جمال العربية

  جمال العربية
        

الراعي والشاة أو النفس والضمير

          عندما يتجاوز وعي الشاعر النقدي دائرة إبداعه, فيرى بعين الناقد المجردة أن ما كتبه من شعر أقلّ بكثير مِمَّا كان يحلم به من إبداع, وأن ما نشره من قصائد قد تجاوزه العصر والمد الشعري الذي يفصح باستمرار عن تطوره وجيشانه, يصبح من الطبيعي أن يحبس هذه القصائد وأن يحول بينها وبين أن تُجمع في ديوان, من الخطر أن يحاسبه عليه النقّاد والقرّاء.

          هذا هو الذي صنعه الشاعر أولاً والناقد الكبير ثانياً الدكتور عبدالقادر القط - الذي رحل عن عالمنا في الخامس عشر من يونيو الماضي - بقصائده التي سبق له نشرها في عدد من المجلات الأدبية والثقافية أهمها (الرسالة) و(الكاتب المصري) بين عامي 1941و1943.

          وهو يقصّ علينا صنيعه في تقديمه لديوانه الشعري الوحيد (ذكريات شباب) - الذي صدرت طبعته الأولى عام 1958 - قائلاً: (كان من حق هذه القصائد أن تنشر منذ خمسة عشر عاما, فقد نظمتها بين عامي 41 و1943 ثم سافرت إلى الخارج (في بعثة تعليمية إلى إنجلترا للحصول على الدكتوراه) قبل أن يتاح لي نشرها في ديوان كامل, فلما عدت بعد خمس سنين كان قد طرأ على إدراكي للحياة تحوّل كبير جعلني أحسّ بشيء غير قليل من الغربة نحو ما تضمنته قصائدي من عواطف لم أعد قادرا على الشعور بها بمثل ما فيها من حدة وقوة وانفعال. ولكني مع ذلك لم أفقد رضائي عنها من حيث تعبيرها ونجاحها في تصوير تلك العواطف الجيّاشة التي كانت تملأ عليّ صباي. ولم أستطع أن أقطع بيني وبينها تلك الصلة النفسية الوثيقة التي تقوم دائما بين الأديب وعمله, ولا أن أفقد ما أحمل لها من حب, وهي جزء عزيز من شبابي بقلقه وحيرته وعجزه وقوته.

          وهكذا ظلت فكرة نشرها تراودني من حين إلى آخر فتبلغ بي الحماسة في بعض الأحيان أن أدفع بأصولها إلى الناشر, ثم يستبد بي التردد والإشفاق فأنثني عمّا اعتزمت. وقد أكّد هذا التردد في نفسي أن لوناً جديداً قد ظهر في الشعر العربي, فنبذ هذا الإطار الذي كنت أنظم فيه, وتلك التجارب الذاتية التي صوّرتها في شعري القديم, وأحدث بهذا ثورة فنية كبيرة كنت في أول الأمر من أكثر الناس انتصاراً لها, وأحسست أنه ينبغي لي أن أتريث حتى أرى ما يكون من أمر هذا المذهب الجديد, وحتى لا يكون هناك شيء من التناقض بين نشري لقصائدي القديمة وحماستي للشعر الجديد).

          والشاعر عبدالقادر القط في هذا الديوان شاعر رومانسي تماماً, ينتمي إلى الحركة الرومانسية التي مثلتها جماعة أبولو, وكان من أعلامها إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل ومحمد عبدالمعطي الهمشري وغيرهم في مصر وأبو القاسم الشابي في تونس. وقد لا يكون شعر عبدالقادر القط في الطبقة نفسها التي يندرج تحتها شعر هؤلاء, لكنه يحمل أهم سمات هذه الحركة الشعرية وخصائصها من عكوف على التجارب الذاتية العاطفية وإسراف في الخيال الشعري يجاري الإسراف في العواطف والمشاعر ومعجم شعري يتسع لمفردات الطبيعة وعناصرها, ومن اهتمام بالحالات الشعورية المصاحبة للقلق والسأم والتوتر والحزن والتشاؤم والإحباط والإنكار.

