أثيوبيا, نسير في طريق يفضى فى نهايته إلى كينيا عبر الجنوب الاثيوبى, ثم ننحرف يمينا لندخل في طريق ترابي لخمسة كيلو مترات, قبل أن نعود إلى الطريق المرصوف لنصل الى مدينة (نازاريت) وهي مدينة ساخنة الهواء اختيرت قبل أشهر قليلة عاصمة لاقليم أوروميا بعد أن ظلت أديس أبابا عاصمة له وللدولة أيضا, ويسميها سكانها الأوروميون (أداما), وهي مدينة كبيرة ومزدحمة يسكنها نحو 100 ألف نسمة, وقد رأينا على الطريق مسجدا ومدرسة لليتامى ومركزا صحيا بنتها جميعا لجنة مسلمي افريقيا التي يترأسها الدكتور عبد الرحمن السميط والتي تنطلق من الكويت واضعة بصمات رائعة على شفاه اليتامى والمحتاجين في الدول الإفريقية.

          الآن اقتربنا من المناطق العفرية, فعندما وصلنا الى مدينة (ولان تيتى) لم يعد أمامنا سوى مسافة تستغرق ساعة فقط, وكان هاجسنا في تلك اللحظة هو الوصول قبل موعد صلاة الجمعة, الذي لأجل أدائها مع السكان العفر كنا خرجنا من مقر اقامتنا في العاصمة أديس أبابا في ساعات الصباح الباكرة, ولكن بعد أن تخطينا حدود مدينة أدما وبدأنا الدخول في المنطقة الفاصلة بين إقليمي الأورومو والعفر عابرين طريقا جافا ليس في أرضه سوى نباتات صحراوية متفرقة ولاأثر لبيوت فيه, بعد نصف ساعة قطعتها سيارتنا, بدأ الاطار الخلفي لها يطلق صوتا مزعجا, قرقعة تتواصل وتحدث ضجيجا عاليا, توقف السائق وهبطنا من السيارة معه لنجد هذا الإطار قد انسلخ, جاء مكان وقوف سيارتنا إلى جوار شجرة كبيرة كان يجلس تحتها أربعة رجال سود البشرة,حفاة ومتربو الشعر, تلتف أحزمة جلدية حول خصور كل منهم ويتدلى منها خناجر, اتجه زميلنا ناحيتهم ليصورهم, رفضوا بشدة ثم قاموا بسرعة البرق بادخال أجسامهم في أكياس مصنوعة من قماش أبيض كنا ظنناها لأول وهلة (شالا) يلقى على الكتفين, ظلوا هكذا ملتفين بالأكياس وممدين أجسامهم على الأرض إلى أن أعطيناهم قطعا من (البر) أي العملة الاثيوبية التي يطلق عليها هذا الاسم.

          بصعوبة شديدة وامكانيات محدودة قمنا بإخراج الإطار المنسلخ من مكانه بالسيارة, ووضعنا مكانه إطارا احتياطيا, ولكن بعد التعب المزدوج, انهار الإطار البديل أيضا, فأعدنا الكرة من جديد, وأرجعنا الاطار المنسلخ مرة أخرى الى نفس مكانه بعد أن أعطانا رجل من الأورومو خنجره لنقطع به الزوائد البارزة من الجزء السميك فيه, كان الرجل يرتدي في يده اليمنى أساور حديدية, وفي أذنه كان يضع حلقة دائرية معدنية, بعد أن أكدنا لأنفسنا أنه ليس أمامنا لقطع نصف الساعة المتبقية سوى استخدام هذا الاطار مع وضع كل الاحتمالات في أذهاننا وتحمل كل ما قد ينجم عن إطار كهذا, تسير به سيارة على طريق شديد السخونة, ووسط بشر ينبثقون من وسط الغابات الذين يكفي المرء نظرة من عيونهم شديدة القسوة والشراسة ورؤية بنادقهم المحشوة برصاصات حقيقية أو خناجرهم الطويلة المدببة, كي يسري الرعب في الأوصال.

          بدأت السيارة في السير وبدأنا نقرأ دعوات مأثورة حتى تتمكن السيارة من إيصالنا إلى مقصدنا,بينما الهواجس العديدة تجتاح الرأس التي امتلأت بعشرات الهواجس المتساءلة: ماذا لو انفجر الجزء الباقي الذي لم يعد سميكا من الإطار في طريق كهذا لاتمر به سيارات وإن مرت فانها لاتعرض مساعدة ولاتقف أصلا, ولازرع فيه ولابيوت, اللهم إلا بشر الغابات ؟, ماذا سيكون مصيرنا؟؟, ليس هذا فقط بل إن مرافقنا القائد السابق لجيش التحرير العفري الذي كان يتخذ من أحراش تلك المنطقة مركزا لانطلاق حرب العصابات, أخبرنا بهدوء شديد أن هذه المنطقة تعتبر حديقة حيوان مفتوحة, وأن الأسود والنمور والفهود والفيلة والضباع تعيش فيها وتخرج إلى الطريق العام بين الحين والآخر.

