محمد الماغوط .. حطاب الأشجار العالية

 محمد الماغوط .. حطاب الأشجار العالية
        

          قد يكون محمد الماغوط واحداً من أكبر الأثرياء في عصرنا, إرثه مملكة مترامية, حدودها الكوابيس.. والحزن.. والخوف.. واللهفة الطاعنة بالحرمان, وشمسها طفولة نبيلة وشرسة.

          عاش الماغوط مع الكوابيس, حتى صار سيد كوابيسه وأحزانه, وصار الخوف في لغته نقمة على الفساد والبؤس الإنساني بكل معانيه وأشكاله, لغته مشتعلة دائما تمسك بقارئها, تلسعه كلماتها كألسنة النيران, ترجّه بقوة, فيقف قارئ الماغوط أمام ذاته, ناقداً, باكياً, ضاحكاً, مسكوناً بالقلق والأسئلة.

          في قصائده ومقالاته ومسرحياته وأفلامه, قدّم محمد الماغوط نفسه عازفاً منفرداً, وطائراً خارج السرب, لا يستعير لغته من أحد, ولا يشبه إلاّ نفسه: في انتمائه وعشقه وعلاقته بالناس والأمكنة.

          وفيٌّ لعذاباته, قوي الحدس, شجاع في اختراق حصار الخوف وأعين الرقباء, منحاز إلى الحرية والجمال والعدل, وله طقسه النادر في حب الوطن ورسم صور عشقه له, التي تقدمه مغايراً للمألوف في قيمه وعواطفه وانكساراته وأحلامه.

          ورغم إعلانه أن الفرح ليس مهنته, وأن غرفة نومه بملايين الجدران, فهو بارع في اقتناص السعادة والاحتفاظ بها زمنا طويلا, لكنها سعادة الماغوط المستولدة من رحم القهر والسجن والخيبة والتشرد وغدر الأصدقاء ورحيل الأحبة, سجنه المبكر قبل قرابة نصف قرن, لايزال نبعاً لذكريات, تتحول المرارة فيها, إلى سخرية حيناً.. وحكمة حيناً.. وإضاءات.. يطل من خلالها على نفسه أحياناً كثيرة.

          مدينة (سلمية).. ودمشق.. وبيروت.. محطات حميمة في دفاتر الماغوط وفي حياته الشخصية والإبداعية.

          كل الأرصفة والحانات والأقبية والحدائق العامة.. وكل الصالونات والفنادق والمقاهي والصحف ودور النشر, وكل الكتّاب والرسامين والصحفيين وعمال المقاهي وشرطة المرور والسجانين والمومسات وقطّاع الطرق كل النساء اللاتي أحبهن أو اللاتي نظرن باستعلاء إلى مظهره الريفي البائس واخترن مجالسة غيره.. وكل من مرّ بهم الماغوط في مراحل حياته المختلفة, ولا يزالون يقاسمونه غرفة نومه.. يرى ملامح لهم ومرتسمات وصوراً عالقة في كئوس شرابه ولفافات تبغه.. ومحابره.. وأوراقه الخاصة.

          كتب محمد الماغوط الخاطرة والقصيدة النثرية, وكتب الرواية والمسرحية وسيناريو المسلسل التلفزيوني والفيلم السينمائي, وهو في كل كتاباته حزين إلى آخر الدمع.. عاشق إلى حدود الشراسة, باحث عن حرية لا تهددها جيوش الغبار.

          هو شاعر في كل نصوصه وفي كل تفاصيل حياته, يحتفظ بطفولة يندر مثيلها, يسافر كل يوم إلى نفسه وذكرياته, فيدلل أحزانه ومواجعه, ويستعيد صور أحبته وأصدقائه وعذابات عمره الحميمة.. ويداوي نفسه بالكتابة والمكاشفة فتولد قصائده ونصوصه حاملة صورة محمد الماغوط وحريق روحه واكتشافاته التجريبية في الحياة واللغة.. فهو مدهش مفرد الأسلوب والموهبة, وأصدقاء شعره في جيله وكل الأجيال اللاحقة يتبارون في الاحتفال والاحتفاء بهذا الشاعر الضلّيل الكبير.

          عام 1934 كان ميلاد الشاعر محمد الماغوط في مدينة سلمية التابعة لمحافظة حماه السورية.. وسلمية ودمشق وبيروت كانت المحطات الأساسية في حياة الماغوط وإبداعه.

مؤلفاته

          1 - حزن في ضوء القمر - شعر (دار مجلة شعر - بيروت 1959).

          2 - غرفة بملايين الجدران - شعر (دار مجلة شعر - بيروت - 1960).

          3 - الفرح ليس مهنتي - شعر (منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1970).

          4 - العصفور الأحدب - مسرحية (لم تمثل على المسرح - 1960).

          5 - المهرج - مسرحية (مثلت على المسرح 1960 - طبعت عام 1998 دار المدى - دمشق).

          6 - الأرجوحة رواية 1974 (نشرت عام 1974 - 1991 عن دار رياض الريس للنشر).

          7 - ضيعة تشرين - مسرحية (لم تطبع - مثلت على المسرح 1973 - 1974).

          8 - غربة - مسرحية (لم تطبع - مثلت على المسرح 1994).

          9 - كاسك يا وطن - مسرحية (لم تطبع - مثلت على المسرح 1979).

