جمال العربية

 جمال العربية
        

أغـنية طغت على قصيدة:
(الحب والحرب) أو (مالي فُتـنتُ?)

          حــين تغـــنت ســيدة الغناء العربي أم كلثوم بالأبيات الثمانية الأولى من هذه القصيدة, أصبح اسم صاحبها الشاعر علي الجارم على كل لسان. وأتيحت له عضوية نادي الخالدين من الشعراء الذين كرّمهم صوت أم كلثوم, ومنحهم شهرة ذائعة وخلود ذكر واتساع صيت. ولم يتوقف مجد هذه القصيدة عند شاعرها فحسب, وإنما تعدّاه أيضا إلى ملحن مقتدر, ألحانه لأم كلثوم - خاصة في مستهل تاريخها الغنائي - قليلة ومعدودة, لكنها تلتمع في سياق هذا التاريخ الغنائي التماع حبات اللؤلؤ, ذلك هو الملحن الدكتور أحمدصبري النجريدي.

          تغنت أم كلثوم بهذه الأبيات أوائل العشرينيات من القرن الماضي, من قصيدة تسمى (الحب والحرب). هكذا سماها علي الجارم. ويبدو أن كتابتها عام 1916 - خلال سنوات الحرب العالمية الأولى - وظلماتها وأخطارها الداهمة, جعلت القصيدة تصطبغ في نصفها الثاني بجو قاتم, ونزعة متشائمة, وخوف على مصير الإنسان والكون, والسؤال عن مأمن أو معقل يعصم من الهول أو يقي من الهلاك والدمار.

          ولد علي الجارم بمدينة رشيد - في مصر - عام 1881 ونال دراسته الأولية وحفظ القرآن ببلدته, ثم انتقل إلى الأزهر لينهل من علومه العديدة على أيدي أساتذة أجلاء مثل الشيخ محمد عبده, ثم التحق بدار العلوم حتى تخرج فيها وكان ترتيبه الأول على أقرانه فأوفد في بعثة إلى إنجلترا عام 1908 وسكن بها أربع سنوات ثم عاد إلى الوطن عام 1912 حيث عمل مفتشا للغة العربية بوزارة المعارف ثم كبيرا لمفتشي اللغة العربية وعضوا بمجمع اللغة العربية منذ إنشائه ثم عميدا لدار العلوم وتوفي في الثامن من فبراير عام 1949.

          من أجمل ما قيل عنه كلمات للعقاد, في تقديمه لديوانه يقول فيها وهو يرسم صورة أدبية ولوحة قلمية للشاعر وشعره: (كان علي الجارم زينة المجالس كما كان يقال في وصف الظرفاء من أدباء الحضارتين العباسية والأندلسية. تجلس إليه فتسمع ما شئت من نادرة أدبية أو ملحة اجتماعية أو شاهد من شواهد اللغة أو نكتة من نكت الفكاهة, ولا تدري كلما تهيأ للكلام: ماذا أنت سامع بعد هنيهة. فقد تترقب النكتة فتسمع الفائدة وقد تسأل عن الشاهد فتسمع (القافية) التي لا تعذر كما يقول أبناء البلد كلما عرضت المناسبة لقفشة من القفشات لا تهمل في سياقها. ولكنك واثق في النهاية أنك خرجت بفصل ممتع من طراز فصول العقد أو الكامل أو نفح الطيب. وأنك لو اخترت الحديث واقترحته لما ظفرت بخير مما استوفيته عفو الخاطر بغير سؤال).

          ثم يقول العقاد: (وقد تعوّد نقادنا عند الكلام على جيل الجارم والجيل الذي تقدمه أن يقرنوا كل شاعر حديث بشاعر مجيد ممن تقدموه ولاح للناقد أنه قدوة للناشئين من بعده. ولكننا لا نحسب أننا نقيّم الجارم في مقامه إذا قلنا إنه شبيه بالبارودي أو بصبري أو بشوقي أو بحافظ أو بشعراء هذه الطبقة السابقين لجيله. فإن للجارم مدرسة خاصة من مدارس الشعر الحديث تقوم على قواعد غير تلك القواعد كلها عند إجمالها أو إفرادها وتخصيصها باسم كل شاعر معدود في أولئك الشعراء.

