كاترين العظمى .. قاتلة زوجها القصير!

  كاترين العظمى .. قاتلة زوجها القصير!
        

           كانت العربة تندفع كالبرق على الطريق إلى بطرسبرج العاصمة وبداخلها الإمبراطورة كاترين وهي تستحث مرافقها أن يسرع أكثر قبل أن يعود القيصر إلى القصر. ومن خلال أنفاسه المتقطعة راح الضابط يحكي كيف انكشفت المؤامرة الثالثة للتخلص من بطرس الثالث بعد أن فشلت المؤامرتان السابقتان. فبينما كان المتآمرون يكمنون على الطريق بين قصره الخلوي في أورينابوم وقصر بترهوف, سأل أحد الجنود ضابطه قائلا (متى نهاجم الإمبراطور؟). وجزع الضابط الذي لم يكن له علم بتفاصيل المؤامرة فانطلق ليبلغ الإمبراطور. ولم يكن أمام قائد المؤامرة الجنرال ألكس أوربوف إلا أن يسرع إلى الإمبراطورة ليبلغها بانكشاف المؤامرة قائلا: (أسرعي فليس للإمبراطور مهلة فانهضي واتبعيني فقد دبرت سبيل الفرار للعودة إلى بطرسبرج).

           انطلقت كاترين مع مرافقها إلى عربة كانت بانتظارهما, أسرعت بهما في الطريق إلى العاصمة. إلا أن الأمر لم يكن ليمر سهلا.فما كادت تشرف على نهاية الطريق حتى اهتزت العربة فجأة وكادت تودي بحياة الإمبراطورة. ولكن الضابط لم ينتظر طويلا فما أسرع ما اتجه الى فلاح كان يسوق عربة سباخ فألقى به إلى الأرض ثم حمل الإمبراطورة ووضعها فوق السباخ وانطلقا سراعا نحو العاصمة من جديد. وأمام القصر الإمبراطوري فتح الحراس عيونهم في دهشة وهم يرون الإمبراطورة تهبط من فوق العربة وقد غمرتها آثار السباخ. ووقفت كاترين بينهم وهي تلهث ومن عينيها تتساقط الدموع وخرجت الكلمات من بين شفتيها:

           - إن زوجي القيصر أراد اغتيالي الليلة أيها الجنود الشجعان. من أجل هذا هربت إليكم لتحموني من الطغيان فأنتم حماتي وملاذي يا أبطال روسيا العظام..!

           وفتح ضباط الحرس عيونهم من جديد وانطلقت من بين شفاههم هتافات مدوية:

           - تحيا الإمبراطورة.. وليسقط الإمبراطور.

           ورفعت كاترين قامتها وتقدم إليها الضابط فيلبوس قائد الحرس. والتفتت إليه تسأله في حزم ماذا ينوي؟ وكانت إجابته: (الطاعة لجلالتك). وفي لحظة انتهى الأمر. وتسلمت كاترين الترسانات ومخازن الذخيرة. ولم تمض ساعتان حتى كانت كاترين وحدها على العرش وتحت أمرها جيش روسيا الضخم والعاصمة كلها!

           وأما في بترهوف فقد كان بطرس الثالث لايزال يضرب رأسه وقد طار ما بقي فيه من صواب بعد أن عرف أن زوجته قد اغتصبت منه العرش ولم يعد إمبراطوراً بعد.

           ونصحه المقربون منه بأن يكتب إلى كاترين معترفا بخطئه طالبا إليها مشاركتها في الحكم.

           وجاء الرد سريعا مع ألكس أورلوف مندوب الإمبراطورة الذي طلب إليه أن يكتب إقرارا صريحا بعدم صلاحيته للحكم ونزوله مختارا عن العرش. وعجز بطرس عن المقاومة وهو يرى ألكس في الحجرة وحده معه وفي يده سيف حاد. وكتب بطرس تنازله عن العرش ممهورا بخاتم القيصرية وإن احتفظ مع ذلك بلفظ القيصر. وتسلم ألكس الإقرار بيد وأخذ القيصر بيده الأخرى إلى قصر روبكا ليغلق عليه الأبواب.

           وفي اليوم التالي كان ألكس يدخل على القيصر في سجنه يحدثه حديث ندم زوجته ويشرب معه الفودكا. غير أن النخب لم يكن نخب الندم بل كان نخب الموت الذي سرى في دمه مع الزرنيخ القوي. وأراد القيصر المخمور أن يقاوم ولكن ألكس ألقى به على الأرض وراح يضغط على عنقه بيديه ثم حشا فمه بمنديل كبير.

عودة إلى الذكريات

           عندما أعلن في العاشر من يوليو 1763 عن رحيل القيصر بطرس الثالث كان الإعلان يحمل توقيع القيصرة كاترين الثانية وجاء فيه: (شاءت إرادة الله القدير أن يتوفى القيصر بطرس الثالث في نوبة مرض شديد كان يلزمه من زمن طويل. رحمه الله وألهم شعب روسيا العظيم الصبر في مصابه الكبير).