          كان القائد السابق يسوق هذه المعلومات ليدلل على شجاعة جنوده, ولم يكن يدري انها مع هواجس عدة كانت تطاردني بسبب هذا الإطار اللعين قد أوصلت الرعب إلى أقصاه, فيما كان زميلي المتمرس على غابات آسيا وإفريقيا أكثر هدوءا وصلابة, على الأقل هذا مابدا منه, لكنني تأكدت من كلام القائد العفري عندما رأيت بعد قليل أسرابا من الغزلان تسرح معا, ثم إلى بعد نصف كيلو تقريبا ونحن نسير في طريق يتوسط جانبي الغابة المفتوحة, رأيت على جانب الطريق الأيسر فيلا إفريقيا هائل الحجم, وإلى جواره مجموعة من الأيائل ذات القرون الشجرية المتشعبة.

          اقتربنا من بحيرة كبيرة جدا يطلق عليها اسم (مطهرة), تنبع من الأرض وتزداد مساحتها كل عام, وهي ذات مياه مالحة لا تصلح للشرب, وعند غسيل اليدين منها فانها تترك عليهما رغاوي كتلك الناتجة عن الصابون, ومع ذلك فانها موطن للعديد من طيور البجع واللقلق وطيور الزينة, وعلى طول الطريق يمكن للمرء ان يمتع ناظريه بهذه الكائنات ذات الأشكال الجميلة وهي تقف فوق تربة سوداء فاحمة تتناثر وسط البحيرة ويقال إنها بقايا بركان انفجر في السابق في تلك المنطقة, كان المنظر جميلا لكن كيف يمكن للشعور بالاستمتاع ان يحل بديلا لهاجس الرعب الذي كان مجتاحا؟

          قبل ان نترك البحيرة مررنا على منطقة (صابورى) و بها مياه عيون حارة وحيوانات طليقة وأشجار للفواكه هي من المزارع الكبرى في تلك الدولة قبل ان نصل الى مدينة مطهرة التي تقع فيها البحيرة, وهي آخر مدينة تابعة لاقليم أوروميا وبعدها يبدأ اقليم العفر وبين الإقليمين يوجد جبل ضخم يفصلهما, كانت الساعة وقتذاك قد وصلت الى الثانية عشرة ظهرا ولم يبق على إقامة الصلاة سوى نصف ساعة.

          ما إن صادفنا محلا لإصلاح السيارات حتى توقفنا, وعندئذ عاد الهدوء الينا, لننطلق بعد ذلك الى مدينة (عواش) التي صادفنا في الطريق اليها دوامات هوائية ظلت ترتفع حلقاتها حاملة الأتربة حتى علو يصل الى 25 مترا, يزداد انطلاق السيارة بعيدا عن الدوامة قبل لحظات من زحفها نحونا, لندخل إلى حدود المنطقة الثالثة للعفر عند الكيلو 215 وهي منطقة مخصصة بكاملها للحيوانات البرية.

          ندخل الى (عواش) في الواحدة ظهرا, كانت الصلاة قد بدأت منذ نصف ساعة, ولعل ذلك كان السبب في خلو الشارع الرئيسي للمدينة الذي كنا نمر فيه من البشر, وصلنا الى المسجد وهو أحد مسجدين فقط في تلك المدينة التي تضم نحو عشرين ألف نسمة كما أخبرنا بذلك رئيس البلدية الذي كان قد تدخل لمنع اعتراضات من المصلين الى دخولنا الى المسجد اعتقادا منهم اننا لسنا مسلمين مادمنا نرتدي ملابس الجينز, وهذا الاعتراض واجهنا مثله عند قيامنا بأداء صلاة الظهر في أحد مساجد مدينة هرر التي زرناها قبل يومين من زيارة مناطق العفر, لكن اعتراضات الأهالي سرعان ماتتحول الى ود وترحيب حار عندما يتدخل مرافقنا لشرح الوضع.

          كان المسجد ذو اللون الأخضر, ويطلق عليه مسجد عواش نسبة الى المدينة, مزدحما بالبشر سواء في الداخل حيث الأرضية من البلاط دون أن يغطى بأي سجادة, أو في الساحة المحيطة به حيث الأرض طينية صلبة, وعقب انتهاء الصلاة اتخذت حلقة من المصلين ركنا من المسجد وأخذت تتدارس, كانت على عيون البعض منهم خطوط من الكحل أزرق اللون, وعندما اقتربنا لتصوير حلقتهم رفضوا بشدة حاولنا اقناعهم بان هدفنا هو اطلاع القاريء العربي على واقع المسلمين في تلك البقعة النائية, قال قائدهم لنا: (إن الدين يتطلب الدعوة.. لاالدعاية ), وأخبرونا انهم قدموا من مناطق بعيدة في داخل اثيوبيا مثل (دار دوا) و(إقليم صوماليا) للتدارس والتعلم والسعي لمعرفة وفهم الدين الاسلامى.

حياة ميتة..

