تأملات رمضانـية: الوحدة والـتوحيد والتجزئـة المقبلة

 تأملات رمضانـية: الوحدة والـتوحيد والتجزئـة المقبلة
        

مع حلول شهر رمضان الكريم من كل عام تعود عجلة الذكرى والتذكير في العالم الإسلامي ويعاد قول ما قيل في العام الذي مضى, ويستنهض العالم الإسلامي كل أجهزته الدينية والفنية والغذائية لاستقبال هذا الشهر فكيف يتم هذا الاستقبال?

          أصبحت أرضنا العربية رخوة بحيث تغري الجميع على وضع مخططات لإعادة تقسيمها

          ما يورده برنارد لويس ليس تنبؤات ولكنه تقرير عما هو كائن وما تسعى إليه القوى القادرة

          هل من الصحيح أن تركيا وإسرائيل هما واحة الديمقراطية وسط منطقة تفتقر إليها?

          إن أهم وجبة بطبيعة الحال في شهر رمضان هي تجهيز الحلقات التمثيلية في محطات التلفزيون, إضافة إلى توفير المواد الغذائية, وأغلبها مواد فائضة عن حاجة الإنسان الغذائية. كما تهدر الأموال في استيراد الكماليات التي تدخل في صناعة الحلوى بكل صنوفها وألوانها, ويزداد نحر البهائم لملء بطون الصائمين, الذين يقضون أغلب أيام الصوم في النوم والاسترخاء والكسل. وفي وسط هذه المعمعة الغذائية والبرامج الدعائية والإعلامية - وهذا الكم الهائل من المسلسلات المتكررة والمعادة في موضوعاتها, ينسى ألف وخمسمائة مليون مسلم على سطح الأرض المعاني والقيم والمبادئ الكبرى التي جاء بها الإسلام, في رمضان الذي أنزل فيه القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.

          فرمضان ليس شهرا للصيام فقط, ولكن حكمة الصوم يجب أن تتناسب مع طقوس المسلمين في رمضان, في السلوك, في الطعام والشراب. فرمضان شهر اختاره الله ليكون بدءا لظهور الدين الإسلامي, دين التوحيد بمفهومه الشامل, بداية من توحيد الإله, وانتهاء بوحدة البشر في الأرض, وحدة التضامن وإزالة الفرقة بينهم, فقد خلق الله البشر شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتبادلوا المنافع وينبذوا ما بينهم من عوامل الفرقة والعداء.

          فالصوم إذن جزء وركن من دين التوحيد, وهو عبرة وعظة وقدوة, ففي شهر رمضان حارب المسلمون من أجل التوحيد ووحدة البشر, ولم يكن الصوم عذراً للتخاذل والكسل والنوم, وكان الصوم مدرسة لتدريب الإنسان على جهاد النفس, جهاد ضد الفساد, لأن فساد النفس من أخطر ما يمكن أن يحل بأمة من الأمم, فالمجاهد ضد نفسه الأمّارة بالسوء, هو الذي يقيم أخلاقيات الدين: جهاد ضد سرقة مال الأمة, جهاد ضد التعصب للعائلة والقبيلة والعشيرة على حساب مصلحة الأمة وهي مجموع المسلمين, جهاد ضد من يعتدي على الأرض والمال, جهاد في سبيل حقوق الآخرين وحريتهم والدفاع عنهم وحمايتهم في أن يكونوا متساوين في الإسلام.

