الإسلام.. والملكية الفكرية

  الإسلام.. والملكية الفكرية
        

          ملكية الفكر هي أعلى مراتب الملكية التي احترمتها الإنسانية ونادت بها الأديان السماوية عامة والإسلام خاصة.

          إذا كانت الملكية الفكرية الأدبية والفنية أبدية في شقها الأدبي, فهي موقوتة في شقها المالي, بمدة زمنية معينة شأنها في ذلك شأن الملكية الفكرية الصناعية, حيث ارتضى العالم المتقدم والنامي والأقل نموا إباحة ما هو مشمول بعناصرها دون مقابل بعد انقضاء هذه المدة المعينة. ويستند هذا المنطق إلى موازنة عادلة بين حق المبدع في الاستئثار بالعائدات المالية لإبداعه وحق المجتمع في الاستفادة من دون مقابل من هذه الإبداعات بعد أن يكون المبدع قد حصل من الموارد المالية على ما يكافئ ما بذله من جهد وتكبده من نفقات.

          ولعل تنظيم العلاقات الخاصة بالملكية الفكرية, ضمن إطار تشريع واحد, يربط الإنسانية كلها بفهم مشترك, يعد أحد مظاهر الحضارة التي قادتها الدول العربية والإسلامية عبر تاريخها, وآن لها أن تعاود قيادتها لها في المستقبل القريب على أيدي مبدعيها ومفكريها وعلمائها. وقد نالت حقوق الملكية الفكرية اهتمام الدول الصناعية المتقدمة منذ ظهور الاختراعات الحديثة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر, وقد ارتبط ذلك بالنهضة الصناعية التي قامت في أوربا, وما صاحبها من تغيرات اقتصادية هائلة وازدياد حركة المبادلات التجارية بين الدول, مما أدى إلى ظهور علاقات اقتصادية اقتضت وضع أنظمة قانونية لحماية حقوق الملكية الفكرية على المستوى الدولي تجنبا لتعرض أصحاب هذه الحقوق للاعتداء عليها إذا ما انتقلت المنتجات خارج الحدود الجغرافية لدولهم.

          هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى, احترم الإسلام كدين سَمَاوي راق يعد آخر الأديان السماوية, حقوق الإنسان المتعددة والمختلفة التي كفلها له الخالق سبحانه وتعالى, وعمل على حفظها له كاملة غير منقوصة, عبر تشريعات دقيقة, فصلها الفقهاء في مؤلفاتهم, ولكن وراء هذه الحقوق فلسفة روحية عميقة لا بد من معرفتها, خاصة أن التشريعات الإسلامية كل متكامل, يعبر عن غايات الخالق وحكمة خلقه للإنسان.

          فالنشاط الاقتصادي والمالي في الإسلام يتضمن مبادئ ومنطلقات تشكل منهجا إسلاميا خالصا ينبغي التوفيق بينه وبين التشريعات الدولية المتجددة والمتصلة بهذا المجال. فالمنهج الإسلامي الشامل يقوم على قيمة تأسيسية تحدد أسس وضوابط العمل في كل فرع من فروع هذا المنهج الإلهي, هذه القيمة الأساسية هي التوحيد التي ينبثق منها قيمة: التزكية, والعمران.

          إن عقيدة التوحيد تعني الإيمان بالخالق الواحد لهذا الكون, المهيمن عليه سبحانه, والمقدر لأقوات جميع مخلوقاته, ويؤدي هذا الإيمان إلى التزام الأفراد في حياتهم عامة, وفي حياتهم الاقتصادية بصفة خاصة, بالقيم الإسلامية, التي تجعل هذه القيم المركزية أساس كل نشاط وعمل, مهما كان حجمه أو نوعيته, فيكتسب النشاط الاقتصادي طابعاً تعبدياً, حيث يتحول من نشاط مادي بحت إلى عبادة يثاب عليها المسلم, ما التزم بتطبيقات تكليفات خالقه, وابتغى بنشاطه وجه الحق سبحانه وانصرفت نيته إلى مرضاته سبحانه.

