شعاع من التاريخ

  شعاع من التاريخ
        

إنهم يحرقون بيت النجوم?!
عمر الخيام

          كانت تستلقي على كتفيه تحاول أن تخفف عنه وتعوّضه عن فتاته (جاسمين) التي فقدها وهي في ريعان الشباب. وما أكثر ما حاولت عائشة أن تبعث في أعماقه جذوة من بعض ما كان يحسّ به نحو سيدتها أو تجعله يستشعر معها لوناً من ألوان اللهفة التي ضاعت مع رحيل جاسمين! فقد كانت فتاته الراحلة كالجنة المسوّرة بزهور لا تنتثر أوراقها, وبينما كان يحاول إرضاء جاريته بأن يتحسس ذراعيها البضتين إلا أنه ما كاد يسترد أنفاسه وتراوده الذكريات, وبينما هو يرفعها من فوق صدره حتى قال لها في رفق: (فلتحمدي الله أنك لست مصوغة من ذهب مثلها فيخرجك الناس من قبرك بعدما تدفنين كما فعلوها مع جاسمين), ودُهشت عائشة وتظاهرت بالضحك, ثم أطرقت تتأمل معنى كلمات عمر الخيام, وقالت في خشوع: (لست مصوغة من ذهب - بالطبع - ولن أستطيع أن أنسيك إياها أو أسمح بأن أكون مثلها أو آخذ شيئاً معي إلى القبر... فالموتى يظلون موتى فلا يتغيرون), وأطرق عمر ساهماً ثم عاد يكرر قولها: (نعم يا عائشة.. الموتى هم موتى فلا يتغيرون!).

          لقد ظل عمر الخيام السنين الطوال يناهض تلك الحقيقة التي عبّرت عنها ابنة الصحراء بهذه البساطة. فالموتى لم يعودوا مرة أخرى ليمشوا في الحياة على وجه الأرض. فقد صاروا إلى تراب وعظام نخرة طواها البلى, ولم يبق منهم سوى الذكريات وتلك الزخارف التي يطويها التراب...!

          والحق أنه منذ رحيل جاسمين, فقد كل رغبة في العشق والحب والغزل, وتوجهت كل اهتماماته إلى أصول الحكمة والفلسفة والتفكّر في أمور الحياة والبحث عن الحقيقة الأزلية. ولطالما نسج رباعياته في ذلك المجال خلال مناقشاته وجلساته مع صاحبيه نظام الملك والحسن الصباح إذ التقى ثلاثتهم وهم يدرسون على يد الإمام موفق النيسابوري العالم بالقرآن والحديث, حيث كانوا لا يهتمون بشعر الغزليات قدر اهتمامهم بنظام الكون والفلك ومسارات النجوم. وقد تعاقد ثلاثتهم على ميثاق بأن مَن صار منهم ذا شأن يأخذ بيد صاحبيه. فأسعد نظام الملك حظه فصار وزيرا مصلحا, وغلبت على الصباح شقاوته ورفض ما عرضه عليه نظام الملك من وظيفة مرموقة, وصار سفاكا قاسيا. وقدر للخيام أن يعيش عالما سعيدا بالحياة الهادئة المتواضعة, وكان كل ما يتمناه أن يكون له مرصد يتابع من خلاله مسارات النجوم, وهــو ما حقــــقه له نظام الملك عندما ذهب إليه فأجابه إلى ما طلــــبه حـــين قال له: (إن أعظم منة تســـــتطيع أن تمنحني إياها أن تفرد لي ركناً منزوياً في ظل جاهك أستطيع منه أن أنشر العلم والمعرفة). وراح الخيام يعمل في هذا الركن الذي جعله بعد ذلك مرصداً للفلك الذي بلغ فيه شأوا كبيراً وزوّده بالإســـطرلاب وكل وسائل العلوم الفلكية, وسمّاه (بيت النجوم). ولم يكتف بذلك, بل راح يدرس علوم الفلسفة والمنطق والطب واللغة والتاريخ والعلوم الإلهيــة. وبلغ من ذيوع صــيته ونبوغه في هذه العلوم وبخاصــــة في عـــــــلم الفلك أن استعان به الوزير المصـــــلح نظام المـــــلك فــــي الاســـــتجابة لما طلبه السلطان السلــــجوقي (ملـــــكشاه) لإصلاح التقويم. واستطاع أن يصل إلى تقـــــويم يقرب في دقته من التقويم الجريجوري الذي يسير عليه العالم الغربي حتى اليــــوم. ومن عجـــــائبه أن طلب منــــه السلــــطان (ملكشاه) ذات يوم فـــي عام 1115م, أن يختار له خمـــــسة أيام لا يهطل فيــــها مطر ولا ثلج كي يخرج خلالها في رحلة صيد. وكان المطر والثلج والعواصف على أشدّها في الفترة السابقة للموعد الذي حدده, لكن كل ذلك لم يلبث أن انقـــطع تماما في تلك الأيـــــام الخمسة, وهكذا جعله السلطان رفيقه ومنجمه الخاص!