          (قبرونا ونحن أحياء) هكذا قال نائب محافظ المنطقة العفرية الثالثة محمد طاهرو الذي أخبرنا أن الاقليم العفري الإثيوبي الذي يقع في أقصى الشمال الشرقى من إثيوبيا يحده من الشرق جمهوريتيا جيبوتي واريتريا ومن الغرب إقليم أمهرا الاثيوبي ومقاطعة وللو الاثيوبية أيضا, ومن الجنوب إقليم شوا, ومن الشمال إقليم التيجراى, والذي يمتد بطول 750 كيلو مترا لايضم سوى مصح واحد فقط يخدم جميع العفرالموجودين في إثيوبيا والذين يصل عددهم الى مليونين وخمسمائة وخمسين ألف شخص, فيما يتعدى عدد أبناء القومية العفرية في الدول الثلاث, إثيوبيا وأريتريا وجيبوتي, أربعة ملايين ونصف المليون, وهذا المصح يقع في مدينة (دوبتي) على بعد 450 كيلو مترا من مدينة عواش وتوجد به 13 عيادة ولكن ليس به سرير واحد.

          طاهرو الذي استقبلنا عقب صلاة الجمعة, وصف حياة العفر بأنها أشبه بحياة (ساكني القبور), حيث لاماء ولاكهرباء ولا مدارس سوى واحدة فقط تغطي كل الاقليم العفري, تماما كما أن مصحا واحدا صغيرا يقوم على علاج كل البشر, حتى أن مايزيد على ثلث مواليد العفر يموتون بسبب عدم وجود أي تحصينات ضد الأمراض, في الوقت الذي يعاني فيه 65% من مراجعي هذا المشفي من مرض السل.

          وإقليم العفر من الاقاليم المتأخرة للغاية, وشعبه في غاية الفقر, وتنعدم لديه الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية, في الوقت الذي تبنى مساجدهم ومدارسهم من الأخشاب التي لا تقي الحر ولا البرد والمطر, ولاينزل المطر أبدا في بعض المناطق, ويضطر الأهالي الى السير يوما كاملا في الكثير من الأحيان للوصول الى الماء,, وإذا كانت مشاكل سكان هذا الإقليم لاتعد ولاتحصى, فإن المجاعة التي تطاردهم دائما هي المشكلة الأخطر, وانقطاع المطر لديهم كفيل بنفوق الماشية التي يعتمدون عليها بشكل أساسي في غذائهم وحياتهم اليومية.

          وفي الوقت الذي عاندتهم فيه الطبيعة ومازالت حتى اليوم, فإن هذا الشعب تعرض طوال تاريخه الى حروب مستمرة استهدفت القضاء على هويته ودمرت الكثير من الأنفس والممتلكات وأحرقت أرضه وزرعه ونسله أيضا على مدى سنوات طويلة, وقد عملت الحكومات الإثيوبية المتعاقبة على طمس هوية هذا الإقليم ولم تعره أدنى اهتمام في الناحية الخدماتية, وبعد أن نجحت في إفقاره وتكريس التخلف لديه, قامت بتقسيم أرضه إلى عدة أقسام وضمتها إلى المناطق المجاورة له في أقاليم (تيغراى, وللو, شوا, وهرر), وقد استمرت عملية محو الهوية هذه حتى آخر عهد الحكومة الشيوعية السابقة بقيادة مانغستو هايلي ماريام, إلى أن جاءت حكومة ملس زيناوي الحالية فأقرت تجميعه في إقليم واحد وتحت ولاية واحدة وحكومة تدير شئونه.

          ولكن الخدمات شبه المنعدمة, ليست وحدها هي القاتل في هذه المنطقة, فنهر (عواش) الضخم اعتاد أن يفيض كل عام فيغرق القرى المتناثرة حوله, ليقضي مئات الفقراء نحبهم, وتنتشل الطائرات الهليكوبتر التي عادة ما تصل متأخرة, بقية من تعلقوا وسط المياه بغصن شجرة.

          وينقسم الإقليم العفري الإثيوبي إلى خمس محافظات: الأولى تسمي (أوسا) وتضم 6 مديريات وعاصمتها (عيسى عيتة), والثانية (المحافظة الشمالية) وعاصمتها (ابعالا) وتضم 7 مديريات, والثالثة (المحافظة الجنوبية) وتضم 6 مديريات وتقع فيها مدينتا (عواش) و(عمي برا), أما المحافظة الرابعة فهي (الغربية) التى تنقسم الى 5 مديريات وأهم مدنها (كالوانا), والمحافظة الأخيرة وهي (الجنوبية الغربية) وتنقسم الى 5 مديريات وأهم مدنها (دالفاغى).

          ومن كل مديرية من هذه المديريات التي يصل عددها الى 29 يتم اختيار ثلاثة نواب, لتمثيلها في البرلمان المحلي لاقليم العفر الذي يقع مقره في العاصمة العفرية (عيسى عيتة) وهي مدينة تقع على بعد 629 كم عن أديس أبابا, أما في البرلمان الفيدرالى المركزي (مجلس نواب الشعب) فهناك ثمانية نواب فيه يمثلون العفر, في الوقت الذي تضم فيه الحكومة الحالية برئاسة زيناوي (من قومية التيجراى), وزيرا واحدا من العفر هو حسن عبد الله وزير العمل والشئون الاجتماعية, ولدى العفر خمسة أحزاب سياسية اندمجت في الوقت الحالي في جبهة موحدة.