          لقد أردت بهذا المدخل لمقالي الذي يصادف حلول شهر رمضان أن أذكر بحالنا في عالم الإسلام اليوم, وخاصة العرب منه, فهم أهل الرسالة المحمدية, اختارهم الله أن يحملوها بلغتهم وتراثهم الحضاري ليكونوا شهداء على الناس, فتحول الناس شهداء عليهم عندما فرطوا وتخلفوا وارتدوا عن الإبداع والابتكار والخلق, وقنعوا بالانكفاء على التقليد واستكانوا إلى اجترار الماضي, وتحميله ما لا يحتمل, وقد ظنوا بذلك أنهم قاموا بواجبهم وكفى, فتركوا قيادة سفينة التقدم البشري لغيرهم من الشعوب غير المسلمة, والتي نهلت قديما مما جاء به المسلمون, فقادوا سفينة العلم والبحث العلمي, ووصلوا حبل المسلمين الذي انقطع, فنقلوا العالم البشري إلى حضارة جديدة باهرة..

          بينما نعيش نحن في عصر الظلمات, ويرفض البعض منا العلم الحديث بقوانينه وأفكار علمائه وإبداع عباقرته, بينما العالم من حولنا يتسابق للحاق بهذا العصر ومنجزاته, ونحن نغض الطرف, بل نغمض عيوننا ونحلم بزمان لن يعود, وبحضارة قامت وانتهت وأصبحت من التاريخ والماضي التليد, فيطحننا الزمن, وتسحقنا عجلات التطور السريع, ونتمسك بالأوهام وبناء مخيلات تحلق فيما مضى ولا تتخيل الآتي أبدا.

          قفزت هذه الأفكار إلى عقلي وأنا أنتهي من قراءة كتاب للمستشرق الشهير برنارد لويس ووجدتني أطرح على نفسي سؤالا واحدا وهو: هل أصبح عالمنا العربي والإسلامي يعيش على حافة السكين? نعم, كما أظن. فالعالم يوجه أصابع الاتهام للعرب والمسلمين بأنهم يصنعون التعصب وينتجون الغلاة ضد الآخرين, وهم لا يكتفون بهذه الاتهامات فقط, ولكنهم يعملون على إعادة صياغة حياتنا كلها.

          لقد أصبحت أرضنا العربية رخوة تماما تغري الباحثين والمغامرين وما يسمى بمراكز الدراسات الاستشراقية لتضع كل تصوراتها في كيفية إعادة صياغة مجمل حياتنا كبشر وثقافة, ورسم الخرائط لإعادة تشكيل دولنا وأنظمتنا السياسية. فهل نحن على أبواب عودة لزمن التقسيم الغربي لعالمنا بعد سقوط الخلافة العثمانية, وإنشاء الدول بفرمانات إنجليزية أو فرنسية أو إيطالية?

          إن السؤال الذي يجب أن يوقظنا من سباتنا وأن يؤرقنا طويلا هو أن نعرف من الذي وضع السكين فوق عنق عالمنا العربي وجعلها قريبة من جلده إلى حد النحر?

          هل هي إسرائيل التي لا تعجبها الخريطة العربية وتراها واسعة على أهلها ولا تريد إلا أن تعيد رسمها على هوى مصالحها الآنية والمستقبلية? أم هي مصالح القوى العظمى التي ترى في حالنا اليوم وواقع تطورها المعاصر فرصتها للقبض على عنقنا والتحكم في مصير ثرواتنا, لأننا - كما ترى تلك القوى - عاجزون عن حسن التصرف في ثرواتنا ولابد من وضع وصي عليها?

          أم هي وضعنا كعرب وكمسلمين! وضع نظامنا العربي العاجز عن رؤية التحولات الكبرى في المخترعات, في قوانين الاقتصاد والتجارة في العالم, تحولات في أنظمة الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكوم, وفي ذلك الانفجار السكاني في العالم وما تبعه من تطور هائل في ما يسمى (حقوق الإنسان) وانهيار الحدود العازلة والحاجزة بين الدول والشعوب, ولا أبالغ بالقول بأننا على أبواب تشكل الحكومة العالمية, التي دعا لها الفيلسوف البريطاني الراحل برتراند راسل كحل, وقتها, لإنهاء الصراع بين الأمم والتخلص من الحروب المدمرة. إن لكل أمة مصالح تسعى لها لدى الأمم الأخرى, وهذه القاعدة هي التي تصنع التاريخ البشري في سلامه وحروبه, ويعلمنا درس هذا التاريخ الطويل بكل ما فيه من قسوة, أن الضعيف هو الذي يترك الفراغ الذي لابد أن يملأه آخر, وهذا الآخر دائما هو القوي القادر, لذلك فقبل أن نوجه سهام غيظنا وحقدنا إلى هذا الآخر علينا أن نتذكر أن هذا قد حدث بسبب عجزنا.