معنى الملكية في الإسلام

          كما يؤدي الإيمان بالتوحيد ومبدأ الاستخلاف إلى تفرد مفهوم الملكية, والمال في الإسلام, حيث إن أصل الملكية فيه هي للخالق سبحانه فهو تعالى مالك الملك , كما أن وللّه ملك السماوات والأرض وما بينهما , وملكية الأفراد هي ملكية استخلاف تفرض على المستخلف الالتزام بأوامر ونواهي المالك الأصلي والقيام بما فرض فيها من واجبات, وذلك دون استئثار لأحد بها, فهي ملكية لكل البشر الذين هم خلفاء في مال الله, سواء كانوا جماعات أو أفرادا وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه

          وتكون قيمة العمران هي المنظمة للعلاقة بين العبد والكون المحيط به, فهي التي تضمن حركة الإنسان لإحياء واستثمار الموارد المسخرة له بأنواعها, وتأكيد قيمة العمل كواجب وحق لكل فرد في المجتمع من أجل تحقيق التقدم والرقي, وفق المفهوم الإسلامي لإقامة مجتمع القدوة والقوة.

          وتؤكد قيمة العمران على ضرورة الربط بين العائد, والجهد المبذول في تنمية الموارد والإمكانات المادية والمالية, فلا عائد حلالا دون إضافة حقيقية إلى رصيد المجتمع من رءوس الأموال والسلع والخدمات, وتتفرع عن هذه القيم التأسيسية مجموعة من المبادئ تحكم الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع وهي: العدل, والوسط. فيترتب على مبدأ العدل في الاقتصاد الإسلامي: عدم بخس الناس أشياءهم, وجهدهم, وحصولهم على عائد مناسب لعملهم وممتلكاتهم, دون مماطلة أو مساومة وفق حاجاتهم الواقعية المرتبطة بسنهم وجنسهم ونوعية عملهم, كما يعني منع الظلم والضرر بأنواعه المادية والنفسية والاقتصادية, سواء على مستوى الفرد أو جماعة المسلمين في المجتمع الواحد.

          كما يعتبر الوسط مبدأ يميز الأمة الإسلامية وكذلك جعلناكم أمة وسطا ويخصها بأنها الأمة المبلغة للرسالة, والتي تلتزم الوسط, وهو الاعتدال, في مجالات التفكير والأخلاق والسلوك, فالمسلم مطالب بعدم الغلو أو التفريط في شئون دينه ودنياه, والعمل على التوفيق والموازنة بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة, بين فضائل الروح ومطالب الجسد, بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية, بين مصلحة الدنيا وثواب الآخرة, بين تسرب الغلو المادي والتطرف الروحي. كما يقضي الوسط الإسلامي بالعمل على تحقيق مصلحة الفرد بما لا يضر بمصالح جماعة المسلمين, كما يتضح مبدأ الوسط في مجال الحقوق والواجبات الاقتصادية للعمال وأصحاب رءوس الأموال, فلا سيطرة مطلقة لأصحاب رءوس الأموال واستغلالهم لجهود العمال وعائد إنتاجهم, وإنما يجب حصولهم على حقوقهم المادية والعينية مقابل تأدية أعمالهم بإتقان دون بخس أو مماطلة, ولا تهوين لدور أصحاب رءوس الأموال وحقهم في الحصول على حقوق, مقابل تحملهم للمخاطرة برءوس أموالهم في سبيل إنتاج احتياجات المجتمع.

          هذا فيما يتصل بالمبادئ والأسس التي تحكم الرؤية الإسلامية الخاصة بالنشاط الاقتصادي والملكية المادية والمعنوية, والتي ينبغي أن تطور تشريعاتها وآلياتها من أجل استيعاب المتغيرات الحياتية الجديدة في عصر العولمة, خاصة فيما يتصل بتشريعات حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة وتبادل المعلومات ونظمها.

          فقد كان للاختلافات والتباينات العديدة والتشريعات التي تطبقها الدول لحماية حقوق الملكية الفكرية وإلى الأضرار التي لحقت بالعديد من الدول وأفرادها, وذلك لما يملكونه من براءات الاختراع والعلامات التجارية وشتى صنوف الملكية الفكرية من خلال ما يتعرضون له من اعتداءات على حقوقهم الفكرية, إما بالتقليد أو بالاقتباس أو الاستخدام لمنتجاتهم الجاهزة, كان لهذه المسائل, دور كبير في إلحاح عدد من الدول الصناعية الكبرى وبصورة خاصة الولايات المتحدة لوضع القضايا المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية المرتبط بالتجارة على جدول المفاوضات التجارية متعددة الأطراف في جولة أورجواي. وقد كانت نتيجة المفاوضات في هذا المضمار التوصل إلى اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة المعروفة اختصارا باسم تريبس (TRIPS) وقد غطت الاتفاقية حقوق المؤلف وما في حكمها وحقوق الملكية الصناعية شاملة براءات الاختراع أو التصميمات الصناعية التخطيطية والأسرار الصناعية وتصميمات الدوائر المتكاملة.