          ويتولى العفر الذين حصلوا على الحكم الذاتي بعد صعود الحكومة الحالية وطرد مانغستو من السلطة, شئون إقليمهم بأنفسهم من الإدارة العليا والحكم الى قوات الأمن, ولكن على الرغم من وجود ابناء العفر على رأس هذه الأجهزة, فإن هذا الإقليم باكمله ليس لديه طبيب واحد أو مهندس من بين أبناء تلك القومية التي لاتزيد نسبة المتعلمين بينهم على العشرة في المائة, ويرجع الاهالي السبب إلى أمرين الأول هو أن الأنظمة التي تعاقبت على حكم إثيوبيا لم توجه أدنى اهتمام تجاه العفر, فالخدمات الصحية معدومة, أما التعليم فممنوع بتاتا, أما الأمر الثاني فهو أن العفر بطبيعتهم أقوام رحل ينتقلون من مكان الى آخر للرعي وفقا لتوافر الكلأ والماء, وأن أقصى مدة زمنية يظل فيها العفري في مكان واحد لا تزيد على ثلاثة أشهر, ولذلك يصعب انتظام أبنائه في التعليم, ومع ذلك فان نظام الخلاوي يتم فيها تحفيظ القرآن الكريم لهذا الشعب المسلم مائة بالمائة, ويتم تعليم الاطفال بها على ألواح خشبية, دون استخدام كراسات أو أي نوع من الورق.

التأثير الثقافى

          بعد أن أوصى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) اصحابه بالهجرة الى ارض الحبشة قائلا لهم () لو خرجتم الى ارض الحبشة فان بها ملكا لايظلم عنده احد, وهي ارض صدق حتى يجعل الله لكم مما انتم فيه مخرجا) , وكان للرعاية الكريمة التي اولاها النجاشي للمهاجرين أثرها فيتردد العرب المسلمون على هذه البلاد في العصر الإسلامي من أجل التجارة, بالإضافة إلى المدن الساحلية التي كانت تحفل بتجارة العرب حيث أنشأ العرب مراكز تجارية جديدة على ساحل القرن الإفريقى, وقد مهد النشاط الاقتصادي العربي اختلاط العرب المسلمين بالسكان الوطنيين مما مهد لنشر الإسلام بين المواطنين تدريجيا, ومن الحبشة انتشر الى بلاد القرن الإفريقى, وكان أرخبيل دهلك وميناء مصوع وزيلع وبربرة من أوائل المدن التي تاثرت بالإسلام والثقافة العربية ومنها تسربت بعض المؤثرات الثقافية عبر الطرق التجارية خصوصا في السهول الساحلية بين بدو العفر (الدناكل والساهو) ومن أقصى الشمال ومن ميناء سواكن ومصوع تدفق تيار إسلامي آخر عبر بلاد البجة حتى أريتريا. وفي أقصى الجنوب بين الحبشة والصومال وبلاد العفر مهد ذلك التسرب للثقافة العربية والإسلامية فنشا عدد من الإمارات أو السلطنات الإسلامية في أقصى الجنوب والتي تقع على مضيق باب المندب وقد عرفت هذه السلطنات عند المؤرخين العرب ببلاد الطراز الإسلامي

          أما أهم الممالك الإسلامية التي أسسها العرب في العصور الوسطى من العرب العفريين والصوماليين في الحبشة فهي مملكة شوا الإسلامية وإمارة زيلع وإمارة هرر وامارة جما إلى جانب الإمارات السبع الاسلامية في منطقة القرن الافريقي وهي امارات إيفات الاسلامية, وعدل الاسلامية, وهدية الاسلامية, والدوارو ومملكات فطجار وبالي وشرخة

في حضرة السلطان

          السلطان علي مرح الذي استقبلنا بحرارة والابتسامة الودود لم تغادر قسمات وجهه للحظة واحدة, وكان يتحدث العربية بطلاقة, قال لنا إن أصول العفر تعود إلى العرب (مائة بالمائة) فقد أتوا من الحجاز واليمن, فيما يدين جميع أفراد هذا الشعب دون استثناء بالإسلام, أما اللغة فلدى العفر لغتهم الخاصة التي يتكلمون بها, وهي اللغة الوطنية العفرية, لكن الكتابة الرسمية لديهم باللغة العربية.

          السلطان أشار إلى أن سلطنته كانت تتمتع بالاستقلال حتى في أيام منليك الثاني الرهيب, ومن قبله في عهد يوهنس المعروف بقسوته ضد المسلمين في إثيوبيا.

          وعن نفيه قال السلطان إنه أبعد عن سلطنته لمدة 16 عاما قضاها في ضيافة العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز, بعد أن قامت طائرات الحكم الشيوعي أيام هايلي ماريام بقصف قصره ودكه تماما.