          إن الجارم ركن من أركان مدرسة شعرية تستحق الآن أن تعرف بملامحها وأن تستقل بعنوانها, فلا تلتبس بمدرسة أخرى تنسب إلى علم من أعلام الشعر المخضرمين بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين, مدرسة يجوز لنا أن نسميها بمدرسة دار العلوم.

          فالدرعميّ (لغوي عربي سلفي عصري) ولكن على منهج فريد في بابه بين مناهج المعاهد السلفية والمدارس الإفرنجية وبين مناهج المحافظة والتجديد ومناهج الابتداع والتقليد.

          ولا يسعك وأنت تقرأ قصيدة الشاعر من أركان المدرسة الدرعمية أن تحجب فكرة (اللغة) عن خاطرك وأن تنكر أن قائل هذا الشعر يثبت على القديم, وإن أخذ بنصيبه من الجديد وحرص على انتسابه إليه حرصه على انتسابه إلى التراث القديم).

          وبعيدا عن رأي العقاد في الجارم وشعره, ما الذي تزوّدنا به قصيدة (الحب والحرب) التي أصبح اسمها الذي أطلق على أبياتها الثمانية الأولى في أغنية أم كلثوم (مالي فُتِنْتُ)?

          القصيدة - خاصة أبياتها المغناة - تذكّرنا في قافيتها ورقتها وإحكام صياغتها ورهافة مشاعرها - بقصيدة الشريف الرضي (يا ظبية البان) التي يقول في مستهلها:

يا ظبية البان ترعى في خمائله

ليهْنكِ اليوم أنّ القلب مرعاكِ

الماء عندك مبذول لشاربه

وليس يرويك إلا مدمعي الباكي

هبّت لنا من رياح (الغوّر) رائحة

بعد الرقاد عرفْناها برياكِ

ثم انثنيْنا إذا ما هزّنا طرب

على الرحال تعلّلنا بذكراكِ

سهم أصاب وراميه بذى سَلَم

من بالعراق, لقد أبعدت مرماك



          و(ذو سَلَم) في البيت الأخير للشريف الرضي هو اسم المكان الذي سيتكرر بعد ذلك في قصيدة البردة للبوصيري وقصائد من تابعها أو عارضها من الشعراء.

          يقول البوصيري:

أمنْ تذكر جيران بذي سَلَم

مزجْت دمعا جرى من مقلة بدمِ?



          طبعا, الباب مفتوح للحديث عن التأثير والتأثر أو فلنقل (للتناص) بين الجارم وسابقيه, وفي ذلك فليجتهد نقادنا المحترفون.

          ثم يجيء المقطع الثاني من قصيدة الجارم, وهو المقطع الذي يقول في مستهله:

قالت خليلتها لها لتُلينها

ماذا جنى لمّا هجرْتِ فتاكِ?

هي نظرة لاقت بعيّنكِ أُخْتها

ما كان أغناهُ وما أغناكِ!

قد كان أرسلها لصيْدكِ لاهياً

ففررْتِ منه وعاد في الأشراكِ



          وهو حوار بين الحبيبة وخليلتها يذكرنا بالحوار الذي أجراه الشاعر العباسي علي بن الجهم في قصيدته:

عيون المها بين الرصافة والجسْر

جلبْن الهوى من حيث أدري ولا أدري



          بين الحبيبة وصاحبة لها تستحثها على وصاله ولقائه, وتحاول ملاينتها وتطويع قلبها العصي, حين يقول:

فقالت لها الأخرى: فما لصديقنا

مُعنى, وهل في قتله لكِ من عُذْرِ

صليه, لعلّ الوصل يُحييه, واعلمي

بأنّ أسير الحب في أعظم الأسْرِ



          ولايزال الباب مفتوحا للمزيد من الكلام عن التأثير والتأثر, وعن السبق والتقليد, وعن التناصْ, لمن يشاء.

