نساء بلاغطاء!

 نساء بلاغطاء!
        

          ماذا يفعل الإنسان عندما يجد نفسه في العراء بلا غطاء من وطن أو دولة أو أسرة؟... ماذا يفعل إذا بات مطاردا, بلا بيت أو سقف أو صنبور مياه؟

          القصة تتكرر حاملة اسم: الكوارث, وقد تكون كوارث طبيعية مثل الفيضانات أو الزلازل أو البراكين أو الأعاصير, وقد تكون كوارث من فعل الإنسان عندما تنشب الحرب, ويشتعل نزاع مسلح, وتتساقط القنابل فوق الرءوس.

          في كل هذه الكوارث - والتي زاد عددها في التسعينيات بنسبة عشرة بالمائة وفقا لمصادر الأمم المتحدة, يصبح الحل أمام البشر هو: الفرار من الكارثة والترحال داخل أو خارج الوطن... ولكن عندما يبدأ الفرار تبدأ كارثة جديدة, فأناس بلا حماية, ومجتمع بلا رادع, وحاجات بلا إشباع... كل ذلك يضعنا أمام المأساة والتي يعاني منها الأطفال والنساء بشكل أكبر, وهذا ما حدث في البلقان وأفغانستان, وأريتريا وأثيوبيا والسلفادور وغيرها من مناطق كوارث وحروب, وطبقا لصندوق الأمم المتحدة للسكان, فقد كان هناك في نهاية (2001) خمسون مليونا من المشردين داخل أوطانهم, ونصفهم قد واجهوا حال حرب وعدم استقرار... أيضا, وطبقا للمصدر نفسه فإن النساء والأطفال يمثلون (75) بالمائة من اللاجئين والمشردين المعرّضين للخطر من جراء الحروب والمجاعات والاضطهاد والكوارث الطبيعية, لكن الصندوق التابع للأمم المتحدة يلفت النظر إلى أن ربع المشردين فتيات ونسوة في سن الإنجاب وهو ما يرفع راية الخطر من وجهة نظر المنظمة الدولية... أما الأمثلة فهي كثيرة.

          عندما تجمعت نذر الحرب الأمريكية ضد أفغانستان عاد الأفغان إلى الفرار للحدود الباكستانية والإيرانية, وكان الشتاء ببرده القارس قد بدأ (أكتوبر - نوفمبر 2001), وكان بين الفارين - أو الذين تعوّدوا على الفرار طوال عقدين من الحروب والجفاف - عشرات الآلاف من السيدات الحوامل, فكيف يتم رعايتهن في الحمل, ثم الوضع, ثم حضانة الطفل الوليد وهن هائمات على وجوههن؟

          بالرغم من ذلك فقد كانت الأفغانية أفضل حالا, ففي البوسنة قالت إحداهن إنها قد تعرضت للاغتصاب عشرين مرة في ليلة واحدة, وكان حديث الصرب أنهم يريدون نسلا صربيا. أما صندوق الأمم المتحدة للسكان فهو يضع تفسيرا آخر للاعتداءات الجنسية أثناء الحروب فهي تجري للإذلال والإخضاع والضغط على العدو وجلب العار, وهي تتم في غياب المنظومة الاجتماعية أو الأسرية التي تحمي السلوك البشري, إنها شكل من أشكال الفوضى لكنها أيضا شكل من أشكال الانتقام والتنكيل والعودة لشريعة الغاب.

          المرأة أكثر تعرّضا للخطر, والضوء يسلّطه صندوق السكان على شريحة محددة هي شريحة المراهقين نساء وفتيانا, ففي هذه الشريحة, وعندما تتعرض الفتيات بين سن عشر سنوات وأربعة عشر عاما للحمل المبكر, فإن احتمالات الوفاة أثناء الحمل أو الوضع تتضاعف خمس مرات قياسا على شريحة أكبر سنا يترواح عمر أفرادها بين (20و24) عاما.

          ويسجل صندوق الأمم المتحدة أن هناك خطرا اسمه الإجهاض والذي يستخدم لغسل العار أو للتخلص من جنين غير مرغوب فيه, وتقوم (4ر4) مليون شابة تحت العشرين بعمليات إجهاض كل عام, ونصفهن تقريبا بسبب الأزمات والحروب!

          الأكثر, وهو ما ينجم عن الفوضى الاجتماعية هو انتشار الأمراض ذات الطابع الجنسي, والتي تصيب نصف مليون شاب وشابة كل يوم, ويقول التقرير: (إن الدراسات تبرز أن إصابة الفتيات بالأيدز تبلغ خمسة أضعاف إصابات الشباب بالمرض نفسه)!

... هذه الخريطة

          خريطة الأزمات والكوارث تمتد على مدى التاريخ, لكنها تسجل تزايداً في العقد الماضي.

