الحب عندي هو تجويد العمل

 الحب عندي هو تجويد العمل
        

          عاملتني الحياة برفق أحيانا, وبقسوة أحيانا أخرى. لكنني حين أقيس قسوتها إلى رفقها أرجح رفقها على قسوتها, هذا مع أنني ذو طبيعة ميّالة إلى الانطواء والتشاؤم. مات أبي وأنا في العاشرة فتجرعت جرعة من قسوة الْيُتْم, لكن أمي - الحازمة الحنون - تقدمت فوراً لجبر الصدع, وحملت المسئولية ماديا ومعنويا, فردتني بسرعة إلى طريق الأمان. لم يكن أبي موظفاً أو تاجراً, وإنما كان يمتلك أرضاً يعيش عليها, ولما كان الإنسان لا يأخذ أرضه معه في نهاية حياته, فقد بقيت أمورنا المادية بعده هي هي, دون تغيرقليل أو كثير. وأنا حريص على ذكر هذا لأقول إن هذا الوضع هو وحده الذي أتاح لي, ولأخي, فرصة التعليم, في وقت كانت الحياة الاقتصادية العامة صعبة جدا في الريف المصري, إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية.

          منّ الله عليّ بصوت جميل وولع بالغناء, فكنت أغنّي لزملائي الصبيان وقت الفُسَح المدرسية, ولزملائي الشبان في أمسيات السكن الداخلي في معهد أسيوط الديني, مرددا الأناشيد الصوفية, وأغاني عبدالوهاب القديمة. وليلة تحلّق زملائي حولي إثر انتهاء أيام الامتحانات, واستعداد كلّ منا للعودة إلى قريته, وغنّيت لهم: (ليلة الوداع طال السهر) لم أنج من عقاب الشيخ شحاتة - مشرف السكن.

          وخلال مراهقتي وصدر شبابي طالت قامتي بشكل مفاجئ, فواجه أهلي حاجتي إلى ملابس إضافية خارج موسم (الكسوة) السنوية.

          كانت ملابسي تقصر عني على نحو سريع, فبدا وكأنهم يلومونني على هذا, أمّا أنا فكنت أفرح بالملابس الإضافية, ولا أضع اللوم على الطول, بل على ما يصحبه من النحافة - وهكذا صحبني الطول, والميل إلى النحافة, مدة عمري.

تعليم متوازن

          جرى تعليمي الرسمي على نحو متوازن أهّلني لأستاذية الأدب العربي. بدأت من (الشرق) (الأزهر), مروراً بالوسط (دار العلوم), وانتهيت بالغرب (لندن), وأستخدم لذلك لغة لا هي (أزهرية), وذلك لأنني (درعمي لندني), ولا هي (درعمية), وذلك لأنني (أزهري لندني), ولا هي (لندنية), وذلك لأنني (أزهري درعمي). إنها لغتي التي استخلصتها من كل ذلك, وأضفت إليها ما استخلصته من قراءاتي التي هدفتُ بها إلى تثقيف نفسي - وهذا أمرٌ أنا فيه عصامي مائة في المائة. وأرتاح في لغتي هذه إلى الدقة, والمنطق, والبساطة (على قدر الإمكان), والوضوح (على قدر الإمكان), والصحة (على قدر الإمكان), وأعزف عزوفا شديدا مقصودا عن التقعر, والتضخيم, والإنشائية, كما أعزف عن الإغراب والغموض. ولغتي هي صورة حقيقة فكري, وبها أدير صراعي من أجل التعبير عن ذاتي المستقلة, وهي مصدر رصيدي الروحي, كما أنها - بالجملة - الشريان الذي يربطني بالحياة, ويبقيني على قيدها.

معنى للحب

          خلال رحلة حياتي الطويلة توحّدت روحي القلقة أنا مع الصوفيين, وأنا مع العذريين, وأنا مع الرومانسيين, وأصبحت في غضون ذلك كله عاشقا لفن الكلمة, والإبداع الشعري, وفَتَنَنِي الفَنَاء في الآخر, والتضحية من أجل الغير, وحب الطبيعة, وقلت مع القائل: (الحياة الحب والحب الحياة), ولكنني - وأظنني في هذا كغيري - لم أقع على صيغة مُرضية لذلك المجهول المراوغ الذي هو الحب, وذلك لأنني رأيته في تاريخه الطويل يحاط بستائر كثيفة من المنفعة والنفاق, وقد انتهى بي الأمر إلى أنّ أقرب صيغة أرتضيها لنفسي في معنى الحب أن أجعله مرادفا لمعنى (تجويد العمل).