          إن هناك سيلا جارفا من مخططات التقسيم والبرامج المستقبلية يعدها الغرب للتعامل مع عالمنا العربي في القرن الواحد والعشرين. ويبدو أن الأمر ينطبق عليه قول الكاتب المسرحي العالمي برتولد بريخت: (لأن الأوضاع قد أصبحت على ما هي عليه, فلن تستمر الأوضاع على ما هي عليه). أي أنه قد أصبح واضحا أن الأمور في العالم العربي قد وصلت إلى درجة من السوء بحيث لا يمكن السكوت عنها - في نظر هؤلاء المراقبين الغربيين والمحللين الاستراتيجيين - بل يجب السعي إلى تغييرها بأي وسيلة كانت.

          ولا أرى أي شواهد تدل على أن هذا السعي هو فقط من أجل التغيير لإعادة بناء دولنا ومجتمعاتنا لكي تتحول إلى مجتمعات ديمقراطية ذات شفافية, خالية من الفساد المالي والإداري والسياسي, وتسودها قوانين حقوق الإنسان - كما يتصور ذلك بعض السذج ممن يسطرون الصفحات في الجرائد العربية من هنا وهناك. لكن هذا السعي للتغيير سيتم من أجل تدعيم القيم والنفوذ الغربي وتشكيل أوضاعنا السياسية والاقتصادية وحياتنا الثقافية بما يناسب مصالحه وأهدافه, وأفكاره التي يسعى منذ سنوات لترويجها في العالم.

          وهذا هو ما عبر عنه التقرير الذي نشره معهد (راند) في الولايات المتحدة الأميركية حول أفضل الخيارات الاستراتيجية للتعامل مع الشرق الأوسط حين ذكر: (إن ضرب العراق هو هدف تكتيكي, أما السعودية فهي الهدف الاستراتيجي, ومصر هي الجائزة الكبرى. فمن هذه الدول الثلاث خرجت كل الدعوات المناوئة للغرب, ومنها جاء معظم أفراد تنظيم القاعدة, لذلك يجب تغيير الأنظمة فيها إلى أنظمة ديمقراطية وليبرالية ومحبة للغرب).

          وما يزيد من حدة هذه الأصوات هو ما حدث في 11 سبتمبر في أمريكا, فقد مر حوالي شهرين الآن على الذكرى السنوية الأولى لهذا الحدث الجلل. وأثبتت شهور العام الفائت أنه حدث غير قابل للتقادم, فهو أشبه بكرة الثلج يزداد حجمها كلما تدحرجت. وكان سببا في تحويل العرب والمسلمين في نظر الغرب بشكل عام وأمريكا بشكل خاص من (عدو محتمل) إلى (عدو قائم).

          ولكن من الصعب القول إن التنبؤات حول الشرق الأوسط ومستقبله هي فقط وليدة لهذا الحدث العظيم 11 سبتمبر وحده, فهي قديمة ويغذيها الصراع العربي - الإسرائيلي, وتزيد من أوارها نيران الرعاية الصهيونية في العالم التي تريد أن تذكر تفوق إسرائيل وتقدمها وديمقراطيتها وسط عالم عربي متخلف عاجز عن إدارة شئونه بنفسه.

          لذلك تحرص كل هذه التنبؤات والتصورات المحتملة على إعطاء مكان الصدارة لإسرائيل - وهذا ما يحدث اليوم أمام أنظارنا - وللدور المحتمل الذي سوف يناط بها للقيام في تحديد مستقبل الشرق الأوسط.