حقوق الملكية الفكرية

          لقد هدفت هذه الاتفاقية إلى توفير حماية دولية وفعالة لحقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة, وذلك من خلال وضع وتحسين القواعد والضوابط والمعايير المطلوبة لهذه الحماية وبحيث تتم إعادة النظر في التشريعات الوطنية للدول الأعضاء بما يتوافق مع هذه الضوابط والمعايير لكي تصبح تدابيرها وإجراءاتها فعالة ضد أي اعتداء على حقوق الملكية الفكرية, على أن تكون هذه التدابير منصفة وعادلة وغير معقدة أو باهظة التكاليف, وبحيث تتحول في الوقت نفسه إلى قيود معيقة للتجارة.
كما تضمنت الاتفاقية الإجراءات الكفيلة والفعالة للحد من المنازعات المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة وتسويتها. وتشمل هذه الاتفاقية كل ما يتصل بحقوق المؤلف وما في حكمها وحقوق الملكية الصناعية, من براءات الاختراع, والعلامات التجارية, والتصميمات الصناعية والتخطيطية وحماية المعلومات والمعارف التقنية.

          وفي الحقيقة يعتبر الاهتمام بحقوق الملكية الفكرية في السنوات الأخيرة, من نتائج العولمة, التي دلف إليها العالم في العقود الماضية القريبة, والتي أصبحت واقعا لا يمكن إنكاره, فقد ظهر مصطلح الموارد الذهنية ليعبر عن نوعية بالغة الخصوصية من الموارد البشرية, أي موارد أصحاب العقول المفكرة والمبدعة, وبدء استخدام هذه الموارد بشكل مستقل, وباعتباره أكثر الموارد قيمة وأهمية وباعتباره موردا نادرا قائما على النخبة القادرة على تحويل المكونات والعناصر والأجزاء إلى كل متكامل ومتوافق ومتفاعل. ومن هنا تأتي أهمية تجسيد العقلانية, وتفعيل المنهجية العلمية, ومن ثم تحويل عملية العقلنة من الوعي بالذات إلى عملية تفعيل الذات المبدعة, وبما يعمل على تعظيم قيمة الإنسان, وبما يعنيه ذلك من أنه العنصر الفاعل من عناصر الإنتاج, والذي ربما أصبح يحتاج إلى تأكيد اقتصاديات استخدامه وتوظيفه.

          كما كان من نتائج العولمة ظهور رأس المال الثقافي, أو ما يمكن أن نطلق عليه الموارد الثقافية والتي من خلالها لا تنتج فقط الثقافة, ولكن أيضا تتداول, وتنتشر وتزداد بشكل ملموس ومحسوس ويصبح رأس المال الثقافي, يمتلك ذلك البُعد الدلالي الذي يقدم الإطار والنموذج الجماعي, القادر على التفاعل مع حداثة تجاوز الكثيرين مرحلتها إلى ما بعدها,ووضع مفكروهم ومنظروهم نظريات الطريق الثالث, ومن ثم احتاج الأمر إلى وعي جديد, وإلى ثقافة جديدة كاملة. لقد أصبح رأس المال الثقافي بحكم الاتساع المفرط للعولمة, قادراً على صنع وعي ممتد دون توقف, ومن ثم يتحول إلى طاقة تنوير متحررة فتشكّل (الضمير الكبير) معه وبه تتشكل وتتحد القوة والقدرة السائدة للجماعات البشرية واتجاهاتها العلمية. هذا فضلا عن تناقص الفترة الزمنية ما بين تحويل الاكتشاف العلمي أو الفكرة الثقافية, أو الإبداع الذهني من مجرد اكتشاف إلى منتج مطروح للتداول والتعامل عليه, والحصول على مردودات وعائد سريع منه, وبأرباح غير مسبوقة, وبمعدلات إنتاج وتسويق وتمويل وموارد بشرية غير مسبوقة, ووفق آخر تقنيات, وأحدث أساليب.