          قضيت حياتي العملية كلها في التدريس والبحث, أعمل وسط الشباب. قضيت في دار العلوم عشرين عاماً طاب لي فيها العمل مع شباب من كل أرجاء الوطن, ومع آخرين كانوا يفدون إليها من البلاد العربية والإسلامية, ورحلت للمهمة ذاتها سنين عديدة إلى جامعات الجزائر والكويت, ولي في كل مرفأ من هذه المرافئ فيض من الذكريات, سجّلت معظمها في كتاب صدر لي منذ عقد من الزمان هو كتاب (في الخمسين عرفت طريقي). وقد وصلت في علاقتي بالشباب إلى صيغة اتبعتُها طول حياتي, وإنْ قبلها كثير منهم على مضض: إنني في خدمتهم, ولكنني لست خادما لهم. ويعني هذا أن وقتي وجهدي وقلبي وفكري كل ذلك لهم, ولكن على طريقتي الخاصة في العمل.

          أعمل ما أراه في مصلحتهم, فإذا جنحوا إلى تحقيق أغراضهم الخاصة, التي لا أراها صالحة, عن طريقي, استعصيت على ذلك, وقد أكون في استعصائي عنيفا. وقد ترتب على هذا أنني عند من لا يصبر عليّ (متشدد) بل (متعنت), وعند من يصبر عليّ قليلا (الدواء المر), وعند من يصبر عليّ كثيرا, فيصحبني على طريق الحياة, (الحنان المغلف بطبقة سميكة من القسوة), وأنا أقبل العبارة الأخيرة بصفة خاصة, وأرتاح لها كل الراحة.

النص أولا وأخيرا

          أدين في تكوين وجهة نظري النقدية إلى أصول مدرسة: (النص - كل النص - ولا شيء غير النص),وهي مدرسة يُساء فهمها كثيرا, وتقابل بالسخرية أحيانا, والاتهام بالتخلف أحيانا, من جانب دعاة الحداثة المولعين بالبنيوية والتفكيكية.

          وهي تبقى غرامي الأول والأخير, وتحقق عندي القول المأثور (قيمة كل امرئ ما يحسن), وكلما راودتني نفسي بأن أغازل المناهج الأخرى يردّني إليها قول مأثور آخر هو (ما فائدة أن يخسر الإنسان نفسه ويربح الآخرين). وبالإضافة إلى هذا راقني أيام دراستي في لندن ما كان يدعو له برتراند رسل من أفكار فلسفية, ومن مواقف سياسية, ومن إيمان بمستقبل الشباب, وفُتنت بآراء جماعة (بلومسبري) التقدمية, وقارنت بين عملهم الجاد, شبه التعبّدي, والانغماس في العمل, بغية الوصول بفكرهم الأدبي إلى أنقى صيغة ممكنة, وما كنت خلفته ورائي من آراء, كثير منها يحكمه التعجرف والغرور, فصح عندي أن أي تخفّ وراء الدرجة العلمية أو الوظيفة الرسمية, إن هو إلا بضاعة مغشوشة, من شأنها أن تثمر ثمرات مُرة, فيما يتعلق بالتثقيف العام, وتربية المجتمع, وخدمة الأدب. وحين أنظر إلى الخلف وأسترجع ذكرياتي عن المعارك التي افتُعلتْ في الأدب, وبخاصة صراع الأيديولوجيات, والأدب الرسمي, والأدب الشعبي, وما أشبه, أدرك أن ما هدتني إليه فطرتي من الابتعاد عن (الشلل) كان الطريق الصحيح, كما أدرك أن الاهتمام بتحليل النصوص الأدبية - عوض التهويم حولها أو (الغناء مع الجوقة) - هو المنهج السليم للإسهام في ازدهار الأدب. وقد قرأت حديثاً كتاباً لسليمان فياض مكتوبا بأسلوب جميل تحت عنوان (كتاب النميمة - نبلاء وأوباش) ذكر فيه أن بعض من يملأون الدنيا ضجيجا الآن من (النجوم الساطعة في سماء الأدب), لم يكونوا أكثر من حملة حقائب للمسئولين الرسميين عن الأدب في حقبة الستينيات, وإذن فما أعمق الخديعة التي يتعرض لها الشباب, وبخاصة بصيرتهم الأدبية التي هي في طور التكوين.