          حين ضربت الزلازل السلفادور ثلاث مرات في الشهور الثلاثة الأولى من عام (2001) أصبح هناك شخص بين كل ستة أشخاص, بلا مأوى, وبلغ عدد هؤلاء (1ر2) مليون شخص, وكثيراً ما حالت الانهيارات الأرضية دون وصول الإمدادات أو وسائل الإسعاف فمات الناس قبل أن تصلهم يد المعونة.

          وما بين عام (98) وعام (2000) ونتيجة الصراعات العسكرية والجفاف في وقت واحد تشرد مليون أريتري, كما تشرّد (350) ألفا من أثيوبيا, بينما احتاج العون: (10) ملايين أثيوبي!

          وفي يناير (2001) عندما وقع زلزال (جوجارت) بغرب الهند سقط عشرون ألف قتيل وبات هناك (800) ألف هندي بلا مأوى.

          وبالطبع كان هناك مهاجرو أفغانستان والسودان وغيرهم الذين فرّوا أمام العمليات الحربية.

          ويلفت النظر في تقارير الأمم المتحدة أن معظم النماذج والبيانات تأتي من دول الجنوب, من الدول النامية... بينما لا تجري الإشارة كثيرا لكوارث الدول المتقدمة والتي تكررت في الولايات المتحدة وغيرها, والتفسير واضح وهو أن عناصر الأمان أكثر توافرا في الدول المتقدمة, فهناك المباني التي تقاوم الزلازل, وهناك الإمكانات المادية والطائرات التي تتقدم للإسعاف, وهناك اليد التي تمتد لما بعد الأزمة لتمسح آلامها وتزيل أثرها.

          إنه حزام الأمان النسبي تتمتع به دول الشمال الغنية ويغيب بالنسبة للدول النامية الفقيرة.. و... من ثم, وعندما تحدث كارثة طبيعية في الشمال, فإننا لا نسمع عن هذه الأخطار التي يشير لها صندوق الأمم المتحدة: أناس بلا مأوى أو غذاء, اعتداء على النساء والأطفال, أخطار تهدد المرأة عندما تحمل وعندما تنجب.

          الجنوب وحده يحتكر معظم هذه الأوجاع وهو ما جعل الأمم المتحدة ترفع شعار (الأمن البشري) عندما يجري في مناطق الحروب ومناطق الكوارث, وهو أيضا ما جعل منظمة متخصصة في الصحة الإنجابية, وهي صندوق الأمم المتحدة للسكان لأن تعتبر (الحق في الصحة الإنجابية) حقا من حقوق الإنسان, فله أن يعيش حياة جنسية جيدة, وله أن يقرر: متى ينجب, وللمرأة أن تضمن صحة جيدة وهي تحمل جنينها أو تضع وليدها أو ترعاه.

          صندوق السكان - من وجهة نظره يلفت النظر إلى مسألة (النساء تحت الخطر) لكن الأمر يتجاوز ذلك ويدعونا لطرح العديد من التساؤلات.

... نظرة للمستقبل

          والتساؤلات تتصل بالحاضر والمستقبل, فإذا كان الجفاف قدرا لا نملك معه شيئا, وإذا كانت الزلازل والبراكين تأتي من حيث لا نحتسب, وإن ساعد التقدم العلمي على التنبؤ بها, وإذا كانت الأمطار تهطل فتحدث فيضانات لم تستعد لها الشعوب, فهل يتحقق في الحقب المقبلة أو في السنوات الأولى من القرن الجديد حزام أمان في الجنوب, يماثل ذلك الذي تملكه بعض دول الشمال؟... هل نأخذ بالمنهج العلمي فنضع مبكرا رؤية مستقبلية لعلاج الأمور (قبل الأزمة, وأثناء الأزمة, وبعدها)؟

          لقد تزايد نصيب المنظمات الدولية في تقديم المعونات الإنسانية, ولكن هل يظل العالم الثالث أسيرا لما يأتي له عبر الحدود؟

          الخسائر كبيرة, والتحرّك لابد أن يكون جزءا من نهوض شامل تتحسن فيه البنية الأساسية وقطاعات الخدمات وإمكانات الاقتصاد وتقاليد وعادات البشر التي تفاقم الخطر أو تقلله عند الفرار, وقبلها: البحث عن حكومات ذات كفاءة.

          و... من الكوارث الطبيعية إلى الكوارث التي تصنعها الحكومات والجيوش والحروب الطائفية والعرقية بل الحروب الدولية على غرار ما تقوم به الولايات المتحدة أو حروب الاحتلال كما تفعل إسرائيل, كل هذه الكوارث بحاجة إلى نظر.

          لقد تنفس العالم الصعداء عندما انتهت الحرب الباردة وتراجع احتمال مواجهات نووية بين دول عظمى, وباختفاء المعسكر الشرقي تراجعت ميزانيات الحرب في العالم, لكنها عادت من جديد لتتصاعد في الكثير من دول العالم الثالث تحت تأثير الصراعات المحلية, وربما في ظل ما أسمته واشنطن حرب الإرهاب أيضا.