          وأوضح السلطان الذي جلس على عرش آبائه في عام 1944م, انه عاد ثانية بعد نال الاقليم الإثيوبي الحكم الذاتي وبعد أن وافق على انضمام الجيش العفري الذي كان جيشا شديد التنظيم والبأس أيام القتال إلى الجيش الإثيوبى.

          يضيف السلطان قائلا: إننا مثل تهامة بين جبال), ولدينا نهر عواش الذي يجري في أراضينا وتبدأ عنده حياتنا, وهو يبدأ من إثيوبيا ويصب في أرضنا ليصنع منها دلتا من أخصب الاراضى, وهذه الدلتا هي سلطاننا, أما قبل وجودنا فكان العرب يحكمون هذه الارض وكان يطلق عليهم الأئمة, وآخرهم كان من منطقة ينبع في المملكة العربية السعودية, ثم جاء جدي (دا حسن كرادفو) وحكم هذه المنطقة, وأنا رقم 13 في سلالته, وكرادفو هي صفة تطلق على كل من يحكم هذه السلطنة وهي تعني (الزعيم أو القائد أو الحاكم).

          يضيف السلطان: (نحن نملك مدخل البحر الأحمر ونسيطر عليه وهذا المضيق - باب المندب - سبب لنا العديد من المشاكل, ونحن نسعى بما نملك للمحافظة على أرضنا بعيدا عن أي سيطرة أجنبية, وعندما طلبت منا اسرائيل استقبال قواعد لها مقابل مساعدتنا على تطوير الزراعة والصناعة رفضنا بشدة, فما الذي سنأخذه من عصابة تغتصب وتقتل وتنتهك حقوق الشعب العربي الفلسطينى؟).

عادات وتقاليد

          القومية العفرية التي يزيد عدد أفرادها على ثلاثة ملايين وفقا للإحصاء الرسمي للدولة وأربعة ملايين ونصف المليون وفقا لما يصر السكان على أنه الواقع الفعلى, والموزعين على ثلاثة دول متجاورة, (250 ألفا في جيبوتي وهم يمثلون ثلث سكانها الذين تتقاسمهم قوميتا العفر والعيسى, و200 ألف في ارتيريا, ومليون وخسمائة وخمسون ألفا في اثيوبيا وفقا للإحصاءات الرسمية في الدول الثلاث), ويترامى المثلث العفري الذي يضمهم بين (عواش) و (زولا) ويمتد مع مرتفعات الحبشة (1100 كم), ومن الشرق إلى الغرب (660 كم) من عصب إلى عواش التي تبعد عن جيبوتي 630 كم, لاتقيدهم الحدود الدولية التي تقسم تلك الدول الثلاث التي اقتطعت كل منها جزءا من السلطنة العفرية, فالاتصال بين القبائل دائم والانتقال كما أخبرنا السلطان علي مرح عندما ذهبنا إليه في مقره وسط أديس أبابا, يتم دون تأشيرة دخول من منطقة في دولة الى منطقة عفرية في دولة أخرى.

          ومع أن هناك خمس سلطنات في الدول الثلاث هي ( أوسا ) في اثيوبيا, و( رحيتا وبدو ) في أريتريا, و( تاجوراء و قوبعد ) في جيبوتى, الا ان السلطنة الوحيدة الباقية بعد انهيار السلطنات الأخرى وذوبانها, هي سلطنة (أوسا) التي حصل سلطانها علي مرح على مبايعة من كل الشعب العفري ليصبح بذلك السلطان الوحيد, وهو بذلك تحول إلى رمز قومي لاينتظر أن يخلفه أحد بعد ذلك, مايعني أن سلطنة أوسا الحالية سوف تذوب في النهاية في كيان الدولة بعد أن حصل عفر اثيوبيا الذين تقع أوسا في منطقتهم على الحكم الذاتى, وبالتالي تنتهي آخر سلطنة اسلامية في إفريقيا.

          والزواج بين العفر يتم دائما بالتراضى, ويدفع العريس مهرا للعروس, ومع ذلك فان تجهيز منزل الزوجية يتكفل به العريس, هذا في المدن العفرية أما في المناطق الوسطى والجنوبية فتختلف التقاليد, ويكون الزواج التقليدي هو الذي يجب وفقا له أن تتزوج الفتاة من القبيلة الأم, أو يتم الحصول على إذن في حالة الزواج من غير أهلها, وفي العادة فإن الرجل العفري يتزوج مابين زوجتين الى ثلاث زوجات وهم يقولون ان هذا (تقليد عربى), أما متوسط مواليد الأسرة الواحدة فيكون بين 5 الى 7 فى المدن, اما في الريف فيرتفع هذا العدد الى مابين 15 الى 20 فردا.