          وأعود إلى كتاب المستشرق البريطاني المهاجر إلى أمريكا برنارد لويس, بعنوان تنبؤات برنارد لويس - مستقبل الشرق الأوسط. كما جاء العنوان المترجم (Predictions the future of the Middle East) الصادر في لندن عام 1997. وطبعته العربية الأولى عام 2000م, ففي هذه السنوات الخمس منذ صدور الكتاب حلت أحداث جسام في عالمينا العربي والإسلامي وفي العالم ومع ذلك فإن الكثير من فرضيات هذا الكتاب مازالت قائمة, وربما جزء من الأحداث التي حدثت تسير في طريق تلك (التنبؤات)! ومع أن المؤلف يعتبر من أكبر وأشهر المؤرخين المعاصرين الأجانب في تاريخ الإسلام, وهو اختصاصـه الأكاديمي, إلا أن هذه (التنبؤات) لا تخرج عن كونها تقريرا لما هو كائن وما يبنى على هذه الكينونة من مقترحات قابلة للتحقق بدفع من القوى القادرة, وفي الغالب هي التي كلفت كاتبها بوضعها!

          لقد نبش برنارد لويس طوال تاريخه البحثي والأكاديمي في الأزقة الخلفية للتاريخ الإسلامي, وسلط الضوء على القوى الهامشية في التاريخ العربي والإسلامي, وأبرزها وكأنها القوى الفاعلة والمؤثرة في مسيرة ذلك التاريخ, فكتب الأبحاث والكتب عن حركة الحشاشين, وحركات التمرد والثورات الفكرية العنيفة, وعن المجموعات الإثنية والعقائدية التي لم تلتزم بمضمون الإسلام وثقافته, وركز على اليهود في المجتمعات الإسلامية ليبرزهم كمساهمين في الحضارة الإسلامية, وذلك بحكم انتمائه للدين اليهودي, وولعه بالدولة العبرية في فلسطين ودفاعه المستميت عنها كدولة يرى فيها منقذا لدول الشرق الأوسط!

          ورغم ذلك فقد ظل برنارد لويس مؤرخا على جانب كبير من الأهمية, ومرجعا للعديد من المؤسسات السياسية والأمنية في الغرب, خاصة منها التي تتعامل مع العالم العربي والإسلامي. ورغم أنه إنجليزي الأصل وعمل أستاذا للتاريخ في جامعة لندن لسنوات طويلة, لكنه رحل إلى الولايات المتحدة مستجيبا للإغراءات الكثيرة التي تتيحها الجامعات الأمريكية, وكان واحداً من ألمع المؤرخين الذين وجدوا مكانا مميزا في جامعة برينستون, وهي واحدة من الجامعات العشر الذهبية في الولايات المتحدة, وشغل منصب أستاذ في دراسات تاريخ الشرق الأدنى,

          ولعل أهم تجارب برنارد لويس في محاولة البحث عن الجذور التاريخية في أرض الواقع هي تجربته في تركيا. وقد ذهب إلى هذا البلد الإسلامي مدفوعاً بعقيدته اليهودية للبحث في الوثائق العثمانية عن ملكية اليهود لبعض الأراضي في فلسطين لعله يؤكد لهم أي نوع من الحقوق التاريخية بعد أن فشلت الحفريات الأثرية التي أجريت على أرض فلسطين في إثبات ذلك. وأثرت عليه هذه التجربة إلى حد كبير. فاهتم اهتماما كبيراً بتجربة كمال أتاتورك في تحويل تركيا من أسر الخلافة العثمانية إلى دولة علمانية. واعتبرها - كما سنرى من خلال هذا الكتيب - الدولة الإسلامية النموذج لبلدان الشرق الأوسط والمرشحة الأقوى - مع إسرائيل طبعاً - من أجل تحديث هذه المنطقة وإحلال الديمقراطية بها.