          العسكرة مستمرة, والسلاح يجري استخدامه في غير مكانه وزمانه والضحايا أطفال ونساء وشيوخ ورجال لا يشاركون في الحرب, ولا يختارون ساحة القتال, فهل من مفر؟.. وهل من تفسير يدين أو يبرئ شركات السلاح العالمية وغطاءها الحكومي من افتعال الأزمات وإشعال الحروب؟

          والسؤال الأخير له مبرره, فاشتعال الحروب الأهلية في التسعينيات جاء وكأنه تعويض عن تراجع خطر حروب أكبر, وعسكرة الشرق الأوسط جاءت في ظل أخطار إقليمية ودولية في وقت واحد... وراية الحرب الممتدة زماناً ومكانا وهي حرب الإرهاب ليست بعيدة أيضا عما نتحدث عنه.

          التسعينيات وحتى الآن شيء آخر أكثر خطرا, أكثر هولا, أشد فداحة.

          لذا يفر البشر, وتصرخ منظمة دولية: (احموا النساء والأطفال.. احموا الإنسان من حياة العراء والفناء).

          ونقول: ابحث عن الدولة, فقد اخترعت البشرية الدول والحكومات لكي تحمي, وكانت وظيفة الأمن, بكل معانيه, من أولى وظائف الدولة منذ بداية التاريخ, أما حكاية الضعفاء من نساء وأطفال, فهم أولى بالرعاية

... ورقــم  يحدث في إفريقيا

          كان ذلك في شهر يوليو عام (2002) حين نقلت وكالات الأنباء خبرا فريدا في نوعه, فقد تحطمت طائرة شحن سودانية في ضاحية من ضواحي (بانجي) عاصمة إفريقيا الوسطى, وبدلا من أن يهب الأهالي لنجدة من فيها فقد راحوا يهاجمونها بالمعاول, ويحطمون أجزاءها بحثا عن شحنة البصل التي كانت تحملها, وقالت سيدة إفريقية حصلت على جزء من الغنيمة: (ليس لدينا ما نأكله... جئنا لنجمع هذا البصل).

          والقصة قد تتكرر والآفة هي الجوع حيث تسجل إفريقيا السوداء أسوأ الأوضاع الاقتصادية في العالم, وحيث تسجل تراجعا في معدلات النمو والتجارة الخارجية في الوقت الذي تنكمش فيه المعونات والاستثمارات المالية المتجهة إليها.

          ووفقا لصندوق النقد الدولي (مجلة التمويل والتنمية - ديسمبر 2001) فقد شهدت القارة أغرب ظاهرة وهي أنه في الوقت الذي تحتاج فيه إلى رءوس أموال للاستثمار, فإن رءوس الأموال الهاربة إلى الخارج كانت نسبتها هي الأعلى في العالم كله, فقد تراوحت - حسب التقديرات - بين (24) و(143) في المائة من الناتج القومي.

          وتفسر ظاهرة (الهروب الكبير) حال الاقتصاد التي باتت بمنزلة عامل طرد, فنصيب إفريقيا في التجارة العالمية والإنتاج العالمي (2) بالمائة.. .أما في الاستثمار الأجنبي فهي لا تحصل على أكثر من (1) بالمائة فقط من جملة التدفقات الدولية.. و.. في التفاصيل تقول الأرقام إن حصة إفريقيا في صادرات العالم قد تراجعت من (3ر5) بالمائة في الستينيات إلى (2ر2) بالمائة في نهاية التسعينيات.

          والأزمة يفسرها الاقتصاديون ببطء النمو الاقتصادي, والتاريخ الاستعماري الذي يثقل كاهل إفريقيا, والوضع الجغرافي غير المواتي حيث ضربها الجفاف كثيرا... ثم... الاعتماد على المواد الأولية, إضافة للحروب الأهلية والعرقية وسوء الإدارة.

          نصيحة المنظمات الدولية: المزيد من الاندماج في العولمة أو السوق العالمية, ولكن... وحين يحدث فأي إنتاج إفريقي يغزو العالم؟ وهل تظل المعادلة: خامات مقابل سلع مصنوعة.. أو: تخلفـا في مقابل تقدم؟

          رأس المال الإفريقي يهرب للخارج, والعقول الإفريقية تفعل الشيء نفسه فطبقا للمصدر السابق هناك أكثر من (30) ألف إفريقي من الحاصلين على درجة الدكتوراه يعملون في أوربا الغربية وأمريكا الشمالية, إنهم يلقون لبلادهم ببعض الدولارات لكنهم يعطون جهدهم وعقلهم لأسواق الغرب, وهكذا تدور لعبة التقدم والتخلف.. شمالا وجنوبا.

 

محمود المراغي