          ونظرا لأنه لايوجد تمييز بين أبناء العفر, فان باستطاعة أبسط شاب من العفر فإن يطلب يد بنت السلطان او أغني من في القبيلة ويتزوجها دونما اعتراض مادام هناك اتفاق وتراض بين الطرفين, ومن التقاليد العفرية المتعارف عليها أنه في حالة غلبة الجفاف فان المرء يعتبر نفسه ثريا عندما يمتلك 30 جملا (ستة على الاقل منها من الذكور) وقطيعا من الماشية يصل الى 100 رأس.

          وفي حالة الخلافات التى تحدث بين العفر والقوميات الاخرى فان الأمر يرفع الى المحاكم المدنية التي تبت فيه, أما لو حدث خلاف بين عفري وآخر من القومية فإن نفسها الحل العرفي الذي يتم عن طريق شيخ القبيلة هو الذي يكون واجبا على المتخاصمين الرضا به.

          ولدى العفر عدد كبير من القبائل لكن أكبرها ينحصر في ثلاث هي (موديـتـو), و(حـمـدي سـيـرت) و(بدوي تاميلا) التي يتفرع منها أيضا (داهناميلا), وأصول العفري عادة لاتخرج في العادة عن هؤلاء الثلاث, ولكل قبيلة شيخ يتم اختياره من قبل شيوخ العائلات الذين يكون قد تم اختيارهم في وقت سابق بواسطة العائلات.

          والوجبة الأساسية للعفري هي الحليب والخبز, وهو الأكل المفضل لراعي الإبل, أما في المدن فان الوجبة هي الأرز واللحم, وفي رمضان يتم تناول الحليب فقط في وجبتي الإفطار والسحور.

          ويحرص العفرعلى صيام شهر رمضان, كما يحرصون على أداء صلاة العيدين في الساحات والمساجد, مرتدين الملابس الجديدة وحريصين على التزاور للتهنئة بالعيد, في الوقت التي تجرى الاحتفالات عقب صلاة العيد بقرع الطبول وانشاد المدائح النبوية, وفي الوقت نفسه فانهم يحرصون جدا على أداء مناسك الحج, وقد كان ذلك يتم عن طريق التسلل عبر حدود جيبوتي وسواحل البحر الاحمر في عهد هيلاسيلاسي ومانغستو الى المملكة العربية السعودية, الا ان ذلك انتهى في الوقت الحالي حيث يقوم المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية الذي أنشيء بعد إطاحة النظام السابق, بتنظيم حملات الحج للمستطيعين إليه سبيلا.

          وإقليم العفر شديد الحرارة وصحراوي ومساحته شاسعة جدا, ويضم أرضا واسعة صالحة للزراعة وتربية الماشية, كما يشتهر بزراعة القطن ولكن دون استفادة حقيقية من ناتجها لعدم توافر الامكانيات, وسكان الاقليم معظمهم من البدو الرحل الذين يعتمدون في حياتهم على تربية المواشي وينتقلون إلى حيث تنزل الامطار, كما أن الاقليم يتعرض من وقت الى آخر الى الجفاف الذي يتسبب عنه المجاعة والفقر, في الوقت الذي تفتقر فيه مدن هذا الاقليم إلى البنية التحتية الاساسية, فلا توجد هناك منشآت حديثة ولامراكز اجتماعية, في الوقت الذي لايمكن فيه الانتقال بين مدينة وأخرى الا على الدواب أو سيرا على الاقدام.

من هم العفر؟

          وكلمة العفر ذات أصل عربى, فقد اطلقها العرب الذين هاجروا إلى تلك المنطقة على أهلها منذ العصور الموغلة في القدم, وتطلق كذلك على هذا الشعب كلمة الدناكل وصاحب هذه التسمية اليمنيون الذين نسبوا هذا الشعب إلى أسرة انكلي التي كانت تحكمه قديما.

          والشعب العفري يعتبر من اقدم الشعوب الحامية التي استقرت في منطقة القرن الافريقى. وقد لعب دورا بارزا في تلك المنطقة في شتى المراحل التاريخية التي مرت بها, وكان لدى هذا الشعب تاريخ سياسي طويل من الحكم الذاتي كبقية الشعوب الأخرى في العالم قبل ان يأتي الاستعمار الأوربى, وكان له سلاطين أقوياء أمثال (آدال) و(انكالا) في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.

          وقد دخل الاسلام الى المنطقة في وقت مبكر, ويرجح معظم المؤرخين أن الإسلام جاء إلى هذا الإقليم بواسطة الصحابة الذين هاجروا الى الحبشة في الهجرتين الأولى والثانية, لكون هذا الاقليم متصلا بمنطقة النجاشي ملك الحبشة في ذلك الوقت والذي استضاف مهاجري الصحابة. وللإقليم تاريخ عريق في الإسلام وقد نشأت فيه ممالك إسلامية كبرى, مثل مملكة آفات التى نشأت بعد سقوط مملكة شوا, وتـذكر بعـض كـتب الـتاريـخ ان الإمـام أحـمـد بن عبدالله بن ابراهيم الملقب بـ (غران) الذي فتح معظم مناطق الحبشة من عام 1500 الى عام 1559م كان من أبناء هذا الاقليم.