          ورأي برنارد لويس هذا ردده أخيرا أيضا نائب وزير الدفاع الأمريكي بول وولفويتز معتبرا تركيا نموذجا للدولة الإسلامية التي يجب أن تحتذى من قبل بقية دول العالم الإسلامي.

ترتيب الوقائع

          يعيد برنارد لويس في كتابه ترتيب وقائع التاريخ بحسب نظرته للشرق الأوسط.. ويعتبر أن بداية التاريخ الحديث للشرق الأوسط هي في نهاية القرن الثامن عشر مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر. مع ذلك فإن ظهور الشرق العربي والمسلم بمعناه الذي تعرفه أوربا قد بدأ مع الحملات الصليبية. ولكن برنارد لويس يريد أن يتكئ على غزوة نابليون ليؤكد أن حملة غربية صغيرة كالحملة الفرنسية استطاعت أن تستولي بسهولة على بلد عربي كبير مثل مصر. وعندما أرغمت الحملة الفرنسية على الرحيل, حدث ذلك بواسطة حملة غربية أخرى قادها الإنجليز, أي أن قيادة هذه المنطقة, ومنذ نهاية القرن الثامن عشر قد أصبحت خاضعة دوما لقوى أخرى من خارجها, ومازال هذا الأمر مستمراً ومتوالياً حتى اليوم كما يرى المؤلف.

          إن مشكلة الأنظمة الحقيقية اليوم في المنطقة - حسب زعم المؤلف - هي غياب القوى الاستعمارية التي كانت توجه مصيرها, أي أنها (الأنظمة) تتحمل مسئوليتها للمرة الأولى, لذلك فمن الصعب عليهم تقبل التخلي عن حقبة طويلة من الزمن اعتمدوا فيها على الغير. والنتيجة أن الشرق العربي مازال يستجدي ويطالب ويصرّ على تدخل القوى الأجنبية في كل قضية من قضاياه.

          وهنا يضرب مثلا بالقضية الفلسطينية وكيف أن العرب لا يريدون أن يتحملوا مسئوليتهم, ويلقونها على عاتق أمريكا لتقوم بحل القضية!

          ويرى برنارد أنه عندما وقعت الحملة الفرنسية لم يكن في المنطقة أي دول مستقلة غير دولتين فقط تركيا وإيران. وقد سارت التغيرات بشكل معاكس في كل واحدة منهما, فتركيا التي ولّت ظهرها للعالم العربي ولتاريخها العثماني القديم أصبحت تقف على أبواب الديمقراطية بمفهومها الغربي. ولكن إيران التي قامت بأكبر ثورة دينية معاصرة غلب عليها المد الأصولي. وهذان هما التياران اللذان يحكمان كل مناخ الحركة في العالم العربي. تيار الديمقراطية الليبرالية وتيار الأصولية الإسلامية.

          ويرى أنه بالنسبة للتيار الأول - الديمقراطية الليبرالية - فإن لغته غريبة, وغير مفهومة بالنسبة للكثيرين. بل إنها أصبحت مشوّهة بفضل بعض الأنظمة العربية التي استخدمتها في غير موضعها. أما الأصولية الإسلامية فهي تستخدم لغة شائعة ومفهومة. ففي زمن الأزمات الاقتصادية, والاضطهاد السياسي, يصبح الأسلوب الإسلامي هو الملاذ الذي يلجأ إليه كل مَن يحسّ بالظلم والافتقاد.