          وبالرغم من أن النزعة الرومانسية في جوهرها - الذي عرفته الآداب الأوربية وبخاصة الإنجليزية والفرنسية ــ كانت تمثل ثورة على الكلاسيكية وتقاليدها الثابتة والراسخة, وروحا ثوريا تحرريا متمردا يرفض القيود ويدعو إلى المشاركة في حركات التحرر والانطلاق من أسر قيود النفس والمجتمع, إلا أنها كما عرفناها في شعر الرومانسيين المصريين والعرب كانت متشّحة بالحزن والأسى والقتامة, حتى أصبحت الكلمة (رومانسي) تعني عند إطلاقها على إنسان أو شاعر تعني الشرود والإسراف في الخيال والعاطفة والبعد عن الواقعية في الوعي والسلوك والسلبية إزاء الأحداث والمواقف. وهو ما دفع الشاعر الناقد الدكتور عبدالقادر القط إلى محاولة تفسير قصائده في ضوئه على أساس أنها كتبت في أواسط الحرب العالمية الثانية, والحرب تلقي ظلالها السود على الحياة وتثير في نفوس الناس كثيرا من الشكوك حول مستقبل الإنسانية. فكان من الطبيعي في تلك الظروف القاسية - كما يقول - أن يُحسّ الشاعر وأمثاله بالقلق والحيرة, ويشغلوا أنفسهم بأمر المستقبل ويتذبذبوا إزاءه بين اليأس والرجاء, وبين التفاؤل والتشاؤم. وهكذا - في رأيه - اتخذ الشعراء الرومانسيون من الحب, موضوعا يعكسون عليه موقفهم من الحياة والمجتمع, وإن لم يفعلوا ذلك بالطبع عن إرادة واعية, بل بصورة تلقائية وجدانية.

          من بين قصائد ديوان (ذكريات شباب) تطالعنا قصيدة (انطلاق) باعتبارها نموذجا لسائر قصائده, في نزوعها الرومانسي المشحون بالرغبة في التحرر والانطلاق وإن يكن - كما وصفه الناقد والمفكر الكبير محمود أمين العالم, حين علّق على القصيدة عندما أعاد الشاعر نشرها في مجلة الآداب البيروتية - انطلاقا طيبا ومستسلما, مندفعا نحو أفق, ولكنه مطموس المعالم غير واضح القسمات. وهو انطلاق يحمل - في رأي العالم - جانبا من الدون كيشوتية, لأنه لا يستبصر بالأبعاد الموضوعية إلا من خلال اندفاعه الانفعالي الخالص وهو يرى أن الدكتور القط قد نجح في بناء الطبـــيعة الخارجـــية التي يتحقق فيها انطلاقه, نجح في إشراكنا في تجــــاربها البــــصرية والسمعية والشخصية, وفي الإحساس بهولها.

          الطريف أن هذا الرأي الذي أبداه الأستاذ العالم أثار معركة نقدية بين الرجلين على صفحات مجلة (الآداب) حول غاية الأدب, وهل هي المشاركة في كفاح الشعب والتعبير عن مشـكلاته بحيث يكون للأدب هدف محدد, وإسقاط الألوان الأخرى من الأدب التي تبدو في ظاهرها ضعيفة الارتباط بالمشكلات الاجتماعية التي يبدو أنها تعبر عن تجــربة ذاتية فردية.

          والدكتور القط يرى أنه اتخذ من (الراعي) في قصيدته (انطلاق) رمزا للضمير الذي يُلحّ على الشاعر أن يخضع لما تعارف عليه الناس من أوضاع, ورمز بـ(الشاة) إلى نفس الشاعر الثائرة في رغبتها أن تكسر كل ما يكبّلها من أغلال. ويرى أنه قد أفصح عن هذا الرمز في آخر مقطوعة من القصيدة قائلا عن تجربة الشاة مع السيل, سيل الحياة:

خاضت إليه وزاحمت بقوى موثّقة قواه

القاع يجذبها فتهوى ثم تنشلها ذراه

في القاع إحساس وفوق الماء إحساس سواه

بوركت ياسيل الحياة جريْت في عنف الحياة!