           في ذلك اليوم انطلقت القيصرة كاترين إلى غرفتها إظهاراً لحزنها الشديد. وكانت فرصة أمامها لتستعيد في ذاكرتها أحداث حياتها منذ نشأتها في روسيا ثم وهي في الثامنة عشرة حين زوجتها أمها إمبراطورة النمسا بالاتفاق مع أختها الإمبراطورة إليزابيث بابنها بطرس الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين. ومنذ ذلك اليوم لم تعرف كاترين للحياة الزوجية معنى, فقد ظلا متباعدين كأن كلا منهما غريب عن الآخر. وإن كاترين لتذكر ذلك اليوم الذي دار فيه الحديث بينها وبين القيصرة العجوز التي قالت لها: (ثم ماذا بعــد يا كاترين؟ لقد مضى على زواجك تسع سنين ولكنك لم تلدي بعد وليا للعهد. فلتخبريني أولا من هو المسئول عن هذا العقم أنت أم هو؟). وكانت إجابة كاترين وقد دمعت عيناها: (لست أنا على أي حال). قالت القيصرة: (إنني أعرف كل شيء يا صغيرتي فإن ابن اختي يشكو عجزا. ولكن قلبي مع هذا يكاد ينفطر ألما عندما أطل إلى المستقبل أمامي فأجد ذلك الملك العريض قد صار بلا وريث ينتسب إلى عائلة رومانوف, فاسمعيني جيدا لأنه لا بد أن يكون هناك وريث وسلالة. وإذا لم يكن في استطاعة بطرس أن يكون الأب.. فأظن أيضا أن باستطاعتك أن تبحثي عن آخر يغطي ذلك العجز الذي تشقين به وأشقى ويشقى العرش كله).

           وهكذا كان.. وراحت كاترين تقلب عيونها بين الرجال تجربهم وتقربهم منها حتى اختارت الجنرال الشاب ألكس أورلوف.. ولم يمنعها ذلك من أن تستمر في التجربة مع آخرين.. حتى وضعت كاترين طفلا يرث عرش رومانوف..!

           وظلت ذاكرة الإمبراطورة تستدعي الذكريات حتى كان ذلك اليوم الصاخب الذي انتهى برحلة عربة السباخ..!

الطريق إلى النهاية

           كان بطرس الثالث يحتفل بعيد اعتلائه العرش. ودعا إلى قصره في بيترهوف كبار رجالات الدولة والسلك الدبلوماسي. وبينما الجميع يشربون الفودكا ويصخبون كانت الإمبراطورة تقف في ركن منزو ترمق زوجها وقد انحط إلى مائدة في أقصى القاعة الكبرى ومن حوله بضعة صعاليك من خدم القصر يضجون ويتقارعون الكئوس مع القيصر.. وتحت النظرات المشدوهة من الضيوف وهم يشهدون ما يفعله القيصر صرخت كاترين في زوجها: (مولاي.. إن السفراء ينتظرون تشريفكم فهلا تركت هذه المساخر لحظات لتؤدي ما يقتضيه منك واجب الضيافة مع مدعويك؟).

           وبعينين تنطلق منهما شرارات مجنونة حملق فيها القيصر. وفجأة نهض من مقعده وهو يصخب ولايزال قابضا على المقعد ثم رفعه في سرعة وقذف به كاترين المشدوهة. وانطلق من فمه سيل من الشتائم رهيب: (أطبقي فمك أيتها الألمانية الحمقاء.. ما مكانك أنت مني.. أوجعلت من نفسك قيما على قيصر روسيا العظيم؟). وأطبق على القاعة صمت جارف بينما الألفاظ الجارحة تنهال على القيصرة المسكينة وصرخاته تدوي في المكان: (سأعرف يوما كيف أجعلك تقدسين زوجك وتستنجدين من خلف قضبان السجن تطلبين العفو والغفران من سيدك).

           وكان جواب كاترين في تحد كبير: (أتحداك أن تجرؤ على فعلها) وانطلق إليها وقد جرد سيفه مهددا ولكنها برغم كل ذلك لم تهتز بل أجابته في هدوء: (إذا كنت تنوي مبارزة فأنا الأخرى في حاجة إلى سيف)... ثم كان بعد ذلك ما كان!

كاترين العظمى

           منذ تولت كاترين عرش القيصرية وحدها راحت تبذل كل الجهد لإثبات جدارتها بلقب (كاترين العظمى). وعرفت كيف تحيط نفسها بسياج من الهيبة ودللت على مهاراتها بما أحدثت من إصلاحات وأنشأت المدارس والمستشفيات وكثيرا من الترسانات والمصانع واستطاعت أن تكثر من موارد الإمبراطورية. إذ أفسحت مجال التجارة بما اكتسحت به الأراضي التركية العثمانية وما أضافته من أراض أوربية حتى شملت بولندا. غير أنها برغم كل ذلك كانت شديدة التقلب في كل ما يخص الأموال العامة ومصالح الشعب وتغدق إغداقا كبيرا على كل من تقرب منها من شباب الجنرالات قبل أن تلقي بهم من حالق.

           حتى رعاياها من أبناء الشعب الذين أثقلتهم الضرائب كانوا يتحولون إثر جرة قلم إلى ما دون الرقيق. فقد كانت قد رسمت لنفسها سياستها التي تقول: (على الملوك والملكات أن يسيروا في أحكامهم لا يعبأون بصيحات الشعب تماما كالقمر الذي لا يعبأ بنباح الكلاب). ومع كل ذلك فقد كانت كثيرا ما تحدث نفسها مع نهاية العمر فتقول: (أنا أعرف أني مذنبة وقد لعبت طوال حياتي دورا خبيثا تعسا. ومن هنا يكمن سر قلقي فما وجدت من شعبي الحب المنزّه أبدا ولكنني سأظل أبحث حتى أجده..).
على أن كاترين العظمى لم تجد الحب والحياة بعد ذلك أبداً

 

سليمان مظهر