          ويوجه لويس انتقادات حادة للدول التي تقوم على أساس إسلامي ديني, فهو يقول إن الحكم في إيران ليس أقل فساداً من النظام الذي حلّ محله, كما أن القمع الذي يمارسه الملالي أكثر انتشارا. وما يلطف في الأمر هناك هو وجود المال وعائدات النفط.. ولكن الأمر مختلف في السودان التي تعاني الحروب الأهلية بسبب الحكم الديني لسنوات طويلة دون أن تجد في المال عنصراً ملطّفاً, ولا يأتي برنارد في هذا السياق على ذكر إسرائيل كدولة دينية وعنصرية في آن واحد, ولا ينتقد استخدامها الدين في نزع الأرض من أصحابها الأصليين وفي قمع الفلسطينيين وقتلهم دون رحمة بحجة أنهم (أغيار) لا يستحقون أي نوع من المعاملة الإنسانية. ففي إسرائيل يختلط وهم الأسطورة بضرورة القوة بحيث تصنع منها كيانا عنصريا - لم يوجد في التاريخ البشري. ولكن هل يرى برنارد لويس ذلك?

تنبؤات ومخاوف

          كتب برنارد لويس صفحات هذا الكتاب في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي يعترف بأن إسرائيل خسرتها على المستوى الأخلاقي على الأقل. ورغم ذلك فهو يعول على أن تتواصل العملية السلمية رغم تعثرها, وأن يتوازى معها تأثير بعض الشجعان من الشعراء والمسرحيين والفلاسفة والعلماء الذين يتجرأون ويبحثون عن حوار وعن نهاية الصراع.

          ولكن الصراع العربي - الإسرائيلي ليس عامل الحرب الوحيد في المنطقة. فهو يعتقد أن سوريا قد تقوم بعمل (أخرق) لتحرير هضبة الجولان, هكذا! وكأن أي هجوم لاسترداد الأرض المحتلة هو بالضرورة عمل أخرق. كما أنه يرفع أيضا فزاعة صدام حسين الذي يمكن أن يقوم بعمل عسكري ويهاجم الأردن, ربما لأن هذا هو الجار الثالث الذي لم يهاجمه صدام حتى الآن, أو ربما يعود إلى مسرح جرائمه القديم ويهاجم الكويت مرة أخرى.

          ويركز برنارد لويس كثيراً على النزاعات الإقليمية والحدودية في العالم العربي ويرى أنها أكثر حدة, ويمكن أن تدوم طويلا. فهناك الأطماع الإيرانية في منطقة الخليج العربي, كما أنه من الممكن إحياء الخلافات بين مصر والسودان, بل ويمكن أن تثور الخلافات الحدودية بين مصر وليبيا أيضا. ويركز أيضا على الحروب الأهلية داخل البلاد العربية نفسها, وتقدم الحرب الأهلية اللبنانية المثل الأبرز لهذه الحروب, فقد دامت طويلا وتسببت في تشظي الدولة إلى مزيج من القبائل والمناطق والطوائف, وهو الأمر الذي يمكن أن يحدث في العديد من البلدان العربية, كما أنه يؤكد أن مجموع ضحايا الحرب الأهلية في السودان قد بلغ خمسة أضعاف عدد قتلى الحروب العربية - الإسرائيلية مجتمعة. ولكن الجميع ينظرون بلامبالاة إلى السودان - على حد قوله - لأنه لا يوجد فيه نفط ولا يهود ولا أماكن مقدّسة.

          وهنا يشير لويس بوضوح إلى أن هناك عناصر قوية لو استخدمت جيدا لساهمت في إعادة رسم خريطة للشرق الأوسط وإعادة القوة التركية للسيطرة مرة أخرى على مقاليد البلاد العربية والتعاون مع إسرائيل.