أكثر من مرفأ

          ثمة جزء كبير من ذكرياتي يرقد عميقا في تربة (جهينة), قريتي التي فارقتها مغتربا لطلب العلم حين كنت في الثالثة عشرة. وهذا الجزء أدخر له ركنا حميماً في قلبي, وأعمل على تخليصه من شتى الشوائب التي كانت تعلق به, وأستخدمه وسادة طرية أدفع بها قسوة الصخور الناتئة في حياتي بفعل المدينة, وأجدد بها البيعة لولائي للرومانسية التي أعتقد أنها لا تفنى أبدا. وبالإضافة إلى هذا الجزء الكبير من ذكرياتي ثمة أجزاء أخرى موزعة على الأماكن التي عشت فيها من دنيا الله الفسيحة: القاهرة, والإسكندرية, وأسيوط, والجزائر, والكويت ثم فرنسا, وإسبانيا, وأمريكا وإنجلترا. وسأخص كل واحدة من هذه المجموعة الأخيرة بكلمة, تقصر أو تطول, باعتبارها مرفأ من مرافئ الذكريات.

          أما فرنسا وإسبانيا فلم أقم فيهما إلا سائحا. لكنّ ثمة فرقاً في المذاق بين إحساس مثلي باللوفر, والأنفليد, والشانزيليزيه وفرساي, وبين إحساسه ببلنسيه, واليكانت, وطليطلة, وغرناطة, والحمراء. وأما أمريكا فلم تستوعبني ولم أستوعبها, وأنا أعلم أنها حلم الجميع, وبخاصة فيما يتعلق بالحصول على (الكارت الأخضر), ولكن تلك قضية أخرى.

          وأما البلد الذي عشت فيه انتصارات الروح وانكساراتها فهي إنجلترا, وهي مرفأ من مرافئ ذكرياتي لا يخيب: الخضرة الغامرة, والمطر الذي يخلب لبّ إنسان مثلي تربى في بيئة معدومة المطر, والنظام, والنظافة, والانضباط وهي كلها أمور تلائم طبعي, ثم التميّز الذي كانت روحي ولاتزال تهفو إليه, والدرس العلمي الذي هو وليد الحنين إلى المعرفة, والذي كان في إنجلترا إلى ذلك الوقت نقيا, رفيع المستوى, والمكتبات العامة التي قضيت فيها أحلى أيام عمري, من أصغر مكتبة في الحي تعجّ بالعجائز, إلى مكتبة الجامعة, وهي خلية نحل بشري لشباب الباحثين من كل جنس ولون, إلى مكتبة المتحف البريطاني التي تحتضن قاعة الاطلاع الشهيرة, حيث قرأ لينين, وبرناردشو. هنا تطورت رؤيتي للدنيا, ونضجت أحاسيسي نحو المسكن والملبس والمشرب, وما أرتاح إلى رؤيته وسماعه, ومَنْ أرتاح إلى صحبته, ووجهة نظري التي أتبناها في مسائل الثقافة, وأصول المهنة, ومعنى الأدب, وهموم الوطن. هنا تحددت أشواق عقلي وروحي, وتأكدتْ لي - حين عدت إليها منذ تركتها أواسط الستينيات مرة بعد مرة - ثوابتُها التي لا تلين, كما عزّ عليّ تفريطها في صفات عزيزة تحت هبّات رياح التغير من الشرق والغرب.

طريقان أم وجهان لعملة؟

          خضعت لخداع (اللغة المزدوجة) مرات قليلة في حياتي, وفي كل مرة من هذه المرات دفعت الثمن غاليا. ومن حديث تلك اللغة المزدوجة أنك تسمع كثيرا أن (الأستاذية) هي الغاية القصوى التي تتوج جهد عضو هيئة التدريس بالجامعة, ولكنك في الواقع العملي ترى السعي الحثيث - فور الحصول على هذا (التتويج) - للوظائف الإدارية. وتبلغ حالة التشويش حدا يظن فيه أن السلم يبدأ من (مدرس) وينتهي بـ (عميد) مثلا, وهذا يجعل من هذا الخلط بين (العلمي) و(الإداري) مأساة بمعنى الكلمة في كثير من الأحيان, فعوضا عن التنافس العلمي على التجويد في مدارج السلم الأكاديمي, يحتدم الصراع غير العلمي على الفوز بدرجة في السلم الإداري.