          10 - حكايا الليل - مسلسل تلفزيوني (إنتاج التلفزيون السوري).

          11 - وين الغلط - مسلسل تلفزيوني (إنتاج التلفزيون السوري).

          12 - الحدود - فيلم سينمائي (إنتاج المؤسسة العامة للسينما السورية).

          13 - التقرير - فيلم سينمائي (إنتاج المؤسسة العامة للسينما السورية).

          14 - شقائق النعمان - مسرحية (لم تطبع - مثلت على المسرح 1986 - 1987).

          15 - وادي المسك - مسلسل تلفزيوني (إنتاج التلفزيون السوري).

          16 - سأخون وطني - مقالات نقدية (دار رياض الريس للنشر - لندن 1987).

          17 - خارج السرب - مسرحية (مثلت على المسرح - طبعت في دار المدى للثقافة والنشر 1999 دمشق).

          18 - أعمال محمد الماغوط (شعر - مسرح - رواية) - (دار المدى - دمشق 1998).

          19 - سياف الزهور - نصوص حرة (دار المدى - دمشق 2001).

          20 - المسافر - فيلم سينمائي (قيد الظهور).

          - أعماله الكاملة طبعتها دار العودة في لبنان وأعادت طباعتها دار المدى بدمشق.

          وثمة ترجمات لدواوينه ومختارات له نشرت في عواصم عالمية متعددة إضافة إلى دراسات نقدية وأطروحات جامعية حول شعره ومسرحه.

          - زوجته الشاعرة الراحلة سنية صالح ولهما بنتان: (شام) وتعمل طبيبة, و(سلامة) متخرجة في كلية الفنون الجميلة بدمشق.

          والمختارات التي ننشرها بعض من قصائد ديوانه المعروف (الفرح ليس مهنتي).

في الليل

أيها الحارس العجوز يا جدّي

أعطني كلبك السلوقي لأتعقّب حزني

أعرني مصباحك الكهربائي

لأبحث عن وطني

من أزقة طويلة كسياط أجدادي

آتي إليك,

والاستغاثاتُ مصطفةٌ في حنجرتي كالمجاذيف

لأشكو لك الغبار والجماهير

الليل والزهور والموسيقى

لأشكو لك ذلك الرصيف:

ما أن شرعت بقصتي

حتى انسل بين الأزقة كالأفعى

وتركني وحيداً... وقدماي

تهتزان في الهواء كقدميّ المشنوق

ولذا جئتك مرفرفاً بيدي كالخفاش


لا أعرف أين أمضي هذه الليلة

وكل ليلة

الأرصفة التي أعبرها

تلفظ خطواتي كالدواء المرّ

الجدران التي ألمسُها

ترتعشُ تحت أصابعي كالشفاه قبل الزئير

بعد تفكير طويل

انزعوا الأرصفة

لم تعدّ لي غايةٌ أسعى إليها

كل شوارع أوروبا

تسكعُتها في فراشي

أجملُ نساء التاريخ

ضاجعتهنَّ وأنا ساهمٌ في زوايا المقهى

قولوا لوطني الصغير والجارح كالنمر

إنني أرفع سبابتي كتلميذ

طالباً الموت أو الرحيل

ولكن

لي بذمته بضعةُ أناشيد عتيقة

من أيام الطفولة

وأريدها الآن

لن أصعد قطاراً

ولن أقول وداعاً

ما لم يُعِدْها إلي حرفاً حرفاً

ونقطة نقطة

وإذا كان لا يريد أن يراني

أو يأنف من مجادلتي أمام المارة

فليخاطبني من وراء جدار

ليضعها في صُرَّةٍ عتيقةٍ أمام عتبة

أو وراء شجرة ما

وأنا أهرع لالتقاطها كالكلب

ما دامت كلمة الحرية في لغتي

على هيئة كرسي صغيرٍ للإعدام

كل العيون نحو الأفق

مذ كانت رائحة الخبز

شهية كالورد

كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين

وأنا أسرّح شعري كل صباح

وأرتدي أجمل ثيابي

وأهرع كالعاشقِ في موعده الأول

لانتظارها

لانتظار الثورة التي يبستْ

قدماي بانتظارها

من أجلها

أحصي أسناني كالصيرفي

أداعبها كالعازف قبل فتح الستار

بمجــرد أن أراهـا وألمـح ســـوطـــاً مـــن ســـياطــها

أو رصاصةً من رصاصاتها

سأضعُ يدي حول فمي

وأزغرد كالنساء المحترفات

سأرتمي على صدرها كالطفل المذعور

وأشكو لها

كم عذّبني الجوع وأذلّني الإرهاب

من العتبة إلى السماء

الآن

والمطرُ الحزين

يغمرُ وجهي الحزين

أحلم بسلّمٍ من الغبار

من الظهورِ المحدودبة

والراحاتِ المضغوطةِ على الركب

لأصعدَ إلى أعالي السماء

وأعرف

أين تذهبُ آهاتنا وصلواتنا؟

آه يا حبيبتي

لابد أن تكون

كل الآهاتِ والصلوات

كل التنهدات والاستغاثات

المنطلقة

من ملايين الأفواه والصدور

وعبر آلاف السنين والقرون

متجـمعـــةً فـــــي مكــــانٍ مـــــا مــــن الســــماء... كالغــيـــوم

 

علي عبدالكريم