          كل هذا أدى إلى الاتفاقية المنظمة للملكية المعنوية المتصلة بالتجارة (التريبس) Trade Related Asepects of Intellectual Property Right Trips.
وهي من أخطر الاتفاقيات, وأكثرها ألما للدول النامية, ومن بينها الدول العربية والإسلامية, والتي تم التوصل إليها مع اتفاقية الجات عام 1994 م والجاتس, وعلى أثرهما جاءت منظمة التجارة العالمية كخلف لهما. ومن المعروف أن الاعتداء على أي حق من حقوق الملكية الفكرية انتهاك لحقوق مالك الحق, والمجتمعات لا تخلو من ضعاف النفوس ويجب أن يعاقب كل معتد.

          أما الوجه الآخر للقصة والجانب الآخر, فإن الشروط القاسية والتعسفية التي يمليها صاحب الحق على المستعمل والمقابل المغالى في تقديره, أمر غير مرغوب فيه, وبالتالي لابد من التوازن ما بين الشمال والجنوب, وبين الدول المتقدمة والدول النامية والتي تشمل الدول العربية والإسلامية, خصوصا أن هذه الثمار, التي يقوم بقطفها الآن الشمال المتقدم, هي نتيجة أعمال الجنوب التي قام بها في مراحل تاريخية سابقة, فضلا عن الثروات التي تم استنزافها - ولايزال - كثير من دول العالم المتقدم, وبالتالي يجب أن يكون المقابل عادلا وليس مجحفا.

سوء الاستخدام للحق

          ولا أدل على سوء استخدام حقوق الملكية الفكرية من تلك الشركات العالمية التي غزت عالم الهندسة الوراثية في مجال الزراعة, حيث طوّرت محاصيل زراعية تضاعف من غلة الأرض أضعافا كثيرة, ولكنها بالمقابل وحفظا لحقوقها الملكية ابتكرت, تلك الشركات, طريقة يجبر بها من يزرع محاصيلها المهندسة وراثيا على أن يشتري منها البذور كل عام. وقد تمكن علماؤها من وضع خطة هندسية وراثية يقتل بها النبات بذوره, فلا تنبت إذا زرعت, ولا يستطيع الفلاح أبدا أن يستخدمها لإنتاج محصول جديد, وعليه أن يعود صاغرا إلى الشركة في كل موسم, ومن هنا سمى د.أحمد مستجير عالم البيولوجيا المصري المعروف هذه الطريقة بالقرصنة الوراثية ويقول: (تأخذ الشركات سلالات نباتاتنا التي طوّرها فلاحونا بجهد آلاف السنين, لتضيف إليها جينا أو بضع جينات, وتحصل على براءة (قانونية) من الجهة الرسمية من بلادها, لتصبح السلالات وجينوماتها بأكملها ملكا خاصا لها, تحميها قوانين منظمة التجارة العالمية, ويحتاج أصحابها الحقيقيون إلى إذن خاص ورسوم لزراعتها! لم تعد السلالات سلالاتهم, فقد طعمت بجينات من خارج باستخدام تقنيات غربية لا يملكون هم سبيلا للوصول إليها. سلبت الشركات حق الفلاح الأزلي في الاحتفاظ ببذره وسلبته دوره التاريخي كمربي نبات)... ويضيف الدكتور: (ومن هنا, فالانجاز العلمي العبقري الذي حققته شركة دلتا ينهي الحق الطبيعي الذي منحه الله للإنسان في كل مكان: أن يزرع لإطعام نفسه والآخرين... إنها القرصنة البيولوجية, كان الاستعمار القديم يستولي على الأرض, أما الاستعمار الجديد, فيستولي على الحياة نفسها).