          قدّمت بهذه المقدمة لأقول إنني لم أُفلت من هذا الخداع, ورضيت أن أكون وكيلا لدار العلوم, فأقمت في هذا المنصب الإداري سنتين كانتا من أتعس سنوات حياتي. أدركت فورا أنه من تقاليد البيروقراطية المستقرة - الله أعلم من أي عهد - أن من يوقّع قرار تعيينك يفترض أن يمتلك ناصيتك إلى الأبد, وأن ثمة فجوة هائلة بين حديث اللسان, وحديث النفس, وأن دولاب العمل يدار على افتراض نظرية (المؤامرة), وتربص كل قبيل بالآخر, وإذا لم يكن هذا القبيل موجوداً فعليك أن تتخيله أو توجده. وعلى ذلك يمكن أن أقول إن كل ما حدث لي في هذه الفترة الإدارية يدخل في باب الذكريات المرة, ولكنني أحب أن أذكر هنا (طرفة مرة) تعينني - وتعين قارئي - على عبور هذا الجزء سريعا, وتجعله سائغا في حلقه وحلقي: دخل مكتبي مرة نائب من نواب رئيس الجامعة, يفترض أنه يرأسني بدرجات, ومن ثم أنا مسئول أمامه عن تطبيق اللوائح والقوانين, وطلب إليّ أن أتخذ قرارا معيّنا في أمر من أمور العمل, ولما ذكرت له أنه على هذا النحو يكون القرار مخالفا للقانون, قال لي بكل بساطة: وهل تظن أنني كنت سأطلب إليك ذلك أصلا لو كان متفقا مع القانون؟ كانت دهشته كبيرة, وكانت كذلك دهشتي كبيرة, وتجلت أمامي مفارقة الرؤية المتنافرة بين شخصين من المفترض أن يعملا متعاونين. وهكذا توالت الأمور حتى تيقنتُ أن بقائي في موضعي أمر عبثي, لكن للحق أقول إن هذه الحادثة لم تكن (القشة التي قصمت ظهر البعير).

          يعج مرفأ ذاكرتي بالبشر, وقد صحبتهم طول عمري على السراء والضراء, ولا أطيق الوحدة, وأجد نعيمي في صحبة الآخر, وسأذكر من الأسماء - فيما يلي - ما هو مجهول تماما للقارئ, وبخاصة في الجزء المبكر من حياتي, تاركا نفسي على سجيتها, ومؤديا بعض الضريبة الشعورية لناس أحسنوا إليّ كل الإحسان, ثم أتدرج إلى ذكر أسماء أخرى لها مكانتها في تاريخ المعرفة الإنسانية هنا وهناك, ومنهم الذين علموني, وسهلوا لي طريق المعرفة, كما أن منهم أصدقائي الذين جعلوا الحياة سائغة لي.