          وحتى النفط نفسه لم يسلم من تنبؤات برنارد لويس, وهو يرى أن الدول المنتجة للنفط سوف تواجه أزمتين, أولاهما ناتجة عن استنزاف النفط, وثانيتهما بسبب حلول مادة جديدة محله. وإذا كانت الدول العربية تحتوي على مصادر للطاقة لم تستغل بعد, فإنه يرى أن إيران في وضع لا تحسد عليه, لأنها في العقود المبكرة من هذا القرن سوف تجد نفسها محرومة من أبرز مصادرها. ولكن القضية الأهم من النفط هي بطبيعة الحال مشكلة المياه, فهي تؤثر بشكل مباشر على كل دول المنطقة. لأن كل منابع الأنهار التي تعتمد عليها لا تخضع لسيطرتها وسوف تتفاقم هذه المشكلة لأن هناك نموّاً سكانياً ومطلباً متزايداً للغذاء. فالدول العربية تستورد (في عام 1997) ما قيمته 40 مليون دولار من الطعام كل يوم لإطعام سكانها. ولا يبدو أن هناك استثمارات كبيرة سوف يجري ضخّها في المنطقة لتعديل هذا الأمر وبذلك سوف يزداد اعتماد العالم العربي على تأمين غذائه من مصادر خارجية.

الوصفة السحرية

          ولكن... ما العمل? هل يمكن أن يتحوّل الشرق الأوسط إلى قوة إيجابية قادرة على اللحاق بركب العالم الحديث. هل يمكن أن نلحق بالدول التي سبقتنا على درب الحداثة مثل نمور آسيا وغيرها? يقول برنارد لويس إن هناك ثلاث ركائز يمكن أن تساعد في تحويل الشرق الأوسط نحو التحديث هي تركيا وإسرائيل والنساء! ويكتسب العنصر الأخير أهمية خاصة, فلو سمح للنساء للعبن دوراً رئيسياً في إدخال الشرق الأوسط في عصر جديد من التطور المادي والتقدم الاجتماعي لأنهن صاحبات مصلحة مباشرة في هذا التحرر. أما الركيزة الأولى للتحديث فهي تركيا التي يؤمن بها برنارد لويس - كما رأينا - إيمانا مطلقا, فهو يرى فيها الدولة الرافضة لتاريخها الثقافي والديني. وهي إحدى الضمانات القوية لبقاء إسرائيل في الشرق الأوسط لأنهما معا يمثلان الديمقراطية وسط عالم يفتقد الديمقراطية, ومرتبطان بالغرب وسط عالم متوجس ومعاد للغرب. وهو يقول إنه عندما جاء نابليون بحملته إلى مصر عام 1798 كانت تركيا هي الدولة المستقلة, متجاهلا أنها كانت خلافة إسلامية ينضوي تحت نفوذها معظم الدول العربية.

          وأعتقد أن رهانه على تركيا هو رهان على الماضي. فهو يعتقد أنها قد تختار أن تدير ظهرها وتعود أدراجها إلى الشرق الأوسط لتكون تابعة لا قائدة هذه المرة. ويمتلك الأتراك تجربة سياسية أكبر واقتصاداً أكثر تطوّراً ومجتمعاً أكثر توازناً مقارنة بالدول العربية, لذلك فإنها يمكن أن تحدث دورا أساسياً ومؤثراً في الخيارات العربية نحو التحديث. بهذا المعنى يجب أن تعود تركيا إلى الهيمنة مرة أخرى على مقدرات الشرق الأوسط, وهذا يعني العودة إلى عصر الخلافة بمفهوم معاصر! ومع ذلك فإن لويس وهو يتحدث عن الديمقراطية والتحديث في تركيا لا يشير على الإطلاق إلى الهيمنة العسكرية التركية على الحياة الديمقراطية, ويتناسى المجالس العسكرية التي تجتمع لتقلب الحكومات المنتخبة وتحل الأحزاب ذات الأغلبية في البرلمان, وتتدخل حتى في نوع وطريقة اللباس للنساء والبنات ويأمرون بإقفال المدارس السنية, ناهيك عن الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان في تركيا, ومنع المرشحين من الترشح للانتخابات, كل ذلك بحجة مخالفة تعاليم أتاتورك الذي رحل منذ عشرات السنين.