          بالرغم من أن عمر الخيام كتب عدة مؤلفات في الفلك والجبر, فإنه لم يخلد أثر من آثاره العلمية قدر خلوده في أثره الأدبي الفلسفي (الرباعيات), ولم يكتب الخيام رباعياته أو يجمعها في مؤلف واحد, وإنما كان ينظمها في خلوته ثم ينشدها لأصحابه في المجالس, فيحفظونها ويرددونها. وعندما جمعت ونسخــت بعد وفاته بثلاثمــائة سنة, كان قد أدخل عليها الكثير من التحوير والدس والتعديل سواء بدافع الخطأ والنسيان أو بدافع الأهواء الشخصية للناسخـــين. ولذلك فقد دسّ عليها الكثير, وإذا كانت رباعياته الغزلية قد عرفت في فترة تعلقه بفتاته جاسمين وعجزت جاريته عائشة عن أن تملأ بعض هذا الفراغ, فقد اتجه عمر في رباعياته بعـــدها إلى مزيج من الفلسفة والأدب والفن وهي أفكار توحي بها للإنسان معاناتــــه في الحياة, ويبعــــثها في نفسه إدراكه لطبيـــعته الخـــاصة ولقيمة الحياة بعد الموت.

          وليس من شك في أن الخيام كان شاعراً حسّاساً ومفكرا طريفا يحار الإنسان في الحكم عليه, فكثير من الرباعيات - سواء الحقـيقية أو التي نسبت إليه زورا - يحتمل التأويل على أكثر مــن وجه. ومن الباحثين من يعتبره رمز الروحانية وشاعر الحب الإلهي, ومنهم مَن يرى فيه رمز المادية والمجون.

          وإذا كان الخيام ذلك الشاعر كثير الشك المتحير المسرف على نفسه, فلا عجب أن يتحيّر المفكر فيه. لكنه كما تصوّره الرباعيات كان إنساناً بالمعنى الصحيح: فكر... فشك.. ثم آمن وأناب, وعاش حياته مؤمنا بوجود الله خالق الكون, حريصاً على تأدية الصلاة في مواعيدها, كما أنه أدى فريضة الحج.

          لقد احتار الأدباء والنقّاد في استخلاص رباعياته الحقيقية من بين الرباعيات الكثيرة المنسوبة إليه, والمدسوس بعضها عليه حقداً من جانب خصومه من الصوفيين الذين طالما سخر منهم ومن نفاقهم وسفه تعاليمهم. فلا غرابة أن يكونوا قد دسّوا عليه من الرباعيات ما يظهره في مظهر الكافر والملحد أو الماجن المستهتر. ولا ننسى أن الدولة السلجوقية في فارس كان قد سيطر عليـــها المذهب الشيعي وكـــان الملالي لايحبونه حــتى لقـــد هـــددوه بالقتل مما دفعه إلى تجنّـــبهم والانــــزواء في بيـــته يقـفل بابـــه علـــيه ولا يستـــقبل في داره أحـــدا وكان الخيام يعرف أنهـــم يـــزورون في رباعيـــاته وهــم من عرفهم يســارعون في الـشك كما يبيتــون له الحقد.

محاكمة بلا دفاع

          وأخيرا حانت الفرصة حين ذاعت أنباء عن موت السلطان ملكشاه واعترف خليفة بغداد بمحمد أصغر أبناء السلطان خلفا لأبيه. ولم يعد الخيام رفيقا ولا منجما لصاحب القصر. ولم يبق أمامه إلا أن يعود إلى مرصده في نيسابور وإلى جواره عائشة.

          ولكنه كان يدرك أن هناك شيئا يدبّر له. فقد وجد الكارهون والحاقدون من أعدائه أن الفرصة أصبحـت سانحة لضربه من تحت الحزام, وكان من دواعـــي العجـــب كمـــا يحكـــي هارولد لام أن أحدا لم يخبــره أنه سيستدعى ليقف أمام محكمة كل قضاتها من الملالي .

          وأمام المحكمة, وقف أحدهم يتلو الاتهامات الموجهة إلى عمر الخيام الفلكي السابق للسلطان الراحل. قال الملا: إن كتب عمر يجب أن يحكم عليها أولا مادام أن هذه الكتب قد أدخلت إلى المدارس وفي ربوع الإسلام, وإنها ألّفت من غير شك طبقا لتعاليم الإغريق الكفار, وإذن فمؤلفها ملحد كافر من أنواع كثيرة, فأولاها أنه أثر على السلطان الراحل فجعله يترك التقويم الصحيح للإسلام ليقيس الزمن على أساس من النظريات الإلحادية, ثم إنه أقام مكان عمله قرب إحدى الجبانات ليستطيع أن يتسلل بين القبور ويدنس حرمة الموتى. كذلك اعترض على كلمة الله, فقال إن الأرض ليست مركز الكون وإن النجوم ثابتة في الحقيقة. وذلك في حد ذاته يقيم سببا كافيا للمحاكمة. واختتم الملا كلامه بأنه لا محل في الواقع للمناقشة أو الدفاع, فكــــل هذه الظروف معروفة لا تحتمل الشك, فالمسألة الوحيدة التي تنتظر الفصل فيها من المجـلس هـــي: أي عقاب يمكن إنزاله بهذه الكتب ومؤلفها دون أي سؤال يوجه إليه?!

          ودون إتاحة فرصة للدفاع أصدر القضاة حكمهم بإحراق كل كتب الخيام ونفيه خارج نيسابور. ثم دفعوا الرعاع لمهاجمة مرصده (بيت النجوم), فأحرقوه بكل ما فيه, وراح الخيام يتأمل الحريق, ثم استند في منفاه وهو في الثالثة والثمانين إلى أحد الجدران وصلى الصلاة الأخيرة وهو يردد في سجوده: (اللهم إنك تعلم أني عرفتك على مبلغ إمكاني فاغفر لي, فإن معرفتي إياك وســيلتي إليك).

          ثم أسلم نفسه الأخير

 

سـلـيمان مظهر