وللأسماء مكان

          وأبدأ بأمي - الحانية الحازمة - التي لا أحتاج إلى سياق أضعها فيه, كما أذكر من طفولتي وصباي ابن عمي (عمر) الذي علمني السباحة, في الترعة السوهاجية, فمكنني من أن أسبح بعد ذلك مطمئنا في مياه البحر في كل المصايف المصرية, وفي حمام السباحة الدافئ المغطى في جامعة لندن, وابن عمي (أحمد) الذي كان يقود أفراد عائلتي - وأنا منهم - في المعارك الجسورة مع صبيان العائلات الأخرى, ويدفع عني بصفة خاصة ضربات لم يكن تكويني الدقيق قادراً على تحملها, والشيخ (هرون) أول من علمني الحروف, وسمح لي في يومي الدراسي الأول بالانصراف مبكرا والعودة إلى حضن أمي, في وقت كانت فيه النظم المدرسية - حتى في المرحلة الأولى الإلزامية - شبه عسكرية, والشيخ (علي) من حفظت على يده القرآن كله, وأعطى أسرتي وعدا بأنني مؤهل للالتحاق بالأزهر - وصدق وعده, وشقيقي الأكبر (محمد) الذي كفكف - أول عهدي بالأزهر - من غلواء روحي الجامحة, وأعادني في رفق أخوي إلى جادة الطريق, وصفية, ونعيمة, وفاطمة, ورابعة, صبايا في عمر الزهور, كن يصحبننا مثرثرات صباحا في الطريق إلى المدرسة, ومساء في طريق العودة, فيملأن حياتنا - نحن الصبيان - سعادة ومرحا وأوهاما, وابن خالتي (محمد الصغير) الذي قرأت في خزانته - وأنا في السادسة من عمري - (الأهرام), و(المصور), و(الإثنين), و(السمير الصغير للهراوي), وقصص (شرلوك هولمز), ثم تعهّدني في دروس الحساب دون مقابل طوال سنواتي, وقدمني إلى طعام البندر وحلواه.

          ومن مرحلة الأزهر المتقدمة أتذكر محمد عبداللطيف, ومحمود حماد, وعبدالخالق نجاتي, ومأمون ياسين. عشنا معا أحلى مشاعر مرحلة الشباب المبكر, وسعدنا بالصداقة التي ساعدتنا على عبور المراهقة بأمان, وكوّنا حلقة قراءة في مكتبة الأمير فاروق, وثرثرنا حول المستقبل المشرق, وكانت لنا مغامرات صغيرة بريئة في شارع الحمراء في أسيوط, وتبادلنا الرسائل المشبعة بالشاعرية في عطلات الصيف, معتمدين على العبارات التي (تقطّع القلب) من (العبرات) و(النظرات), و(الشاعر), وبقية كتب المنفلوطي. وإلحاقاً بعهد المراهقة وأول الشباب لا أنسى (صاحبة الرداء الأبيض) - فراشة لاحت لي في شرفة تحت ضوء مصباح خافت, يحول بيني وبين ملء عينيّ منها ظل الشجر. كنت أعد نفسي للشهادة الابتدائية سنة 1949, وهي تستذكر لامتحاناتها. تبادلنا النظرات والابتسامات - دون الكلام - وجاء من حملها ذات مساء ناعم حزين إلى قريتها.

          لا أعرف لها اسما, أو مدرسة, أو اسم قرية, ولكنني حملت منها في ذاكرتي نظرة وداع طويلة لاتزال ترسل إشعاعها في روحي على مدى نصف قرن من الزمان.

من الشرق إلى الوسط

          ومن مرحلة القاهرة المبكرة أتذكر محمدأبو المجد وعبدالرحمن حسين, صديقين قدماني إلى دار الكتب المصرية في باب الخلق, وإلى دار الشبان المسلمين في شارع رمسيس, وإلى قهوة الفيشاوي, وشاطئ النيل, وحملاني إلى تخوم الثقافة وآمال المستقبل, ولكنهما لم ينجحا في جعلي أستمر في (مشروع) رياضة كرة السلّة - وقد مارستُها زمنا - لأن (المشروع الثقافي) كان قد بدأ يجتاحني اجتياحا. كذلك أتذكر من هذه المرحلة أحمد مختار عمر, وعمر أبو العز, ووجيه جلال, ومحمد طربوش, وصدقي الشحات, الذين عبروا معي من مرحلة (الشرق) إلى مرحلة (الوسط) - وقد أشرت إليهما - وكوّنوا في حياتي (بنية عميقة) لم أكن من دونها قادراً على الاستمرار

          ومن مرحلة دار العلوم أتذكر فـــاروق شوشـــة, وأبو المعاطي أبو النجا, وإسماعيل هاني, وإسماعيل الصيفي, وبقية شعراء (الدار) الذين شاركتهم التعلق بأحلام المجد الأدبي. ثم مجموعة الطالبات اللاتي أحدثن زلزالا في نفوس الأزهريين الريفيين الذين فاجأهم - على الكبر - هذا النوع من التعليم المختلط. لقد كان لذلك ضحايا وقصص تشبه أحوال العذريين الأوائل, فسمعنا عن الموت عشقا من الطرفين لا من طرف واحد, وهذا من أعاجيب القرن العشرين.