          وظل نظام السلاطين يحكم الشعب العفري إلى وقت قريب, وهو نظام يحمل الطابع الإسلامي القبلى, في الوقت الذي يضم فيه الإقليم آثارا إسلامية ومساجد قديمة ومخطوطات يدوية نادرة.

          ومن أهم القبائل التي تسكن إثيوبيا من العفر قبائل (داموهيتا, مودايتو, كراو, المعندينا, ورابتو, أومنتو, نوتو, توهدتو, وحرونبا وهي قبيلة عربية اندمجت مع قبيلة بلعسوة).

          والعفري يمتاز عموما بنحافة الجسم وقصر القامة لكنه غليظ العضلات ذو بشرة سوداء ضاربة في الحمرة وأنف دقيق وشفة رقيقة وشعر مجعد وكثيف, وهم بشكل عام زاهدون ويتحملون شظف العيش ويصبرون على المكاره ويمتازون بالقوة البدنية ويكرهون العمل اليدوي ويميلون بفطرتهم الى القتال والغزو, وهم صيادون ماهرون كما يحترفون رعي الجمال والاغنام فيحتلون المراعي متنقلين من مكان إلى آخر, وهم صيادون محترفون قلما يخطيء الواحد منهم هدفه. يخرج العفري دائما لاصطياد الاسود والنمور ولا يحمل سوى سلاح عبارة عن خنجر ورمح.

          وزينة الرجل العفري أسلحته وهي الرمح وخنجر وترس صغير جميل الشكل, فيما زينة المراة حلق من الفضة في أذنيها وأساور في يدها.

الوضع الحالي

          والإقليم العفري بوضعه الحالي هو واحد من تسعة أقاليم وإدارتين يتكون منها النظام الفيدرالي في إثيوبيا منذ ان تولت الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا (أهادق) حكم البلاد في أعقاب إسقاط نظام هايلي ماريام, فقد سلكت منهجا جديدا يختلف بشكل جذري عن الأنظمة السابقة, اذ وضعت نظاما فيدراليا لإثيوبيا واعتبرته الأمثل لبلد يتكون من عدة قوميات, وبعد أن تحالفت جبهة التحرير العفرية بقيادة السلطان علي مرح معها واشتركت في مؤتمر لندن للمصالحة, إلى أن أصدر مؤتمر الجبهة الإثيوبية الحاكمة عام 1991 قرارا وافق بموجبه على حق كل القوميات المختلفة في إنشاء حكومات فيدرالية لها داخل إثيوبيا, وهكذا اصبح للعفر في اثيوبيا بموجب القانون والدستور الإثيوبي إقليم يتمتع بالحكم الذاتي المحلي في اطار الدولة الفيدرالية الإثيوبية.

          والعفر الذين يعد إقليمهم واحدا من الأقاليم التسعة التي تتمتع بالحكم الذاتي وهو يشكل في مساحته خمس اثيوبيا, فيما يمثل سكانه وكلهم مسلمون متأثرون بالثقافة العربية والاسلامية نحو 4%من عدد سكانها, كان لديهم عدة احزاب سياسية اندمجت في الوقت الحالي تحت حزب واحد هو الجبهة الديمقراطية المتحدة العفرية, أما البرلمان الإقليمي للعفر فهو يتشكل من 48 عضوا, ينتخب هذا البرلمان من بين اعضائه 15 عضوا من المكتب السياسي يمثلون السلطة التنفيذية, ويختار المكتب السياسي 16 عضوا للحكومة المحلية لمجلس الوزراء الإقليمى, ويتم اختيارهم بنسب متفاوتة من جميع الأحزاب التي تشكلها الجبهة الموحدة, ويمثل الاقليم بعضوين في البرلمان القومي الفيدرالي لمجلس الشيوخ (وهو غير البرلمان المركزي والسلطة التشريعية الذي يتم اختيار اعضائه بالانتخابات الحرة المباشرة من جميع الأقاليم وبمشاركة جميع الأحزاب السياسية في اثيوبيا).

          وإذا كان هذا وضع العفر في إثيوبيا, فإنهم في جيبوتى يشكلون إحدى أهم قوميتين (العفر والعيسا) وهم القومية الأكثر عددا, وكانت تشارك عفر اريتريا الذين يقطنون جنوب البلاد على ساحل البحر الاحمر في إقليم دنكاليا الإريترى, وايضا تشارك عفر اثيوبيا الذين يعيشون في إقليم تيجراي وولو وشوا في شمال جيبوتي وغربها. ويحتل عفر جيبوتي مساحة قدرها 20 ألف كم2 من مجمل مساحة جيبوتي البالغة 23 ألف كم مربع ومن أهم السلطنات العفرية في جيبوتي (سلطنة رحيتا, وسلطنة تاجورا, وسلطنة أوبك, وسلطنة غوبعد), ووفقا للاتفاق المبرم بين الحكومة وحركة التمرد العفرية التي قادتها جبهة الوحدة والديمقراطية, فإنه ينص على تقاسم افضل للنفوذ بين العفر والعيسا وهما المجموعتان الرئيسيتان في البلاد, وبموجب ذلك جاء تعيين ديليتا محمد ديليتا وهو من العفر رئيسا للحكومة الجيبوتية.