          لكن الجارم, باقتداره الشعري, ولغته السلفية العصرية - كما وصفها العقاد - وبكونه الأديب الشاعر العالم كما قال عنه العقاد أيضا, سرعان ما يخلُص من شرك السابقين موقفا ولغة ومحاكاة, ليبدع ما يصله بعصره ويجعله شاهدا عليه حين يصوّر النيّرات - أي الكواكب المضيئة - مذعورةً تسائل قمر السماء - أخا المحبوبة, وهي في موقف العطف على الشاعر مما يلاقيه في حبه من عنت وهجران, في تلك اللوحة التصويرية البديعة التي يقول فيها:

إنّا نكاد أسيً عليه ورحمةً

لشبابه, نَهْوِي من الأفلاكِ




          ثم يمضي لغايته محذّرا من أخطار الحرب وويلاتها, ومن تعرّق النزعات في النفوس, ومن الاحتكام إلى السيف في كل نزاع وخصام, مختتما قصيدته عن (الحب والحرب) بحكمة تذكرنا بالحكم التي ترددت كثيرا في شعر البارودي وشوقي وحافظ وأحزابهم:

والعلم ميزان الحياة, فإن هوى

هوت الحياة لأسفل الإدراك!





          والآن إلى قصيدة علي الجارم التي كانت محظوظة باختيار أبياتها الأولى للغناء, وسيئة الحظ لعدم الالتفات إليها في جملتها باعتبارها أثرا شعريا بارزا من آثار شاعرها, طغت عليها شهرة المقطع الأول - حين تغنت به أم كلثوم - فانطمس ذكر بقية المقاطع وما حملته من آفاق شعرية:

مَالِي فُتِنْتُ بِلَحْظِكِ الْفَتَّاكِ

وَسَلَوْتُ كُلَّ مَلِيحَةٍ إلاّكِ?

يُسْراكِ قدْ مَلَكَتْ زِمَامَ صَبَابتي

ومَضَلَّتِي وَهُدايَ في يُمْناكِ

فَإذا وَصَلْتِ, فَكُلُّ شيءٍ باسِمٌ

وإذَا هَجَرْتِ, فَكُلُّ شَيْءٍ بَاكِ

هذا دَمي في وَجْنَتَيْكِ عَرَفْتُهُ

لا تستطيعُ جُحُودَهُ عَيْنَاكِ!

لَوْ لَمْ أَخَفْ حَرَّ الْهَوَى وَلَهِيبّهُ

لَجَعَلْتُ بَيْنَ جَوانِجِي مَثْواكِ

إنِّي أغارُ مِنَ الكئوسِ فَجنِّبي

كَأْسَ المُدَامَةِ أنْ تُقَبِّلَ فاكِ

خَدَعَتْكِ ما عَذُبَ السُّلافُ وَإنَّمَا

قد ذُقْتِ لمَّا ذُقْتِ حُلْوَ لمَاكِ

لَكَ مِنّ شَبَابِكِ أو دَلالِكِ نَشْوَةٌ

سَحَرَ الأَنَامَ بِفِعْلِها عِطْفاكِ

***

قالتْ خَليلَتُها لها لِتُلِيَنَها

ماذا جنى لمَّا هَجَرْتِ فَتَاكِ

هِيَ نَظْرةٌ لاقتْ بِعَيْنِكِ مِثْلَهَا

ما كانَ أغْناهُ وما أَغْناكِ!

َقَدْ كان أرْسَلَهَا لِصَيْدِكِ لاهياً

فَفَرَرْتِ مِنْهُ وعادَ في الأشْراكِ

عهدي به لَبِقَ الحديثِ فمالَهُ

لا يستطيعُ القَولَ حين يَراكِ?

إيَّاكِ أن تقضي علَيْه, فَإِنَّهُ

عَرَفَ الحياةَ بحُبِّهِ إيَّاكِ

إنّ الشبَابَ وديعةٌ مَرْدُودَةٌ

والزُّهْدُ فيهِ تزَمُّتُ النُّسَّاكِ

فَتشَمَّمِي وَرْدَ الحَياةِ فَإِنَّهُ

يَمْضي ولا يَبْقى سِوَى الأشْواكِ

لمْ تُنْصِتي وَمَشَيْتِ غَيْرَ مُجِيبَةٍ

حتَّى كأَنَّ حديثَها لِسِواكِ

وَبَكَتْ عَلَيَّ, فما رَحِمْتِ بُكاءَها

ما كانَ أَعْطَفَها, وما أقْساكِ!