          وقصيدة (انطلاق) للدكتور عبدالقادر القط - بالرغم من كل هذا الكلام - تذكّرنا بقصائد الشابي البديعة في التعبير عن ذوبانه في الطبيعة التونسية الجميلة وحلولها فيه - بتعبير المتصوّفة - صورا وعناصر وروحا وأصواتا وعطورا وإيحاءات ورموزا ودلالات. وكلاهما يتخذ من الطبيعة وعناصرها الحيّة والجامدة من شياه ورعاة وطيور وحيوانات ومروج وأكواخ ورياح وقطعان وتلال لبنات في عالمه التصويري ولوحاته الشعرية المعبّرة. تتماوج فيها الأصوات والعطور والأضواء والظلال عاكسة مستويات المد والجزر في المشاعر والأحاسيس, فهل حرّكت قصائد الشابي هواتف كانت راقدة أو حبيسة في وجدان القط? وهل ساعدت النزعة الرومانسية المشتركة على تحقيق هذا المزاج النفسي المتماثل لغة وصوراً وبنية شعرية تشكيلية?

          لا يعنينا هذا كله الآن, بقدر ما يعنينا العكوف على قراءة الشاعر الناقد أو الناقد الشاعر الدكتور عبدالقادر القط الذي يفجّر غيابه عن عالمنا صحوة التنبّه إلى إبداعه الشعري والنقدي!

          يقول في قصيدته (انطلاق):

في مطلع الوادي وقد ولَّى عن الوادي سَناهْ

وتَجاوبَتْ في المغْرب الغيمان أصداء الرُّعاهْ

ألقى على كتفيه شملَته وَهمّ إلى عصاه

ومضَى ترُود المرج عيناه ويصغي للشياه

***

يتسمّع الصوت الذي تحلو بنبرته السهولْ

أصْفَى من النّايِ المسلسل عند أحلام الأصيل

هيَ شاته سمَر الحُقول وفرحة الكوخ الجميل

سمراء كالفجر الوليد يجرُّ مُطْرَفه البليل

ومشى يغنّي في خفوت نحو منعطف الطريقْ

يسعى ليلقاها وفي عينيه للنجوى بريق

وبشائر الأمل الجميل تهزّ خاطرَه الرقيق

عجبا! لقد سكن المكان ! فلا أنيس ولا رفيق

***

لم يلمح الشاة الحبيبة تقصد الراعي الحبيبْ

والريح لم تحمل إليه ثُغاءَها عند الغروب

هو لا يراها بين قطعان تَزَاحمُ في الدروب

يا لهفتا! ماذا ترى قد عاقها! ومتى تؤوب

***

وتردَّدَتْ في فكرِه المكدودِ أوهامٌ ثِقالْ

ذكر الغرابَ وكيف صاح على غصون البرتقال

والكلب كيف عوى ومرّغ وجهَه بين التلال

يا شؤم هذا اليومِ تسري فيه رائحةُ الزَّوالْ!

هو ذا يذود بكفّه عن عينه أَلَقَ الشعاعْ

ويدور يرقب كل رابية وينظر كل قاع

ويعود يرنو خلف رعيان إلى المأوى سراع

يا ويحهم رجعوا!... وخُلِّفَ وحدَه القلقُ المراعْ

***

أيؤوب يسحب بعد غيبته عصاه في انكسارْ

أيغادر الشاة الحبيبة في الظلام بلا قرار

ويروح لم يسبقه في الدرب الطويل لها غبار?

بئس الرواح إذن... وما أخلى من الأنس الديار!

***

ومضى على وجل شرودَ اللُّب يعثر في خطاهْ

وفؤاده العفّ الطهور يكاد يتهم الإلّه

فيردُّه للصبر والإيمان باقٍ من نُهاه

ويعود يدعوها على أملٍ ويرفع من نداه:

***

يا فتنة الراعى لقد أوفى على المرج المساءْ

وتضرجت حُمر الغيوم بما تبقى من ذُكاءْ

ونائم الليل البليل تسوق أنفاس الشتاء

والطير قد عادت وملءُ وطابها حَبٌّ وماء

وفراخها في عشها متسمِّعات للقاء

للدفْءِ والشبع الشهيّ وللغناءِ وللمُكاء

والزهر في ألفافه أغفَى على نغم الرِّعاء

أغفى على شط الجداول قد خطرن على وَناء

***

يا فتنة الراعي لقد رانت على الأفق الغيومْ

وخبا من الشفق اللهيب فعاد كالطَّلَلِ القديم

وتأوّهت في الغاب أرواحٌ أقضّتها الكلوم

وسعَت به الأشباح في سِتر من الغسق البهيم

أشباح صرعى غالها في الغاب شيطان رجيم

لبست قناعا من دم وتسربلت كفنَ الرَّميم

رقصت على زَبَد الجــــراح وقد نزفن من الصميم

***

يا فتنة الراعي لقد طُويت على الشرِّ الهضاب

وتلفَّعَتْ بالصمت أوديةٌ تضجُّ بها الرِّغاب

في كل مربأة تأجَّجُ مقلةٌ ويَصِرُّ ناب

أنَّى خطوتِ فللردى خطو وللغدر انسياب

سكنت على العشب الصِّلالُ تدير للفتك اللُّعاب

متكورات كالهشيم فما تُحسُّ ولا تُهاب

***

أمّا الشَّرودُ فأسلمت للغابة الكبرى خُطاها

يقتادها شوق إلى المجهول ينفخ في قواها

كم ليلة راحت مع الراعي يُجاذبها هواها

فالآن فلتُقْدِمْ على الأدغال حتى منتهاها

***

كم ليلة وقَفتْ أمام الغاب يعصرها الوفاءْ

وغماغُم الدَّغل العجيب يزيد فتنتَها الخفاء

وروائح الورق المخمّر في الثرى روحُ اشتهاء

كم فوق هذي الأرض من دنيا! وكم تحت السماء!

***

عجبتْ من الكوخ الكئيب وكيف طاب لها المقام

في منزل مستوحشٍ خشِنٍ دعائمه حطام

الزاد في أركانه حطب ومضجعه رغام

يتفلسف الراعي ويزعم في بساطته السلام!

***

وتقدمت بخطى المحاذر والدوار بها يميدْ

من رهبة الجنح المديد ونشوة الكون الجديد

ماذا وراء الستر من غيب? وما خلف الحدود?

ليت الظلام يشف عما قد أجنّ من الوجود

***

وتقدمت فإذا الظلام كأنه صبح منيرْ

ألِفْتهُ عيناها فمزقت الحواجب والستور

نكِرَتْ هنالك ما وعته عن الظلام من الشرور

لا ضجّة الأشباح تلقاها ولا صمت القبور!

***

شهدت هناك توثَّبَ الأحياء للكون الرحيبْ

وعصارة الحيوات يُسْمع في الغصون لها دبيبْ

وتنفَّسَ الأرض الدفيئة وانبعاثاتِ الطيوب

وتشقق الطين المضمّخ عن وليدات الغيوب

***

وتملؤَ العلّيق واللبلاب من رُوح البقاءْ

يسمو فيزحم منكب الدَّوح الفتيّ إلى الفضاء

وغضارة الفطر الضعيف يكاد يغلبه الحياءْ

لم يجْفُه الماء الرَّويُّ ولا تنكبَّه الهواء

***

كلٌّ ينال وإن تزاحمت الأماني مبتغاهْ

في عالم خصب تململَ من خُصوبته ثراه

***

وتقدمت فرأت عوالم لا يحدُّ لها براح

تنداح في أرض مشعَّبة وآفاقٍ فِساح

وتضيق حتَّى ما يمُدُّ الطيرُ فيهنَّ الجناح

وتُذبذب القلب المغامر بين ضيق وارتياح

***

وتجاوَبَتْ في الغابة الفرعاء ثرثرةُ الرياحْ

مَمْزوجة الأصوات لا همسٌ يبين ولا صياح

وسرى الصفيرُ مع الهدير وخالط الضحك النواح

وحْشيَّة الأنغام بنت الغاب لم تُعزف براح!

***

والسيل ما أَعْتَى توثُّبَه على هام الصخورْ

متحدِّر الأمواج منقضّا بأجنحة النُّسُور

زَبَد كألوية الضياء ولجة كدجى القبور

وهَمَاهِمٌ مكبوتةٌ كالإثم في جوف الضمير!

***

خاضت إليه وزاحمت بقوى موثَّقةٍ قواهْ

القاع يجذبها فتهوى ثم تنشلها ذراه

في القاع إحساسٌ وفوق الماء إحساس سواه

بُوركتَ يا سيل الحياة جريتَ في عنفِ الحياهْ!

 

فاروق شوشة