          ومن مرحلة لندن أتذكر السعيد بدوي - الذي لا أنساه حتى أقول إنني أتذكره - أول وجه طالعته على رصيف المحطة حين وصل بنا القطار قادما من رصيف (تلبري) إلى رصيف (كنجز كروس).

          وقد أخذ بيدي, وهدّأ مخاوفي, وحمل عني أعباء كثيرة, وأصبح (توأم روحي) الذي أشكّل معه منذئذ (1960) (ثنائيا) في الحياة, وأسمع الناس بأذني يقولون: (السعيد بدوي ومحمود الربيعي).

          ويوم تقدمت باستقالتي من وكالة دار العلوم قبل عام كامل من انتهاء المدة التي صدر بها قرار تعييني, قال القائل: لكننا نعلم أن السعيد بدوي مسافر خارج الوطن هذه الأيام!. كذلك أتذكر أستاذي في جامعة لندن - الصبور الحكيم الحليم الحازم - (روبرت سارجنت): لم أكن أملك حين قابلته سوى كلمات قليلة جدا من اللغة الإنجليزية, ومع ذلك كان ينصت لي كأنه يفهم عني, وكأنني أبين!

          رعاني بعطف لم أجد له نظيرا, وقسا عليّ مرات (لأزدجر), ورفض في غضب أن أتركه إلى جامعة أخرى - حين طلبتُ إليه ذلك في فترة من فترات اليأس - قائلا لي: (ليس بعد الجهد الذي بذلتَه أنت من أجل نفسك, والجهد الذي بذلتُه أنا من أجلك). جاء إلى القاهرة بعد ربع قرن من تتلْمُذي عليه, فدعوته - أنا وأصدقائي - إلى عشاء في (نادي الصيد), وذهبت أحضره بسيارتي من فندقه المتواضع, وحين رآني هتف بدفء لم أعهده فيه من قبل (وهو الأسكتلندي): (يا بنيّ العزيز, كأنك لم تتغير قيد شعرة), قالها على نحو وضعني - وقد قلت إنني فقدت أبي وأنا في العاشرة - في جو أبوي يشع عطفا ورحمة وحنانا.وأخيرا - وليس آخرا كما يقولون - أتذكر من مرحلة لندن (مستر فيلونج), قلب مكتب البعثات المصري النابض, الذي لا يوجد دارس مصري إلا ويطوّق عنقه بجميل. أدى نحونا الواجب الروتيني بهمة, ثم انعقدت بيننا وبينه صداقة, شاركنا فيها طعامنا المصري, وأمتعنا بأحاديثه الساحرة, ونهلنا من معينه الثقافي الذي لا ينضب. وفي مكتبتي هدايا منه ثمينة من عيون التراث الإنجليزي. أهداني مرة - وقد أصبحت قادراً على فهم الإنجليزية - معجم (أكسفورد) الوجيز, وكتب عليه عبارة: (كتابٌ من ألف إلى شخص من ألف), فنظرت إلى الإهداء نظرة صامتة طويلة وأنا أبتسم, فسحب الكتاب من يدي بسرعة, وأضاف عبارة استدراكية تقول: (بل كتاب من مائة إلى شخص من مائة) - وهكذا نعمتُ بروحه المرحة الساخرة اللعوب سنين طويلة.

ذروة الروح

          ويبقى للكتل البشرية المجهولة الصامتة مكان واسع في مرفأ ذاكرتي, وفي حاضري. تلك الكتل التي أتحرك بينها في الأسواق المزدحمة, وفي محطات القطارات, وفي المصايف, وفي الطرقات العامة, أناجيها, وأحيا حياتها, وأستخدم ما تستخدمه من طعام وشراب ووسائل تنقل. هنا أجد نفسي, وأشعر بجذوري, فتصبح روحي المعنوية في ذروتها, وأنفض عني كثيرا من الشعور بالإحباط, والتشاؤم, وخيبة الأمل. ومع أنني هفوت دوما - وأهفو - إلى الرفعة والتميز, وأن أكون واحدا من الآحاد, لا عنصرا مجهولا في كتل الملايين, فإن شوقي العظيم إلى الالتحام بهذه الكتل المجهولة يتعمق مع الأيام

 

محمود الربيعي