          أما إسرائيل فهي الوصفة السحرية التي يعتقد برنارد لويس أنها لازمة لعلاج كل مشاكل العالم العربي, وكأنها ليست السبب المباشر في كل هذه المشاكل, وإن كانت تركيا هي رهان الماضي, فإن إسرائيل في نظره هي رهان المستقبل. وهي تقدم حلولا في كل المجالات. ففي مجال الزراعة - على سبيل المثال - يقول برنارد: (وفي الواقع, تجرى تجارب مهمة حول الزراعة الصحراوية وشبه الصحراوية في مراكز الأبحاث في إسرائيل ويمكن لهذه المشاريع أن تتحول مثلا يحتذى في المنطقة بأسرها), وفي مجال الأيدي العاملة وتوظيف الموارد البشرية يعاود القول: (ويمكن لعملية السلام بين إسرائيل وجيرانها, في حال استمرت, أن يجذب الاقتصاد الإسرائيلي المتنامي اليد العاملة الفلسطينية وربما غيرها من الأيدي العاملة العربية). أما عن تقدم المنطقة بواسطة التكنولوجيا الإسرائيلية التي لا بديل عنها للحاق بأوربا بفضل السلام والتعاون بين أمم المنطقة, (قد يمكن حل مشاكل عدة وإطلاق عملية توسع اقتصادي عظيمة. وسيمكن لإسرائيل بفضل تكنولوجيتها وعلومها المتقدمة والمعقدة أن تقدم مساهمة أساسية). أما عن إسرائيل كممثل للديمقراطية وعن دورها في نقلها إلى البلاد العربية فحدّث ولا حرج. فهو يتغنى بالسلطات الإسرائيلية التي يتسع صدرها لكل أنواع الاحتجاجات الفلسطينية دون أن تقمعها. وعن الأطفال الفلسطينيين الذين يقذفون الجنود بالحجارة فلا يردون عليهم, والمحاكم الإسرائيلية العادلة التي تنصف الفلسطينيين رغم كل تهديد. هكذا الأمر. صورة وردية زائفة لدولة دينية عنصرية لم نر منها إلا الدبابات وهي تقتل الأطفال. والجرافات وهي تهدم بيوتهم والطائرات وهي تقصف أهلهم.

الحاجة إلى التغيير

          أمام هذا المؤرخ وأمثاله من الكتّاب الغربيين, وأمام هذا النوع من التنبؤات والتحليلات لا يملك المرء إلا أن يتساءل... لماذا يروننا بمثل هذه الدرجة من السوء. أم أننا نحن لا نرى أنفسنا حقا? لماذا كل هذه المغالطات المفزعة والمخططات السيئة في معالجة كل قضية من قضايانا? أم أن جريمتنا أو قدرنا في نظر الغرب أننا نمتلك أكبر احتياطي من البترول. ويوجد على أرضنا معالم الأديان المقدسة, ولا نستطيع أن ننصاع للمخططات الإسرائيلية? لقد شهد العام الماضي - أي منذ أحداث سبتمبر - صعود نجم برنارد لويس إلى ذروته فأصبح لا يغادر شاشات التلفزيون الأمريكي إلا لماما. يرسم خلال أحاديثه صورة مرعبة عن الإسلام والمسلمين, لذلك لا توجد غرابة أن نجد رأيا عاما معاديا وصعبا ضدنا إلى هذه الدرجة. إن أمامنا وأمام مفكّرينا مهمة صعبة, لا يكتفى فيها برفض ما يقال. ولكن يجب العمل على تغييره, وهذا التغيير يبدأ من تغيير أنفسنا أولا. كفانا تباكيا على لحظات المجد الضائعة, وكفانا إحساسا بنظرية المؤامرة التي نحس بها. هناك شيء خاطئ في طريقة تعاطينا مع العالم الذي يحيط بنا وعلينا أن ننتبه إليه وإلا أصبحنا عرضة لأن تطبق علينا كل تنبؤات برنارد لويس وغيره من مفكري الغرب حاملي العصا الغليظة ضد الآخر

 

سليمان إبراهيم العسكري