          وما يحدث في عالم الزراعة والبيولوجيا والهندسة الوراثية يحدث أكثر منه في مجال الدواء وصناعة العقاقير الطبية, فيما يتصل بتوفير العلاج المناسب لكثير من الأمراض القديمة والمستوطنة وتلك التي ظهرت في العصر الحديث. مما سيلقى أعباء لا قبل للدول النامية والفقيرة بها, حيث لن يمكنها تصنيع غير أدوية قديمة سقطت حقوق ملكيتها بعد عشرين عاما من صنعها. ومن هنا يرى كثير من العلماء أن اتفاقية التجارة المرتبطة بحقوق الملكية الفكرية, والتي ضمت 73 بندا لتغطية مجالات حقوق الملكية الفكرية والتي سميت بجولة أورجواي عام 1993 حققت نتائج كبيرة لمصلحة البلاد المتقدمة في المقام الأول, وكانت الدول النامية والإسلامية خاصة في هذه الاتفاقية خاسرة, وأكثر هذه الدول خسارة هي الدول الأكثر فقرا في إفريقيا, ولذلك طالبت كثير من المؤسسات والدراسات بتعويض تلك الدول من خلال معونات إضافية وزيادة في التفضيلات التجارية والمعاملة الخاصة وتخفيف عبء المديونية عليها أو إسقاطها.

          وتحتاج الدول النامية خاصة منها العربية والإسلامية إلى تكوين تكتلات اقتصادية قادرة على المواجهة في الساحة الدولية التي تعمل بقانون البقاء للأقوى, كما أنها في أشد الحاجة إلى تطوير تشريعاتها القديمة لتواكب التشريعات الدولية الحديثة في هذا المجال, فقوانين العالم العربي والإسلامي قد وضعت منذ زمن طويل, ولم تعد قادرة على تنظيم وملاحقة التغييرات الجديدة في مجالات الملكية الفكرية, نتيجة للتطورات التكنولوجية الهائلة وثورة المعلومات والاتصالات, على الرغم من أن الفقه الإسلامي في مجال التشريعات المتصلة بالحياة يمكنه أن يواكب كل التطورات المستحدثة من خلال منهج الاجتهاد الفقهي الذي طوّره العلماء المسلمون عبر قرون عدة.

مواجهة مشروعة

          ومن هنا يتبين أنه من الأوفق والأنسب أن يوضع مشروع قانون جديد بناء على دراسة متأنية تأخذ في الاعتبار ظروف المجتمعات العربية والإسلامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية, كما يمكنها طلب تعديلات يمكن إدخالها على الاتفاقية بحيث تتفق مع المصالح الإنسانية العاجلة والآجلة للشعوب, منها إخضاع فترة الحماية للتعديل الدوري, خاصة أن الاتفاقية تشتمل على بعض الإيجابيات مثلما تشتمل على بعض السلبيات, ومن البديهي أن يتم تحديد نقاط المنفعة والخسارة بطريقة محددة, وأن نفعل مزايا الاتفاقية لأقصى درجة ممكنة وذلك بطريقة تتفق مع روح الاتفاقية التي تنص المادة (71) منها على مراجعتها دوريا كل سنتين, وهذه المراجعة واجبة لتضمين أي مزايا يمكن الحصول عليها. ومن الملاحظ أن المادة (12) من اتفاقية (تريبس) تنص على أن مدة الحماية لا تقل عن خمسين سنة, وحيث إن إنتاجنا من الكتب والمصنفات, ومنها برمجيات الحواسب, يقل كثيرا عن الإنتاج العالمي, فإن مصلحتنا في تقليل فترة الحماية, وأن نعالج الخلل القائم في القانون الحالي الذي تزيد فيه مدة الحماية على الحد الأدنى لالتزامنا الدولي, كما أن التأكيد على حق الترجمة, وعلى المزايا المتعلقة بها يشير إليها صراحة, التزام الدول الموقعة على معاهدة (برن), التي تنص على حق ترجمة المصنف إذا لم يقم المؤلف بترجمة مصنفه بثمن يقارب الثمن المعتاد بالنسبة للمصنفات المماثلة خلال ثلاث سنوات من تاريخ أول نشر للمصنف.

          ومن التوصيات التي ينبغي تحقيقها أمام الدول الإسلامية تسهيل تعاملات الأفراد مع مختلف جهات حماية الملكية الفكرية, من خلال لوائح دقيقة محددة, وإنشاء بنية قوية لمساعدة المبدعين من علماء الأمة ومفكريها بكل الطرق بما فيها التعليم والثقافة والإعلام.