***

عَطَفَتْ عَلَيَّ النَّيِّراتُ وَسَاءَلَتْ

مَذْعورَةً قَمَرَ السَّماءِ أَخاكِ

قالتْ نرى شَبَحًا يروحُ وَيَغْتَدي

ويَبُثُّ في الأكْوانِ لَوْعَةَ شاكي

أنَّاتُ مجروحٍ يُعالِجُ سَهّمَهُ

وَزَفيرُ مأَسُورٍ بِغَيْرِ فَكاكِ

يَقضي سوادَ اللّيْلِ غيرَ مُوَسَّدٍ

عينٌ مُسَهَّدةٌ وَقَلْبٌ ذاكي

حتى إذَا ما الصُّبْحُ جَرَّدَ نَصْلَهُ

ألْفَيْتَهُ جِسْمًا بِغْيرِ حَرَاكِ

إنَّا نَكَادُ أسًى عَلَيْهِ وَرَحْمَةً

لِشَبَابِهِ, نَهْوِي مِنَ الأفلاكِ

مِنْ عَهْدَ قابيلٍ وَلَيْسَ أمامَنا

في الأَرْضِ غَيْرُ تشَاكُسٍ وَِعراكِ

ما بيْنَ فَاتِكَةٍ تصولُ بِقَدِّها

وفتًى يَصُولُ بِرُمْحِهِ فَتَّاكِ

يَا أرْضُ وَيْحَكِ قَدْ رَوِيتِ فَأَسْئِرِى

وكَفَاكِ مِنْ تِلْكَ الدِماءِ كَفَاكِ!

فِى كُلِّ رَبْعِ مِنْ رُبُوعِكِ مَأْتَمٌ

وَثَوَاكِلٌ وَنَوَادِبٌ وَبَوَاكِى

قَدْ قَامَ أَهْلُ العِلْمِ فِيكِ وَدَبَّرُوا

بَرِئَتْ يَدِى مِنْ إِثْمِهِمْ وَيَدَاكٍ!

كَاشَفْتِهِمْ سِرَّ الْعَناصِرِ فَانْبَرُوْا

يَتَخَيَّرُونَ أَمَضَّهَا لِرَدَاكَ

نَثَرُوا كِنَانَتَهُمْ, وَكُلَّ سِهَامِها

لِلْفَتْكِ وَالتَدْمِيرِ وَالإِهْلاكِ

دَخَلُوا عَلَى الْعِقْبَانِ فِى أوكارِها

وَتَسَرَّبُوا لِمَسَابِحِ الأسْمَاكِ

فَتَأَمَّلِى, هَلْ فِى تُخُومِكِ مَأْمَنٌ?

أَمْ هَلْ هُنَالِكَ مَعْقِلٌ بِذُرَاكِ?

ظَهْرُ اللُيُوثِ وَذَاكَ أَصْعَبُ مَرْكَبِ

أَوْفَى وَأَكْرَمُ مِنْ أَدِيمِ ثَرَاكِ

لَْيتَ البِحَارَ طَغَت عَلَيْكِ وَسُجِّرتْ

أَوْ أَنَّ مَنْ يِطْوِي السَّماءَ طَوَاكِ!

لَمْ يَبْقَ فِي الإنْسانِ غَيْرُ ذَمَائِهِ

فَدَرَاكِ يَا رَبَّ السَّماءِ دَراكِ!

وَإذا النُفُوسُ تَفَرَّقَتْ نَزَعاتُها

قَامَتْ إذَا قَامَتْ بِغَيْرِ مَسَاكِ

والسَّيْفُ أَظْلَمُ مَا فَزِعْتَ لِحُكْمِهِ

وَالْحَزْمُ خَيْرُ شَمائِلِ الأَمْلاكِ

وَمِنَ الدِّمَاءِ طَهَارَةٌ وَعَدَالَةٌ

وَمِنَ الدِّماءِ جنايَةُ السُّفّاك

وَالْعِلْمُ مِيزانُ الْحَياةِ فَإنْ هَوَى

هَوَتِ الْحَياةُ لأَسْفَلِ الأَدْرَاكِ

 

فاروق شوشة