          أما في أريتريا, فقد كان للعفر دور مهم في احتضان الثورة الأريترية منذ انفجارها عام 1960م وقد انخرط في صفوفها الكثير من أبناء العفر بمختلف قبائلهم, ويعرف الاقليم الذي يسكنه العفر بإقليم الساحل الجنوبى, او دنكاليا التي تشكل البوابة التي من خلالها جاء المهاجرون العرب الاوائل إلى عموم اريتريا, وقد شهد هذا الاقليم على الدوام توزيعا عنصريا وجغرافيا مميزا, كما شهد نزول العرب الساميين او القحطانيين شمالي زولا ومصوع ومنها توغلوا الى عمق الهضبة الاريترية وإقليم تيجراى, كما شهدت نزول العرب العدنانيين والهلالية القدامي والحضارم الذين هاجروا الى الساحل الدنكالي واستقروا فيه.

في الختام

          من مدن الاقليم العفري حملتنا السيارة عائدة بنا إلى نفس الطريق الذي أنهك قوانا صباحا وتسبب في تفجير أحد اطاراتها, ولكن لم يكن لنا أي حيلة سوا الانصياع للأمر الواقع, استسلمنا لقدرنا وانطلقت السيارة بنا نحو أديس أبابا, في الطريق قابلنا مئات الرعاة العفر ومواكبهم الطويلة من الماشية, بينما كانت تلوح لنا بشكل واضح ومضة السلاح الذي يزين به العفري الراعي كتفه, وبعد أن انقشع غبار مواكب الرعاة, بدت لنا بحيرة مطهرة الملحية, التي كانت الفتيات وكذلك الفتيان يسبحون فيها عرايا كما ولدتهم أمهاتهم.

          عندئذ ظلت كلمات نائب المحافظ محمد طاهرو ترن في أذني (أين العـــــرب والمسـلمون من العفر الذين تكالبت عليهــــم الأمراض والفـــقر والأمية والتخلف, وعانوا ســـنوات طـــويلة الإهــــمال والقـــهر ومحاولات محو الهوية؟ ألا يستحق هؤلاء الذين قــاوموا بشدة وتحملوا عذابا لايوصف من أجل الحفاظ على لغتهم العربية وثقافـــتهم الاسلامية وشـــعائرهم وهويــــتهم, ألا يستحقون التفاتة من اخوانهم, الذين تذكروا المحتاجين في البلاد البـــعيدة ونســـوا طويلا هؤلاء القريبين الخجولين الأشـــداء المعتزين بدينــــهم ولغتهم وثقافـتهم وبأنفـــسهم أيضا؟).

          ذلك ما أردنا قوله, وسعينا إلى إيصاله بعد أن كنا هناك وشاهدنا اللحظات التي تسبق تلاشي آخر سلطنة اسلامية ليس في القرن الافريقي وحده, بل في إفريقيا كلها

 

زكريا عبدالجواد   







صورة الغلاف





 





بيوت وطرق متواضعة... وأفق يضيق ليتسع.





السلطان علي مرح بايعه العفر بمختلف قبائلهم ــ عاش لحظات العز وعايش أزمنة الانهيار





لا الزمن سار في ركب آبائهم ولااتجه لمصلحة مستقبل لهم خال من تعاسة.





خضرة وماء وماشية...ثلاثية تتناغم في بلاد يحوطها الفقر والمرض وانتظار مالا يأتي.





ساعة صلاة الجمعة, تخلو مدينة (عواش) من بشرها... ويكون مسجدها جامعاً لهم.





بحيرة (مطهرة) حيث المياه غير صالحة لمعيشة الأسماك فلماذا تنتظر النوارس هنا؟ أم أنها كبشر المنطقة أدمنت الانتظار واليأس؟





أكواخ لمعيشة البشر وأعواد شجرية ناحلة لغذاء الأبقار, وأطفال حفاة يستهويهم ذلك البراح اللامحدود.





(الرعي) واحدة من مهن قليلة يتساوى فيها عمل الجنسين, كي يرضى دعاة (حقوق الإنسان) الشمالي.





أقصى درجات المتعة المتاحة، الركض الحافي وسط أشواك الصحراء الصلبة ... لكن هناك ماهو أمتع؟





باقة من الوجوه التي تضمها المنطقة العفرية حيث العمر لايقاس بالسنوات





باقة من الوجوه التي تضمها المنطقة العفرية حيث العمر لايقاس بالسنوات





باقة من الوجوه التي تضمها المنطقة العفرية حيث العمر لايقاس بالسنوات





باقة من الوجوه التي تضمها المنطقة العفرية حيث العمر لايقاس بالسنوات





باقة من الوجوه التي تضمها المنطقة العفرية حيث العمر لايقاس بالسنوات





باقة من الوجوه التي تضمها المنطقة العفرية حيث العمر لايقاس بالسنوات