          ولا يغيب عن البال أن حسن تنظيم حقوق الملكية الفكرية تشريعيا من شأنه إيجاد روح الإبداع والابتكار, مما يؤدي إلى ظهور منتجات جديدة وقيام مشروعات اقتصادية لتصنيعها, والاسهام بالتالي في إيجاد فرص عمل جديدة وزيادة الدخل القومي للدول العربية والإسلامية, بالإضافة إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتهيئة المناخ لدخول الدول الإسلامية في اتفاقات تجارية متعـــددة تعــــود على الأمة بمزيد من التقدم والرفاهية, خاصـــة أنه لا عاصم من (الجات) إلا بالتنمية, التنمية الحقة بكل أبعادها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن ثمرات الوعي بحقوق الملكية الفكرية في عالمنا العربي والإسلامي, ما نجده قد تحقق في مصر, فقد اتجه المشرع المصري أخيرا إلى انتهاج أسلوب إصدار تشريع موحد يعالج بين دفتيه جميع جوانب حماية حقوق الملكية الفكرية, هذا فيما يتعلق بالجانب التشريعي, غير أن هناك من الآليات الأخرى في هذا المجال, ما لا يقل في تأثيره عن الحماية القانونية, ألا وهي المؤثرات الثقافية للمجتمع, التي تشكل وعي أفراد وهيئات هذا المجمع بمدى أهمية حقوق الملكية الفكرية, وما تحتله من مكانة باعتبارها قضية حضارية في المقام الأول وتحقيقا لهذا الهدف عقد مركز المعلومات برئاسة مجلس الوزراء العديد من المؤتمرات وورش العمل, من أجل تهيئة مناخ ثقافي يستوعب القضية, وكان نتاج ذلك أن ظهرت إلى الوجود فكرة إنشاء كيان غير حكومي (NGO) يحمل اسم (مركز دراسات الملكية الفكرية) اعترافا منه بأهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به هذا المركز, ومن أهم أهدافه تشجيع البحوث والدراسات العلمية في مجال الملكية الفكرية, تنمية الوعي بضرورة الحماية المحلية والدولية للملكية الفكرية, منها حقوق المؤلف والحقوق المجاورة, وحماية هذه الحقوق من التقليد والمنافسة غير المشروعة, العمل على دعم ومساندة أصحاب حقوق الملكية الفكرية لحماية مبتكراتهم ومؤلفاتهم وإبداعاتهم, والتشجيع على تسجيل هذه الأفكار للاستفادة من الحماية المقررة محليا ودوليا.

          ويقول الأستاذ علي غنيم أحد المؤسسين للمركز, إن قضية الملكية الفكرية تمثل واحدة من أهم قضايا الساعة, مشيرا إلى أنها تكتسب أهمية خاصة من صدور قانون حماية الملكية الفكرية خلال الفترة المقبلة. إن الاتفاقيات الدولية صارمة في هذا المجال, وأكد التزام مصر بهذه الاتفاقيات, وقال: إن الملكية الفكرية تتطلب عدة مكونات أهمها: المكون التكنولوجي, الذي يرتبط بالحاسبات الإلكترونية, والمكون السلوكي المتعلق باحترام حقوق الآخرين, والمكون القانوني المتعلق بوحدة التشريعات والضوابط, بالإضافة إلى المكون الأمني الخاص بمنع جريمة القرصنة الفكرية في إطار اتفاقيتي الجات والتريبس, وتأثير ذلك في الاقتصاد المصري, ولجمعية مركز الملكية الفكرية دور كبير في حل المشكلات بين منتجي البرامج ومستخدميها ومراقبة عملية الإنتاج, ووضع الضوابط والنظم والقواعد المحددة لتنظيم هذه العلاقة ومباشرة المشاكل الناتجة عن تسويق هذه البرامج. ومصر الآن بصدد مشروع قانون يضع ضمانات أكبر بالنسبة لصاحب الحق, ووضع العقوبات التي تحمي مصلحة المؤلف, ووضع ضوابط تسمح بنشر المعرفة بما يُعرف بالترخيص الإجباري بالنشر للمصنف الأصيل, أو الترجمة, وهذا القانون يحل محل القوانين الحالية لأنه يتضمن معالجة فاصلة وشاملة وكاملة لجميع الحقوق الفكرية

 

بركات محمد مراد